جامع قصة شهيد

 

في صحيفة النبأ

الطبعة الثانية - 1446 هـ

 

إنتاج الأنصار

صرح الخلافة

 

 

 

 

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تفريغ سلسلة

 

قصة شهيد

 

الصادرة عن صحيفة النبأ من العدد الأول إلى العدد498

 

إعداد: مؤسسة صرح الخلافة

 

 

ذي الحجة

1446

 

 

 

 

 


 

مقدمة

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، لقد قيَّض الله تعالى لهذه الأمة رجالا سلِمت فطرهم، وعرفوا الحق وصدعوا به، لم يهابوا الطغاة والمتجبرين، بذلوا دماءهم لقيام دولة الإسلام بعد غياب مئات السنين، خلافة على منهاج النبوة، فلن تنهض أمتنا إلا بمثل هؤلاء -نحسبهم والله حسيبهم-، تقرأ قصصهم فتجد فيها من العبر ما لا يجول بخاطرك، ابتلاء بالأسر والكسر ولم يثنهم ذلك عن غايتهم، غاية الأنبياء وأتباعهم؛ إعلاء كلمة الله في الأرض، وبلوغ الفردوس في السماء، فأين نحن منهم؟ ومما قدموه لأمتنا؟، وهل هناك أغلى من تقديم نفسك لرفع راية التوحيد خفاقة؟، وماذا سنقول إن سُئلنا هل ثأرتم لإخوانكم؟ هل استكملتم طريقًا قد مهدوه بدمائهم وأشلائهم؟

سلسلة قصة شهيد من صحيفة النبأ، جمعها لكم إخوانكم لتكون لنا ولكم عبرة وأسوة حسنة، نسأل الله أن يتقبلهم ويغفر لهم ويجمعهم بالأنبياء والصديقين بالفردوس الأعلى من الجنة، وأن يرزقنا وإياكم شهادة ترضي الله عنا وتضحكه منا.

قد وفقنا الله بفضله ومنه وجوده وكرمه بإتمام تجميع قصة شهيد من صحيفة النبأ الأسبوعية إلى العدد 498 وقد راعينا في تجميع السلسة بضعة أمور وهي: مطابقة النصوص بالصحيفة مع تدقيقها وتعديل الأخطاء المطبعية الإملائية بها وتنسيقها مع توفير 3 نسخ منها بأكثر من صيغة لتسهيل استخدامها فيما بعد سواء في القراءة أو استعمال النصوص، جمعها لكم إخوانكم في مؤسسة صرح الخلافة، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم وينفعكم بها ويرزقكم الله من فضله.

 

 

 

 

 


 

الفهرس

م

العدد

العنوان

-

-

مقدمة

01

008

آخاهما طريق الهجرة والإعداد والجهاد في أرض الخلافة

02

009

أبو أويس الأمازيغيّ

03

010

أبو حذيفة المغربيّ

04

012

حيدرة الأحواز أبو عزام

05

015

أبو محارب المهاجر

06

017

مهاجر الجزائري

07

021

فارس الإعلام أبو بلال الحمصي

08

022

رفيق درب الشيخ أبي مصعب الزرقاوي أبو محمد اللبناني.. تقبلهما الله

09

024

الأمير النبيل أبو المغيرة القحطاني - تقبَّله الله

10

025

أبو مهند الشامي

11

028

أبو نعمان ينتاري

12

029

الشيخ كمال زروق التونسي الداعية المجاهد

13

030

عادل بن عبد الله المجماج التميمي

14

031

الشيخ حسين عبدي جيدي

15

033

محمد مكاوي

16

034

أبو جليبيب الإعلامي

17

036

أبو فاروق الحسيني

18

037

أبو سهل الأردني

19

039

الشيخ عمر الشيشاني

20

040

أبو يوسف الكرّار

21

041

الشيخ أبو علي الأنباري (تقبّله الله) (1)

22

043

الشيخ أبو علي الأنباري (تقبّله الله) (2)

23

045

القائد الإعلامي لغزوة سبايكر أبو مارية العراقي

24

051

صهيب المدائني

25

053

أبو محمد السهلي

26

054

أبو الزبير العراقي

27

059

أبو جهاد الكبيِّر

28

066

أبو عمر الأردني تقبله الله

29

068

أبو نذير العراقي

30

074

أبو أنس الأنصاري السيناوي (تقبله الله)

31

075

أبو سليمان الشامي (تقبله الله)

32

080

أبو عيسى البحريني حارس للشريعة لا جندياً للقوانين

33

083

أبو ياسر الأنصاري

34

089

أبو مجاهد الفرنسي

35

090

أبو أيمن العراقي

36

092

أبو جندل الكويتي وأبو محمد الجنوبي (تقبلهما الله)

37

103

أبو حفص البنغالي رجل صدق الله فصدقه الله... (كما نحسبه)

38

104

من جبال خراسان إلى ربوع الشام الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري

39

105

أسد من أسود الصحراء أبو طلحة العلقاوي -تقبله الله-

40

106

أبو عبد الله الطبيب كانت حياته قرآناً وسنةً.. وبذلاً وإيثاراً

41

107

أبو صالح العولقي قائد عسكري أقسم أن ينصر دينه وألَّا ينام على ضيم

42

108

أبو سليمان الليبي

43

109

أبو عمر القوقازي وإخوانه هاجروا معاً وسقوا بدمائهم أرض الدولة الإسلامية

44

115

المعلم عبد الودود

45

121

أبو الخير القرشي

46

123

سعد الإماراتي

47

133

أبو كرم الحضرمي كريمٌ حَيِيٌ مِعْوانٌ في النائبات

48

134

أبو الزهراء الأردني

49

135

أبو عبد الله المناري

50

141

أبو عبد الغفار المقدشاوي

51

146

هدايت الله البلوشي

52

148

أبو أكرم الجميلي -تقبله الله-

53

150

فرقد أبو بكر

54

156

أبو عبيدة

55

159

قصة نفير الضباط التائبين الثلاثة من مصر إلى سيناء

56

166

أبو صخر الردفاني

57

169

عبد الملك الداغستانى

58

173

أبو أنس الفرنسي

59

175

أبو عمر الشامي

60

176

عبد المنان المهاجر

61

178

أبو دجانة الحلبي تقبله الله

62

186

كامل محمود علوان

63

189

الشيخ المحدّث عبد الحسيب اللوجري -تقبله الله-

64

190

أبو عاصم السوداني (تقبله الله تعالى)

65

193

أبو المثنى الحسيني (تقبله الله)

66

203

الشيخ أبو أسامة العراقي تقبله الله

67

216

الشيخ عبد الحكيم الصومالي تقبله الله

68

221

أبو رواحة الحمداني (تقبله الله)

69

227

الطبيب أبو حسن السوداني -تقبله الله-

70

228

أبو مختار الأنصاري -تقبله الله-

71

239

أبو خالد الهندي تقبله الله

72

242

أبو أسامة المهاجر -تقبله الله-

73

244

أبو خالد البرناوي الأنصاري

74

251

أبو الدرداء.. أبو يحيى.. حسين

75

255

أبو رواحة الهندي وشقيقه أبو أسامة

76

256

أبو طارق النعيمي تقبله الله تعالى

77

265

علقمة التميمي

78

273

أبو الحسن العدني -تقبله الله-

79

285

الشيخ المجاهد أبو محمد الفرقان (تقبله الله تعالى) الجزء الأول

80

287

الشيخ المجاهد أبو محمد الفرقان (تقبله الله تعالى) الجزء الثاني

81

297

قصة أربعة نفر من فرسان الإعلام في خراسان

82

301

أبو خطاب الكشميري -تقبله الله-

83

304

أبو عمر الخليفاوي -تقبله الله-

84

305

أبو البراء الرحنويني -تقبله الله-

85

309

أبو الزبير المهاجر -تقبله الله-

86

311

أبو ريانة البريطاني -تقبله الله تعالى-

87

315

القائد (خادم) -تقبله الله-

88

319

أبو العزم الإعلامي -تقبله الله تعالى-

89

322

معتصم التدمري -تقبله الله-

90

324

أبو رواحة الأنصاري -تقبله الله تعالى-

91

352

أبو الزبير العسكري فارس الهيجاء

92

359

أبو إبراهيم الخراساني -رحمه الله تعالى-

93

383

أبو زيد -رحمه الله تعالى-

94

391

أبو مبشّر -تقبله الله تعالى-

95

396

أبو مصعب اليوبي

96

404

عبد الرحمن موسى القرحاني

97

467

أبو خالد الحمادي -تقبله الله-

 

 

 

 

 


 

01- العدد 008 - السبت 23 صفر 1437 هـ

آخاهما طريق الهجرة والإعداد والجهاد في أرض الخلافة مقدسيّان يزفّهما معاً صاروخٌ إلى الحور الحسان

شابّان من غزّة، لم يكونا يعرفان بعضهما البعض حتّى جمعهما طريق الهجرة إلى الدّولة الإسلاميّة، فالتقيا وأصبحا روحاً بجسدين، وبات أحدهما يكمل الآخر، فلا تكاد تجد أحدهما إلا والآخر برفقته.

 

أبو المثنّى الفلسطينيّ أو المقدسيّ -أحياناً- كما يحبّ أن يُكنّى، أوهم الجميع بأنّه مسافرٌ لإكمال دراساته العليا في بلدٍ أجنبيٍّ، قبل أن يترك مشروع مستقبله، وحلم كلّ شابٍ، ليتّجه صوب أرض الخلافة بحثاً عن مرضاة الله، تاركاً أحلام الصّبا، بعدما قرّر أن يشتري آخرته بدنياه.

 

أمّا توأم هجرته فكان أبا طارقٍ الغزّاويّ، فقد كان خبيراً في التّعامل مع الأسلحة، وبارعاً في فنون التّدريب، كونه أحد المنتمين لحركة (حماس)، قبل أن تتبيّن له حقيقة أنّ الجهاد الحقيقيّ هو الذي تسلك طريقه الدّولة الإسلاميّة، فأصبح الحمساويّ أبو طارقٍ متمرداً على أوامر قيادة (حماس) بعدم استهداف اليهود بأيّ شكلٍ من الأشكال، فكان يقوم بعمليّاتٍ انفراديّةٍ، من قبيل إطلاق قذائف هاون، أو صواريخ باتّجاه اليهود بلا أوامر، فما كان من (حماس) إلّا أن قامت باعتقاله والتّحقيق معه، قبل أن تُلقي به في سجونها لمدّة ليست بالقصيرة بتهمة خرق الهدنة مع اليهود.

 

وما إن خرج أبو طارقٍ الذي عرف حقيقة (حماس) وتبرأ منها حتى أدرك أنه لا مناص من الهجرة إلى أرض الخلافة، كونها المشروع الوحيد الذي يضرب أيّ عدوٍّ للإسلام، مهما كانت قوته أو نفوذه، دون محاباة لهذا الطّرف أو ذاك، فأخذ يعمل على هذا الهدف، دون علم عائلته، التي فوجئت بوصوله إلى أرض الخلافة، بعد أن أوهمهم أنّه خارجٌ للعمل للحصول على قوت عائلته اليوميّ، كما هي عادته مطلع كلّ نهار، لكنّ أبا طارقٍ هذه المرّة كانت وجهته غير التي اعتاد عليها، حتى والدته التي كان يحرص على إرضائها وبرّها، رفض أن يحتضنها ويضع على رأسها قبلة الوداع، خشية أن تكتشف وجهته، فيحصل ما لا يحمد عقباه فيضيع منه حلم الهجرة.

 

كان أبو طارقٍ وهو يغادر داره، بحقيبةٍ صغيرةٍ فيها طعام غدائه، مثل كلّ يومٍ، يختلس النّظر إلى نافذة داره التي -وعلى غير عادته- جلس فيها أخوه الصّغير وهو يودّعه، للمرّة الأخيرة.

 

داس أبو طارقٍ على قلبه، وحبس أنفاسه، وسار في طريق هجرته، حتى اجتمع في بلدٍ آخر برفيق رحلته المستقبليّة أبي المثنّى الفلسطينيّ، ليواصلا الرّحلة معاً حتّى دخلا أرض الخلافة وتنفسا هواءها.

 

جلسا في ضيافة الدّولة الإسلاميّة لأيام بانتظار دخول معسكرات التّدريب، حتى حان موعد الحقيقة، يوم أُبلغا بأنّهما سيكونان في صباح اليوم التّالي في معسكر التّدريب الشّرعيّ، وما أن أزف وقت دخولهما المعسكر حتى شرعا يُكبّران الله ويحمدانه على ما أنعم به عليهما من تحقيق حلمهما في الوصول إلى أرض الدّولة الإسلاميّة، والجهاد تحت رايتها، والموت على ثراها..

 

حينما حلّا في ضيافة المعسكر الشّرعيّ، ونظراً لتميّزهما عن غيرهما، اختير كلّ واحدٍ منهما ليكون أمير سريّة، كما اختيرا ليدير كلّ واحدٍ منهما حلقةً لتحفيظ القرآن الكريم للمتدرّبين في المعسكر، فهما يحفظان القرآن الكريم بكامله. وبالإضافة لذلك كانا يمتعان إخوانهما في المعسكر بالأناشيد الجهادية التي كانا يحفظان الكثير منها، فكان أبو المثنى كثيراً ما يجود بصوته العذب منشداً:

 

على نغمات حمحمة الجياد .. وقرع سيوفنا البيض الحداد

سنمضي نفرض الإسلام ديناً .. ونمحو الشّرك من كلّ النّوادي

 

فيجيبه أبو طارق بنشيده الذي لا يتوقف عن ترديده:

 

حياة الذلّ لا لا أرتضيها وموت العزّ للحرّ مرام

ولا والله ما أخشى المنايا فما للعبد في الدّنيا مقام

 

فلم يكونا يتردّدان عن تلبية رغبة أيّ أخٍ لهم في المعسكر يسألهما الإنشاد.

 

بقي الصّاحبان معاً على هذا الحال يتشاركان النّوم وتناول الطّعام وعرق التّدريب وشراسته حتّى انتهى المعسكر الشّرعيّ بعد أكثر من أربعة أسابيعَ، وكالعادة في تفوّقهما، كان أبو طارقٍ وأبو المثنّى من الأوائل في الاختبارات الشّرعيّة التي تُجرى في نهاية المعسكر، تماماً مثلما كانا من الأوائل في ميدان التّدريب البدنيّ الشّاقّ الذي يتضمّنه المعسكر الشّرعيّ كذلك.

 

ومثلما جرت عليه العادة في المعسكر الشّرعيّ، كان حالهما في المعسكر العسكريّ، لا يفترقان أبداً، إذ كانا يطلبان أن يبقيا في مجموعةٍ واحدةٍ، فهما يشعران بالألم إنْ فُرِّق بينهما، ما يجعل المدرّب يعيد جمعهما في مجموعةٍ واحدةٍ من جديد كلما افترقا، حرصاً على أخوّتهما التّي كانت فريدةً من نوعها!

 

انتهى المعسكر العسكريّ، ونُسِّبا إلى جيش الخلافة، ليصلا إلى سوح النّزال بعد أشهر من المعسكرات المستمرّة والمتتالية، وما إن وقعت أعينهما، على حقائب بعض الإخوة ممّن سبقوهم إلى جنان الخلد -نحسبهم والله حسيبهم- في مقرّ كتيبتهم الجديدة، حتى فاضت عينا أبي طارقٍ وأبي المثنّى بالدّمع الغزير، حيث شعرا أنّهما على موعدٍ مع الشّهادة، فهما يُمنّيان النّفس بنيلها عاجلاً غير آجل، بعد إثخانٍ في العدوّ وجزّ رقابٍ ونحر أعناقٍ.

 

في آخر يومين لهما قبل ذهابهما لإحدى الغزوات تبدّل حالهما، فالمزاح قد قلّ، والنّظرات تبدّلت، والضّحكات المستمرّة تحوّلت لابتسامات خفيفة لا تفارق محيّاهما، وبات جُلّ حديثهما عن الجنّة، وحور عينها، وفردوسها الأعلى، فشعر جميع رفاقهم أنّها اللّحظات التي يعيشها الإخوة قبل ساعات مقتلهم.

 

أخذ (أبو طارقٍ) أثناء تلك الأوقات يطلب من رفاقه التقاط صورٍ له وهو بلباس القتال، مردّداً عبارات التمنّي في وصول تلك الصّور لرفاقه السّابقين في حركة (حماس)، كي يدركوا أيّ خيرٍ ذلك الذي رزقه الله لصاحبهم، الذي نجا بنفسه من بؤرة الكفر نحو عزّ الخلافة، وكتب كذلك وصايا متعدّدة لعائلته، ولأصدقائه، ولرفاقه السّابقين في (حماس)، يحثّهم فيها على النّفير والهجرة إلى أرض الخلافة، وسلك طريق الجهاد الحقيقيّ في ربوع الدّولة الإسلاميّة.

 

أمّا أبو المثنّى فرفض أن يكتب وصيّةً في أمور الدّنيا، مكرّراً أن لا حاجة له بهذه الدّنيا الفانية ومن فيها، فهو -كما يقول- راحلٌ إلى جوار ربّه، طالباً إبلاغ أهله شفوياً أنّ ابنهم لم يمت، بل ذهب شهيداً إلى ربّه مخضبّاً بالدّماء.

 

وذات صباحٍ، خرج أبو طارقٍ وأبو المثنّى في غزوةٍ بولاية البركة، التي تشهد معارك طاحنةً مع مرتدي الـ (PKK) المدعومين بطيران الشّرق والغرب، والشّمال والجنوب، وما هي إلا ساعاتٌ حتّى جاءت البشارة بأنّ الخليلين قد قتلا في المعارك بصاروخٍ زفهما إلى الجنة معاً -بإذن الله- بعدما رفضا أن يفترقا حتى آخر لحظاتهما.

 

أمّا عائلة كلّ واحدٍ منهما، فما إن وصلهما خبر مقتل الأسدين الهصورين، حتّى أخذت كلّ عائلة تُكبّر الله وتحمده أنْ منّ سبحانه على ابنها بالقتل في سبيله، ونيله ما خرج لأجله بعدما ترك زخرف الدّنيا وزينتها في سبيل ذلك.

 

ارتحل أبو طارقٍ وأبو المثنّى اللذان كانا يُكثران من سؤال الله أن يجعل جسد كلّ واحدٍ منهما أشلاءً في سبيله، فاستجاب الله لهما، فما بقي من جسديهما شيءٌ يمكن دفنه.

 

فهنيئاً لهما بعث أشلائهما من ثرى أرض الخلافة إلى فردوس ربّنا الأعلى، بمشيئته سبحانه.

 

 

 

 

 


 

02- العدد 009 - السبت 30 صفر 1437 هـ

أبو أويس الأمازيغيّ
من دراسة الإعلام إلى سوح الجهاد فجنان الرحمن

هداه الله إلى معرفة طريق الحقّ فاتّبعه ولم يتّبع السّبل.. فأصبح مداوماً على الصّلاة، وأصبح القرآن رفيقه بعدما حفظه، فكان يختمه في رمضان سبع مرّاتٍ على الأقلّ، ثم درس العقيدة حتّى فقهها..

 

تولّى شؤون البيت، من ضمنها المطبخ وأمور التّنظيف، فتداعيات السّنين تمنع والدته من القيام بالمهمّة، وأخواته قد تزوّجن، فحرص على القيام بخدمة والديه وشقيقه الصّغير بنفسه، فكان بارّاً بهما، ما جعله ينقطع أحياناً حتّى عن لقاء أصحابه وأبناء حيّه، الذين أحبّوه وحرصوا على رفقته وتفقّده، فهو ذو طباعٍ حسنةٍ، وأخلاقٍ حميدةٍ، ومراسٍ سهلٍ، ما جعل له قائمةً طويلةً من الأصدقاء والأحباب..

 

حينما ظهرت الدّولة الإسلاميّة أحبّها ونصرها على مواقع التّواصل الاجتماعي، فكان يذود ويدافع عنها بشراسة، حتّى أصبح كلّ حلمه الهجرة إليها، وأن يجعله الله أحد جنودها..

 

إنّه أبو أويس الأمازيغيّ، شابٌ بسيطٌ، تجاوز عقده الثّاني بربيع، دخل الجامعة، بعد حصوله على معدلٍ جيّدٍ في (البكالوريا)، وقُبل في كليّة الإعلام والاتّصال، لكنّ أمراً عظيماً جللاً كان يشغله، جعله ينتفض تاركاً جامعته، ومغادراً دراسة الإعلام وأحلامها، بل وزاد على ذلك ترك والديه وهجر أشقائه وأصحابه، فهو يرى أمته تذبح من الوريد إلى الوريد، وقد تكالب عليها القريب والبعيد، فلا بدّ أنْ يهجر كلّ شأن يؤخّره عن الجهاد، حتّى وإن كان أمّه وأباه، وأخته وأخاه، فركب أمواج الصّعاب، وخاض المنايا، وسعى نحو الحتوف، فما عاد عيشٌ له يطيب، فموتٌ يتخطّفه في عزٍ خيرٌ عنده من حياةٍ يعيشها كالبهائم.

 

حاول أن يسبق أصحابه في الهجرة والنّفير، لا سيّما أنّ لكلّ واحدٍ ممّن اتفق معهم على الهجرة عقباتٍ وموانع كثيرةً، تماماً مثلما كان هو، لكنّ أبا أويس كانت همّته أعلى، فدفعته ليتخلّى عن كلّ شيءٍ، عدا أمر دينه ونصرته، فاستعدّ للهجرة، وبات جاهزاً للنّفير قبل غيره، رغم الحمل الثّقيل الملقى على عاتقه، لكنّه كان يدرك أنّ من سيتخلى عنهم من أهلٍ وإخوة سيكونون في كفلٍ من الله الذي لا تضيع ودائعه، وأنّ خدمته لدينه يجب ألّا تؤخرها دراسةٌ أو علمٌ دنيويّ أبداً، بل رأى أنّ السّنان يشفي غليله أكثر من الأقلام، وهو يشاهد صغار المسلمين يُدفنون تحت أنقاض بيوتهم التي يهدمها قصف الصّليب وبراميل الموت النّصيريّة والرّافضيّة على رؤوسهم..

 

كان حلمه وأمنيته أن يدخل دار الخلافة ليجاهد في سبيل الله، وأن يصطفيه الله في أوّل غزوةٍ له فحبّه للشّهادة لا يوصف فسعى لنيلها بجدٍ واجتهاد، وكان يدعو الله أنْ يرزقه إيّاها في صلاته، وفي سجوده، وحين أكله -حسب قول أهله- فكان يردّد بلهجته الجزائريّة: "يا خو شحال مليحة غير تلحق تقتل..."، أي ما أجمل أن تُقتل فور وصولك أرض الجهاد!

 

لم يكن يطيق الانتظار، فلقد أحبّ لقاء ربّه أشدّ الحبّ، وحينما يمازحه أصحابه عن الزّواج، كان يردّ بغضب:

 

"نحن مقاتلون، فلِمَ نتزوّج ووراؤنا الحور العين"؟!

 

كان أبو أويس كلّما رأى إصداراً للدّولة الإسلاميّة صاح بأصحابه غضباً "كلّ النّاس هاجروا إلّا نحن"، فكان يتحسّر ويأسف على حاله وحال أصحابه، وما كان يمنعه إلا المال، الذي كان يسعى للحصول عليه، ليسلك درب الهجرة والنّفير، ففتح الله له فتحاً عجيباً، ورزقه من حيث لا يحتسب، وسخّر له المال والطّريق، فهاجر الشّاب قبل صحبه وأصدقائه، ممّن عاهدهم على النّفير، فيسّر الله له أمر الوصول إلى دولة الإسلام في غضون أيامٍ قليلةٍ، في رحلةٍ لا تعب فيها ولا نصب، لا يعكّر صفوها إلا فراق الأهل والصّحب والخلّان، وما عبارته التي كان يُكثر من ترديدها: "والله إنّ طريقي كانت كرحلة سياحيّة" إلّا دليلٌ على يُسر هذه الرّحلة، لكنّه كان يغبط بقيّة المهاجرين ممّن كانوا يتحدّثون عن تفاصيل هجرتهم المضنية، وصِعاب طريقهم الشّائك، فهو يرى في تلك الصّعاب مزيداً من الأجر، وتقرّباً أكثر إلى ربّ العباد.

 

وما إنْ وصل إلى رحاب الدّولة الإسلاميّة حتى استُقبل في أحد دور الضّيافة، مع بقية المهاجرين بانتظار دخول المعسكرات، وبعد ساعاتٍ فقط تطوّع في إحدى أصعب كتائب الدّولة الإسلاميّة وأشقّها تدريباً، ولا تستقطب إلا النّخبة من المهاجرين والأنصار، فينقطع المنتسبون إليها عن العالم من حولهم، ويتفرّغون لجهادٍ لا ينقطعون عن غزواته حتى يقتلوا، فأعضاؤها انغماسيون واستشهاديون، لكنّ أبا أويس عاد من الكتيبة بعد يومين اثنين فقط، فالفحوصات الطبيّة الخاصّة بالكتيبة أثبتت أنّ في كاحله إصابةً خفيفةً، فرُفض انتسابه إليها، فعاد حزيناً مهموماً إلى دار الضّيافة، وهو الذي كان يُمنّي النّفس أن يكون ممّن يطلّقون الدّنيا بما فيها نصرةً لدين ربّه، لكنّ الطّريق لا يزال ممهّداً أمامه لإكمال مشواره، فالدّولة الإسلاميّة لها جيوشٌ بدل الجيش الواحد، وباب الجهاد مُشرع لا يغلق حتّى قيام السّاعة، وبالفعل فقد دخل أبو أويس المعسكر الشّرعي، ثم أعقبه بالمعسكر العسكريّ، ليتخرج من تلك المعسكرات أسداً يتأهب للانقضاض على فريسته من نصيريّةٍ ورافضةٍ وصحواتٍ وملاحدةٍ..

 

تعرّض الشّهم أبو أويس إلى وعكة صحيّة جعلته يتأخّر عن رفقة زملاء جهاده لبضعة أيّام، لكنّه آثر الالتحاق بهم، رغم مرضه..

 

وهو يسير إلى آخر معاركه في هذه الحياة، وقف يودّع بعضاً من رفاقه، ثم ذرف دمعة وداعٍ وغادر، وكأنه يعلم أنّ موعد الفراق قد اقترب، لذا رفض حتّى أخذ دوائه وعلاجه، وحينما سُئل عن السّبب، قال:

وما حاجتي للدّواء في الجنان!!

 

غادر الشّاب النّبيل، بعدما كتب آخر كلماته، مخاطباً بها أمه، قائلاً:

 

"أمي حبيبتي: والله مهما وصفت اشتياقي لك، لن تفهمي كم أنا مشتاق لك! ربّما ستلومينني.. ربّما ستوبّخينني.. ربّما ستقولين إنك لم تحببني يوماً، وكيف تحبّني وقد ذهبت وأحرقت بذهابك كبدي!؟.. لكنّي أقول لك يا قرّة عيني إنّني ربّما أجزم أنّه ليس هناك ابن يحبّ أمّه كحبّي لكِ، لكن يا كبدي أجبت داعي الرحمن إلى الجهاد، وإلى نصرة هذا الدين، ولقاؤنا بإذن الله سيكون في جنّة عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين، منح الله فيها الدّرجات العليا للمجاهدين، فلو أجبتك بقعودي وحبسي عن الجهاد لفررت منّي يوم يفرّ المرء من أبيه، وأمّه وأخيه وصاحبته وبنيه، لكن يا فؤادي نفرت أطلب الشّهادة كي أشفع لكم بإذن الله، فدعواتك يا أرحم الأمّهات..

 

أمي حبيبتي.. الذي أريده منك اليوم أن تفخري وتفرحي وتضحكي لا أن تستحيي وتبكي وتحزني.. فأنا -بإذن الله- لم أخرج إلا في سبيل اللّه، وابتغاء مرضاة الله، وإعلاءً لكلمته.. وسأقول لك أبياتاً لطالما أنشدتها تحت مسامعك وأذرف الدّموع عند سماعها:

 

أمّاه لا تبكيني، أمّاه لن أعود           أمّاه ودّعيني لجنّة الخلود

لا تحزني فإنّي عصفورٌ في الجنّات   قولي للسائل عنّي ولدي حيٌّ ما مات

ولدي يشدو ويغنّي ولدي نبعُ البسمات      لا أبكيه لكنّي أنتظر الفجر الآت.

 

أسأل الله أن يربط على قلبك يا أمّي، ويثبت فؤادك، ويرزقك صبراً جميلاً، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون".

 

ثم خاطب والده وأخاه وأخواته في كلماته الأخيرة تلك، قائلاً لهم:

 

"إذا قتلت فلا تحزنوا، بل كبّروا، وهلّلوا، وادعوا الله لي بالقبول، وتيقّنوا أنّ لقاءنا إن تقبّل الله عملنا وأحسن خاتمتنا، سيكون في الفردوس الأعلى بإذن الله، مع النّبيين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأخيراً أودعكم وأقول لكم: الملتقى الجنة".

 

غادر أبو أويس ولم يلتفت خلفه، وهو يدخل أول وآخر معاركه التي قاتل فيها حتى قُتل، ولا يزال إخوانه يتذكّرون تلك النّظرة الأخيرة التي رمق بها أصحابه ورفاقه، ممّن بقوا خلفه، والتي ختمها بابتسامة وضحكة، ليقهر بها غصّة وحسرة الفراق ووجعه وليبشّرهم ويغريهم بحسن الختام.

 

 

 

 

 


 

03- العدد 010 - السبت 7 ربيع الأول 1437 هـ

أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر!

مجاهد نحسبه من جيل لم نألفه منذ مئات السّنين، جيل أولئك الذين نشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بعدما تخلّوا عن الدّنيا وزخرفها وزينتها، وهجروا أهليهم في طريقٍ ربّانيٍّ له قواعد لا بدّ لكلّ سالكٍ أنْ يدركها، فقد قضى الله -جلّ وعلا- أنْ تكون العبادة خالصةً له في هذا الطّريق، وأنْ يكون الأمر كلّه له، تعالى جدّه، لا ينازعُ سلطانه، الجنان ثوابه، والجحيم عقابه، فسبحانه!

 

أبو حذيفة المغربيّ، ذو الأربعة وعشرين عاماً، أدرك دقّة هذه القاعدة وعظمتها، فقرّر أنْ يسلك طريقاً لا يردّه عنه خوف أمٍ، أو خشية أبٍ، أو رجفة عشيرٍ، خصوصاً أنّه نشأ في كنف عائلةٍ يجمعها رباط أسريّ من نوعٍ فريدٍ، فلا يقوى فرد من العائلة على مغادرة أسوار العائلة لأيّام، لكنّ أبا حذيفة ليس كغيره، فكان أوّل تمرّده هو خروجه عن عرف البيت، وكسره لقاعدة أهله، فتمكّن من إقناع الأمّ والأب أن يعيناه على البحث عن مستقبل في مكانٍ آخر، ورغم أنّ الأمّ هي من كانت تعارض بشدّة أن يبتعد عنها فلذة كبدها، لكن حرصها على مستقبل الابن، الذي سهرت عليه لأيامٍ وليالٍ، جعلها تخضع لمتطلّبات الحياة، فتتخلّى عن عاطفة أمومتها، كما كانت ترى الأمر، فأن يخرج ابنها من دفء حضنها، إلى مدينة أخرى ويغيب عنها لأسبوع، فذاك من الصِعاب، بل هو المحال، فكيف بها وهي ستفارقه لأسابيع وأشهر وربما لسنين، لكنّه الإصرار من أبي حذيفة الذي جعلها توافق على مغادرة الطّائر لعشّه.

 

خضعت الأمّ، بعدما أدركت أنّها لن تقدر على الوقوف بوجه تلك الإرادة الحديدية لأبي حذيفة إلى ما لا نهاية له، فالفراق كان لا بدّ أنْ يكون في يوم من الأيّام، وهي تعلم أنها كانت تؤخّره، ولن تكون قادرة على منعه، بل وزادت عليه أنْ جهّزت الأمّ بنفسها نفقات السّفر، بعدما تخلّت عن أعزّ ما تملك من أشياء ثمينةٍ، وقبل ذلك رضيت بما كانت تعدّه من المستحيل، ذلك الذي يسمى (الفراق)، الذي يجنّ جنونها لهوله كلّما تذكرته، وخطر لها ببال.

 

خرج أبو حذيفة، بعدما قطع تذكرة السّفر إلى حيث ما يراه كثير من شباب اليوم حلم كلّ شابٍّ، اتّجه إلى (الخليج)، فكانت وجهته (قطر)، التي راح يزاول فيها أعمالاً حرّة.

 

مضت الأيّام، ومرّت الأشهر، وتعدّدت السّنين، وعين الأم ترقب الطّريق، لعلّ الغائب يعود، ولعل غربة الحبيب تنتهي، فيطلّ عليها من خلف باب طال إيصاده.

 

آنذاك كان أبو حذيفة يفكّر فعلاً بالرّحيل، ولكن ليس للعودة إلى بلده، بل لتحقيق حلمٍ كان يراوده منذ أمدٍ بعيدٍ، حلمٌ كان أهمّ عنده حتّى من أحضان أمّه، أو عناق أبيه، أو لقائه لأخته وأخيه، حلم الهجرة إلى أرض يحكمها شرع الله، وتقام على أديم أرضها حدود الرحمن، ويأمن فيها المؤمن على نفسه، ومرابع وسهول وجبال وأودية لا يخاف فيها المسلم إلا الله، والذئب على غنمه، فكان القرار الذي اتّخذه هو الهجرة إلى دولة الإسلام، أرض الخلافة، حلم كلّ مسلمٍ.

 

حينما أخذ يعدّ للهجرة تعرّض محل إقامته وسكناه لحريقٍ، فخسر كل حاجياته، بينها أمواله وأوراقه، ولم يخرج سوى بما يرتديه من ملابس العمل.

 

خشي أبو حذيفة لحظتها أنّ الله يريد اختبار صدقه إنْ كان سيثبت ويصرّ على سلك هذا الطّريق، أم أنه سيخضع للظروف العصيبة والعراقيل المتعدّدة، لكن كيف له ألّا يواصل السّير وهو يعرف صحة المنهج؟ بعدما هداه الله لفهم واقع الحال الذي ما عاد خافياً إلا على أعمى بصر وبصيرة، فازداد تمسّكاً أكثر من ذي قبل بالفكرة، وأجهد نفسه للحصول على ما يحتاجه ليكمل مهمة الهجرة والسّير على طريق الجهاد، فأوهم الجميع أنّه ذاهبٌ إلى بلده (المغرب)، لكنه غيّر وجهته لتكون دولة الإسلام هي قبلته.

 

تنقّل من مطارٍ إلى مطارٍ، ومن أرضٍ إلى أرضٍ، حتّى استقرّ به المقام قريباً من أراضي الدّولة الإسلاميّة، حيث لا يفصله عنها سوى مسافة يومٍ لا أكثر.

 

أقام في فندق، وحينما استيقظ في صباح اليوم التّالي وجد أنّ محفظته وبعض أشيائه قد سُرقت، فجلس في حيرةٍ من أمره، فهو لم يدفع بعدُ تكاليف الفندق، وطريقه ما يزال طويلاً، فبقي لأيام على هذه الحال، وقائمة فندقه باتت تتصاعد تكاليفها، ولا حلّ له يلوح في الأفق، حتى هداه الله للاتّصال ببعض معارفه طالباً منهم نجدته بتحويل قليلٍ من المال له، وهو ما كان.

 

فسارع إلى مغادرة الفندق لتبدأ آخر صعاب طريق الهجرة، التي يسّرها الله تعالى حتّى وصل إلى أرض الخلافة، وما أن اجتاز الحدود إلى الدّولة الإسلاميّة حتّى تنفس الصُّعداء، ثم خرّ على ركبتيه جاثياً باكياً من شدّة سعادته وفرحه، فاستقبله رجال حدود دولة الخلافة بالأحضان، واصطحبوه إلى دار الضّيافة، التي بقي فيها لعدّة أيّام، قبل أن يلتحق بالمعسكر الشّرعي، أولى محطّات حياته الجهاديّة.

 

وما أن انتهى من المعسكرات، وتمكّن من التّواصل من جديد مع عائلته، التي فوجئت بوجوده في أرض الخلافة، حتى فُتحت عليه جبهات عائليّة عدّة، فالكلّ يريد إقناعه بالعودة ظنّاً منهم أنّ هناك من غسل له دماغه، فكان يمتعض من هذا الأمر، ويردّد ويكثر من القول: ما لعائلتي؟ ألا تعلم بما جرى ويجري لنساء ديني؟! ألا تعلم عائلتي ما يحصل للأطفال الذين يُبادون؟ لا لسببٍ إلّا لأنّهم أبناءٌ لمسلمين، ألا تعلم عائلتي أنّا ما خُلقنا إلا لنجاهد في سبيل الله؟ ما لعائلتي؟ ما لعائلتي؟!!

 

ثم يردّد بحسرةٍ: ألا تسمع عائلتي ما قيل بأنّ أعظم بِرّ يقدّمه الولد لوالديه، أنْ يكون في أرض الجهاد؟ ثمّ يعود ليرجوهم أن يحزموا أمتعتهم ويهاجروا إلى دار الإسلام، ويعيشوا في ربوع الخلافة تارةً، وتارةً أخرى يتوعّدهم بغضبٍ من الله عليهم إنْ طالبوه بالعودة، أو بغضبٍ عليه إنْ هو فكّر في الانتكاس والعودة لديار الكفر، وكان يكثر من القول:

 

أأرجع إلى الضلال بعد هداية الرحمن؟ أأستبدل نعمة العيش في أرض يقام عليها شرع الله بأرض لم أعرف منها سوى الظّلام والفساد؟ ما لكم يا أهلي، كيف تحكمون؟ والله لن أعود، والله لن أعود، والله لن أعود!

 

أمّه وأبوه -عبر الرسائل الصّوتية- كانا يضغطان عليه ويلحّان أن يُرضيهما ليرضى عنه الله تعالى، فكان يُذكّرهم بأنْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فيأتيه صوت أمّه باكيةً بحرقةٍ وألمٍ، وهو ثابتٌ، يتألّم، يتوجّع، لكنّه لم ينكسر... كان أبوه يرجوه، ويطالبه أن يرأف بحاله وحال أمّه، وأنّه سيضمن له العيش في (إسبانيا)، أو أيّ دولةٍ أوروبيّةٍ يختارها، فكان أبو حذيفة يبكي ويبكي ويبكي، ثمّ يعود ليخاطبهم بالقول، بعدما يكفكف دموعه:

 

يا أمّي ويا أبي، إنّني أبكي كلّ يوم، لكنّني لست أبكي ألماً لفراقكم، بل لأنّي أريدكم أن تعيشوا في كنف شرع الرّحمن، هنا في أرض الإسلام، فأنا أريد لكم الجنّة، أريد أن يسخّركم الله لخدمته وطاعته، مثلما أسأله أن يسخّرني لنصرة دينه ورفع رايته، أريد أن تزهدوا في هذه الدّنيا لأنها زائلة، وأنّكم لا بدّ يوماً عنها راحلون.

 

يا أبي إنْ كنت تعرف دينك حقّ المعرفة، فإنك -وبلا شكٍّ- ستفرح لتوبتي وهجرتي، وكذلك ستفعل أمّي. فاصبرا، واحتسبا الأجر لله، فمهما بقينا معاً سنفترق يوماً، فالدّنيا فانية والملتقى الجنّة يا أهلي، فتلك هي دار الخلود، وتلك هي الحياة.

 

خرج أبو حذيفة من حربه الشّرسة التي دخلها هاتفيّاً مع عائلته، قبل أن يخوض أولى معاركه العنيفة على الأرض. انتهت الأولى بانتصاره؛ فقد انتصر بثباته، انتصر بنهجه الذي سار عليه، انتصر بتوبته وعودته إلى طريق الهداية والإيمان، انتصر بثباته على طريق الجهاد، وانتهت معركته الثّانية بنيله الشّهادة كما نحسب، بعدما قُتل بصاروخ طائرةٍ صليبيّة في معركة كان يخوضها ضدّ المرتدّين.

 

قلّةٌ هم الرّجال الذين يصمدون ويتخطّون عقبات المحن، وهكذا هم رجال الأمّة، كأمثال أبي حذيفة المغربيّ، صابرون على ما ابتلاهم الله به من محنٍ، يحزنهم وجع أمّهاتهم، وأنين آبائهم، وانكسار زوجاتهم، ودموع أبنائهم، وحسرة إخوانهم وأخواتهم، لكنّهم ثابتون على درب الجهاد، لا تهزّهم الرّزايا، ولا تخيفهم أو تردّهم المنايا، كأشجار الصّنوبر، كلّما اشتدّت العواصف اشتدّوا تجذّراً وثباتاً، كالنّخل الشّامخ الذي ينافس السّحب علواً، كأسد الشّرى، لا يموتون إلا وقوفاً!

 

 

 

 

 


 

04- العدد 012 - الثلاثاء 24 ربيع الأول 1437 هـ

حيدرة الأحواز أبو عزام تاب من الرفض ولبى داعي الجهاد، فقتل على ثرى دولة الإسلام!

سار من الأحواز قاصدا أرض الجهاد، باحثا عن رضى الرحمن، وخشيةَ ليلةٍ صبحُها بين يدي الديّان، فإما رزْق كريم وفردوس وجنان، أو خزْي وعذاب وكبٌّ للوجوه في كبد النيران... لم يُعِر لدنياه بالا، ولم يمنعه تعلق بأهل ولا حب لجاه أو مال، ما رده عن النفير القول "إن الوصول لأرض الجهاد من المحال"، فقد حسم أمره، وعقد النية، وتوكل على رب البرية، فهاجر كي يكون له الإسلام الحق هوية.

 

إنه أبو عزام الأحوازي، الذي عرف التوحيد وسلك دربه، بعدما كان رافضيا حتى النخاع، فقد اكتشف الضلال الذي كان يدور في فلكه، فهداه الله وشرح قلبه للإسلام، فسعى لأن تكون كل عائلته على المنهج الصافي ذاته الذي عرفه، بعيدا عن الشرك الرافضي وأهله.

 

لم يحتمل أن يجلس في تلك البقعة المنسية، فحينما عرف التوحيد رفض عيش الذل، بعدما أوجعته جراح أمته، لهذا قرر أن يتخلى عن عار القعود، يتخلى عن ماضيه، عن ذكرياته، عن حياته، وعن أهله وأحبائه، ويسخّر شبابه -ما مد الله عمره- في نصرة الإسلام والمسلمين، وسبيله في ذلك الجهاد، فذاك هو طريق الحق، وهو الذي يضمن له جنة عرضها السماوات والأرض، إنْ أخلص النية لله في سيره نحو فردوسها الأعلى.

 

لقد كان قرار أبي عزام أن يهاجر إلى سوح الوغى، ويتّجه إلى أرض الخلافة، أرض دولة الإسلام ودين الإسلام حيث تجتمع ملل الكفر كلها لمحاربة دين الله، فأخذ يبحث عمَّن هو قادر على إيصاله إليها، فيسّر الله له العثور على من يعينه ويساعده على تحقيق حلمه المنشود.

 

وحينما جاء ذلك اليوم الموعود، وحلّت ساعة الصفر، أخرج أبو عزام حقيبته، ووضع فيها بعض ما يحتاجه في طريق السفر، ثم اتجه لقريب له تائب من الرفض، ليكون رفيق رحلته، بعدما اتّفقا على النفير سويّة.

 

غادر ولم يلتفت خلفه، فهو قد طلّق الدنيا، وقرّر أنْ لا تقف بوجه هجرته أي عوائق، فانطلقا في رحلة لا عودة منها، وكان الأحوازي يدرك ذلك جيدا، بل يسعى أن تكون رحلته لا عودة منها، رحلة خاتمتها الشهادة، شهادة متقبلة عند الله، لعل الله يغفر له تلك السنوات التي عاشها في ضلال دين الرافضة، أو أن يرزق الله دولة الإسلام نصرا، يمكّنها من الوصول إلى الأحواز فيكون أبو عزام من بين فاتحيها، وحينها فقط له أن يدخل داره ثانية كما كان يردد.

 

قطع صاحبا السفر عدة مدن إيرانية، حتى وصلا إلى شخص يظنانه المهرّب الذي سيتولى عملية نقلهما إلى نهاية حدود إيران، لكنهما -وحينما تحدثا إليه- تبيّن أنه ليس الشخص المقصود، فخطفهما، بعدما أشهر السلاح بوجهيهما، ليقتادهما بعد ذلك إلى سجن سري في دار منعزلة، ويطالبهما بدفع فدية، وإلا سيقوم بتسليمهما للسلطات الإيرانية الرافضية، وحينها ستكون النتيجة محسومة في نظرهما، الموت على أيدي الروافض... ولأن أبا عزام وقريبه لم يكونا يملكان من المال شيئا سوى دولارات معدودة، لا تكاد تكفي أجرة السيارة، التي من المفترض أنْ تُقلّهما إلى نقطة العبور الحدودية، فقد جعل ذلك حبسهما يطول لأسابيع!

 

بعد أن طالت أيام السجن، عرض أبو عزام ورفيق رحلته على خاطفهما أن يسمح لهما بالاتصال على أحد الأشخاص، لعله يستطيع تأمين المبلغ الذي طلبه، وقدره عشرة آلاف دولار عن كل واحد منهما، فوافق الخاطف، وسلمهم أحد الهواتف النقالة التي صادرها منهما، ليتصلا على الشخص الذي تكفّل بمساعدتهما للوصول إلى أراضي الدولة الإسلامية، وما أن سمع بخطفهم، حتى سارع إلى تأمين مبلغ عشرين ألف دولار، ليوصلها بطريقته الخاصة إلى ذلك الخاطف، وليُخرِج أبا عزام وصاحبه من فوهة الموت، ومن عنق الزجاجة التي علقا بها.

 

بعد تحريرهما من الخاطف عثرا على من يساعدهما على عبور الجبال، فاستقلا حافلة، قطع بهما سائقها كثيرا من الأودية، وصعد بهما شواهق الجبال، لكنهما كانا قلقين جدا، فجُلُّ همّهما أن يخرجا من حدود إيران الرافضية بسلام.

 

طيلة مدة الرحلة كان أبو عزام صامتا، فهو لا يجيد الحديث بالفارسية على الإطلاق، ما جعله يسلّم مقاليد الرحلة لرفيقه، الذي كان يتقنها بطلاقة، طالبا من أبي عزام أن يدّعي المرض، وأن تورّماً أصاب لثته وأسنانه جعله يعجز عن الكلام من شدة الوجع، وهو ما فعله أبو عزام ولأيام، خشية أن تُكتشف حقيقتهما بأنهما عربيان أحوازيان، حيث يمكن أن يعتقلهم الرافضة لمجرد وجودهما خارج الأحواز.

 

وبعدما يقرب من عشرين ساعة، قضياها بشكل متواصل وبطيء، بسبب تعرجات وتموجات الطريق، وصلا أخيرا إلى نقطة يتوجّب فيها الترجّل وإكمال الرحلة مشيا، فقَطْع الحدود لا بد أن يكون سيرا على الأقدام، وهو ما كان، حيث استمر أبو عزام وصاحبه وبقية المتسللين في السير لما يقرب من تسع ساعات، حتى وجد الجميع أنفسهم محاطين بجمع غفير من حراس الحدود من مرتدي الأتراك بعد خروجهم من الأراضي الإيرانية، فوضعت القيود في معاصمهم، ولتبدأ مع أبي عزام رحلة في السجون استمرت لأشهر وأسابيع كانت كفيلة لتجعل "الأحوازي" يراجع حساباته، ويعود أدراجه من حيث أتى، لكن أشهُر السجن ما زادته إلا صلابة وإصرارا على مواصلة المشوار نحو أرض الخلافة.

 

خرج الرفيقان من السجن، بعد أن أمضيا شهورا طويلة فيها، حيث أخبرا المحققين في سجنهما أنّ وجهتهما كانت أوروبا، وتحديدا الدانيمارك، ولكن الدنيا التي فتحت ذراعيها لأبي عزام وصاحبه -بعد أنْ ظن مرتدو الأتراك أنهما لاجئان- كانت لا تساوي عندهما يوما واحدا يقضيانه في ربوع دولة الإسلام.

 

فما أن خرجا من السجن، حتى استقلا حافلة متوكلين على الله ليتجها صوب دولة الخلافة، ولم يكونا يمتلكان حتى قيمة أجرتها كاملة، فأرسل الله لهما شخصا لا يعرفانه ولا يعرفهما، فقام من فوره ودفع عنهما أجرة الحافلة، بعد أن رأى حيرة أبي عزام وصاحبه أثناء عملية دفع الأجرة، فعرفوا أن الله -سبحانه وتعالى- أرسله إليهم كمنحة ليخرجهم من تلك المحنة التي وقعا فيها.

 

ما أن وطئت قدمه أرض الدولة الإسلامية، بعد شهور مضنية متعبة عسيرة، عاش فيها الموت مرات ومرات، نزل أبو عزام إلى الأرض وبكى بكاء حارا، من شدة فرحه وسعادته.

 

كان أبو عزام يتشوق لإنهاء التدريب للثأر من الرافضة، الذين باتوا في قاموس أبي عزام ألدّ الأعداء، بعدما كان منهم يوما، قبل أن يكرمه الله بالتوحيد، بل كان يكنّي نفسه بـ (ذبّاح الروافض)، فلطالما تمنى لو أنه يشرب من دمائهم حتى يشبع، ولن يشبع كما يقول!

 

كانت مجالسة أبي عزام الأحوازي لا تمُل، وأحاديثه عن الأيام الخوالي لا تنقطع، رجل لا يعرف سوى الابتسام في وجه إخوانه، وكان كثيرا ما يقوم بتقبيل رؤوس المجاهدين واحدا واحدا، بسيطاً طيباً هيّناً ليّناً، وكان يكثر من القول لأصحابه بأنه يحبهم في الله، وكلما رأى فعلا طيبا من أخ، مع أي مجاهد آخر، سارع إليه وقال له: أخي إني أحبك في الله.

 

أبو عزام، حيدرة الأحواز، الذي نفر إلى الجهاد، ولم يرض بالهوان، فلبّى النداء يوم أن دعاه الإله، ليذود عن حمى التوحيد، الذي كتب على غلاف دفتره الخاص بالمعسكرات دعاءه الذي لطالما كان يكرره "اللهم ارزقني الشهادة"، استجاب الله لدعائه حينما كان يقاتل على ثرى الشام في دولة الإسلام، فسقط الليث شهيدا، مضرّجا بالدماء، بل ولم يجد رفاقه من جسده شيئا، فقد تناثر أشلاء وأشلاء، بعد أن صال في آخر معاركه وجال...

 

 

 

 

 


 

05- العدد 015 - الثلاثاء 15 ربيع الآخر 1437 هـ

صدى كلماته هز لندن وواشنطن أبو محارب المهاجر.. مجاهد أشغل الغرب حيا وميتا!

جندي من جنود الدولة الإسلامية، نقل رسائلها إلى المشركين في الغرب، فأصبحت سيرته على كل لسان، وبات الضيف الدائم على مختلف وسائل الإعلام، ومادة للمحللين، الذين تسابقوا على تفسير حركاته وسكناته بتحليلاتهم السخيفة المصطنعة، تماما مثلما أصبح محط تساؤلات السياسيين وكبار جنرالات الحرب ودوائر المخابرات في مختلف البلدان.

 

قيل فيه الكثير، وحيكت عنه الروايات ونسجت عنه القصص، حتى جعلت منه وسائل الإعلام المختلفة، والمعادية منها على وجه التحديد، أسطورة جهادية، فباتت كلماته يتناقلها الخصوم قبل الأصدقاء، وتخفق لأجلها فرحا وسعدا قلوب الأحباب والأنصار، وتخفق منها خوفا وهلعا قلوب الأعداء والفجار، وارتعدت فرائص الغرب كلما ظهر حاملا سكينه التي يجز بها رقاب الكافرين، وبين يديه ذبيحته التي يتقرب بنحرها إلى رب الأرباب.

 

فمن هو هذا المجاهد الذي لفت انتباه العالم بأسره؟ وما حقيقة شخصيته؟ كيف كان يتعامل مع محيطه؟ وكيف كانت علاقته مع إخوانه المجاهدين؟ كيف هاجر ليصل أرض الخلافة؟ وكيف ارتقى إلى بارئه شهيدا؟ نحسبه والله حسيبه، أسئلة أخرى كثيرة يطرحها الكثير، بينهم أقرب الناس إليه، ممن لا يعرفون حتى هوية تلك الشخصية التي كانت تضع اللثام الجهادي وهي توغل في دماء الكفار؟!

 

إنه (أبو محارب المهاجر) أو "الجهادي جون" الذي هاجر به أبواه إلى عاصمة الضباب لندن، ونشأ في كنف الغرب الصليبي الكافر، لكنه أدرك مذ ريعان صباه حقيقة المجتمع الذي يحيط به، ما جعله متعلقا بدينه أكثر، مبغضا لأعداء الإسلام من الكفرة والملحدين، بعد أن فتح الله عليه ببصيرة نافذة، أدرك من خلالها العقيدة الصحيحة والمنهج السليم الذي زاغ عنه الكثير في أرض لا تعرف إلا محاربة الإسلام، ومجتمع شاذ يناهض التوحيد، لكنه فضْل الله الذي أنعم به على أبي محارب حينما اختاره وأعدّه لنصرة هذا الدين، مع ثلة أخرى من شباب المسلمين، هجروا المضاجع والفراش الوثير، وتركوا الدنيا وأداروا ظهورهم لملذاتها، وجعلوا كل همهم نصرة الإسلام والمسلمين، ورفع راية التوحيد.

 

كانت وسائل الإعلام الكافرة تنسب المجاهد أبا محارب المهاجر تارة إلى بلاد المغرب، وتارة إلى أرض الكنانة، وتارة إلى أوروبا ذاتها، ولادة ونشأة، ونسَبته بعض أجهزة المخابرات لهذا البلد وذاك، فسعى الغرب للتركيز على شخصه بالتحديد، محاولين إسباغ نوع من الغموض عليه، ثم ما فتئوا يتحدثون عن الشخص نفسه لا عن الرسالة، رغم إدراكهم أن أبا محارب لم يكن سوى جنديا في جيش الخلافة، كُلِّف بنحر علوج الغرب، وإيصال رسالة الدولة الإسلامية التي مهَرها وخَتَمها بدوره بنصل سكينه الحاد.

 

حارت في أبي محارب مخابرات الشرق والغرب وتتبعته، وتحديدا أجهزة المخابرات البريطانية، بعد رصْدها مؤشرات على انتمائه وحبه للجهاد، خصوصا بعدما أخذ يبذل جُل وقته بأمور متعلقة بالجهاد مع إخوة العقيدة من أصحابه، منهم (بلال البرجاوي) و (محمد صقر) تقبلهما الله، اللذين قُتلا في قصف صليبي عبر طائرات مسيّرة في الصومال بداية عام 1433 هـ، وهو ما جعله محط تتبع المخابرات البريطانية ورصدهم له.

 

لهذا أصبحت العيون تراقب أبا محارب هو وبقية أصحابه، في مراقبة دورية لا تنتهي، وأجهزة تنصت كان يلحظها الشاب المجاهد في كل مكان كان يتردد إليه، ثم تطورت لتصبح مداهمة للبيوت واعتقالات، ثم انتهت بمنع من السفر في آخر المطاف.

 

ورغم كل هذا التضييق ظل أبو محارب يحاول ساعيا للهجرة إلى أرض الجهاد، وفي كل مرة كان يحزم أمره وينطلق تخفق محاولته عبر استخدام المطارات، ومحطات القطار والموانئ، فالمخابرات كانت متيقظة، وتراقب تحركاته، دون أن تتمكن من اعتقاله لفترات طويلة لذكائه الذي يتميز به، وإحراجه للمحققين وتحايله عليهم بدهائه.

 

هذا المجاهد، الأوروبي المنشأ، لم يكن سوى شاب مسلم، بسيط الهيئة، باسم الثغر، بكّاء، محبا لأبناء دينه، ورغم ذلك فقد كان شرسا في ساح الوغى، باذلا نفسه في سبيل رب العزة، غيورا على الإسلام، فارسا مغوارا لا يشق له غبار، ما منعه جرح أو إصابة من خوض المعارك، جسورا لا يهاب المنايا، ولم تهزه يوما الرزايا، كان حين يقاتل على الجبهات يسعى لنيل الشهادة، ويترقب وينتظر أن يرزقه الله إياها مع قدوم كل معركة، فهي عنده المطلب والهدف والغاية، فهو ما خرج من داره في أوروبا إلا بحثا عنها، وما هجر الأهل والأحباب إلا سعيا إليها.

 

كان أبو محارب تقبله الله، ومنذ أن سلك طريق الجهاد، يمثل عقدة للمخابرات البريطانية، التي كانت دائمة التتبع له، لكنه وبفطنته وذكائه وتمويهه كان دائم الإيقاع بهم في فخاخه وشراكه، رغم وضوح توجهه الجهادي، ومع أنهم وضعوه على لائحة الممنوعين من السفر إلا أنه هاجر رغم أنوفهم، وخرج من بريطانيا متحديا مكتبها الخامس الداخلي (MI5)، ومكتبها السادس الخارجي (MI6)، واسكتلاندياردها، وكل أجهزتها الأمنية الأخرى، لكن كيف لهم أن يحيطوا شابا كأبي محارب بقيود الحصار وسوار المنع، فنجح في الإفلات من قبضتهم، رغم التشديد الكبير عليه.

 

لم تكن هجرته لأرض الخلافة كأي هجرة أخرى، فلقد كثرت طرقاتها، وتعددت شعابها ومتاهاتها، وطالت مدتها حتى بلغت ما يقارب الستين يوما، تنقّل فيها بين هذه الدولة الأوربية وتلك، وقطع مسافات شاسعة على قدميه، وقطع في مسيره غابات ووديانًا وعبر أنهارا ومستنقعات، وتسلَّق جبالا ومرتفعات، وتعرّض للاعتقال في طريق هجرته أكثر من مرة، وكان في كل مرة يحتال على أجهزة تلك البلدان الأمنية والاستخباراتية، فيخرج من شراكهم بتوفيق من الله أولا، وبفطنته ثانيا، حتى يسّر الله له الوصول إلى الشام، في العام الهجري 1434، ليدخلها بعد سفر طويل، وشوق كبير، وحلم يسعى لتحقيقه كبير.

 

ما أن وطئت قدمه أرض الشام حتى حمل سلاحه، بعدما ميَّز الغث من الفصائل من السمين، والمجاهد من مدعي الجهاد، والساعي لتحكيم شرع الله من المتاجر بالقضايا والأرواح، فراح يجاهد أعداء الله النصيرية في هذا الثغر وذاك، فأبلى بلاء حسنا، فشارك في معارك عديدة ضدهم، بينها مشاركته في معارك (سلقين) ومعركة فتح مطار (تفتناز) في ريف إدلب.

 

وما أن وقعت فتنة الشام، بعد نكث (الجولاني) بيعته لأمير المؤمنين، أبي بكر البغدادي حفظه الله، حتى سارع للانضمام إلى خندق الحق، خندق الدولة الإسلامية، فالمجاهد الذي انضم إلى الدولة الإسلامية حينما كانت تعمل في الشام تحت اسم "جبهة النصرة"، قبل غدر (الجولاني) ونكوصه، سرعان ما تبرأ من (الجولاني) وجدد البيعة لأمير المؤمنين أبي بكر البغدادي (حفظه الله).

 

وقد كان على دراية، عبر بصيرته النافذة التي حباه الله بها، أن كثيرا من الفصائل ذات الرايات المختلفة، والشعارات الطنانة، والأسماء الرنانة، إنما هي فصائل منافقة، تقف خلفها أجندات إقليمية ودولية مشبوهة، لا تختلف عن فصائل الردة وصحوات الضرار في العراق وغيرها من ساح الجهاد التي ابتليت بمثل أصحاب المنهج المنحرف أولئك، فما أن برزت الصحوات حتى أصبح أشد عليها من الحسام المهند، فقد كان له السبق في قتالهم في معارك الدولة الإسلامية، وأثناء قتاله لها أُصيب البطل الهمام برصاصة في ظهره أثناء محاولات استعادة السيطرة على حريتان في ذلك الوقت.

 

بقي جندي الدولة الإسلامية (أبو محارب المهاجر) شاهرا سيفه بوجه كل من تجرأ على محاربة الإسلام والمسلمين، وعلى رأسهم صحوات الخنا وجبهات الضرار حتى أعلنت الخلافة وأقيم صرحها ليصبح جندي الخلافة الأمين، الذي ما أغمد سيفه يوما، حتى بعد إصابته في حروب دولة الخلافة الإسلامية مع الصحوات، واستمر في قتال المرتدين ومن ذلك مشاركته في فتح الفرقة 17 في ولاية الرقة.

 

عُرف "الجهادي جون"، كما يحلو للإعلام الغربي أن يناديه، برسائله التي يخطها بدماء الكفرة ممن ينحرهم بسكينه. رسائل تدحرجت بين أسطرها الرؤوس، واهتزت لكلماتها أركان البيت الأسود الأميركي، وارتج لها عرش (اليزابيث)، وبلاط مملكة كانت لا تغيب الشمس يوما عن مستعمراتها، وارتعشت لها كنائس روما التي أرهبها وعيدُ قربِ فتحها والصلاة فيها. نعم لقد وصل صدى كلمات أبي محارب تقبله الله إلى كل ركن وزاوية من دهاليز أوروبا وشوارع أمريكا، وأسمعت كلماته من به صمم من ساستها ودهاقنتها.

 

كان لذلك الشاب، ابن جزيرة العرب، ذي السبعة وعشرين ربيعا، وجه آخر غير وجه الأسد الذي يخفيه ذلك اللثام، فلقد كان حسن الطباع، هادئا، مرحا مع إخوته المجاهدين، خادما لصغيرهم قبل الكبير، خجولا، لا ينفك عن التودد لأبناء الشهداء وتعليمهم، فقد كان يرى نفسه مسؤولا عن كل ابن شهيد، ولكل ابن شهيد حق عنده، فتراه يسارع لتفقد أبناء الشهداء ممن يعرف ولا يعرف، فكان يصطحب أبناء الشهداء إلى الحدائق العامة، ويتلو عليهم القرآن الكريم ويحفظهم سوره، كما أن كثيرا من إخوته المجاهدين كانوا لا يدركون أنه من أرعب أمريكا وهز أوروبا، فقد كان شديد الحرص على أن يكون جهاده خالصا لله، لا من أجل سمعة أو شهرة يراها زائفة، لا تقدم ولا تؤخر أمام ما أعده الله للمجاهدين المخلصين الصادقين، لهذا فكان يخشى الرياء كثيرا كثيرا.

 

قُتل أبو محارب، الذي نفر إلى ساح الجهاد من أرض لطالما حاربت دين الله، وغادرنا إلى جنان الرحمن، بإذن ربنا الأعلى، بعدما عاش بطلا ومات كالنخل واقفا، وترك خلفه فرحة وغصة، فرحة بما نال من شهادة، بإذن الله تعالى، وحسرة وغصة أن خسر المجاهدون أمثاله من الصادقين، نحسبه والله حسيبه.

 

وبمقتل الضرغام، الذي كان يكثر من سؤال الله أن يأخذ من دمه حتى يرضى، انتهت فصول مسرحية الإعلام الغربي، الذي حاول أن يشغل العالم بشخص المجاهد أبي محارب رحمه الله، لا برسالته التي يحملها، كأي جندي آخر في صفوف جيش دولة الخلافة، ولتنتهي بمقتله تلك الزوبعة الإعلامية التي كان يثيرها ذلك الإعلام المتخبط، الذي حاول أن يشغل الرأي العام بشخص أبي محارب، لا بفحوى الرسالة التي كانت حروفها تقطر من دماء الكفار الذين يتخطفهم الموت على يديه نحرا لتزيد كلمات رسائله فصاحة وبلاغة.

 

ترجل الفارس عن فرسه، بعد ثلاث سنين من الجهاد المتواصل، والتحق بقطار الشهداء الذي توقف في محطته، ليلتحق بمن سبق ممن جادوا بأرواحهم وأجسادهم ودمائهم، تاركا خلفه فتية وشبابا ورجالا يتسابقون في ميدان الجهاد أيهم يرتقي شهيدا أولا، فيكون من الخالدين بإذن الله، في تنافس محمود مشروع.

 

قتل (أبو محارب) في يوم خميس، وتحديدا في التاسع والعشرين من شهر محرم الحرام من هذا العام، 1437 هجريًّا، ليُزف إلى الحور العين، إن شاء الله تعالى، ولتبقى كلمات الجندي الأمين ورسائله خالدة يتناقلها الأعداء قبل الأنصار. الرجل الذي تناثر جسده أشلاء، بفعل استهداف طائرة صليبية بدون طيار لسيارة كان يستقلها، فرحل المحارب الذي لم يأنس يوما بدنياه حتى استقر في بلاد الشام، فكان ممن أكرمه الله بوجوده على ثرى أرض الشام يوم أعلنت الخلافة الإسلامية وعلا صرحها، ليتحقق بذلك حلم أبي محارب المهاجر في شهود هذا الحدث الذي كان المسلمون يترقبونه منذ عقود وقرون خلت، ثم يكرمه الله ثانية أن يرزقه، بإذنه سبحانه، شهادة متقبلة، على أرض الخلافة.

 

تقطع جسد (أبي محارب) أشلاء، وانتقل إلى الرفيق الأعلى لكن ذكراه وكلماته أبدا لن تموت بمقتله، فهو في جنان الفردوس نزلا، نحسبه، ولا نزكي على الله أحدا، فهذا وعد الله جزاء لمن أخلص النية وصدق الله، جل في علاه، أما كلماته، فلم تكن رسالة شخصية منه، بل كانت رسالة دولة لا تموت بموت جنودها وقادتها، بل تحيا بدمائهم شجرتها الوارفة التي تورق وتزهر بتضحياتهم. رسالة وصلت، تلتها رسائل بليغة من إخوة أبي محارب، ليس آخرها الرسالة التي وقعها جنود الخلافة بالدم وأرسلوها لفرنسا على طريقتهم الخاصة، ولن تكون بريطانيا، التي ركلها أبو محارب مهاجرا نحو دولة الإسلام، بمنأى عن تلك الرسائل، فحصة الأسد من نصيبها، بإذن الله تعالى، لإعلان حربها على المسلمين، وإيغالها في دماء أبناء الإسلام، والبريد سيصلها، بقوة الله، برسالة يشيب من هول فصاحتها الولدان!

 

 

 

 

 


 

06- العدد 017 - الثلاثاء 29 ربيع الآخر 1437 هـ

مهاجر الجزائري.. نِعم حامل القرآن أنت

وهو يغادر، وقف مودعا أصحابه المقربين في المطار قائلا لهم:

 

أنا مهاجر الآن وسألتقي بكم -بإذن الله- في ربوع دولة الخلافة، لنغزو معا إن يسر الله لي ولكم الوصول والنفير، أو يكون موعدنا الجنة إن رزقني الله الشهادة قبلكم.

 

وحينما وطئت قدمه أرض الخلافة قادما إليها من الجزائر، كان أول ما فعله الدخول على صفحته في الإنترنت ليكتب عبارة واحدة: "الله أكبر، الله أكبر.. حلم تحقق".

 

(مهاجر) ذو التسعة والعشرين ربيعا، والذي كان أصغر إخوته، كان باسِم الثغر، سريع الدمعة، لا يعرف الحقد طريقا إلى قلبه، وإذا اختلف مع إخوانه، يلوذ بالصمت فلا تسمع له صوتا، وإذا تبين له أنه أخطأ في حق أحد إخوانه، فسرعان ما يتراجع ويعتذر دون تردد أو خجل.

 

من أبناء المساجد، وحافظ للقرآن منذ صباه، أكمل دراساته الجامعية في تخصص الشريعة الإسلامية في جامعة (خروبة)، وفي الوقت ذاته كان يدرس القرآن الكريم لأكثر من مائتي طالب في أحد المساجد، فتخرج على يديه عشرات الفتيان ممن حفظوا القرآن الكريم بكامله، وكان يؤم المصلين في التراويح في شهر رمضان وهو في سن مبكر لما حباه الله من حفظ كتابه العزيز ومن عذوبة صوت في تلاوته.

 

عمل في التجارة بائعا للمواد الغذائية، فكان في نظر أبناء مدينته مثالا للصدق والأمانة والتعامل الطيب مع الناس جميعهم، كيف لا وقد كان سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى.

 

تعلق قلبه بالجهاد، ورغم أن الجميع كان يخشى نشر العقيدة السليمة أو التحدث بها خوفا من الطواغيت وأجهزة العسكر القمعية في الجزائر، إلا أن (مهاجرا) كان يستغل الرحلات المدرسية والمخيمات ليقوم بإلقاء محاضرات للطلاب يحدثهم فيها عن المجاهدين، ويسمعهم الأناشيد الجهادية، التي تشيد ببطولات المجاهدين، لتكون تلك الأناشيد هي ملح رحلاتهم ومخيماتهم، غير عابئ بالنتائج التي قد تترتب على اجتهاداته تلك.

 

من المفارقات.. تلميذه من سهل له أمر الهجرة إلى أرض الخلافة

 

كان همه دائما وأبدا النفير لسوح الجهاد، فقد هم بالنفير إلى العراق قبل عقد من الزمن، لكن اعتقال صاحبه الذي سبقه، والذي كان من المفترض أن ينسق له أمر هجرته، أضاع عليه الفرصة، فأصابه بعد ذلك هم شديد وحزن عميق، حتى فتح الله له أبواب رحمته، بعد قيام الخلافة، حيث هاجر أحد طلبته، ممن حفظ القرآن على يديه، إلى أرض الخلافة، وراح الطالب يتواصل مع أستاذه ليساعده في أمر الهجرة والترتيب لها، ورغم أن (مهاجرا) كان ينوي الزواج إلا أنه ترك كل شيء حينما حانت ساعة الهجرة، فغادر داره موهما من حوله أنه ذاهب في رحلة سياحية لن تطول، لكن الوجهة كانت دولة الخلافة، التي فشل مرتين في اجتياز عقبات الوصول إليها، نتيجة التشديد الأمني من قبل الطواغيت، ليتمكن في المرة الثالثة من دخولها بعد سنين عجاف حاول فيها الالتحاق بالمجاهدين.

 

تغيرت حياة (مهاجر) بالكامل، فالشاب قد تخلى عن أحلام مستقبله، تجارته، بيته، سيارته، أصدقائه، عروسه، فهو قد رمى الدنيا وما فيها وراء ظهره، وأصبح جل همه أن يكون مجاهدا في سبيل نصرة دينه لتكون كلمة الله هي العليا، وليمسي حلمه الوحيد أن يكون جنديا في جيش الخلافة.

 

حين وصوله أراضي الدولة الإسلامية أقام في إحدى دور الضيافة، والتي تعد أولى محطات دخول المهاجرين إلى أرض الخلافة، فشهد له الجميع بكثرة قيامه وسجوده، فكان لا يفتر من عبادته تلك، ولا يغادر المصحف يده، إلا حينما يأوي إلى فراشه، فكان القرآن الكريم أقرب المقربين إليه، بل كان صاحبه الذي لا يفارقه أبدا.

 

طال انتظاره في دار الضيافة لأيام، رأى فيها الشباب منشغلين بالتذمر لتأخر التحاقهم بالمعسكرات التي كانت ملأى بالمتدربين، مما يوجب عليهم الانتظار حتى يأتيهم الدور، بينما كان (مهاجر) منشغلا بذكر الله وقراءة القرآن كعادته.

 

حين أزف موعد التحاقه بالمعسكر الشرعي، تأهب وكأنه داخل إلى ساحة معركة، همة تسابق السحاب علوا، وفارس في مضمار خيل يسابق الريح سرعة ونشاطا.

 

في التدريبات الصباحية الخاصة بالمعسكر الشرعي، كان يتوجب على المتدربين قطع مسافة عدة كيلومترات في دقائق معدودة، والتي تعدّ نوعا من التدريب الخاص بالسرعة والقوة والمطاولة، وكانت المسافة كل يوم تزداد والوقت ينقص، في تحد كبير للزمن، لكن (مهاجر) كان دائماً ممن يحلون في المراكز الثلاثة الأولى، فقد أعد جسده وبدنه لمثل هذا اليوم منذ أمد بعيد، فقد كان قبل الهجرة سباحا ماهرا، ورياضيا متميزا.

 

صلّى إماما لإخوته في المعسكر، فمهارته وحسن تلاوته القرآن في الصلاة جعل من يصلي خلفه من إخوانه يتمنون لو أنه يطيل فلا ينتهي إلا بختم كتاب الله، وكان كثيرا ما يتوقف بسبب البكاء الذي يقطع قراءته، ثم اختير ليكون مسؤولا عن جميع حلقات تحفيظ القرآن والتي تعدّ من أساسيات المعسكر الشرعي.

 

وفي معسكره التدريبي العسكري القاسي، وكلما جمع أمير المعسكر المتدربين وألقى فيهم خطبة يحثهم فيها على بذل المزيد، أو يزجرهم فيها، أو يستنكر تقصيرهم في التدريب، يبدأ (مهاجر) بالبكاء الشديد، وحينما يُسأَل عن سبب البكاء يرد عليهم: حياء من الله.

 

في أحد الأيام حصلت له خصومة مع أحد المتدربين، مع أنه ليس من محبي الخصومات، ولكن أحد الإخوة المتدربين غضب منه لرفضه أن يخطب الجمعة حينما طلب منه ذلك، لأنه خشي أن يخطب في مجاهدين، يراهم خيرا منه، رغم أنه أعلمهم وأحفظهم للقرآن، وكان يتردد ويتذلل لذلك المتدرب طالبا منه العفو والصفح، رغم أنه لم يسئ إليه، وبقي يلاحقه ويكثر من الاعتذار له، حتى قبل ذلك الأخ اعتذاره وتعانقا، فكانت فرحته لا تعادلها فرحة يوم ذاك.

 

كان متمكنا من اللغة العربية وقواعدها ومن علوم الشرع، لهذا فقد كان مقررا له حين الانتهاء من التدريب أن يتفرغ في المعسكرات معلما وداعيا، فالحاجة لأمثاله ليست بالقليلة، والمجاهدون من أصحاب العلم الشرعي لهم مكانتهم، وهو ممن دعاهم الخليفة أبو بكر البغدادي -حفظه الله- للهجرة إلى أرض الخلافة مع العلماء والمشايخ والكفاءات وغيرهم ممن يحتاج المسلمون دورهم وخدماتهم في أرض الخلافة، لكن كان يتوجب عليه أن يذهب للرباط وسوح المعارك أولا قبل أن يتفرغ لمهمته الدعوية التعليمية.

 

جلس في مقر الكتيبة التي فُرز إليها، وتم تحديد أولى الغزوات التي سيشترك فيها، وفيما انشغل رفاق جهاده بكتابة وصاياهم، انشغل هو بقراءة القرآن وتجهيز سلاحه.

 

كان سعيدا بأن والده ووالدته راضيان عنه، فرغم أنهما كانا يعاتبانه بشدة لأنه سافر ولم يخبرهما بأنه كان قاصدا أرض الجهاد، إلا أنهما أخبراه أنهما راضيان عنه كل الرضى، وأن الموعد الجنة، إن لم يكن هناك لقاء في دنياهما هذه.

 

أوصى قبل مقتله أن يُبشّر أهله بخبر استشهاده

 

حمّل (مهاجر) أصحابه وصية شفوية، فأوصى أن يصل خبر استشهاده لأهله كبشارة، وأن تفرح له والدته حين سماعها نبأ مقتله، وأن توزع الحلوى والعصائر، وأن تسعد لما انتهى إليه، شهيدا عند رب العالمين، إن شاء الله، وكان يكثر من دعاء الله أن يتقبله شهيدا، ويشفعه في أمه وأبيه وإخوانه وأخواته وأصدقائه.

 

وبعد أيام قليلة فقط من وصوله إلى أرض المعركة قُتل (مهاجر) بصاروخ طائرة صليبية، فتناثر الجسد أشلاء، حتى ما كاد يبقى منه شيء يستدل به عليه، تناثر الجسد وتقطع في سبيل الله، أما الروح فقد سمت وارتفعت لباريها، لا أمنية لها إلا أن تعود بجسد صاحبها إلى هذه الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله، وهكذا نحسبه، ونحسبها.

 

أيها المهاجر، يا من تركت القرب من أمك وأبيك وإخوانك وأهلك، هنيئا ما ظفرت به، ونسأل ربنا الأعلى أن يتقبلك في عليين، وأن يرزقك جنان الخلد، وأن يبدلك عروس الدنيا بحور عين، هي خير من نساء العالمين.

 

 

 

 

 


 

07- العدد 021 - الثلاثاء 28 جمادى الأولى 1437 هـ

فارس الإعلام أبو بلال الحمصي أقسم على الله فأبرّه، نحسبه

من إعلام «الثورات» إلى إعلام الخلافة، ليحط رحاله أخيرا في قناديل تحت عرش الرحمن، نحسبه والله حسيبه.

 

أبو بلال، ابن مدينة حمص الأبية، ذو الثامنة والعشرين ربيعا، أسد مقدام، وفارس في زمن عزّ فيه الفرسان، لم يخش في الله لومة لائم، صدع بالحق حينما كُممت الأفواه، شهم شجاع، ما عرفه أحد إلا أحبه، ترك الدنيا وزينتها، في وقت كان فيه شباب المسلمين يلهثون وراء الدنيا وحطامها، لكنه من نوع آخر فريد، شغف قلبه حب الجهاد، وأسر روحه الكريمة عشق الشهادة، فطلب الموت واشتاق لقاء الرحمن، حتى نال شرف اللقاء في أعلى مراتبه.

 

درس العلوم «الشرعية» بمعهد حمص، وحصل على شهادة، لم تكن تعني له شيئا، فالمناهج كانت أشعرية صوفية، كان يبحث عن مراده ولم يجده، إذ لم يجد إلى أرض الجهاد سبيلا، حتى انطلقت الأحداث في الشام، فصار محرّضا على النظام النصيري، يحض رفاقه على الخروج عليه.

 

لم تستهوه السلمية ولا صرخات الحناجر، فالذل لا تمحيه إلا الخناجر، فبدأ أبو بلال يحرّض رفاقه على رفع السلاح في وجه الطغاة، ثم أخذ يجمع التبرعات التي يجود بها المسلمون لأهلهم المستضعفين ببلاد الشام، ولكن لم يرض أن تكون هذه الأموال إلا لشراء السلاح والإعداد ليواجهوا هذا الطاغوت.

 

عمل مع الكثير من الخارجين على النظام النصيري في كيانات وتحت مسميات شتّى، كانت أهداف العاملين فيها لا تتجاوز الخروج على هذا النظام، وقد انتكس كثير ممن كان معه فيها، وهوى في مهاوي الفصائل، ومؤامرات الفنادق، بينما كان هدفه هو أن يجد الطريق إلى الراية النقية المجاهدة.

 

كان دوره في هذه الفترة هو تحويل الدعم إلى سلاح، إضافة إلى نقل معاناة المسلمين في حمص المحاصرة للعالم، وله مع إعلام العار مواقف كثيرة، أظهر فيها زيف دعاويهم، فلقد كانوا يلزمونه بعدم كشف فضائح «الائتلاف» و «المجالس المحلية» التي تتاجر بدماء المستضعفين، ولكن صدقه وسلامة فطرته منعاه من ذلك، فقد كان كلما حاوروه طفق يكشف خور كل هؤلاء العملاء ويفضح مشروعهم الخبيث، ثم ما لبثوا أن اشترطوا عليه إزالة راية التوحيد التي كان يضعها وراءه، اعتزازا بها، ولمّا خيروه بين الراية والشهرة ضربهم عرض الحائط وازداد تمسكا بالراية.

 

تواصل معه العرعور، مطية طواغيت آل سلول، الذي باع دينه بالدولار والريال، وساومه ليطعن بمجاهدي دولة الإسلام، أو قطع الدعم عنه وعن مجموعته، فرفض أبو بلال عرض العرعور، رغم أنه كان في قلب حمص يعيش مع أبناء منطقته قصة صمود تحت خناق حصار رهيب، لا يملكون ما يسدون به الرمق، بل جلد العرعور، حين أعلن أمام الملأ، أنه إذا خرج من الحصار حياً سيبايع دولة الإسلام ويقاتل كل من يقاتلها.

 

خرج من حمص، بعد أن سلمها العملاء للنظام النصيري على طاولة المفاوضات، برعاية أمم الكفر، حاملاً في قلبه وجعا وألما كبيرين لتركه أرضه مجبرا، معاهدا الله أن يعود فاتحا، وقال كلمته الشهيرة رافعا سبابة التوحيد قبل خروجه: «لا تظنوا أننا لن نعود، سنعود، بإذن الله، ولكن بالدماء والأشلاء لنحرقكم حرقا، فانتظرونا»!

 

خرج أبو بلال من حمص، مهاجراً إلى دار الإسلام، في حين سلك أغلب من كان معه في الحصار طريق تركيا، باحثين عن عرض من الدنيا قليل، فثبت الفارس بعدما وجد طريق الحق والهداية، وإن كان صعباً مُتعِبا، فشتان بين طريق أشواك نهايته الجنان، وطريق رياحين وورود نهايته جهنم وبئس المصير!

 

هجر أضواء الشهرة والفضائيات ليكتب قصة جهاده بالدماء والأشلاء

 

بدأت حياته الجديدة بين إخوانه المهاجرين والأنصار، في كنف دولة الإسلام، فأحب إخوانه وأحبوه حبا شديدا، لفرط أدبه، وحبه لهم، وذوده عنهم، فترك أبو بلال أضواء الشهرة وبريق الفضائيات ليكون جنديا خفياً من جنود الخلافة، فهو لا يهتم بمعرفة الناس له، فيكفي أن يعرفه رب الناس ويصطفيه.

 

واصل مسيرته مجاهدا إعلاميا، فكان ممن ينقلون معارك دولتنا لتكون بشرى للموحدين وحسرة لأعداء الدين.

 

كانت عدته سلاحه وآلة التصوير، فهما أغلى ما يملك وبهما تعلق قلبه، سلاح بيده، يسطر به أروع الملاحم، وآلة التصوير في اليد الأخرى، توثق هذه الملاحم. هكذا كان هذا المجاهد الإعلامي، فلم يترك غزوة إلا كان في صفها الأول، ولا بشرى إلا كان أول من يزفها، ولم يكتف بهذا، بل أراد المزيد من التضحيات في سبيل الله، فقد شغف قلبه حب الشهادة، وأصبح يردد في جلوسه وقيامه: «اللهم شهادة ترضى بها عني، اللهم خذ من دمي وأشلائي حتى ترضى».

 

أسر قلبه الاستشهاديون وفعالهم، فكان يصور وصاياهم، وكلما وقف أمامهم بكى بحرقة وحسرة، وليس يَبكي هؤلاء الأحبة الذين سيفارقهم، بل يبكي حاله وحرمانه، إنه الاصطفاء الذي في كل مرة يتجاوزه، وكلما مرت في إصدار ما قصة استشهادي، تجده يندمج في تلك اللحظات، حتى كأنه ينقطع عن هذه الدنيا وينتقل إلى عالم آخر، بدايته طير خضر وقناديل، ثم حين يعود إلى عالمه تنهمر دموعه غزيرة ليقول: «ونحن متى نلتحق بهذه القوافل؟!».

 

روح الاستشهاد التي امتلكها والتي استحوذت على كل حواسه جعلته يسعى ليكون في قائمة الاستشهاديين، ولكن في كل مرة يُرفض طلبه، فهو من الكوادر القليلة في ولايته، يقولون له «نحن بحاجة لك»، فيصيح وعيناه تفيضان من الدمع:

 

«وأنا احتاج الرحيل، اشتقت لربي!».

 

رغم كل هذا لم ييأس، لم يركن إلى الدنيا، بل ازداد زهدا فيها، فكان يسعى، لا يكل ولا يمل، ليأتي ببديل له في عمله ويعطيه ما يمتلك من خبرات، فنجح في مسعاه، ثم انطلق ليسجل اسمه في قائمة الاستشهاديين، ولا تسل عن حاله حين استجاب الله لدعائه وحقق حلمه يوم أصبح اسمه في القائمة الذهبية، قائمة الاصطفاء إن شاء الله، تلك القائمة التي كتبت بمداد الشوق إلى الله، وبحبر الدم القاني.

 

تغير كل شيء في الفارس أبي بلال من يومها، فلا تكاد تراه إلا سعيداً، مستبشراً، أذهب الله ذلك الحزن الخفي الذي يسكن قلبه، وأبدله بدموع الألم والحسرة التي يذرفها في سجوده وقيامه دموع الفرح والبشر، بل الأغرب أنه لم يعد يملك صبراً حتى يصل دوره، كل يوم يسأل إخوانه من يبادله دوره، ولكن الكل مشتاق للقاء الله، فلا أحد يرضى، فهي جنة عرضها السماوات والأرض وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فالتجأ إلى ربه يدعوه: «اللهم عجّل لي، اللهم عجّل لي».

 

وكيف لا يستجيب الله لعبده، وقد صدق النية، نحسبه والله حسيبه، فرغم أن دوره لم يحن بعد، إلا أن الله عجّل له واصطفاه، فكان تنفيذه بعد أسبوع واحد فقط من دخوله القائمة الذهبية، إنه الصدق، وإخلاص النوايا، فمن أحب لقاء الله صدقا، أحب الله لقاءه، ما جعله يسجد لله شكرا.

 

بدأ يجهز نفسه للقاء الرحمن وللقاء الأحبة الذين سبقوا، ولسان حاله يقول: «أخيرا، ستشرب كلماتي من دمائي، أخيرا سأعقد تلك الصفقة الرابحة، فأبيع دنياي الفانية بجنة ذات قطوف دانية».

 

في يومه الأخير طاف على كل إخوانه الاستشهاديين، ممن أحبهم وأحبوه، طالبا منهم أن يسامحوه، ويغفروا له إن أساء لهم يوما عن غير قصد، ثم حرضّهم على الثبات على ما عزموا، والصدق مع الله، فدين الله لا ينصر إلا بالتضحيات.

 

في ذلك اليوم، الأخير له في هذه الدنيا الفانية، كان سعيدا، مستبشرا، يتلألأ وجهه نورا كلما تذكر أنه بعد ساعات قليلة يلقى الله عز وجل، مدركا أن دين الله أغلى من الأرواح والدماء والأجساد، فأزهق روحه، ونثر أشلاءه لتحيا عقيدته.

 

عاد أبو بلال إلى مدينة حمص، كما أقسم ووعد، وما نحسبه إلا من الذين قال فيهم رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه: «لو أقسم على الله لأبره»، عاد الفارس بالدماء والأشلاء، ليحرق قلوب المرتدين، كما أحرقوا قلوب المسلمين، عاد إليهم زلزالا يقضّ مضاجعهم، وبركانا يحرق أفئدتهم، وكان آخر ما كتب قبل تنفيذ العملية خاطرة وُجدت بين وصاياه التي كتبها لزوجته ولإخوانه قال فيها:

 

«اللهم لا أسألك حوراً ولا قصوراً، بل أسألك رؤية وجهك الكريم. اللهم لا أطلب إلا أن أكون من الذين تضحك لهم، اللهم إني أحببت لقاءك فاصطفني إليك، وأنعم عليّ بالرحيل إليك من هذه الدنيا الفانية».

 

تلك كانت آخر كلماته في حياته، لم يُسمَع بعدها إلا صوت الانفجار، وتناثر الأشلاء في عملية زلزلت أمن المرتدين، وزفتهم إلى جهنم أفواجا.

 

فما أروعها من خاتمة، وما أحلاه من ارتقاء، فللّه درك أيها الفارس، وهنيئا لك ما حزته من فضل واصطفاء، يا من كتبت قصة جهادك بدمائك، وختمتها بأشلائك، فسلام على روحك في الخالدين.

 

 

 

 

 


 

08- العدد 022 - الثلاثاء 5 جمادى الآخرة 1437 هـ

رفيق درب الشيخ أبي مصعب الزرقاوي أبو محمد اللبناني.. تقبلهما الله

من مؤسسي الجهاد في بلاد الرافدين والسابقين الأولين من المهاجرين إليها، ومن الرافعين لراية التوحيد، الراغبين إلى الله، إن رأيته حتما أحببته، ولو غاب عنك قليلا فقدته، جميل الظاهر والباطن، صافي القسمات والقلب، هادئ السمت كثير الصمت عركته الدنيا فعركها، شهم مقدام، جريء جواد كريم، سباق إلى الله في الخيرات، التواضع صفته، وحب الإخوة والحرص عليهم شعاره، وعن الشجاعة لا تسل فلها انتسب وهي إليه انتسبت، وبها تخلّق وله لانت وانصاعت، وامتطى صهوتها، فكان صاحب السبق فيها.

 

هو مصطفى رمضان، وكنيته أبو محمد اللبناني، رزقه الله خمسة من الأبناء، لبناني المولد والنشأة، من سكان (مجدل عنجر)، تعود أصوله لمدينة ديار بكر التركية، وأمه من حلب.

 

صاحب طاعة، وحافظ لكتاب الله، يكثر من ترتيله بصوت غض طري له حلاوة، عاش حياته زاهدا قنوعا، شديد التمسك بالسنة.

 

ترسخ في قلبه انتماؤه لدينه وعقيدته ولم تستمله ملذات العيش والشهوات، فلبّى داعي الجهاد في أرض خراسان فنفر إليها وشارك في فتح جلال آباد، ثم آثر العودة إلى دياره والعمل فيها قدر المستطاع بعدما ساد الضلالُ الفصائلَ هناك، ثم ضاقت به رحابة دياره فخرج منها، لكن رجلا كأبي محمد اللبناني هيهات له أن يلتفت بوجهه عن أمر دينه وجهاد أعدائه، فبقي فيها ثابتا واضحا، حيث التزم الهدي الظاهر في ثيابه وهيأته، فأعفى لحيته، وحافظ على نقاب زوجته، وتمسك بالحق، وسخّر كل وقته لخدمة الإسلام والمسلمين، فنشط في مجال الدعوة والتحريض على قتال الكفار أينما وُجِدوا، فأمسى الجهاد شغله الشاغل وخبره العاجل، ثم ما لبث أن عاد إلى لبنان، ليشكل مع أبي عائشة اللبناني جماعة جهادية، فتم اعتقاله لثمانية أشهر بتهمة تمويل الإرهاب، فخرج بعد ذلك معافى في نفسه ودينه، لم يبدل ولم يغير، ثم عاد ليؤسس خلية جهادية أخرى في مجد العنجر.

 

بعد الغزو الصليبي للعراق شدّ أبو محمد اللبناني الرحال، وفارق الأهل والصحب والعيال، وهاجر منطلقا إلى سوح النزال، فحاول أول الأمر الوقوف على حقيقة ما يجري في هذا البلد، وإن كان من الممكن فتح ساحة جهادية فيها، فاصطحب معه أخا له اسمه فادي أبو الدرداء في رحلة شاقة من لبنان إلى العراق عبر «سوريا»، عن طريق المهربين، فوجد الأرضية صالحة هناك لزرع بذرة الجهاد.

 

لما رأى أبو محمد أن الأوضاع مهيئة لإنشاء نواة جماعة جهادية على المنهج السليم بعيدا عن أهواء الوطنية وإغواء الحزبية أسس مع الأسد المقدام أبي رغد الجزراوي معسكر راوة الشهير حيث كان الأمير العام هو أبا رغد، تقبله الله، فيما كان أبو محمد هو الأمير العسكري.

 

لم يكتف بذلك، بل أراد أن يشرك ولده البكر في هذا الخير العميم الذي وجده في أرض الرافدين، فقرر العودة لإحضار ولده محمد أبي سهيل، البالغ من العمر 14 عاما، ذاك الصبي اليافع، ذي الهمة العالية، الذي تحمل مشاق السفر مع ما أصابه من إعياء شديد، رغم صغر سنه، وسط تحفيز أبيه له، حتى وصل الوالد والولد إلى أرض العراق.

 

لم يدم اجتماع الأب والابن طويلا، فنظرا لحداثة تجربة الجهاد تمكن جاسوسان أرسلهما اليهود من الدخول إلى صفوف المجاهدين، وتسببا في قصف المعسكر وقتل جميع من كان فيه، وذلك بعد هجوم بري وإنزال جوي، نفذه الصليبيون، قتل نتيجته كل من كان في المعسكر وهم قرابة التسعين مجاهدا، ونجا الله الإخوة الذين كانوا لحظة الهجوم خارجه، وكانوا لا يتجاوزون العشرة، بينهم أبو محمد الذي فقد ابنه أبا سهيل في هذا القصف، إذ كان في مدينة القائم ينجز بعض الأعمال، لتصبح كنية أبي محمد اللبناني بعد فقدانه ابنه «أبا الشهيد»، ليلتحق الشبل بالرفيق الأعلى، سابقا أباه إلى جنان الخلد، بإذن الله، حيث ادّخر الله تعالى أبا محمد لأمر أعظم هو به أعلم، حيث كان مقدرا له حمل لواء الجهاد في هذه البلاد مع من تبقى من معسكر راوة.

 

فجأة وجد أبو محمد نفسه وقد فقد جناحيه، فلذة كبده محمدًا، ورفيق درب الهجرة والجهاد، أبا الدرداء، ومعهم عضيد جهاده، أمير المعسكر أبو رغد، الذي هاجم الأمريكيين من الخلف أثناء هجومهم على المعسكر، فقاتل مع ثلة من الإخوة تبايعوا على الموت في سبيل الله، حتى قُتل ومن معه تقبلهم الله جميعا.

 

ما وهن أبو محمد وما لان مع كل ما أصابه، بل واصل المسير، يلملم الجراح، مقررا الثأر، فكان أول ما بدأ به نحر أحد الجاسوسين، في الوقت الذي انتحر الآخر بتناول سم كان قد خبأه.

 

عاد الغضنفر أبو الشهيد إلى المعارك، وذاع صيته في كل أرجاء العراق، ففي كل مدينة كان له موطئ قدم حتى وصلت أخبار بطولاته إلى الشيخ أبي مصعب الزرقاوي، فأرسل إليه في الأشهر الأخيرة من العام الأول للغزو الصليبي، فدعاه إلى الانضمام إليه، فوافق على الفور ولم يتردد، بل قال: «عن مثل أبي مصعب كنا نبحث»، فأصبح عضوا في مجلس شورى جماعة التوحيد والجهاد وأميرها العسكري لفترة طويلة، فكان خير جندي لخير أمير، واضعا بين يدي شيخه كل إمكانياته، فبات لأمير الاستشهاديين الشيخ أبي مصعب الزرقاوي -رحمه الله- الكلمة الفصل في المناطق التي ينشط فيها أبو محمد اللبناني ورفاقه.

 

أخذ المجاهد الهمام يصول ويجول في المنطقة الغربية والفلوجة وبغداد والموصل، وصَحِبه المجاهد مناف الراوي، تقبله الله، كما عمل على إدخال عشرات المهاجرين لأراضي الجهاد، وأمسى الأسد الهصور في أوار المعارك رقما صعبا، وكان من أوائل الإخوة الذين التقى بهم الشيخ أبو محمد العدناني -حفظه الله- لدى دخوله أرض الرافدين، وكان الشيخ العدناني كثيرا ما يُثني عليه ويصفه بأحسن الأوصاف.

 

قصص جهاده غزيرة وأكثر من أن تعد أو تحصى في سطور، فما كان يدخل عملية إلا ويبايع إخوانه على الموت، وما تخلف عن غزوة خطط لها، بل تجده في مقدمة الصفوف، وكان له دور بارز في إشغال العدو في بغداد وغيرها أثناء معارك الفلوجة الأولى، ويشهد له شارع حيفا بالإقدام الذي لا نظير له.

 

كان الشيخ أبو مصعب كثيرا ما يطلب منه أن يأتيه بأسرى أمريكيين، لما لذلك من تأثير كبير على الصليبيين، فحاول مرة مع مجموعة من المجاهدين قطع طريق مطار بغداد، وتحديدا على مقربة من جسر العامرية، وكان هناك رتل يضم مجموعة سيارات رباعية الدفع تابعة لـ«الاستخبارات الأمريكية CIA»، فاشتبك معهم، ولم يتمكن من أسر أحد منهم، لأنه اضطر لقتلهم جميعا نتيجة شدة المعركة.

 

وبقي يترصد الصليبيين حتى حصل على معلومات تفيد بوجود وكر لهم في حي المنصور في بغداد فيه ثلاثة أمريكيين وبريطاني يعملون في الدعم اللوجستي للجيش الأمريكي، وضع أبو محمد اللبناني خطة الهجوم النوعية عليهم بهدف أسرهم، وبعد أيام من المراقبة والاستطلاع تم الهجوم على الوكر ليتمكن المهاجمون، وعلى رأسهم أبو محمد، من أسر الأمريكيين الثلاثة والبريطاني لينطلق بهم عائدا إلى الفلوجة.

 

وحينما وصل بهم إلى الفلوجة وجد إخوانه المجاهدين، وفي مقدمتهم الشيخ أبو أنس الشامي، تقبله الله، وقد تجهزوا لغزوة (سجن أبو غريب)، فقرر مشاركتهم الغزوة، فأكثر ما كان يؤلمه الأسرى والأسيرات في سجون الصليبيين، لكن الله -عز وجل- شاء أن يسقط هذا الليث صريعا بقصف عنيف وهو يسعى لفكاك الأسرى، إلى جانب مقتل ثلة أخرى من أسود الجهاد، بينهم الشيخ المجاهد أبو أنس الشامي، تقبله الله، لتنتهي رحلة أبي محمد اللبناني في هذه الحياة، وليكمل المسيرة من بعده رجال ما هانوا ولا استكانوا، عاهدوا الله أن يسيروا على الطريق ذاته الذي سلكه قبلهم.

 

 

 

 

 


 

09- العدد 024 - الثلاثاء 19 جمادى الآخرة 1437 هـ

الأمير النبيل أبو المغيرة القحطاني - تقبَّله الله ثبات حتى الممات

إن الجاهل وهو ينظر إلى الحال التي وصلت إليها الدولة الإسلامية اليوم من عز وتمكين وإقامة للدين، وإرغام للكافرين، يظن أن هذا كله وليد اليوم والليلة، ويحسب أنها وصلت إلى هذه الحال بسهولة ويسر، وذلك لما خفي عن عينيه من تاريخها الماضي، حيث الفتن والتمحيص، إلى أن جعل الله بعد عسر يسرا، فمكن الله لعباده المستضعفين وأورثهم أرض الكافرين وديارهم، وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله لمّا صبروا وأيقنوا بصدق وعد الله لهم بالنصر على المشركين.

 

ومن يقلّب في سير جنود الدولة الإسلامية وقادتها ممن قضى نحبه، يرى العجب العجاب من صبرهم رغم اشتداد المحن، ويقينهم رغم ازدحام الفتن، ومن ثباتهم على الطريق رغم كثرة المنتكسين، ومن مصابرتهم على جهاد المشركين رغم ما أصابهم من جراحات وتعب، ومن هؤلاء الأبطال الأمير النبيل الذي لم يلن له طرف ولم تنكسر له قناة في قتال أعداء الله حتى قُضي أجله، وقبض الله روحه، شهيدا في سبيله نحسبه، بعد أن أذاق اللهُ على يديه الصليبيين والروافض والمرتدين ألوان العذاب، وشفى الله بفعاله فيهم صدور قوم مؤمنين، وحتى رفع الله به راية التوحيد خفاقة في أرض إفريقية، وأقام الله به صرح الدولة الإسلامية في ولايات ليبيا.

 

رفيق أبي حمزة المهاجر، وصنو مناف الراوي وعبد الله عزام القحطاني، قائد المحرَّرين من سجن أبو غريب، والمشرف على مذبحة الروافض في سبايكر، والأمير المفوض بإدارة الولايات الليبية، أبو المغيرة القحطاني، تقبله الله.

 

بدأ وسام عبد زيد -وهو اسمه الحقيقي- جهاده حين شكل مع مجموعة من أبناء مدينة الفلوجة مجموعة صغيرة تقاتل الصليبيين، ثم انضم مع رفاقه إلى الشيخ أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله، وشارك في الدفاع عن مدينته في معركة الفلوجة الأولى التي كان فيها من المرابطين على ثغورها، حيث توطدت علاقته أكثر بالشيخ أبي حمزة المهاجر -تقبله الله- الذي غالبا ما كان يحل ضيفا عليه أثناء وجوده في المدينة.

 

أُعلنت جماعة التوحيد والجهاد فكان أبو هُمام -وهي أول كنية له في الجهاد- من أوائل المنضمين إليها، ومن الموثوقين فيها، حتى أُرسل موفدا عنها إلى جزيرة العرب التي دخلها تحت غطاء العمرة مع أخويه (الحاج عفان) و(الحاج إبراهيم) -تقبلهما الله- للقاء بعض الإخوة هناك وإنجاز بعض المهام المكلف بها لصالح الجماعة، وأثناء غيابهم هناك وقعت معركة الفلوجة الثانية، التي انحاز المجاهدون بعدها من المدينة.

 

وبمجرد عودته إلى العراق بدأ مع الإخوة بالتخطيط للعمل داخل المدينة، فدخلها أميرا على مجموعة من المجاهدين لتنشيط العمل الأمني ضد الأمريكيين، الذين تمكنوا من إلقاء القبض عليه بعد فترة من وصوله وأودعوه سجن أبو غريب سيّء الصيت، وزيادة في تعذيبه تم إيداعه في قسم الـ«كوغر 5» وهو أشد أقسام السجن، ويتكون من محاجر انفرادية قضى فيها الشيخ شهورا عديدة، ثم نقل إلى «المخيّم 10» من سجن «بوكا» الشهير، ليمن الله عليه بالفرج بعد سنة تقريبا من تاريخ اعتقاله.

 

بعد خروجه من السجن (في جمادى الأولى من عام 1427 هـ) بيوم واحد اتصل بالإخوة أمراء العمل العسكري في الفلوجة ومحيطها ليبلغهم خروجه وعزمه على استئناف العمل ضد الصليبيين بأسرع وقت، فعاد إلى العمل الأمني داخل المدينة، ثم عينه المسؤول الأمني للأنبار عبد الله عزام القحطاني -تقبله الله- مسؤولا عن العمل الأمني في المدينة، وكانت الفلوجة حينها قاطعا يديره أبو حكيم الجزراوي -تقبله الله- تحت إمرة جراح الشامي -تقبله الله- أمير الأنبار، وأثناء قيام أبي حقّي -وهي كنيته في تلك المرحلة- مع مجموعة من جنوده باغتيال أحد المرتدين في مدينة الفلوجة أصيب برصاصات في كتفه، لم تقعده عن الجهاد سوى فترة قصيرة، عاد بعدها ليكمل عمله في التنكيل بأعداء الله من الصليبيين والمرتدين.

 

بعد إعلان دولة العراق الإسلامية وظهور الصحوات، انتقل -رحمه الله- للعمل في قاطع «أبو غريب» الذي أصبح أميرا عليه، وبقي يعمل هناك بكنيته الجديدة (أبو غازي)، حتى اعتقل على أحد الحواجز الأمنية داخل بغداد (في رجب من عام 1429 هـ) فبقي شهورا في سجن «الشعبة الخامسة» التابع لاستخبارات المرتدّين، ليتم إرساله بعد ذلك إلى الفلوجة حيث كان مطلوبا فيها بعدة دعاوى، فنجاه الله من القتل على أيدي الشرطة والصحوات الذين كانوا يقومون بإعدام أي جندي من جنود الدولة الإسلامية يقع بأيديهم، حيث قاموا بتحويله من مديرية الشرطة إلى سجن لهم في الخالدية يقومون فيه بتصفية الإخوة دون حسيب أو رقيب، لكن سخر الله له أحد المرتدين ممن سُجنوا معه سابقا ليخرجه من بين أيديهم، ويعيده إلى سجن مديرية شرطة الفلوجة، حيث أطلق سراحه لعجزهم عن إدانته بشيء.

 

بعد خروجه من السجن بفترة قصيرة التقى في بغداد بواليها مناف الراوي ووالي الفلوجة عباس الجواري -تقبلهما الله- لينسق معهما للعودة إلى ساحات الجهاد، فعمل في ولاية الفلوجة، وخاصة في «أبو غريب» قبل أن يصبح نائبا للوالي، ثم واليا على الفلوجة، ويستمر في مسؤوليته حتى اعتقل في واحدة من أكبر الضربات الأمنية التي تعرض لها المجاهدون آنذاك، حيث اعتقله الأمريكيون مع ثلّة من أصحابه في الولاية (في شعبان من عام 1431 هـ)، وسلموه للروافض الذين أودعوه في واحد من أبشع معتقلاتهم التابعة لما يعرف بجهاز مكافحة الإرهاب، والمعروف بسجن «جرائم 52»، حيث انفضح أمره، وكشف الروافض طبيعة عمله في الدولة الإسلامية، ما يعني بالنسبة له الحكم بالإعدام.

 

بعد انتهاء التحقيق معه تم تسفيره إلى سجن «التاجي»، فأصبح أميرا للإخوة في أحد أقسامه قبل أن ينصحه إخوانه في الخارج بتأمين الانتقال إلى سجن أبو غريب، حيث كانوا يخططون حينها لعملية تحرير الأسرى منه، ونجح مع ثلاثة من إخوانه في تحقيق ذلك، بعد أن أغروا الرافضة المسؤولين عن السجن ببعض المبالغ.

 

عند وصوله إلى سجن «أبو غريب» كانت خطة الهروب من السجن تقوم على نفق حفره الإخوة في إحدى غرف السجن، فاتخذ كنية جديدة هي (أبو زيد) وتم تعيينه أميرا على أحد أقسام السجن وعضوا في لجنة تنظيم عملية الهروب التي كانت تقوم بدور التنسيق بين الإخوة في داخل السجن وخارجه، وقدر الله أن فشلت خطة الهروب الأصلية باكتشاف الرافضة للنفق المحفور، وإخلائهم للغرفة التي حفر فيها وإغلاقها.

 

لم ييأس الشيخ وإخوانه من الأمر، بل مضوا لتحقيق غايتهم بعزم أقوى، سيما وقد تم اختياره أميرا لكل الإخوة في سجن «أبو غريب»، واتخذ لنفسه كنية جديدة هي (أبو حامد)، حيث كان ينسق مع الشيخ أبي عبد الرحمن البيلاوي -تقبله الله- لإنجاح الأمر حتى أتمه الله، وأخرجه الله والمئات من إخوانه من غياهب السجون، ليعود جنديا من جنود الدولة الإسلامية في صحراء الأنبار، قبل أن ينقله الشيخ البيلاوي إلى ولاية صلاح الدين أميرا عليها، بكنيته الجديدة (أبو نبيل).

 

ترافق دخوله إلى صلاح الدين مع العمليات الكبرى للدولة الإسلامية في العراق، التي تكللت بفتح نينوى وما بعده من الفتوحات، فقاد أبو نبيل كل غزوات صلاح الدين في ذلك الوقت وعلى رأسها غزوة سامراء، وقد ظهر في إصدار (على منهاج النبوة) الذي وثقها خطيبا وكان في الإخوة قبل انطلاق الغزوة، ثم أشرف على مذبحة الرافضة من جنود قاعدة سبايكر، وقتل الله على يديه الألوف من الرافضة.

 

بعد إعلان الخلافة، جاءت البيعات لأمير المؤمنين من كل حدب وصوب، وعلى رأسها بيعة مجاهدي ليبيا، فأرسل أمير المؤمنين الشيخ أبو بكر البغدادي -حفظه الله- سيفه المجرب أبا نبيل ليكون أميرا عليهم، فوضع اللبنات الأول لصرح الدولة الإسلامية هناك.

 

وبقي أبو المغيرة القحطاني يجالد أعداء الله من المرتدين هناك حتى فتح الله على يديه مدينة سرت وما حولها، وذلك بعد غدر الصحوات بهم في درنة، ونجاته هو من محاولة اغتيال بأيديهم قتل فيها الكثير من إخوانه وجنوده، فتم له ولإخوانه التمكين في الأرض، فحكموا الشريعة، وأقاموا الحدود، وقاتلوا الكفار والمرتدين.

 

وكانت نهاية رحلة أخينا قتلا بأيدي الأمريكيين الصليبيين الذين استهدفوه بغارة جوية في مدينة «درنة»، بعد سنوات طويلة من الجهاد، فتقبله الله في الصالحين.

 

لقد كان الثبات على الطريق أبرز صفات الشيخ أبي المغيرة القحطاني رحمه الله، فمن يتتبع مسيرته الجهادية التي جاوزت 13 عاما، يرى بجلاء كيف أنه كان الجبل الأشم الذي لا تزلزله المحن، ولا توهن عزيمته الفتن، فكلما ابتلي بسجن ونجاه الله منه، عاد إلى مجالدة أعداء الله فور خروجه من بين أيديهم، وكلما أصابته جراحات صبر عليها واستمر في جهاده، وفي الوقت نفسه لم تنجح محاولات المرتدين في استمالته أو تثبيط عزيمته بالمغريات، ففي اعتقاله الأخير كان يعرف أنه سيحكم بالإعدام على القضايا التي أثبتها الروافض عليه، وكان ضباط المخابرات يحاولون إغراءه بإخراجه من السجن بفُتات من الدنيا وزخرفها، وقد ساوموه على إطلاق سراحه، ونجاته من عقوبة الإعدام لقاء مساعدتهم في اعتقال الشيخ أبي إبراهيم الزيدي، تقبله الله، فكان جوابه على طلبهم شبيها بجواب يوسف -عليه السلام- لمن أراد أن يفتنه بالسجن ليصده عن دينه (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، فكان أن نجاه الله من الإعدام والسجن بعد بضع سنين.

 

وعندما وصل إلى الولايات الليبيية وجد أن كثيرا من الناس هناك أثر فيهم المنهج الفاسد لتنظيم القاعدة في معاملة المرتدين، فبدأ يحرضهم على قتال المرتدين واستئصالهم وهو يقول لهم: «لن نسمح بأن يعيش مرتد معنا آمنا»، فرد عليه أحد المجاهدين: «إن قاتلناهم سنخرج من المدينة»، فقال رحمه الله: «سقوط المدن مع بقاء الولاء والبراء، خير من سقوط الولاء والبراء مع بقاء المدن».

 

كان -رحمه الله- مثالا للشجاعة والإقدام، والشدة على أعداء الله، في الصف الأول مع إخوانه في كل المعارك والاقتحامات، ينفذ معهم عمليات الاغتيال، ويعتقل بيده مرتدي الصحوات، وأصيب بسبب ذلك عدة مرات، إحداها أثناء اغتيال أحد المرتدين وسط الفلوجة حيث أصيب بعدة رصاصات في كتفه، والأخرى أثناء محاولة المرتدين اعتقاله بعدما تعرف عليه أحدهم، فعاجله برصاصات من مسدسه قتلته على الفور، ومكنه الله من الإفلات من الأسر رغم تطويقهم للمنطقة وتمشيطهم لكامل الحي الذي اختبأ فيه.

 

وفي الوقت نفسه كان رفيقا بإخوانه، متواضعا لهم، حتى أنه كان غالبا ما يوقع مراسلاته معهم بعبارة «أخوكم الصغير»، ما أكسبه محبة كل من عمل معه من الأمراء والجنود، وكان شديد الحرص عليهم، تقبله الله، فيلقي بنفسه في المخاطر ليضمن سلامتهم، ويشهد له أحد إخوانه أنه دخل بنفسه إلى مضافة قصفها الصليبيون في جزيرة الثرثار، حيث قُتل الإخوة الموجودون فيها وبقي منهم جريح، ثم استمرت الطائرات المسيرة تحوم حول المكان لتلتقط من يحاول الاقتراب من المنزل المدمر، فقُصفت أول مجموعة تقدمت لإخراج الأخ الجريح وقتل المسعفون، ليتبعهم أبو هُمام وحده ويخرج الأخ الجريح، رغم الخطر واشتداد الخوف.

 

أما عن شدته على أعداء الله، فما قصة ما فعله بالروافض من مقتلة في سبايكر بخافية على أحد، حيث أعدم الآلاف من المشركين دفعة واحدة دون أن تأخذه بهم رأفة ولا شفقة، وفي الولايات الليبية كان بعض الإخوة يقتلون المرتدين خفية قبل وصوله إليهم ولا يتبنون ذلك، فقال لهم «إذا أردتم أن يخافكم الكفار فاقتلوهم، وقولوا: نحن قتلنا»، ففعل الإخوة ذلك، وامتلأت مكاتب الاستتابة بالمرتدين التائبين.

 

وبالرغم من شدته في المواطن التي تتطلبها، كان -رحمه الله- حكيما يضع السيف موضعه، والحلم موضعه، يجذب إليه الأسماع والقلوب إذا تكلم، ففي أحد المواقف المشهودة له قبل غزوة سامراء جمع شيوخ العشائر وتكلم معهم بكلام سرَّهم، فكان ذلك سببا في توبة العشرات من عناصر الصحوات، وتسليمهم سلاحهم إلى الدولة الإسلامية، وذلك بعد شهور من التنكيل بهم قتلا وأسرا.

 

وبعد غدرة حصلت لجنود الخلافة في مدينة هراوة في ولاية برقة أرسل الشيخ مع أحد الوسطاء إلى من غدر بالإخوة ليسلموا سلاحهم وإلا سيجعل منهم عبرة لمن بعدهم، فأذعنوا لطلبه، ولشروطه عليهم، ومنها أن يضمنوا ما أُتلف من السلاح والذخيرة، وبعد أن تابوا وأرسلوا الدفعة الأولى من مبلغ المال المتفق عليه، اتصل الشيخ بالوسيط وقال له: «أخبر أهل هراوة أننا قد عفونا عنهم، وبإذن الله يعوضنا الله خيرا»، وبعد يومين فتح الله على الإخوة في سرت فغنموا من المرتدين كميات كبيرة من السلاح والذخيرة.

 

أما عبادته وحرصه على تعلم الدين وتعليمه، فيروي مَن صاحَبَه في سجنه أنه كان صواما، مواظبا على دروس العلم التي كانت تعطى في السجن، وأجازه أحد قادة الدولة الإسلامية في سجن «أبو غريب» بروايتي حفص وورش قراءةً، وإلى جانب طلبه للعلم كان له درس في السيرة يعطيه لإخوانه الأسرى، وكان الإقبال على هذا الدرس يفوق الإقبال على كل حلقات العلم في سجن أبو غريب على الإطلاق.

 

ويروي مَن صاحبه في سجنه كثيرا من المواقف عن أيمان أطلقها الشيخ في سجنه فأبرها الله له عند خروجه، ودعاء دعا به فاستجاب له الله وتحقق ما دعا اللهَ به.

 

منها أنه قال في دعائه مرة إنه سيجعل الصحوات يحفرون قبورهم بأيديهم إن من الله عليه بالخروج، فتحقق له ذلك في القصة المشهورة التي وثقها إصدار الفرقان (صليل الصوارم 4)، وهي قصة القيادي في الصحوات الذي قال العبارة التي صارت محل تندر الناس في مشارق الأرض ومغاربها «أخاف إنكم داعش يابا» وذلك حين اعتقله الشيخ أبو نبيل ثم وقف على رأسه وهو يحفر قبره بيديه، ويدعو على سيده المالكي.

 

ومنها أنه حين سمع بقصة إلقاء جثة الشيخ أسامة بن لادن -رحمه الله- في البحر أقسم بالله أن يمزج دماء الكفار بماء البحر، فأبر الله قسمه، وخرج من سجنه، ثم انتقل من أرض لا بحر فيها لينحر النصارى المشركين على ساحل طرابلس فتمتزج دماؤهم بماء بحره.

 

ومنها أن أحد الإخوة طلب منه رافضيا مشركا كي يذبحه، فرد عليه الشيخ: أبشر بإذن الله لك رؤوس ألف رافضي، وبعد يومين من الله عليه بأسر الألوف من الروافض في سبايكر لينحرهم ويتقرب بدمائهم إلى الله تعالى، ويفي بوعده لأخيه.

 

فهذه نتف من السيرة العطرة لجندي من جنود الخلافة، وفارس من فرسان الدولة الإسلامية، التي كتبت فصولها بالدماء والأشلاء، ورويت بكثير من البذل والعطاء، حتى نال صاحبها درجة الشهداء، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

 

 

 

 


 

10- العدد 025 - الثلاثاء 26 جمادى الآخرة 1437 هـ

أبو مهند الشامي الرجل الذي داس الفصائل بقدمين من حديد

غزت أمريكا الصليبية أرض العراق، فهب لقتالها الآلاف من الشباب، وخاصة من بلاد الشام، وكان ممن نفروا في تلك الفترة حسّان عبد الجليل عبّود، الذي كان يُعرف في بلدته سرمين (في إدلب) بالشجاعة والجرأة والمروءة، سافر إلى العراق، وبقي يقاتل فيها، وخالط المهاجرين فيها وأحبهم وأحبوه، وكان ممن قدر الله أن يلتقي بهم، الشيخ أبو أنس الشامي تقبله الله، فقاتل إلى جانبه، وحضر معه غزوة تحرير سجن أبو غريب، التي كتب الله أن يكشف فيها الصليبيون أماكن المجاهدين فيقصفوهم، ويُقتل كثير منهم، من بينهم الشيخ أبو أنس، إلا أن الله -تعالى- كتب أن ينجي حسان من القتل، وعاد بعد ذلك بمدة إلى الشام.

 

تابع بعد عودته مساعدة المجاهدين ومناصرتهم، من خلال استقباله المهاجرين وإيوائهم والعمل على إدخالهم إلى العراق، واستمر على هذه الحال حينا من الزمن، حتى انقطع اتصاله بالمجاهدين.

 

مع خروج المظاهرات في الشام ضد النظام النصيري بدأ حسان عبود يعد نفسه ومن معه من أقاربه وأصحابه لقتال النصيريين، عن طريق جمع ما يمكن من السلاح، والتدرب على تصنيع العبوات، فكانوا من أوائل من رفع السلاح في وجه الجيش النصيري في شمال الشام، ومع اشتداد القتال في الشام مرت المجموعة التي كان يقودها في عدة مراحل ومسميات، آخرها «لواء داود».

 

وفي نفس الوقت استمر يبحث عن الحق وأهله حيث لم يتمكن في العراق من معرفة منهج المجاهدين كاملا بسبب شدة الوضع هناك وعودته إلى الشام ثم انقطاعه عنهم، وقدر الله أن يقرّب إليه بعض الإخوة الدعاة من المهاجرين، فنصحوه ووجّهوه إلى صحة الاعتقاد وسلامة المنهج، وتزامن ذلك مع إعلان الدولة الإسلامية تمددها إلى الشام، فكان ذلك من أكبر الحوافز التي دعته للارتباط بها والتحالف معها ضد النصيرية.

 

وبعد مشاركته جيش الدولة الإسلامية في بعض المعارك من بينها غزوة مستودعات الحمراء في ريف حماة، أعلن الشيخ حسان عبود ومن معه البيعة لأمير المؤمنين لينضم بجنوده إلى ولاية إدلب، ويتم تعيينه مسؤولا عسكريا لها، وكان ذلك قبل انطلاق معارك الصحوات ضد الدولة الإسلامية بثلاثة أسابيع تقريبا.

 

كان الإخوة في ولاية إدلب حينها بضعة مئات معظمهم من المهاجرين وسط غابة من الفصائل التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض عليهم، فكان انضمام فصيل «لواء داود» بمقاتليه الذين يبلغ تعدادهم 700 أو أكثر إلى الدولة الإسلامية ومبايعة قائده ومؤسسه حسان عبود لأمير المؤمنين فتحا منّ الله به على المجاهدين، وقد بدأ الشيخ حسّان فور استلامه مهمّة المسؤول العسكري للولاية التخطيط لعمل عسكري كبير على مدينة خان شيخون والحواجز المحيطة بها لتطهيرها من رجس النصيرية، وكان من المقرر أن يشترك فيها جنود الدولة الإسلامية في ولايتي إدلب وحماة، ولكن هذه العملية لم تنطلق بسبب خروج الصحوات وقتالها الدولة الإسلامية في كافة مناطق الشمال، مما اضطر جنودها للانحياز والعمل على تجميع قواتهم كي لا تستفرد بهم الفصائل كما حدث معهم في ريفي حلب الشمالي والغربي، فكانت سراقب وسرمين هما الخيار الأنسب لهم، حيث أمّن الشيخ حسان عبود وإخوانه الحماية لهم وأفشلوا كل محاولات الصحوات وعلى رأسهم صقور الشام للدخول عليهم.

 

تفرغ الشيخ لفترة من الزمن لتحصين منطقته من الصحوات التي كانت تتربص به، فتمكن من تفكيك العديد من خلايا الصحوات الأمنية في سراقب وسرمين، وتمكن من دعوة بعض الكتائب هناك لبيعة أمير المؤمنين، وبقي في منطقته بانتظار الأوامر له بالتحرك لاستعادة ولاية إدلب من أيدي الصحوات.

 

بعد إعلان الخلافة، جاء الأمر لكل جنود الدولة في مناطق الصحوات أن ينحازوا إلى أراضي الدولة الإسلامية، كي يعيشوا في دار الإسلام تحت حكم الشريعة، وخوفا عليهم من غدر الصحوات، وكان على رأس هؤلاء الشيخ حسان عبود وجنوده، الذي ما إن أتاه الأمر حتى أعد العدة للهجرة إلى دار الإسلام.

 

في طريق الهجرة منّ الله عليهم بفتح وغنائم حيث هاجم الجيش النصيري قافلة المهاجرين وكاد أن يتمكن من أسر عوائلهم التي أخذوها معهم في حافلات، ولكن الله سلّم، فكرَّ عليهم الإخوة الذين مكنهم الله من التصدي للمرتدين، ثم الهجوم عليهم وقتل كثير من جنودهم واغتنام مدرعتين منهم، ثم اجتياز الطريق الواصل بين أثريا وسلمية الذي يسيطر عليه النظام النصيري عنوة وحربا، والوصول إلى دار الإسلام، ليلحق بهم من تبقى من إخوانهم حيث القوة الأكبر التي كانت تتجهز للهجرة في سبيل الله، بما معها من سلاح وعتاد ومدرعات، لتصل بذلك جميعا إلى مناطق سيطرة الدولة الإسلامية وتلحق بجيش الدولة الإسلامية الذي كان يخوض حينها ملاحم ضد الجيش النصيري في عدة ولايات.

 

شارك الشيخ حسان عبود وإخوانه في معارك ولاية الرقة ضد الجيش النصيري قبل أن يوليه أمير المؤمنين على ولاية حمص، ورغم أنه كان يفضل العمل العسكري إلا أنه قبل الأمر سمعا وطاعة، ومضى أبو مهند (كما كنّاه أمير المؤمنين حفظه الله) إلى ساحة جهاده التي خلد فيها ذكراه بحسن قيادته، وطيب معشره، وبما فتح الله عليه من البلاد.

 

كانت ولاية حمص تضم مساحات واسعة من بادية الشام، وجبهات طويلة ممتدة مع النظام النصيري، فكان أول ما عمل عليه الشيخ أبو مهند أن بدأ بإعادة ترتيب قواطعها، وتنظيم جيشها، وتكبد في ذلك مشقة كبيرة بسبب ما استجد عليه من أساليب الإدارة والتنظيم المتّبعة في الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت لم يكن ليغفل عن قتال النصيرية، فقاد بفضل الله عدة غزوات ناجحة على الجيش النصيري وذلك قبل أن يقود الغزوة الكبرى في ولاية حمص وهي غزوة فتح تدمر والسخنة.

 

في هذه الغزوة وقع على الشيخ أبي مهند مزيد من المسؤوليات ففضلا عن قيادته لجنود ولاية حمص في الغزوة، عيّنه إخوانه في هيئة الحرب أميرا عاما للغزوة، التي شاركت فيها أيضا كتائب من ولايات حماة ودمشق بالإضافة إلى كتائب من جيش الخلافة.

 

وقد منّ الله عز وجل على الشيخ أبي مهند وجنوده بفتح سريع، وأنهوا وجود الجيش النصيري في الجزء الخاص بهم من الغزوة وهي كل من بلدة السخنة وحقل الهيل الغازي وشركة الأرك ومحطة ضخ النفط T3 بالإضافة إلى الحواجز المنتشرة بين تلك النقاط، كما منّ الله تعالى على إخوانهم في بقية القواطع، ليفتح الله على أيديهم مدينة تدمر ويغنموا من مستودعات السلاح القريبة منها كميات هائلة من السلاح.

 

بعد فتح تدمر تم نقله من ولاية حمص ليصبح المسؤول عن ولايات حمص وحماة ودمشق في هيئة الحرب، ويقود معارك الدولة الإسلامية في هذه الولايات، التي كان من أهمها فتح مدينتي القريتين ومهين، ومعارك بئر القصب والقلمون الشرقي ضد الصحوات، والمعارك على الطريق الرابط بين أثريا وسلمية، ثم قيادة معركة قطع طريق إمداد النظام في مدينة حلب، والتي كتب الله -سبحانه وتعالى- الفتح لعباده، فقطعوا طريق إمداد النظام الوحيد، وأجبروه على الدخول في معركة لم يكن مستعدا لها تكبد فيها مئات القتلى من «قوات النخبة» لديه، وفي هذه المعركة قدر الله أن يصاب الشيخ أبو مهند الشامي بجروح خطيره، أثناء تقدمه في عمق مناطق النظام.

 

كانت الصفة البارزة التي صبغت شخصية الشيخ أبي مهند الشامي -تقبله الله- بحثه عن الحق واجتهاده في ذلك، وتمسكه به، وجهاده في سبيله بكل ما أوتي من قوة، ومهما عظمت التكاليف وزادت المشقة.

 

فهو الذي منذ بدأ جهاده للنصيريين كان يبحث عمن يريد إقامة الشريعة الإسلامية فيرتبط به، ويقاتل تحت رايته، وهو ما أوصله في نهاية مطافه إلى بيعة أمير المؤمنين والانضمام إلى الدولة الإسلامية بعدما بان له كذب الأدعياء من قادة الفصائل التي تنتسب للإسلام وتسعى لإقامة الديموقراطية الشركية، وهو الذي عندما عرف الحق الذي وجده في منهج الدولة الإسلامية تمسك به غير آبه بالعروض والإغراءات التي تلقاها من مرتدي الداخل والخارج، تاركا وراءه ما لديه من قوة وعدد وعتاد وضعها كلها في خدمة الدولة الإسلامية، لا ترهبه كثرة أعدائها وتربصهم بها، ثابتا على بيعته لأمير المؤمنين مثبتا إخوانه الذين معه.

 

وكان منذ بداية جهاده يحب الجلوس مع الدعاة وطلبة العلم، وخاصة المهاجرين منهم، يسمع منهم، ويستفتيهم باحثا عن الحق، حتى أنه كان يصطحب معه دائما إخوة من طلبة العلم، ليذكروه دائما بالله وينصحوه، وكان على رأسهم حبيبه أبو مصعب الأردني، تقبله الله.

 

كان حريصا على حضور الدروس الشرعية وخاصة دروس التوحيد، وكان يلزم جنوده بحضورها، وكأنه يحاول أن يستدرك ما فاته مدة احتباسه في مناطق الصحوات قبل هجرته.

 

وكان من أشد الناس اتباعا للحق فكان يسأل عن الحكم الشرعي في المسألة فإذا بان له أنهى النقاش فيها وقام ليعمل بمقتضى الحكم الشرعي.

 

وكان شديد الخوف من الظلم ولو أدى ذلك إلى أن يقتص من نفسه، ومن شدة خوفه من الظلم أنه كان يطوف بنفسه على السجناء كل فترة، فيلتقي بهم ويسألهم عن قضاياهم، خشية أن يكون من بينهم بريء طال حبسه، بسبب تأخير في عرض قضيته على القاضي لينظر فيها.

 

وكان يوقف الرجال من عامة المسلمين في الطرقات وهم لا يعرفونه فيسألهم عن علاقتهم بجنود الدولة الإسلامية، وعن معاملة الإخوة في الدواوين المختلفة لهم، مخافة أن يقع ظلم من أحد من جنوده على أحد ممن استرعاه الله عليه.

 

أما ثباته على طريق الجهاد في سبيل الحق، فهو الذي لم تزحزحه المحن ولا الكلوم عن ذلك، ففي أول طريقه قدر الله -تعالى- أن ينفجر صاروخ محلي الصنع قبل إطلاقه فيتسبب ببتر قدميه الاثنتين، ليستعيض عنهما بقدمين من حديد يضعهما إذا مشى وينزعهما إذا جلس أو ارتاح، خاض بهما عشرات المعارك، كما قدر الله -تعالى- أن يصاب بعد ذلك أكثر من مرة، إحداها عند استهداف طائرة نصيرية لسيارته أثناء غزوة فتح تدمر، حيث كسرت قدماه الحديديتان، ونجاه الله من القتل، وكذلك حين استهدفته دبابة نصيرية في إحدى معارك الدولة غرب تدمر، فأصابته شظايا القذيفة بجروح وقتلت أبا مصعب الأردني -تقبله الله- الذي كان بجواره، ومما كان يزيد من أعباء إصابته أنه كان مريضا بداء السكري، فلا تشفى جروحه بسهولة.

 

أما عن ولائه للدولة الإسلامية فإن من يعرفه يعلم أنه منذ بيعته لأمير المؤمنين كان حريصا على كل ما كان من شأنه مصلحة الدولة، فمجرد أن بلغه الأمر بالهجرة حزم متاعه وجمع سلاح لوائه، لينطلق بمن تبعه من جنوده إلى دار الإسلام، وبمجرد وصوله سلّم كل أملاك اللواء إلى الدولة الإسلامية، ومنها مئات الآلاف من الدولارات كانت بحوزته مما غنمه في معاركه الطويلة، بالإضافة إلى 12 دبابة ومدرعة والكثير من السلاح والآليات، ثم عمل على إنهاء اسم (لواء داود) نهائيا ومعاقبة كل من بقي يستعمل هذا الاسم القديم أو ينسب أحدا ممن بايع أمير المؤمنين إليه، وذلك ليزرع في قلوب الجنود جميعا الانتماء للدولة الإسلامية، والطاعة لأمير المؤمنين.

 

كان صاحب تفكير عسكري مميز، يجهز لغزواته بشكل جيد، وتشهد له بذلك معاركه الكثيرة التي خاضها وفتح الله عليه فيها، قبل بيعته للدولة الإسلامية، ومنها معارك حاجز حميشو، وحاجز باب الهوى، وكلية الشؤون الإدارية، ومطار تفتناز، ومعسكر الشبيبة، وكلية الدفاع الجوي، وحاجز الجديدة، والسادكوب، والحواجز بين إدلب وأريحا، وغيرها.

 

وبعد بيعته لأمير المؤمنين وهجرته، قاد غزوات كبرى بالمقياس العسكري، وأهمها غزوة فتح تدمر، التي كانت واحدة من أكبر معارك جيش الخلافة على الإطلاق من حيث حشد القوات واتساع جبهة القتال، وكذلك معركة خناصر التي ظهرت فيها إمكاناته القيادية في أوضح صورها إذ أتاه الأمر بالتحضير للغزوة قبل موعدها بخمسة أيام فقط، ورغم ذلك مكنه الله من تجهيزها وحشد القوات والإمكانات اللازمة لها، وكان فيها الفتح المبين بفضل الله.

 

ورغم اهتمامه الشديد بالجبهات والجنود، فإنه تقبله الله لم يكن من النوع الذي يهمل باقي مفاصل الولاية ودواوينها، بل كان يكثر الجلوس مع أمراء المفاصل ويحثهم على مزيد من الجهد ويسعى في تأمين ما يحتاجونه لنجاح عملهم، لدرجة أن كلا منهم كان يشعر أن أبا مهند لا يهتم بغير مفصله، وكان من عادته إذا أراد الاجتماع بالإخوة لأمر هام أن يسير بهم في البادية مسافات بعيدة لينعزل عن كل ما قد يشغله عن أمر الاجتماع حتى يتم أمره، وكان معروفا عنه أنه يستشير إخوانه مجتمعين أو فرادى، فيطرح عليهم المشاكل ويطالبهم بطرح الحلول، حتى إذا استحسن رأيا عرضه على باقي إخوانه موضحا أنه رأي الأخ فلان، كي لا ينسب لنفسه ما ليس منه، وكي يرفع من شأن أخيه، ويزيد من ثقته بنفسه.

 

وإلى جانب ذلك كله كان -رحمه الله- صاحب عبادة، حبّب إليه قيام الليل بالصلاة، فيوقظ أهله في الثلث الأخير من الليل ويصلي بهم، وحبّب إليه البكور في العمل، فيبدأ كل أعماله بعد صلاة الفجر، ويعقد الكثير من اجتماعاته في هذا الوقت، ويحض إخوانه على التبكير في النوم، والبكور في العمل بحثا عن البركة.

 

وكان مما عُرف عنه إذا اشتدت المعارك، أن ينزوي في جانب عن إخوانه يدعو الله، ويمرغ وجهه في التراب، يستفتحه ويستنصره، ويبقى يكرر ذلك حتى يكتب الله لهم الفتح والنصر على عدوهم.

 

أما شجاعته فحدّث ولا حرج، فقد شهد إخوانه له أنه كان من أشجع الأمراء العسكريين في الدولة الإسلامية، وأنه كان قائدا ميدانيا يدير معاركه من ساحة المعركة بل من خطوطها الأمامية لا من مؤخرة الجيش أو قلبه، وشهد من عايشه في تدمر أنه كان إذا اشتد وطيس المعارك ذهب إلى الخط الأول وبقي مع المجاهدين هناك يثبت أقدامهم ويتقدم بهم، وكانت قاعدته الرئيسية في معاركه مع الجيش النصيري أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، فلا يترك للعدو فرصة ليلتقط أنفاسه أو يحضر للهجوم عليه بشكل جيد، بل يكرر عليه الهجمات باستمرار وينوع عليه نقاط الهجوم فيبقيه في حالة استنفار دائم.

 

وكان حريصا على أن يستطلع مواقع العدو بنفسه، ويتقدم إلى آخر نقطة يمكنه الوصول إليها ليجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن العدو، حتى أنه في غزوة خناصر الأخيرة أصر على استطلاع مكان اقتحام إخوانه بنفسه، واقترب كثيرا من مواقع النظام النصيري على محيط طريق خناصر رغم معرفته بوجود ألغام في المنطقة، فانفجر عليه أحد الألغام وأصابه إصابة بليغة.

 

مرت أيام على الإصابة، إلا أن الله -تعالى- كتب أن تفارق روح أبي مهند جسده، بعد أن تلفظ بالشهادتين، وقد كان من آخر ما نطق به في دنياه أن قال لوالدته عندما رأى حزنها عليه في مرضه ولهفتها في الدعاء له بالشفاء في صلاتها: الملتقى الجنة بإذن الله.

 

إنه العبد الذي ألقى الدنيا وراء ظهره، عندما جاءته تخطب وده، وداس عليها وعلى شهواتها بقدميه الحديديتين، وأقبل يرجو ما عند الله تعالى، فنال ما تمنى، نحسبه كذلك.

 

 

 

 

 


 

11- العدد 028 - الثلاثاء 18 رجب 1437 هـ

أبو نعمان ينتاري خدم الجهاد في الصومال دهراً.. فقتلوه غدراً

كان الصحابي الجليل عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- من ذوي الشأن بين أصحابه فلما أسلم قال للنبي، عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: أي رجل عَبْدُ اللهِ فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فقالوا شرّنا وابن شرّنا! وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله) [رواه البخاري]، فهذا طبع اليهود في كل مكان، وبه يتطبع من يأخذ بمنهجهم الباطل في التكبر عن اتباع الحق، والكيد لأهله، حسدا من عند أنفسهم أن يروا الحق في سواهم.

 

الشيخ أبو النعمان ينتاري -تقبله الله- كان من تلك الفئة النادرة في الناس التي تنقّب عن الحق، وتتقصى طريق الهداية، فلما وجده لم يبالِ بمكانته بين قومه، ولا بما يتوقعه منهم من كيد وبهتان، بل انطلق مؤمنا به، عاملا بما يقتضيه، داعيا الناس إليه، صابرا على الأذى فيه.

 

كان له يد خير في تأسيس الجهاد في الصومال، بل كان من قاداته المبرزين، وفرسانه المشهورين، قاتل المرتدين والصليبيين، وأصيب عدّة مرات، وأوذي في سبيل الله، سجنا وجوعا وتشريدا، لتكون نهاية مسيرته الظافرة أن يقتل غدرا بيد من كانوا يعدونه بالأمس خيرهم وابن خيرهم، ليتحول بمجرد تركه لهم ملتحقا بركب الخلافة إلى هدف لهم، ينتقصون من شأنه، وينالون من عرضه، وفي الختام يطعنونه في ظهره بعدما أمنهم وآواهم ونصرهم.

 

ولد الشيخ بشير آدم فيلي المشهور بأبي نعمان ينتاري عام 1390 هـ، في قرية جدودي من منطقة ساكوا، ويعود نسبه إلى قبيلة ينتار من قبائل الرحاويين.

 

خرج من قريته وهو صغير السن لطلب العلم، فدرس القرآن في قرية حكركا من إقليم باي، ثم انتقل إلى مدينة بيدوا ليلتحق بدار الحديث، ثم التحق بمعهد شرعي في منطقة لوق التي تلقى فيها دورة عسكرية في معسكرات «الاتحاد الإسلامي» في فترة حكم الميليشيات للصومال، وبعد ذلك انتقل إلى مدينة ساكوا ليعمل هناك داعيا ومدرسا للعلوم الشرعية، وقد أدى به ذلك إلى الاصطدام مع المسيطرين على تلك المدينة من مشركي الصوفية وزعماء الميليشيات القبلية، فنجاه الله منهم بعد أن حاولوا اغتياله بإطلاق النار عليه أثناء إلقائه لمحاضرة في أحد شوارع المدينة.

 

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انتقل الشيخ إلى ساحات القتال، وكان أول ما بدأه في هذا الطريق مساعدته للشيخ آدم حاشي عيرو -تقبله الله- في إنشاء «معسكر الهدى» في مسقط رأسه (قرية جدودي)، حيث عمل فيه أيضا داعيا إلى الله ومعلما للمتدربين.

 

انتقل بعدها إلى معسكر كامبوني متدربا، ليستزيد هناك من المعارف العسكرية والخبرات الجهادية، فتم تعيينه أميرا ومسؤولا شرعيا لإحدى القرى في منطقة كامبوني وهي قرية بوركابو.

 

ومع انطلاق الصحوات في مقديشو تحت مسمى «تحالف مكافحة الإرهاب» أرسله المجاهدون إلى مسقط رأسه ليعيد افتتاح «معسكر الهدى» الذي تحول إلى مورد هام لإمداد المجاهدين في مقديشو، ثم شارك مع حركة «اتحاد المحاكم الإسلامية» في فتح مدينة كسمايو، وبقي عاملا في صف «المحاكم» إلى حين دخول الجيش الأثيوبي الصليبي إلى الصومال، حيث شارك في معركة إيدالي الشهيرة وأصيب خلالها.

 

في العام 1427 هـ مع عودة زخم القتال ضد الجيش الأثيوبي، عاد -رحمه الله- للمشاركة في المعارك، حيث ألقى الصليبيون القبض عليه بعد مشاركته في بعض العمليات، وتم نقله إلى أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، ليودع في أحد سجونها لسنتين، بعد اعتقاله في أحد سجون مقديشو لمدة ستة أشهر.

 

مع خروجه من السجن، كانت حركة الشباب قد تأسست وبدأت قتالها لقوات «التحالف الأفريقي» وعملائها المرتدين، ليشارك في القتال في صفوف الحركة، ويتم تعيينه من قبلها واليا على جوبا السفلى، وفي ذلك الوقت لم يكن غافلا عن قضايا المسلمين خارج الصومال، حيث كان الشيخ مؤيدا للدولة الإسلامية، داعيا إلى نصرتها والذب عنها.

 

بعد الإعلان عن عودة الخلافة، كان من أوائل المؤيدين لها والساعين إلى الانضمام إليها، وهو ما قام به في النهاية في محرم 1437 هـ، ولم يجعل بيعته لأمير المؤمنين سريّة بل أعلنها بعزيمة عمريّة، متحديا قيادة حركة الشباب المجرمة التي تهدّد كل من يترك فصيلهم وينضم إلى جماعة المسلمين وإمامهم.

 

ولم يكن أولئك المجرمون المبايعون لعميل المخابرات الباكستانية أختر منصور المتعصبون لفصائلهم التي فرّقت المسلمين، ليتركوا الشيخ وشأنه، وهم يعلمون مكانته في الصومال عموما وعند مقاتلي حركة الشباب خصوصا، وهو العالم المجاهد المرابط، أحد مؤسسي الجهاد في الصومال، المربي لأجيال من المجاهدين، فخططوا لاغتياله، وكان يشعر بنيتهم ولم يبالِ بل مضى يدعو الجنود للالتحاق بجماعة المسلمين.

 

خططوا لاغتياله ولم يشفع له عندهم إسلامه، ولا سنوات جهاده الطويلة، ولا حسن بلاء في معاركه ضد أعداء الدين، ولا صبر على ابتلاء في سبيل الله، فصاروا لا يرون فيه إلا ما رأى اليهود في عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، فقتلوه ولم يخفوا ذلك، بل خرجوا يتبجحون بذلك، ويعلنونه في الملأ، ليزرعوا في نفوس جنودهم الخوف من قيادة الحركة، ويبينوا لهم أنهم لا يرعوون عن سفك دم حرام، حينما يتعلق الأمر بمصالحهم الضيقة.

 

وقد كانت قصة اغتياله -تقبله الله- نموذجا حيا للغدر بجنود الدولة الإسلامية الذي بات مفخرة تنظيم القاعدة وحلفائه من الصحوات.

 

فبعد إعلان بيعته لأمير المؤمنين ودعوته الناس للحاق بركب الخلافة المبارك، أرسلت قيادة حركة الشباب مجموعة من جواسيسها ممن كانوا على معرفة شخصية بالشيخ للقائه، على أنهم يريدون البيعة لأمير المؤمنين، فقبل الشيخ لقاءهم، وأرسل في طلبهم، ودفع أجرة نقلهم إليه، ثم استقبلهم أحسن استقبال، وألقى فيهم موعظة يذكرهم فيها بالله ويحضّهم على بيعة إمام المسلمين، وذبح شاةً ليُطعمهم لكرم ضيافته، فأكلوا من زاده، وأمّنهم على نفسه ورفاقه بأن ترك أسلحتهم معهم، فكان جزاؤه منهم الغدر والغيلة، بعد المكر والخديعة.

 

ذهب الشيخ أبو نعمان ليرتاح مع اثنين من إخوانه، وكلف ثلاثة آخرين بخدمة ضيوفه، ليتسلل الغادرون إلى مضجعه فيقتلوه ورفيقيه، ويقتلوا الإخوة الذين كانوا في خدمتهم، ولم ينج منهم إلا واحد كان قد نزل إلى بئر ليجلب لهم الماء، ويهرب الجناة إلى سادتهم، يزفون إليهم نبأ قتلهم للشيخ الشهيد، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

قُتل الشيخ أبو نعمان -تقبله الله- ولم تمت شجرة الخلافة في أرض الهجرتين كما تمنّى يهود الجهاد، بل نمت -بفضل الله- واستوت على سوقها، ولا زال إخوان الشيخ وجنوده وتلاميذه يتوافدون منضمين إلى ركب الخلافة، وسيثمر اجتماعهم وجهادهم بإذن الله عزا وتمكينا.

 

 

 

 

 


 

12- العدد 029 - الثلاثاء 25 رجب 1437 هـ

الشيخ كمال زروق التونسي الداعية المجاهد

في تونس القيروان، التي تعهد طاغوتها (بن علي) لأسياده الصليبيين أن يسير بها سيرة سلفه الفرعون (بورقيبة) بأن يعمل على إزالة الإسلام منها بالكلية، ويجعلها قطعة من فرنسا بمظهرها وبعقيدة أهلها، نشأ جيل من الموحّدين، عرف الطاغوت فكفر به وبأوليائه، وآمن بالله وحده لا شريك له، نفرٌ قليلٌ من الشباب في أصقاع شتى من البلاد التي حكمها المجرمون بالحديد والنار، نشروا دعوة التوحيد بما آتاهم الله من قوة، كلٌ في حيّه أو قريته، مستخفيا من عيون المخبرين، ومتحسبا للاعتقال والسجن في كل حين، فثبتوا لدى المحن، ولم تغرهم متاهات الفتن التي وقع فيها كثير من أقرانهم بعد سقوط الطاغوت (بن علي)، لعلمهم أن توحيد الله قرين بجهاد الكفار، فأكرم الله كثيرا منهم بالهجرة والجهاد والاستشهاد، ومن هؤلاء الكرام الأفاضل الشيخ أبو ليلى، كمال زروق التونسي القرشي، تقبله الله.

 

لم تكن الحالة المادية لعائلته تختلف كثيرا عن حال بقية سكان حي (الجبل الأحمر) في تونس العاصمة، وإن كان الالتزام بالدين يميزهم عن الكثيرين فيه، حيث عرف هذا الحي الذي ولد فيه الشيخ عام 1397 بالفقر، وبانتشار المجرمين بين أزقته وفي الغابة المجاورة له.

 

هذا الفقر الذي قدره الله على أبويه لم يمنعهما من أن يعملا على تنشئته تنشئة صالحة ودفعه إلى تعلم الدين، والتزام المساجد وحلقات القرآن، حتى مكّنه الله من حفظ القرآن كاملا قبل أن يبلغ العشرين من عمره.

 

شخصيته القوية، وعفّة نفسه، والتزامه بالدين أكسبته احترام الناس حتى العصاة منهم، بل كان عتاة المجرمين يستخفون منه إذا مر قريبا منهم عابرا للغابة التي يشربون فيها الخمر ويدمنون المعاصي، فيقف عليهم مذكرا إياهم بالله ويزجرهم عن عدم خشيتهم من الله: «أتخافونني ولا تخافون الله!».

 

لم يكن من المتدينين الخاملين، ولا من المتكسّبين بالدين، بل كان رغم فقره وضعف ذات يده عفيف النفس، لا يرضى إلا أن يأكل من كسب يده، فعمل في مهن شتى ليسد رمق أسرته، ويستغني عن الناس، فيحفظ كرامته.

 

ولكن ضعف حاله وانشغاله بتحصيل الرزق لم ينهياه عن طلب العلم والاستزادة منه، بل كان حريصا عليه يغتنم كل فرصة ليقرأ كتابا أو يتدارس مع إخوانه مسألة، حيث كان بعضهم يزوره في دكانه ليذكروا بعضهم بالله، وينفع كل منهم أخاه بما فتح عليه مما قرأه أو سمعه وذلك تحت بصر مخابرات الطاغوت التي كانت تعمل جاهدة لسد كل منافذ العلم الشرعي وكل طرق الدعوة إلى الخير، فكانت النتيجة أن اعتقلوه وأودعوه سجونهم.

 

كانوا يعرفونه جيدا، وتصلهم تقارير المخبرين عن دعوته للتوحيد، وتحريضه على الجهاد، وردوده على المرجئة والديموقراطيين وغيرهم، فكان نصيبه من التعذيب شديدا على أيدي جلادي الطاغوت، بل بلغ بهم الأمر حد ضربه على رأسه بحديدة أفقدته الوعي، ودخل بسبب تلك الضربة المستشفى، ليتبين أنها قد أثرت على دماغه وأفقدته الذاكرة.

 

والغالب في الأمر أنهم حاولوا إصابته في عقله ليتخلصوا من خطره عليهم بعد أن صار معروفا بين الموحّدين، محبوبا من الناس، ولكن الله سلّمه من شرهم، فبدأ يستعيد ذاكرته تدريجيا بعد مدة وجيزة.

 

أثرت تلك الضربة فيه كثيرا، خاصة أنه فقد بضياع ذاكرته حفظه لكتاب الله، وبقي حتى مقتله يجتهد لاستعادة ما أنسيه منه، ولكن لم يكن الاعتقال ولا التعذيب ولا التهديد ليفل عزيمته في الدعوة إلى الله، ولا ليخفض همته في طلب العلم، فاعتقل مرّات ومرّات، ولم تلن له قناة ولم يذل له جبين حتى أذن الله بزوال سلطان (بن علي).

 

كان سقوط الطاغوت (بن علي) نعمة منّ الله بها على الموحدين، إذ انشغل جنوده عنهم بمحاولة الحفاظ على استقرار النظام حتى يستعيد توازنه ويعيد تنظيم صفوفه، كما خرج آلاف الشباب من السجون بينهم الكثير من طلبة العلم والدعاة، ولكن هذه النعمة كانت تخفي في طياتها فتنة من نوع آخر يختلف عن الفتن التي كانت تحيط بالموحدين تحت حكم الطاغوت السابق.

 

إذ ظهر نوع جديد من الكفر هو الديموقراطية، وخرج الكثير من المرتدين إلى السطح باسم المعارضين للنظام السابق، وفتن الناس بأجواء حرية التحرك والدعوة التي لم يعتادوها من قبل، فتعلق الكثيرون بالأضواء، وانشغلوا بالملتقيات والمؤتمرات والتجمعات عن التحضير لقتال المرتدين والقضاء على النظام الطاغوتي الجديد الذي بدأ يرسخ أركانه، ويقيم بنيانه بدعم ومباركة من مرتدي حزب النهضة والإعلام الموالي للصليبيين المروج لأفكار الإخوان المرتدين.

 

كان تنظيم «أنصار الشريعة» الذي تصدر المشهد في تلك الآونة يعاني من عدة مشاكل أهمها ضلال زعيمه أبي عياض وترويجه لأفكار أيمن الظواهري حول نيتهم جعل تونس «أرض دعوة» لا أرض جهاد، وتطمين الحكومات الطاغوتية التي أطلقوا عليها لقب «حكومات ما بعد الثورات العربية» بأنهم لن يقاتلوها، وطلبهم منها أن تترك لهم المجال للدعوة فحسب، وكذلك أفكار أبي عياض القُطرية التي تركز على حصر العمل في تونس، ورغبته في تصدر الجهاد العالمي رغم قلة خبرته وضعف حيلته الذين أديا بتنظيمه إلى الهاوية عندما كشف لهم الطاغوت الجديد عن وجهه الحقيقي فسام المرتبطين به سوء العذاب أسرا وتقتيلا، وعلى رأسهم الكثيرون ممن كانوا في قيادة التنظيم، ولم ينج من تلك المحرقة التي قادهم إليها أبو عياض بضلاله وضعف تدبيره وتعصبه لآرائه وآراء شيخه أبي قتادة الفلسطيني وأميره الظواهري إلا القليل ممّن هداهم الله إلى الهجرة والجهاد في سبيل الله بمخالفتهم لأبي عياض، الذي كان رافضا لخروج الشباب إلى ساحات الجهاد، والشام منها خاصة، رغبة في إبقائهم تحت يده ليزج بهم في مشاريعه الفاشلة ويسلمهم بغفلته لأيدي الطواغيت.

 

ورغم هذا الأمر، عمل الشيخ كمال إلى جانب «أنصار الشريعة»، وكان ذلك سعيا منه في نشر التوحيد، والتحريض على الجهاد، ورغبة في عدم شق الصف، ولمحاولة إصلاح التنظيم عن قرب دون أن يدخل فيه، حيث أنه لم ينتم إلى التنظيم رغم محاولتهم استمالته بوسائل كثيرة من بينها دعوته ليكون عضوا في الهيئة الشرعية للتنظيم، فظل قريبا منهم يعطي الدروس ويلقي المحاضرات ويحرضهم على الخروج إلى ساحات الجهاد، وينكر عليهم ما يراه من أخطاء، حتى أنه أجاب من سأله عن رفض أبي عياض لخروج الشباب للجهاد في الشام قائلا: «لا تسمعوا له، انفروا في سبيل الله خفافا وثقالا»، بل كان يساعد الإخوة على الوصول إلى أرض الجهاد فيوفر لهم الطريق، وينسق لهم تحركاتهم وصولا إلى مضافات الدولة الإسلامية في الشام، بل ويجمع لهم تكاليف رحلة الهجرة من أموال الزكاة التي يأتمنه التجار على أدائها، وهكذا خرج عن طريقه عشرات المهاجرين من تونس، نسأل الله أن يجعل ثواب هجرتهم وجهادهم وشهادتهم في ميزان حسناته.

 

لم يكتف الشيخ -تقبله الله- بالدعوة إلى الهجرة والجهاد بل منّ الله عليه بالخروج من تونس بعد أن ظل متواريا فيها لشهور، وذلك بعد أن طلبه جنود الطواغيت عقب قضية السفارة الأمريكية التي كان من المحرضين عليها، ولاتهامه بالتحريض على قتل المرتدَّين الشيوعيَّين (بلعيد والبراهمي)، حيث خرج إلى ليبيا، وبقي فيها ما يقارب السنة، يساعد الإخوة على الهجرة، ويقضي حوائجهم، ويقوم على أمر بعض المضافات، وبقي فيها حتى شعر بأن المرتدين يحضرون للكيد بالمهاجرين فخرج إلى الشام في هجرته الثانية التي حط فيها رحاله، وأناخ ركائبه.

 

وصل الشيخ كمال إلى الدولة الإسلامية ليواصل طريق دعوته إلى الله في ولاياتها، متنقلا بين الجبهات ومناطق الاشتباكات مع أعداء الله وزائرا لخطوط الرباط وثغور المسلمين، مثبتا المجاهدين ومقويا عزائمهم ومحرضا على البذل ومرغبا بالشهادة، وفي الوقت ذاته كان يصرف جزءا كبيرا من وقته في دعوة عامة المسلمين وتعليمهم في المساجد، ليقضي في ذلك سنة تقريبا قبل أن تستهدفه طائرة مسيّرة صليبية على أطراف مدينة الرقة، وتحول جسده إلى أشلاء، نسأل الله أن يتقبّله في الشهداء.

 

داعية على خطى الأنبياء

 

إن المتتبع لسيرة الشيخ أبي ليلى -تقبله الله- ليلمح فيها تتبعه لسير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، من حيث حرصه الشديد على الدعوة إلى الله، وهمته العالية في العمل لدين الله، وصبره على الأذى في سبيل ذلك، وعزيمته التي لا تلين في نصرة دين الله.

 

لا يستكبر عن دعوة أي مسلم، ولا يتكاسل عن الإنكار على أي عاصٍ، حتى هدى الله على يديه الكثير من الناس، كان من بينهم من يخافه الناس لسطوته وإجرامه، فتابوا إلى الله، ورزق الله بعضهم الهجرة والجهاد والاستشهاد.

 

يمضي أغلب وقته في طلب العلم وتدريسه والدعوة إليه، فكان له قبل هجرته أكثر من درس يوميا وفي عدة مساجد من تونس «العاصمة»، بالإضافة لتوليه خطبة الجمعة في مسجدين من مساجدها هما مسجد التوبة في الجبل الأحمر والياسيمين في حي أريانة، فضلا عن جولة أسبوعية له على مناطق تونس الأخرى التي زار معظمها، مدرسا، وواعظا، ومحرضا على الجهاد.

 

وكان أكثر ما يلقيه في دروسه محاضرات في السيرة النبوية، وسير الأعلام، وسير المجاهدين، وشرح أحاديث موطأ الإمام مالك، رحمه الله.

 

وقد استمر على سيرته تلك بعد هجرته الأولى والثانية، حيث أمضى كل وقته متنقلا بين ولايات العراق والشام، يدرس في مختلف المعسكرات بعد أن أخذ تفويضا عاما من ديوان الجند بدخولها والدعوة فيها، ويزور المجاهدين في أشد مناطق الاشتباك سخونة كما في جبهات الرمادي والفلوجة وبعشيقة وحلب والرقة وغيرها، بالإضافة إلى عدة دروس في مدينة الرقة خلال الأسبوع والتزامه بخطبة الجمعة في أحد مساجدها.

 

ويروي من صحبه في الرباط أنه كان يختار لنفسه ساعات الرباط في الليل، ثم يخرج في النهار رغم التعب ليدور على نقاط الرباط الأخرى ليذكر الإخوة بالله، ويؤانسهم بقصص من السيرة وعبر من مآثر السلف الصالح.

 

أما الجانب الأهم في حياة الشيخ كمال زروق كداعية فهي أنه كان يعمل بما يدعو إليه، ولا أدلّ على ذلك من أنه طبق بنفسه ما أمضى عمره في الدعوة إليه من التوحيد والجهاد، فصدع بالتوحيد وهاجر في سبيل الله، وجاهد في صفوف الدولة الإسلامية التي كان ينصح الشباب بالنفير إليها، ولم يكتف بنصرتها بالكلام والخطب.

 

كان -رحمه الله- يرى نفسه على منهج الدولة الإسلامية قبل أن ينفر إليها، ويحض الشباب على ذلك فيقول لهم «عليكم بالدولة الإسلامية، عليكم بمنهج الشيخ أبي مصعب الزرقاوي، تقبله الله»، وكان يوصي المهاجرين للجهاد في الشام أن يلتحقوا بصفوفها حين كان عملها باسم «جبهة النصرة»، فلما كانت غدرة الجولاني صار ينهاهم عن الدخول في صفه، ويربطهم بالمنسقين التابعين للدولة الإسلامية، وعلى رأسهم الأخ الفاضل محرض الاستشهاديين أبو عمر التونسي (طارق الحرزي) تقبله الله.

 

ولما وصل إلى أرضها زاد تعلقه بها، ونصرته لها، ودعوته إلى بيعة أمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي، حفظه الله، ولم يصدّه عن ذلك أن كان جنديا من عامة جنودها رغم شهرته وذيوع صيته وإقبال قلوب الناس إليه، فلم يطلب فيها إمارة، ولم يسع فيها إلى منصب، بل ولم يفتنه كلام أهل الفتن فيه بعدما زلّ لسانه بعبارةٍ أراد أن يوضح فيها أن الخلافة على نهج النبي، صلى الله عليه وسلم، فصاغ عبارته المرتجلة بطريقة خاطئة، بل حمد الله أن وجد من الدولة الإسلامية حرصا على استقصاء الأمر والتحقيق فيه، ومحاكمته على ما اتهم به، والذي تبين قصده وخطأ تعبيره بعدها، وأنه كان كالذي قال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك».

 

الصفة الأخرى التي ميّزت الشيخ عن كثير من أقرانه هي زهده الشديد بما في أيدي الناس، وعفة نفسه رغم ضعف حاله، وقلة ذات يده، بل وكرمه وبذله لإخوانه كل ما يملك، فكان لا يأكل إلا من كدّ يمينه، ولا ينفق على دعوته إلا من ماله الخاص، فيذهب إلى دروسه غالبا سيرا على أقدامه أو يستأجر وسيلة النقل إن لم يخضع لإلحاح إخوانه بمشاركتهم له في الأجر، ويروي أحدهم أنه جمع له مبلغا من المال يستعين به في حياته وفي الإنفاق على الدعوة، فأبى قبوله وتمنّع طالبا من الأخ أن يوزعه على الإخوة المحتاجين، ثم قبله حياء منه بعد إلحاحه عليه، ليكتشف بعد حين أنه أنفقها كلها في سبيل الله، متصدقا بها على إخوانه المحتاجين.

 

ويروي من عاشره في الشام أنه كان رافضا لاستلام كفالته الشهرية التي يأخذها كل جنود الدولة الإسلامية حتى تاريخ وفاته حرصا منه أن لا ينقص ذلك من أجر جهاده شيئا.

 

يوم مقتله خطب الجمعة في جامع الحسين في الرقة، ويروي من سمع خطبته أنه كان يكرّر في خطبته كلمة «الجنة» بشكل غريب، حيث ردّدها تكرارا ودون توقف عدة مرات، وهو يحض الناس على الحرص عليها، ثم خرج إلى مدينة الطبقة بصحبة بعض إخوانه.

 

وفي طريق العودة كان يحدث من معه في السيارة عن الاستشهاد والعمليات الاستشهادية، ثم صار ينشد ويردّدون معه أبياتا من قصيدة فيها:

 

أوليس موتي في حياتي مرةً   لم لا يكون ختامها استشهاديَ

 

وفي هذا الوقت كانت تتربص بهم طائرة صليبية، قصفت سيارتهم بصاروخ غادر، فمزقت جسد الشيخ كمال زروق وحولت جسد أخيه أبي صفية الجزائري إلى أشلاء، ونجّى الله الأخ الثالث من القتل ليصل المستشفى وهو فاقد الوعي.

 

عند استيقاظه روى لمن جاء يعوده أنه رأى في غيبوبته الشيخ كمال وأخاه أبا صفية الجزائري، وأنهما قالا له في منامه:

«نحن أحياء نرزق... والله لم نمت... والله لم نمت...».

 

قُتل العالم، العابد، الزاهد، الداعي إلى الله، المجاهد في سبيله، الشيخ كمال زروق قبل أن يحقق حلمه بالعودة إلى أرض تونس ليجاهد الطواغيت على أرضها، ويحرر الإخوة والأخوات من سجونهم.

 

قُتل وهو يرقب إخوانا له لا زالوا قاعدين عن الجهاد أن يخرجوا ليثأروا لدينهم وأعراضهم.

 

قُتل وهو حريص على الجماعة، كاره للفرقة، محرض على العمليات الاستشهادية.

 

فرحمك الله يا أبا ليلى وجمعنا بك في جنات النعيم.

 

 

 

 

 


 

13- العدد 030 - الثلاثاء 3 شعبان 1437 هـ

عادل بن عبد الله المجماج التميمي
ناصَر الأسرى في جزيرة العرب، وجاوَرهم... ثم قُتل وهو يسعى إلى فكاك أسرهم

أرض القصيم، ودود ولود، نزعت عنها رداء الشرك من قرون، ونصر أهلها التوحيد، فكان منهم أجيال من الموحّدين المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ولا ينقضي جيل إلا وقد غرس في الذي يليه عقيدة صافية، ونفوسا أبية.

 

ولم يختلف جيلنا المعاصر عن أسلافهم، فالألوف من شباب القصيم نفروا خلال العقود الماضية ليمدوا ساحات الجهاد في مشارق الأرض ومغاربها، ولم تنفع كل محاولات الطواغيت من آل سلول في القضاء على دعوة التوحيد في هذه المنطقة، رغم التعسف والسجون، ورغم تلبيس الملبسين من السرورية والجامية وأشباههم.

 

فلا زال فيها بقية باقية من أهل الإيمان، يسيرون على خطى أسلافهم ممن نصر دعوة التوحيد عندما صدع بها الشيخ محمد بن عبد الوهّاب وإخوانه، ممّن لا يعرف إلا طريق العزة والشرف والرفعة، فجعل طريقها يبدأ من الصدع بملة إبراهيم، ويمر على سجون ومعتقلات المرتدين، إلى مناجزتهم بالسيف، ومن هذه الثلة المباركة بطلنا المجاهد أبو عبد الله التميمي (عادل بن عبد الله المجماج) تقبّله الله.

 

ولد أبو عبد الله في مدينة عنيزة من حواضر نجد عام 1410 هـ، وشب على حب العلم وأهله، وثنى ركبتيه على عدد من علماء مدينته وحفظ القرآن على أيديهم، وكان يتردد على مجالس العلم ليتعلم دين الله عز وجل، ويرفع الجهل عن نفسه.

 

دخل كلية الشريعة وكان الطالب المجتهد فيها، إلا أنها كانت مليئة بالمناهج الضالة، سواء من جهة كتبها المفروضة، أو من الأفكار التي يروجها المدرسون فيها، وكان -رحمه الله- كما ذكر عنه أحد أقرانه لا يسلّم لهم بما يطرحونه من أباطيل وضلالات، بل يناقشهم ويردّ على شبهاتهم، وكان منهم مدرس يشيع في محاضراته انحرافات في العقيدة، فلم تكن تمر محاضرة لهذا المدرس إلا ويناقشه أبو عبد الله ويرد على ضلاله، ولم يطل به الأمد وترك الكليّة مبكرا.

 

كان -رحمه الله- من الصادعين بالكفر بالطاغوت، لا يجلس مجلسا إلا ويبّصر الناس بحقيقة طواغيت آل سلول، وحكم عسكرهم، وشرطهم، وعلمائهم المرتدين.

 

ومن المعلوم من سنن الله الكونية أن الصراع بين الحق والباطل مستمر حتى قيام الساعة، ولذلك سعى طواغيت الجزيرة إلى محاربة الجهاد والمجاهدين في كل مكان، زاعمين أنهم سيوقفون أهل هذه الدعوة المباركة عن نشرها، وأنهم سيمنعون الرجال من القتال والجهاد، فملؤوا سجونهم بالشباب المجاهدين، وزجوا بالموحدين في معتقلاتهم، لا لذنب إلا أنهم صدعوا بالتوحيد، وحاربوا عباد الصليب وأذنابهم.

 

فكان لهذا الأمر تأثير بالغ على كثير من الشباب ومنهم فارسنا تقبله الله، فكان من أبرز المناصرين للأسرى والأسيرات في سجون الطواغيت، وأسر من أجل ذلك مرتين؛ إحداها حينما خرجت مسيرة نصرة للأسرى في سوق النخيل في مدينة بريدة، حيث قام جنود الطواغيت بالاعتداء على نساء المسلمين، فانبرى لهم الأسد، وتعارك مع جنود الطاغوت حتى يمنعهم من الوصول للنساء حتى اعتقلوه ومكث في السجن أكثر من سنة، حتى أفرج عنه، ثم خرج عزيزا شامخا ينصر دين الله.

 

وما لبث أن ذهب إلى سجن الطرفيّة مطالباً بفكاك الأسرى والأسيرات من سجون الطواغيت، ومعه أحد إخوانه فاعتقله الطواغيت مرة أخرى، ليزجوا به في معتقلاتهم لأكثر من ثلاث سنين، ثم أفرجوا عنه، بعد أن وضعوه في برنامج الطاغوت ابن نايف للمناصحة، وهو برنامج يضعون فيه الموحدين قبل الإفراج عنهم محاولين صرفهم عن التوحيد الذي دعوا إليه.

 

حينما خرج من سجونهم وضع الطواغيت في ساقه حلقة إلكترونية لتتبعه، ومعرفة مكانه في كل وقت، وظنوا أنهم بهذه الحلقة سيجعلون بطلنا ذليلا خانعا لهم، فلم يستسلم لهم -تقبله الله- بل تمكّن من الاتصال بالمجاهدين في ولاية نجد بعد فترة قصيرة من خروجه من السجن، ولم يكن ما وضعوه له عائقا له من النفير، فقام بقصها رغم خطورة ذلك عليه، ولحق بالإخوة المجاهدين مبايعاً لخليفة المسلمين.

 

التحق بجنود الخلافة في جزيرة العرب، وقلبه يحترق على أخواته الأسيرات في سجون الطواغيت المرتدين، وعلى إخوة لهم أعدمهم الطاغوت بسبب نصرتهم للمجاهدين، وقتالهم للصليبيين وأذنابهم المرتدين، فلا يكاد يمر عليه يوم إلا ويذكر من خلّفهم وراءه من إخوانه الأسرى والأسيرات في سجون الكفر، كيف لا وهو اعتقل مرتين نصرة لهم.

 

انضمّ -رحمه الله- إلى إحدى السرايا، التي قامت بتنفيذ عدد من العمليات التي أرعبت الطواغيت وجنودهم، وكان له خبرة في مجال التقنية وأمن المعلومات، فلم يبخل على إخوانه بإعطائهم الدروس والتعليمات في هذا الأمر المهم لهم.

 

وما كان لهذه النفس بعد هذا الجهد والنصب والتعب إلا أن تستريح من هذه الدنيا الفانية، فقد قام المرتدون في يوم الخميس (27 رجب 1437 هـ) بمحاصرة مكان السرية في ولاية الحجاز بين الطائف ومكة، ومطالبة الإخوة الموجودين بتسليم أنفسهم للطواغيت، وأنى لهذه الأسود أن تسلم نفسها وقد ذاقت في الجهاد طعم العز.

 

فاشتبك معهم الإخوة بالأسلحة الخفيفة، وجلب الطواغيت كعادتهم عشرات المدرعات، والمئات من الجنود رغم معرفتهم أن الإخوة قلة قليلة لا يملكون إلا أسلحة خفيفة.

 

وانغمس أخونا أبو عبد الله على سيارة لقوات الطوارئ المرتدة بحزامه الناسف وفجره فيهم، ليرسل لأعداء الله رسالة أن الأسود لا تسلم نفسها للكلاب، وأن القتل في سبيل الله منية المجاهدين، وأنهم ما خرجوا إلا من أجل نصرة هذا الدين، وإقامة شرع الله المغيَّب، ولكي يبذلوا دماءهم لأجل هذا الهدف، وأن المجاهدين لن يكونوا لقمة سهلة للطواغيت، بل دون الوصول لهم دماء وأشلاء، وأن جنود الخلافة قد رووا بدمائهم أرض جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

فليبشر طواغيت الجزيرة بما يسوؤهم، فخلف هذا الرجل رجال، لم يلقوا أسلحتهم بعد، ولن يلقوها أبدا حتى يكون الدين كله لله، في جزيرة العرب، وفي أرض الله كلها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

 

 

 

 


 

14- العدد 031 - الثلاثاء 10 شعبان 1437 هـ

الشيخ حسين عبدي جيدي ما رضي أن يموت ميتة جاهلية

قاتل الأمريكيين ونصارى الأحباش والصحوات وجيش الحكومة المرتدة وجيوش التحالف الإفريقي والمفسدين في الأرض، ثم كانت نهايته على يد من يزعمون أنهم أهل الجهاد، وحماة الإسلام.

 

انضم إلى صفوف «الاتحاد الإسلامي»، وقاتل إلى جانب قادته، وشارك في معسكرات كامبوني، وانتمى لقوات «اتحاد المحاكم»، وصار من قيادات «حركة الشباب»، وحين أعلنت الخلافة أعرض عن ذلك كله، وصار من أوائل جنودها في الصومال.

 

إنه الشيخ المجاهد الداعية حسين عبدي جيدي، تقبله الله.

 

بدأ حياته الجهادية بانضمامه إلى معسكر لفصيل «الاتحاد الإسلامي» ليصبح فيه مدرسا ومدربا لمدة ثلاث سنوات، وحين نزل الصليبيون الأمريكيون أرض الصومال عام 1412 هـ كان من أوائل من رفع السلاح في وجوههم، فقاتلهم قتال الأبطال مشاركا في أهم المعارك التي شهدتها مدينة مقديشو ضدهم، واستمر في قتال الأمريكيين حتى خروجهم من الصومال مذلولين مدحورين عام 1415 هـ.

 

عاد بعدها إلى مدينته كسمايو التي تربى فيها ولم يغادرها من قبل إلا للدراسة في مقديشو حيث حصل من جامعاتها على إجازة في الفيزياء، ليبدأ عملا دعويا في مساجد كسمايو وخاصة في المسجد القديم، وكان أكثر ما يعطيه دروسا في سيرة خير الأنبياء، صلى الله عليه وسلم.

 

بعد سنوات انشغل فيها بتحصيل الرزق والسفر انضم إلى المعسكرات في غابة كامبوني جنوب الصومال، وبقي فيها عدة شهور، حتى اندلعت الحرب بين المجاهدين وفصائل الصحوات التي قادها أمراء الحرب بدعم وتوجيه أمريكي وذلك عام 1426 هـ، وقدّر الله أن يتعرض لحادث سير سبّب له كسورا خطيرة في قدميه، نقل بسببها إلى مدينة نيروبي في كينيا لتلقي العلاج، ولكن لم يطب له القعود حتى تجبر كسوره وهو يسمع أخبار المعارك مع المرتدين، وتصله أنباء قرب دخول نصارى الأحباش لقتال إخوانه المجاهدين، فقرر العودة بعكازيه إلى كسمايو، ثم انتقل إلى مدينة إيدالي ليشارك المجاهدين معاركهم ضد الأحباش، فشارك في معركة إيدالي الشهيرة، كما شارك في معركة جلب قبل انسحاب المجاهدين منها.

 

بعد سيطرة نصارى الأحباش على المدن وانسحاب المجاهدين منها، عاد الشيخ حسين إلى نيروبي ليكمل علاج رجله، وبقي فيها فترة من الزمن، ولدى عودته إلى كسمايو كان المرتدون قد سيطروا على المدينة ونصبوا الحواجز على مداخلها، فأمسكوا به وهمّوا بقتله لما وجدوا معه مسدسا كان يخفيه، وقدر الله أن ينجيه من شرّهم، ليكون شوكة في حلوقهم.

 

فقد كان هؤلاء المرتدون يرهقون الناس على حواجزهم ويسلبونهم أموالهم، وخاصة عند حاجز قرب جسر المدينة، فجمع الشيخ بعض الشباب وهاجم الحاجز بما لديهم من سلاح خفيف، فهرب المرتدون من حاجزهم وكفّ الله أذاهم عن المسلمين.

 

في صفوف «حركة الشباب»

 

ولم ينقطع الشيخ عن إخوانه في تلك الفترة إذ بقي ينسق معهم لتحرير المدينة من ميليشيات المرتد (العقيد بري هرالي)، ثم شارك في معركة تحريرها عام 1429 هـ مقاتلا بنفسه، حيث قدر الله له إصابة جديدة في قدمه، وفتح الله المدينة على أيدي المجاهدين بعد ثلاثة أيام من المعارك.

 

تم إرسال الشيخ إلى مدينة نيروبي للعلاج مرة أخرى، حيث اعتقلته المخابرات الكينية فور وصوله إلى المطار، ونجاه الله من أيديهم فخرج من السجن، ليبدأ علاجه في أحد المستشفيات، ولكن المخابرات عادت لاعتقاله من داخل المستشفى، ثم خرج من بين أيديهم مرّة أخرى، وعندها قرر أن يعود للصومال قبل إنهاء علاجه، فعاد إليها مرة أخرى على عكازتيه اللتين فارقهما فترة من الزمن.

 

وعلى عكازيّه قاد الشيخ جنود «حركة الشباب» في ولاية جوبا الوسطى حتى شفاه الله من إصابته، ثم أصبح نائبا للوالي بعد توحيد ولايتي جوبا الوسطى والسفلى تحت مسمى «ولاية جوبا الإسلامية».

 

انتقل بعد ذلك إلى مدينة مقديشو ليشارك في قتال المرتدين وقوات التحالف الإفريقي في إطار ما أسمته «حركة الشباب» حينها بـ«حملة نهاية المعتدين» في عام 1431 هـ، ثم عاد بعدها إلى مدينة بؤالي.

 

ولما بدأت الحملة الكينية على مناطق جنوب الصومال، انتقل الشيخ إلى مدينة كسمايو ليساهم في التصدي لهذه الحملة، حيث كان يقود مجموعة إسناد متنقلة تجول في مناطق إقليم جوبا السفلى، وبقي على هذه الحال حتى سقطت كسمايو بيد الجيش الكيني، لينتقل إلى مدينة بؤالي ويعمل في مجال الدعوة حيث تم ضمّه إلى مكتب التعليم في «حركة الشباب».

 

من مناصرة الدولة الإسلامية إلى بيعة أمير المؤمنين

 

رغم انشغال الشيخ بجهاد الصليبيين والمرتدين في الصومال، إلا أنه كان دائم الاهتمام بأخبار إخوانه في بقية العالم، وخاصة دولة العراق الإسلامية، إذ كان حريصا على تتبع أخبارها، ومتابعة ما يصدر عن إعلامها، بل إنه كان يرسل في طلب إصداراتها إلى كينيا إذ يقوم بعض إخوانه هناك بتحميلها من الإنترنت وإرسالها إليه في أقراص ليزرية، فيشاهدها، ويعرضها لإخوانه، ويجمع أهله وأطفاله لمشاهدتها في منزله.

 

وبعد إعلان الخلافة كان -رحمه الله- مهتما جدا بهذا الحدث المهم، وقرر حينها أن يعتزل «حركة الشباب»، ويرفض الفصائل والحركات وينضم لجماعة المسلمين ويبايع إمامهم الشيخ أبا بكر البغدادي، حفظه الله، رغم علمه بخطورة ذلك على حياته، لمعرفته بسياسة «حركة الشباب» في قتل كل من دخل في جماعة المسلمين، وقد كان مقربا منهم لسنوات، وكان يقول لأهله وهو يكلمهم من مخبأه في الغابات: «أنا لا أريد أن أموت وليس في عنقي بيعة لأمير المؤمنين، ولن يصيبني إلا ما قدر الله لي».

 

كان الشيخ ذا سمعة طيبة، وتاريخ كبير من الجهاد والبذل في سبيل الله، ويشهد له بذلك ربع قرن من الجهاد تنقل خلالها بين الكثير من الحركات الموجودة في الصومال، وتشهد له بذلك ميادين الجهاد في مقديشو وإيدالي وكسمايو وغيرها، كما كان داعيا مؤثرا يجذب إليه القلوب والعقول، وجمع إلى ذلك العديد من الشمائل الحميدة.

 

فقد عرفه الناس بطيب خلقه وهدوء طبعه، عرفوه صموتا، صاحب عبادة، حافظا لكتاب الله، كثير التلاوة لكتاب الله، لم يكن يترك قيام الليل لا في صحو ولا في مرض، يشهد له بذلك أهله، ويشهدون له أنه لم يكن يترك صيام النوافل خاصة الاثنين والخميس، بل كان يحث أهله على صيامها حتى في غيابه حيث كان يتصل بهم ويذكرهم بذلك، كان واصلا رحمه، شديد الغيرة على محارم الله إذا انتهكت، كثير الإنفاق في سبيل الله.

 

يهود الجهاد يخططون لقتله

 

رجل بهذه الصفات لم يكن يهود الجهاد القادة الجدد لـ«حركة الشباب» ليتركوه وشأنه، بل سعوا لقتله بكل وسيلة خوفا من اجتماع المجاهدين عليه، فصاروا يتعقبونه ويترصدون له، وهو محتاط منهم يغير مكان تواجده باستمرار حتى أرهقهم عناء متابعته، وقد فرغوا لذلك إحدى كتائبهم التي يسمونها كتيبة «أبو الزبير» ولم تنجح في قتله، ولكنهم بعد جهد تمكنوا من زرع عميل لهم بين رفاق الشيخ ليتمكنوا من الوصول إليه، وكان هذا الخبيث يزعم مناصرة دولة الخلافة ويبطن الغدر بجنودها طاعة لأمرائه.

 

وفي العاشر من شهر صفر الماضي من العام 1437 هـ، تمكن يهود الجهاد من الوصول إلى الشيخ بمساعدة عميلهم الخبيث، حيث قتلوه وأحد رفاقه، وأخذوا جثته وأخفوها في مكان مجهول حقدا منهم عليه، ورغبة في إخفاء أثره.

 

قُتل الشيخ وترك من ورائه إخوانا له سيثأرون بإذن الله ممن غدر به، وسيرفعون بنيان الخلافة في أرض الهجرتين وإن رغم أنف يهود الجهاد وأميرهم السفيه، كما ترك عشرين من الأبناء كلهم سيمضون على خطى أبيهم بإذن الله، فيكونون غصة في حلوق الصليبيين والمرتدين وقادة الفصائل والجماعات التي تنكبت الطريق.

 

وهكذا أنقضت حياة الشيخ حسين عبدي جيدي -تقبله الله- بسنواتها التي فاقت الخمسين، جنديا من جنود الخلافة، بعد أن أمضى نصف عمره في جهاد أعداء الدين في صفوف الحركات والفصائل والتنظيمات.

 

 

 

 

 


 

15- العدد 033 - الثلاثاء 24 شعبان 1437 هـ

محمد مكاوي طلبت قتله أمريكا واغتاله يهود الجهاد

هذه وقفة مع أَسَد من أُسْد الله الأعلام وبطل من أبطال الإسلام، نحسبه كذلك والله حسيبه، أبت نفسه إلا أن يُقتل تحت راية دولة الإسلام، فرفض الفتات ونبذ الفرقة والشتات، إنه البطل الشهيد المهندس محمد مكاوي إبراهيم، قضى قسطا من صباه في دويلة «الإمارات»، حيث كانت تقيم أسرته هناك، ثم رجع إلى السودان، فواصل دراسته، إلى أن التحق بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ودخل كلية الهندسة، وفي سنين دراسته للهندسة، هداه الله لطريق الحق والسداد، فسلك درب الجهاد، وكان عضوا بارزا في مجموعة «السلمة» التي كانت تحاول القيام بعمليات على الصليبيين في الخرطوم، لكن الله قدّر انكشاف أمرها قبل تحقيق أهدافها، بعد انفجار عبوة كانت قيد التصنيع، وقبض وكلاء الأمريكيين في السودان على جميع أفراد المجموعة، عدا أخوين، كان من بينهما محمد مكاوي.

 

ولكن المرتدين لم يهدأ لهم بال، وظلوا يبحثون عنه ويطاردونه، وقد حوصر من قبل قوات المباحث في إحدى الليالي، وأراد المرتدون اعتقاله لكنه ولشجاعته -رحمه الله- خرج إليهم شاهرا سلاحه، وأمطرهم بوابل من الرصاص، فولّوا الأدبار تاركين سيارتهم، فأخذ سيارة وهرب بها، ثم اضطر للوقوف بعد أن ابتعد عنهم لإصلاح أحد إطارات السيارة الذي أُصيب ببعض رصاصاتهم، فلحقوا به مرة أخرى واقتربوا منه، فانحاز إلى بناية صغيرة على الطريق، وكلما حاول المرتدون التقدم نحوه أطلق عليهم النار ولم يكن معه سوى ستين طلقة فقط (مخزني كلاشنكوف)، ثم انحاز قبل بزوغ الفجر، بعد أن ملأ قلوبهم رعبا، ودخل إلى الخرطوم، ثم التحق مع رفيقه ببعض الإخوة الذين كانوا في دارفور لتأسيس خلايا جهادية في تلك المنطقة، ثم رجع مرة أخرى للخرطوم، وبعد فترة من وصوله، قدّر الله أن يُلقى القبض عليه وعلى بعض الإخوة، فحُكم عليهم بالإعدام في قضية قتل الدبلوماسي الأمريكي «جون مايكل جرانفيل» الشهيرة.

 

وفي كرامة من الكرامات التي منّ الله بها عليه، تمكن هو ومجموعته من الهروب من أعتى السجون السودانية، سجن «كوبر» سيء الصيت، بعد أن وفقهم الله لحفر نفق أرضي، يصل طوله إلى 45 مترا، وظل بعد خروجه متخفيا لمدة عام في السودان، حتى قرر الهجرة إلى الصومال، ووصل كذلك بكرامة أخرى، عابرا نقاط التفتيش والحواجز التي وضع عليها المرتدون صورته، وكان حينئذ يتنقل بجواز سفر لشخص آخر بصورة ليست له، لكنه التوكل على الله الذي ملأ قلبه.

 

فوصل إلى الصومال وانضم للمجاهدين، وكان مثالا للسمع والطاعة والانضباط، بشهادة كل من عاشره، وكان في سريّة من أشد السرايا في الصومال، حيث يمكث فيها المجاهد أحيانا قرابة العام، دون الرجوع إلى أهله، وتخرّج -رحمه الله- من معسكرين، أحدهما كان معسكرا خاصا لتخريج الكوادر، وقد روى أصدقاؤه أنه كان طالب علم شديد الحرص على الاستفادة من وقته، حتى إجازاته كان يقضيها في التعلم والاستفادة من أصحاب الخبرات العسكرية والشرعية، إلى أن صار الداعية الأبرز في سَريته، يدعو إخوانه ويحرضهم ويعلمهم ويذكرهم بالله، وكان حريصا على تعليم أهل البادية التوحيد وسائر أمور دينهم.

 

كان -تقبله الله- شجاعا لا يتردد، ففي إحدى المرات أراد أمير السرية التي كانت تعمل في إحدى الغابات داخل الأراضي الكينية أن يمتحن شجاعة الجنود، وفي جنح الظلام كان بالقرب منهم نهر يسبح فيه عدد من أفراس النهر، وكان صوتها عاليا، فأمرهم الأمير أن يقوم كل واحد منهم بجلب الماء من النهر، فرفض الجميع إلا مكاوي، حيث أخذ سلاحه وتوجه إلى النهر، وما هي إلا دقائق حتى سمعوا صوت إطلاق النار، فقد هاجمه فرس النهر، لكن مكاوي لم يفر وأطلق النار عليه وأرداه قتيلا وجلب الماء.

 

وظل مجاهدا يدافع عن دينه وينصر المستضعفين، حتى جاءت المحنة التي امتحن الله بها المجاهدين، ليعلم من يتبع الحق ممن يتبع الهوى، وقد كان الأخ مكاوي لا يحب التقليد بل يبحث دائما عن الدليل، وبعد إعلان تنصيب خليفة للمسلمين بعد أن خلت الديار منه لقرون، وقف الشهيد محمد مكاوي مع نفسه، وكعادته بدأ البحث والتفتيش عن الحق في هذا الأمر، وقد قال لأحد إخوانه إنه قرأ في ذلك ألف ورقة، وبعد أن ظهر له الحق -وكعادته أيضا- بدأ في الدعوة إليه وعلى الملأ، لا يخاف في الله لومة لائم ولا عذل عاذل، وشهد جلسة جاء فيها «شرعيو حركة الشباب» الذين أخذوا يلبّسون الحق بالباطل، فطلب مناقشتهم، فرفضوا أن تكون أمام الناس، وأبى هو إلا أن تكون أمام الناس، فانفضّوا من غير نقاش، ثم قرر بعدها الهجرة من الصومال مرة أخرى، واللحاق بإحدى ولايات الدولة الإسلامية، ولم يخبر الحركة لأنه كان لا يثق بها ولا بقيادتها.

 

ومن أعجب المشاهد التي تكشف لنا مزيدا من مكر يهود الجهاد، أن أبا سليمان (كنيته في الصومال حينها) كان قد سجل في كتيبة الاستشهاديين منذ سنوات، وكان يطالب بتنفيذ عملية استشهادية، لكن الحركة كانت تماطله، وبعد تلك الجلسة جاؤوه مباشرة، وقالوا له إن العملية جاهزة، فعرف أنهم يريدون التخلص منه، وقد كان واضحا معهم، فأخبرهم على الفور أنه يريد الشهادة، ولكن تحت راية نقية وليس تحت راية «الحركة» العُمّية.

 

كان مقصد الأخ ورفاقه ولايات ليبيا فرتبوا لرحلتهم، ولكن ما أن سمعت «حركة الشباب» بالخبر حتى سارعت في مطاردتهم ومنعهم من الخروج، وبعد أن مُنعوا قرروا اللحاق بمن ظهر من جند الخلافة في الصومال والانضمام إليهم.

 

التقى مكاوي بإخوانه الذين بايعوا الخليفة بعد رحلة شاقة من المعاناة والمطاردة من قبل يهود الجهاد، عانى فيها مكاوي ورفاقه الذين اعتقل بعضهم -وما زالوا في سجون الحركة- أشد المعاناة، فقد كانوا يختفون في النهار ويتحركون في الليل، ولم يكن لهم طعام إلا التمر، وأحيانا كانوا يأكلون سرطانات البحر، وكان مكاوي دائما يدعو الله أن يخرجه من بين أيديهم، وكان يقول لرفاقه الذين كان أميرا عليهم: «هكذا هي طبيعة الهجرة، والله لو وصلنا إلى هدفنا بسلام بدون مشاكل لشككت في هجرتنا».

 

بعد لقائه بباقي الإخوة عيّنوا أميرا لهم، وسجلوا البيعة المرئية التي نُشرت على الإنترنت باسم «بيعة ثلة من مجاهدي الصومال»، والتي كان مكاوي فارس إعلامها، فهو من صنع الراية وصمّمها وخطّط لذلك التسجيل.

 

وكان مما كتبه لأحد إخوانه وهو في محنة بحث «حركة الشباب» عنه لقتله:

 

«أنا الحمد لله أتقلب في نعم الله، فقط نحتاج منكم الدعاء، لأنك سمعت -كما أظن- أن الحركة جمعت جيوشا وفرغت جبهات لا لحرب الصليبيين بل لحرب من يبحثون عن الشهادة تحت راية الخلافة، وعلى كل حال أخي، هذا هو درب الجهاد وسنة الله في عباده، فما لنا أن نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل».

 

وفي آخر أيامه -رحمه الله- كان يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن وقيام الليل وسائر العبادات، وكان يخاف على نفسه من الفتن، وكثيرا ما يقول: «اللهم كما جعلتنا من أول من يخرج لنصرة الخلافة فاجعلنا من أول من يُقتل تحت رايتها»، فاستجاب الله دعاءه وقُتل نُصرةً للحق الذي آمن به ودعا إليه.

 

وقبل الهجوم الذي قامت به الحركة على مجموعة مكاوي بدقائق، جمع الإخوة ووعظهم وطلب منهم العفو والمسامحة، ولما بدأ الهجوم سقط -رحمه الله- شهيدا مع بداية الاشتباكات، فرحمك الله يا أبا سليمان وجعل الجنة مثواك فقد أديت واجبك في الدعوة والهجرة والجهاد والبيعة، وصدقت الله فصدقك، ليُشطب اسمك من قائمة المطلوبين لرأس الكفر أمريكا، ويفرح الصليبيون بصنيع يهود الجهاد بأن حققوا أمنيتهم بلا عناء، ووفروا على خزينتهم خمسة ملايين من الدولارات.

 

 

 

 

 


 

16- العدد 034 - الثلاثاء 2 رمضان 1437 هـ

أبو جليبيب الإعلامي
كتاباتي ستشرب من دمائي لتعلن أنّ في موتي حياتي

كثيرون هم الذين يناصرون المجاهدين بأقلامهم وألسنتهم، وكثيرون هم الذين يتمنّون أن ينتقلوا من الجهاد باللسان إلى الجهاد بالسيف والسنان، ولكن قليل منهم من يجتهد في طلب ذلك والحرص عليه، حتى يصل إلى الثغور، ويسقي كلماته من دمائه كؤوسا ترتوي منها، فتزهر ورودا يفوح عبقها، فتملأ الأرجاء بريح طيبة، تستهوي أفئدة غيرهم من المناصرين، الذين يتعلمون ممن سبقهم حقيقة الطريق، ويرون بأعينهم جمال النهاية، ونتيجة صدق النية وصحة الغاية.

 

لم يكن يخطر ببال خالد إسماعيل وهو يتابع أخبار انتصارات المجاهدين في المنتديات الجهادية، أن يكون يوما ما مشاركا في صناعة تلك الانتصارات، أو مبشِّرا بتلك الأخبار، كما لم يتخيل وهو ينشر صور الشهداء في شبكات التواصل أن تتناقل الصفحات صورته، ويترحم عليه إخوانه شهيدا تحت راية الخلافة، نحسبه كذلك.

 

لم يكن قد بلغ من العمر عشرين ربيعا عندما تعلّق قلبه بالجهاد وأهله، فصار لا يصبر على متابعة أخبارهم، وقراءة قصصهم، والتعرف على أحوالهم، بل ومحاولة التواصل معهم عن طريق المنتديات رغم معرفته بخطورة ذلك الأمر عليه، ولم يكن هذا التعلق تعصبا فارغا كالذي يعتري البعض حبا في البطولة، وتحيزا للشجعان، وإنما كان التزاما بالإسلام، وحبّا فيمن يعمل به، ويدافع عنه، فصار يلتزم الصلاة في المساجد، ولا يصاحب من الأقران إلا من شابهه في حبّه للمجاهدين، ونصرته لهم.

 

لم يطل عليه الزمن حتى وجد ساحة الجهاد قد اقتربت من دياره، وحتى صارت جبهات القتال على بعد أميال قليلة من مسكنه في مدينة القامشلي، فما طاب له القعود، ولا عاد يحتمل البعد عن إخوان كان يرجو الله أن يلقاهم وهو لا يعرف عنهم إلا صورا في الإصدارات، أو أسماء وهمية في المنتديات والشبكات، فخرج من دياره مهاجرا إلى الله، ليلتحق بالمجاهدين الذين كانوا في منطقة اليعربية بعد أن فتحها الله عليهم، حيث كان جنود الدولة الإسلامية حينها يعملون تحت مسمى «جبهة النصرة» وذلك قبل غدر أميرها، وشقه للصف، ونقضه للبيعة بمن معه من الخائنين المطاعين، أو السفهاء التابعين.

 

بقي أبو جليبيب معهم أكثر من شهر، تلقى فيها ضغوطا كبيرة من أهله للعودة، فعاد إلى دياره، بعدما أوهموه أن مرتدي الـPKK قاموا باعتقال والدته لما بلغهم نبأ نفيره إلى الجهاد، فبقي مدة قصيرة متواريا عن الأنظار في مدينته، خوفا من الاعتقال، خضع بعدها لضغوط أهله بالسفر لإكمال دراسته الجامعية في الخارج، ليبعدوه عن ساحة الجهاد.

 

فتنة ومحنة..

 

سافر كارها إلى قرغيزستان، حيث كان يعمل أبوه، لتلحقهم العائلة كلها إلى هناك، ليبدأ فصل جديد من الفتنة والمحنة، فتنة الدنيا، حيث الجامعة، والمجتمع الجاهلي المنحل، وأبواب المعاصي المشرعة، ومحنة إرهاق أبويه له بالملام لصدّه عن طريق الجهاد وتخويفه من نتائجه عليه وعليهم، حيث لم يكن له من نصير في بلاد الغربة تلك سوى أشقائه الصغار الذين اهتمّ بتربيتهم على الالتزام بالدين، وحبّ الجهاد.

 

لم يغب الجهاد عن بال أبي جليبيب، ولم تحرفه فتن دار الكفر عن دينه، كما لم تنجح ضغوط أهله في إخراج فكرة النفير من رأسه، فأشغل نفسه بدراسة اللغة الصينية راجيا أن ينفع المسلمين بتعلمها، أو الدعوة إلى الله باستخدامها ريثما يهيئ الله له سبيل الهجرة والنفير.

 

وفي ذلك الوقت لم يتوقف عن نشاطه في نصرة الدولة الإسلامية، فكان من أهم المناصرين في شبكات التواصل والمنتديات، يكتب بكنى عديدة، فينشر أخبار المجاهدين، ويساهم في دعمهم إعلاميا بإنشاء الحسابات، ورفع الإصدارات، والرد على إعلام الصحوات والمرجفين والطواغيت، دفاعا عن الدولة الإسلامية، ويتواصل مع جنود الدولة الإسلامية ممن كان يعرفهم في نفيره الأول، فيستزيد من كلامهم رغبة في النفير، ويرفع ببشائرهم همّته، ويقوّي بتذكيرهم له من عزيمته على الهجرة والنفير.

 

من ضيق القعود إلى سعة الجهاد

 

كم من محنة أخفت في طياتها منحة! فمع ازدياد ضغط أهله عليه لينزع فكرة النفير من ذهنه، ويترك متابعة أخبار المجاهدين، ويتوقف عن إطلاع إخوانه على إصداراتهم، وصل الأمر به إلى درجة لم يعد يطيق فيها الصبر على أذاهم، فعزم على فراقهم، والهجرة إلى دار الإسلام، والنفير إلى ساحات الجهاد من جديد، وأعانه على ذلك تعلق أخيه الأصغر به، ورغبته في أن يكون صاحبه في طريق الهجرة، ونصيره في أرض الجهاد.

 

خرجا من بيتهما لا يعرفان أين يتوجهان، فأمضيا يومهما تائهين في المدينة، لا يدريان كيف يبدآن رحلة الهجرة إلى الشام التي تفصلهم عنها آلاف الأميال، ولا يملكان من تكاليف الرحلة ما يعينهما عليها، بل إنهما اضطرا إلى بيع هواتفهما ليشتريا بأثمانها الطعام والشراب.

 

وبينما كانا يستريحان في أحد المساجد، منّ الله عليهما بأحد المسلمين دلّهم على الطريق، وآزرهم بما استطاع من المال الذي جمعه لهما، فأكملا ثمن تذاكر الطائرة إلى تركيا، ومنّ الله عليهما بمسلم آخر رأى فقر حالهما فأمدهما من المال ما يمكّنهما من عبور الحدود حتى دخلوا مناطق خارج سيطرة الدولة الإسلامية، ومنها عبرا بسهولة إلى مناطق الدولة الإسلامية فلم يشتبه المرتدون بهما لصغر سنهما، ولكون أوراقهما تثبت أنهما من أهل البلاد، فيسر الله وصولهما إلى دار الإسلام بعد رحلة طويلة، كان أنيسهم فيها دعاءهم «اللهم دبّر لنا فإننا لا نحسن التدبير».

 

من ناقل للأخبار إلى صانع للأحداث

 

أنهى أبو جليبيب دوراته الشرعية والعسكرية، ليتم تفريغه للعمل الإعلامي بعد فترة من الرباط، وبعد تزكيته من قبل من يعرفه قبل النفير، وممن صاحبه في المعسكرات والرباط، فيصبح فردا من أفراد المكتب الإعلامي لولاية البركة، ويكون شعلة نشاط وحيوية بين إخوانه الإعلاميين.

 

كان متعدّد المواهب، فقد استغل فترة استعداده للنفير بالتدرب على عدّة برامج حاسوبية لتصميم الصور وتعديلها، وإخراج الإصدارات المرئية، كما كان صاحب ملكة في فن التصوير طوّرها بحضوره دورة في التصوير الاحترافي داخل الدولة الإسلامية، ليتفرغ بعدها لهذا المجال، ممضيا وقته مع دواوين الولاية في تغطية نشاطاتها، ومنشغلا مع المرابطين في الثغور في تغطية أخبارهم، ومع الاستشهاديين في تسجيل وصاياهم.

 

وما إن يسمع هيعة للحرب إلا ويمضي إليها يبتغي الموت مظانّه، فيدخل منغمسا مع الجنود المقتحمين ليغطي غزواتهم وينقل للمسلمين صور بطولاتهم، فشارك في الاشتباكات، وصبر تحت دوي القنابل وأزيز الطائرات، وثبت مع إخوانه محاصرا معهم مرّات ومرّات، ولم تقعده الإصابات عن متابعة جهاده، ومضاعفة جهده، بل كان لا يأخذ من النقاهة إلا ما يكفيه للنهوض من جديد والعودة لساحات القتال، ومنازل الأبطال، وكانت أطول فترات انقطاعه عنها أسابيع قليلة قضاها طريح الفراش بعد إصابته بشظية قذيفة هاون سقطت بجواره في معركة (تل تمر) واخترقت صدره ومزّقت رئته، وفور استقرار حالته عاد للعمل داخل المكتب في التصميم وصنع الإصدارات ونشر الأخبار، حتى عاد للعمل الميداني مصورا ومخرجا.

 

اليوم نلقى الأحبة..

 

بعد انحياز جنود الخلافة من مدينة الشدادي، عُيِّن أميرا على المكتب الإعلامي في ولاية البركة، حيث كانت المعارك لا تزال على أشدها بين جنود الرحمن وأولياء الشيطان جنوب المدينة، وكان أبو جليبيب على عادته التي لا يفارقها لصيقا بالجبهات، مخالطا لسرايا الانغماسيين وكتائب الاقتحامات، لا تبعده عنهم متطلبات العمل، ولا تشغل باله الإمارة، ولا تلهيه العروس التي لم يمض على بنائه بها فترة طويلة، فكانت نهايته بينهم، أثناء عمل عسكري في قرية (كشكش جبور) حيث استهدفته طائرة صليبية بصاروخ، أحال جسده أشلاء، لينال -بإذن الله- ما تمنّى، ويلحق بإخوانه الذين سبقوه من إعلاميي ولاية البركة، أبي الحارث الجوالي، وأبي عبيدة الزبيدي، وأبي عمر غريبة، وأبي البراء الطائي، وأبي جعفر الحسيني، وأبي طارق الهول، وأبي حمزة الأنصاري تقبلهم الله جميعا في الشهداء، وأحسن لهم الجزاء.

 

رحل أبو جليبيب وإخوانه الإعلاميون، ولسان حال كل منهم يقول: لقد شربت كلماتنا من دمائنا، ولقد صدقنا ما عاهدنا الله عليه، ومضينا فيما دعونا الأمة إليه، فقضينا نحبنا، ولا زال منا من ينتظر، وما بدلنا تبديلا، ولن يبدلوا تبديلا، نحسبهم جميعا كذلك، ولا نزكي على الله أحدا.

 

رحلوا جميعا، بعدما اقتحموا أرواحنا، واحتل كل منهم حيزا كبيرا من نفوسنا، رحلوا وما تركوا لنا إلا الذكريات الجميلة، وسيرهم العطرة، التي نرويها لمن بعدهم، حتى يأذن الله أن نلحق بهم، فنصير أمثالهم، نسأل الله أن يتقبل منا ومنهم.

 

 

 

 

 


 

17- العدد 036 - الثلاثاء 16 رمضان 1437 هـ

أبو فاروق الحسيني «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر»

لم يكن فقد عينه وإحدى يديه في مسيرة جهاده في سبيل الله وما لاقاه من مصاعب وعوائق إلا من أسباب ثباته على هذا الطريق الصعب، رجل نذر نفسه وكل ما يملك رخيصا في سبيل الله

 

فكان من أوائل من قارع الصليبيين منذ وطئت أقدامهم النجسة أرض الرافدين. أبو فاروق الحسيني من الثلة القليلة الصادقة -كما نحسبهم- التي قاتلت برفقة الشيخ عمر حديد -تقبله الله- في الفلوجة.

 

شهد أبو الفاروق أحداث معركة الفلوجة الأولى، وقُدّر له أن يتعرض لغارة جوية صليبية، نجا فيها من القتل ولكنه فقد يده اليمنى، لتبدأ مسيرة الابتلاءات، فقد ابتلاه الله تعالى بفتنة الأسر لدى أعداء الله في سجن بادوش، وحُكم عليه بالسجن ست سنوات، ولكن الله فرّج عنه حينما حرّر المجاهدون السجن، فعاد إلى صفوف إخوانه في ولاية الفلوجة من جديد، يناجز أعداء الله ويثخن فيهم، حتى ابتلاه الله من جديد بقصف من طائرة رافضية، تستهدف نقطة رباطه ببرميل متفجر، سقط على مقربة منه، وكما نجّاه الله في تلك الغارة نجّاه في هذه أيضا، لكنه سبحانه كتب له أن يفقد عينه اليسرى على إثر الانفجار الشديد.

 

حبه لابنتيه الصغيرتين لم يمنع قلبه من التعلق بالعمليات الاستشهادية بعد أن سبقه إليها أخوه الشقيق، فهو يقول: «بعد أن منّ الله على أخي أبي هيثم بالوصول إلى تجمع للجيش والصحوات في منطقة العامرية، وتفجير عجلته المفخخة في أوساطهم ليمزق أشلاءهم ويحيلهم أثرا بعد عين مبتغيا مرضاة الله، زادت عزيمتي على أن أكون ضمن قوافل الاستشهاديين وقوائمهم»، وبالتزامن مع المعارك التي خاضها أبو فاروق مع أعداء الله كان يخوض معركة ثانية لكنها من نوع مختلف يتحدث أبو فاروق عن معركته الجديدة: «ومنذ أن فكرت بتسجيل اسمي في عملية استشهادية ووساوس الشيطان تلاحقني، كيف تترك أهلك وكيف تترك ابنتيك الحبيبتين وكيف ستواجه هذا الموقف العظيم؟»، وما إن حان موعد تنفيذ العملية الاستشهادية حتى ثبّت الله قلبه في موقف كان يرقبه، حيث يقول أبو فاروق واصفا اللحظات الأخيرة في داخل منزله: «ودّعت أهلي جميعهم وجعلت ابنتي أمينة التي أحبها حبا جمّا آخر من أودّعه، فاحتضنتْني وبكت وأطلقت سهما من الألم في داخلي حين قالت ودموعها تتساقط: أبي لا تتركني. لكنني عزمت على لقاء ربي ومواصلة المسير، فقد حان وقت الإثخان بأعداء الله، واللحاق بركب الشهداء. وعند خروجي من البيت بادرتني زوجتي بالقول: لمن تتركنا؟ قلت: لله الواحد الأحد، فقالت: ونعم بالله، اذهب على بركة الله».

 

يقول صاحبنا الذي آمن يقينا أن الله جعل لكل نفس أجلاً، لا يُقدَّم ولا يُؤخَّر: «حينما وصلتُ لعجلتي المفخخة التي عزمت أن أنفّذ فيها، دعوت الله -عز وجل- وبكيت، وقلت: يا رب، إني عبدك الضعيف الفقير، ها أنا ذا أتبرأ من حولي ومن قوتي إلى حولك وقوتك» ويضيف واصفا لحظة الانطلاق: «عندما حان المسير سمعت صهيل خيل في أذني، وأشهد الله على ذلك، ولم يكن ثمة خيل، فانطلقت حتى وصلتُ رتلا للمرتدين، فاصطدمتْ عجلتي المفخخة بعجلة للمرتدين، فانفجر «كيس الهواء» الذي في مقود العجلة (الإيرباك)، فضغطت على زر التنفيذ ثم فقدت الوعي، لأستيقظ بعد أن قذفتني قوة الانفجار عند جهاز النداء وأنادي على الإخوة، لأجد نفسي بعد ذلك في المستشفى، ليس بي إلا رضوض في اليد وجروح بسيطة في كفي».

 

لكن أخانا أبا فاروق المقبل على الآخرة أيما إقبال، دفعه شوقه إلى ربه إلى أن يعزم من جديد على إعادة الكرّة، ولكن هذه المرة بعملية انغماسية استشهادية مع حبيبه ورفيقه أبي بلال الأنصاري، فبعد التوكل على الله والأخذ بالأسباب انطلق أبو فاروق يقود العجلة المفخخة وعلى ظهرها سلاح رشاش ثقيل استلمه أخوه أبو بلال، حتى اقتربا من الهدف، وفتحا الطريق وتوغلا في عمق تجمعات وآليات مشركي الحشد الرافضي، وفجرا السيارة بعد أن نكلوا فيهم وشردوا بهم من خلفهم، ليلحقا بمن سبقهم من الصادقين، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، كما نحسبهم والله حسيبهم.

 

 

 

 

 


 

18- العدد 037 - الثلاثاء 23 رمضان 1437 هـ

أبو سهل الأردني من التبعية لشيوخ الطاغوت.. إلى قيادة كتائب الموحّدين

المدينة التي خرج منها الطيار الأردني المرتد معاذ الكساسبة، لقصف وحرب الدولة الإسلامية، خرج منها أبو سهل الأردني قبله بسنوات، نصرةً للدولة الإسلامية وحرباً على أعدائها، وإعداداً وتهيئةً لفتح الأردن والمضي إلى بيت المقدس، بإذن الله.

 

ولد الفارس الداعية السهل مع إخوانه، العسر على أعدائه، المحب لله (وهو اسم أبي سهل الحقيقي) في مدينة الكَرَك الأردنية عام 1411 هـ، في بيت أدب وخلق والتزام وحشمة، ونشأ -رحمه الله- في ظل هذا البيت نشأة حسنة صالحة.

 

كان ذكياً متفوقاً في دراسته، فتيسّر له أن درس التمريض في (جامعة مؤتة) في الكرك، وتخرّج في الكلية بتقدير جيد، وكان في ظل دراسته الثانوية والإعدادية يتعلم في البيت الصالح على يد أبيه وأصدقائه العلم الشرعي، ويكثر من سماع الأشرطة الدعوية.

 

وكانت عنده رغبة جامحة للدعوة إلى الله، حتى صار إماما وخطيبا، وداعيا شفوقا في قومه، وكان جلّ دعوته آنذاك في الترغيب بالجنة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، والترهيب من النار والمعاصي وسوء الخلق.

 

كان محبوبا عند الخاصة والعامة، والقريب والغريب، حسن الخلق، رقيق القلب، سليم الصدر، سهل الشكيمة، صاحب حياء وأدب، محبا لإخوانه وخلوقا مع خلّانه، مشفقا على الفقير والمسكين والضعيف، معينا لأقاربه وأصحابه على نوائب الدهر، وذاع صيته بين الناس على ذلك.

 

من ظلمات الجهميّة إلى ضياء التوحيد

 

شاء الله أن تكون حياة أبي سهل الجامعية هي محطة تحوّل شخصيته، حيث وقع في فخاخ بعض مرجئة العصر وجهمية الزمان، بعد أن أحسن الظن بهم في أول الأمر لشدة تعلّقه بالسنة والأثر وحرصه على طلب العلم الشرعي، فصاحب بعضا من طلاب الجهمي الخبيث (مشهور حسن)، وشيخ الطاغوت ورأس الجهمية في الشام (علي بن حسن الحلبي)، أخزاه الله وأهلكه.

 

حتى قدّر الله هداية أبي سهل الأردني، وخروجه من أحضان الجهمية الجدد في الأردن، المتخفّين تحت ستار وشعار السلفية، وذلك بعد أن هيّأ له بعضا من أهل التوحيد وأنصار المجاهدين، فدلّوه على الطريق المستقيم، وبينوا له كذب أدعياء السلفية وضلالهم، وقد أثّر فيه كلامهم، وخاصة بعد أن حضر مناظرات بينهم وبين شيوخ التجهم والإرجاء، فطفق بعدها يبحث عن الحق ويلتمس الأدلة إلى أن هداه الله إلى ترك أولئك الضالين والتوبة عن سلوك طريقتهم المنحرفة.

 

الصدع بالتوحيد والبراءة من الطاغوت وأهله

 

بدأ أبو سهل الأردني يطلب التوحيد ويتعلم الولاء والبراء، ويدرس مسائل الأسماء والأحكام، وأصول الاعتقاد وفقه الجهاد، وشرع يأخذ الدين القويم بقوة، وبعد أن ثبت له بالأدلة الشرعية كفر طاغوت الأردن وجنوده وعساكره وشرطه وسائر أجهزته الأمنية، وسائر طواغيت العرب العملاء لليهود والصليبيين، المبدّلين لشرع الله المتين، صار يكفرهم ويبرأ منهم، ويعاديهم ويدعو إلى تكفيرهم وعداوتهم، بعد أن كان يسميهم ولاة أمر المسلمين ويعتقد طاعتهم بفعل تلبيس المضلّين.

 

وصار يدعو إلى التوحيد والكفر بالطاغوت، وكانت منطقته معروفة بكثرة انتساب أبنائها إلى الجيش والشرطة والمخابرات الأردنية، بل منهم من كانوا وزراء وضباطا «كبارا»، يستعين بهم طاغوت الأردن في محاربة الإسلام وحراسة اليهود، فكان -رحمه الله- يحذّر الناس من الدخول في هذه الردّة، ويناصح الجنود المرتدين ممن يعرفهم بذلك، حتى هدى الله على يديه وعلى أيدي إخوانه، أحد حراس اليهود من الجيش الأردني العميل المرتد، فترك هذا الجندي الجيش، وأعلن توبته، ونفر للجهاد مع الدولة الإسلامية، ثم نفّذ عملية استشهادية في العراق.

 

وقد كان أبو سهل الأردني، حريصا على هداية أهله وقومه ودعوتهم إلى التوحيد والجهاد، فيسر الله على يديه هداية أخيه الأكبر مهندس الكهرباء، فنفر بعده إلى الجهاد ولحقه إلى الدولة الإسلامية، ثم نفّذ عملية استشهادية على الرافضة في العراق أيضا، تقبله الله.

 

مع الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا

 

وعندما يسّر الله لأبي سهل الهجرة، ودخل أول بيت أقلَّه في الشام، خرّ لله ساجدا شاكرا، ثم شرع في نصرة دين الله، وبدأ بأحب عمل إلى قلبه، ألا وهو الدعوة إلى التوحيد والجهاد، فبعد أيام قلائل من هجرته، خطب خطبة الجمعة على أحد منابر ريف حلب الشمالي، فما أنهى خطبته حتى أبكى الحاضرين، وحرضهم على اللحاق بالمجاهدين، فنفع الله به من أول مسيره في الجهاد، وأقبل عليه كثير من الناس، ثم نشط بعدها في ريف حلب وأقام عدة دروس ودورات وندوات.

 

ثم يسر الله له أن يعمل في مجال تخصصه (التمريض)، أميراً على مجموعة طبية في أشد جبهات ولاية حلب في ذلك الحين حربا وقتالا، المعروفة باسم (دويرينة والسكك)، فكان مطبباً للقلوب والأبدان، يدعو المجاهدين ويعلمهم ويحرضهم ويفتيهم، ويطبب أبدانهم ويسعف مصابهم، ويرابط معهم في الثغور... كل ذلك في همة ونشاط وعزيمة وحركة دائمة، وبشاشة لائحة على وجهه لا تفارقه حتى في أشد الأوقات، مع مزاح قليل، لتطبيب قلب العليل.

 

برزت شخصية الشيخ أبي سهل الأردني بين إخوانه المجاهدين، بما حباه الله من ذكاء وفطنة وحسن تدبير وتواضع، فتدرج في التكاليف الملقاة على عاتقه، فعمل شوطاً في ولاية حلب كداعية وواعظ وخطيب، ثم مسؤول نقطة طبية في الثغر، ثم مسؤولٍ عن مضافة كبيرة للجرحى، ثم عمل أميراً لمنطقة الراعي في ولاية حلب، بعد تطهيرها من الصحوات، جاء هذا بعد قطع شوط كبير من الجهاد والقتال في ولاية دمشق، ثم كُلِّف أميراً على منطقة أكبر في ولاية حلب، فطلب الإعفاء، خوفاً من ثقل المسؤولية، لكنّ أمراءه رفضوا ذلك، لحسن سيرته ومحبة المجاهدين له، وكُلِّف بعد ذلك، نائباً لوالي البركة، فكان نعم الأمير، ونعم الناصح المشير.

 

ومن يتّق الله يجعل له مخرجا

 

لم تكن الإمارة كبيرة على أبي سهل رغم صغر سنه، ولم يكن كبيرا عليها لتواضعه، وحسن خلقه، وكان أكثر ما تولّاه من جوانب الإمارة في الولاية متابعة المظالم، والحرص على إزالة الظلم عن كل مسلم، ورغم انشغاله بأعباء العمل الثقيلة لم يترك وظيفته الأساسية في الدعوة إلى الله، فلا يترك اجتماعا مع الأمراء أو الجنود إلا ويذكرهم بالله، ويلقي فيهم كلمة يحضهم فيها على التقوى والثبات على التوحيد، واستمر في الخطبة في المساجد والصلاة بالناس لينفعهم بما لديه من علم، ويؤنسهم بصوته الجميل العذب.

 

وكان آخر ما تحمّله من مسؤوليات تكليفه إدارة القاطع الشرقي لولاية البركة الممتد بين بلدتي الهول وتل حميس، الذي كان فيه في ذلك الوقت أهم جبهات القتال ضد التحالف الصليبي وملاحدة الأكراد، فعمل على إعادة تنظيم الصفوف بعد انحياز المجاهدين من منطقة تل حميس، والإشراف على التجهيز للعمليات العسكرية ضد المرتدين.

 

وفي الوقت الذي نشطت فيها سرايا الانغماسيين في تبييت ثكنات المرتدين بالإغارات الليلية وإثارة الرعب في صفوفهم، لم يكن لأبي سهل أن يتخلف عن إخوانه في ذلك، فأصرّ على المشاركة في الانغماس خلف خطوط العدو، والانغماس في ثكناتهم فكان له ما أراد.

 

وبعد أن تقدمت السرية التي كان ضمنها خلف خطوط دفاع المرتدين لمسافة طويلة سيرا على الأقدام، بدأت عملية التسلل إلى إحدى ثكناتهم، حيث اشتبك المجاهدون مع أحد كمائن الملاحدة التي نشروها خلف خطوطهم لتصيد الانغماسيين، فقتل المجاهدون الكثير من عناصر الكمين، وانسحبوا من المكان قبل أن تصل المؤازرات، فلمّا تفقد العائدون بعضهم بعضا افتقدوا أميرهم أبا سهل، ليتبين لهم بشهادة أحد الجرحى أنه قتل أثناء الالتحام مع الملاحدة باشتباك قريب، فتقبله الله مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.

 

وبعد مقتله -تقبله الله- وصلت رسالة قديمة بخط يده إلى أحد إخوانه ممن رافقه في طريق الدعوة في الأردن، وفي طريق الهجرة إلى الدولة الإسلامية، يشكو إليه فيها ما حُمِّل من تكاليف الإمارة، وكان مما جاء فيها: «وإنّي ابتليت بأمر جلل، وأسأل الله أن يعينني، وأن يجعل لي مخرجا، وبإذن الله سأزورك في أقرب فرصة، وإن لم يقدّر الله اللقاء في الدنيا، فأسأل الله أن نلتقي في مقعد صدق عند مليك مقتدر».

 

غزوة أبي سهل الأردني

 

وتقديرا من إخوانه له، وإكراما لسيرته، فقد أطلقوا اسمه على واحدة من أكبر غزوات جيش الخلافة، وهي عملية اقتحام مدينة البركة العام الفائت، التي سُمِّيَت (غزوة الشيخ أبي سهل الأردني تقبله الله)، وقدّر الله أن يلحق فيها الكثير من إخوان أبي سهل به في تلك الغزوة المباركة.

 

نسأل الله أن يتقبل أخانا، وأن يلحقنا به، وأن يهيئ لنا من شباب الأردن الموحّدين من يتابعون السير على خطاه في الدعوة إلى التوحيد وجهاد الطواغيت وأذنابهم، إنه على ذلك قدير.

 

 

 

 

 


 

19- العدد 039 - الثلاثاء 14 شوال 1437 هـ

جبل من جبال القوقاز... شمخ في أرض الخلافة
الشيخ عمر الشيشاني

إن الابتلاء بالخير فتنة لا يثبت فيها إلا من أنجاه الله بإخلاصه وإرادته الآخرة، فكثيرون هم الذين ثبتوا أمام أهوال من الابتلاءات بالشر من سجن وتعذيب ومطاردة، حتى إذا زال عن أحدهم ذلك وفُتحت عليه الدنيا، وابتلاه الله بزينتها سقط في الامتحان وهو يحسب أن ما أوتيه من إكرام ونعم إنما هو جزاء على صبره في المحن، ناسيا أن هناك أوجهًا أخرى للابتلاء قد يصبر على بعضها، ويكفر عندما يعرض على غيرها.

 

وإن من أروع قصص الثبات أمام الفتن والابتلاءات وشكر الله على نعمه بمزيد من العمل والطاعات، قصة الشيخ عمر الشيشاني تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا من عباده.

 

هاجر ذلك الشاب الذي لا زال في زهرة عمره وأول شبابه إلى الشام، ملبّيا استغاثات المسلمين من أهلها، وراجيا أن يكون بهجرته إليها من الذين ذكرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده)، واستقر به المقام في مدينة حلب مقاتلا في صف إحدى الكتائب التي كانت تزعم أنها على منهج التوحيد، فعمل فيها فترة من الزمن، قبل أن يلتقي بمجموعة من المهاجرين القوقازيين كانوا في مجموعة أبي محمد العبسي -تقبله الله- (مجلس شورى المجاهدين) الذي أذن لهم بالخروج من كتيبته، وبهذا اجتمع بضعة عشرات من المهاجرين شكلوا فيما بعد (كتيبة المهاجرين)، كان عمر أميرها العسكري، ثم صار أميرها العام.

 

لم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى أصبح عمر وكتيبته يصولون ويجولون في ساحات القتال المختلفة في الشمال، ومع كل معركة خاضوها، كانت سمعة (كتيبة المهاجرين) تزداد، لحسن تنظيمها في القتال، وبراعة مقاتليها، في الوقت الذي كان المقاتلون من أغلب الفصائل الأخرى قليلي الخبرة، عشوائيين في قتالهم ومعاركهم، ومع ازدياد شهرة (المهاجرين) وازدياد انضمام المجاهدين إليها، كان اسم أميرها عمر الشيشاني يزداد انتشارا، وخاصة بعدما فتح الله عليه في عدة غزوات أشهرها في ذلك الحين فتح كتيبةٍ حصينةٍ للنظام في منطقة (الشيخ سليمان) شمال حلب، التي شاركت فيها (المهاجرون) إلى جانب كتائب (البتار) و(مجلس شورى المجاهدين) وجنود الدولة الإسلامية الذين كانوا يعملون حينها بمسمى (جبهة النصرة)، كما شاركت (المهاجرون) في أغلب الغزوات في ريف حلب كغزوة (الطعانة) و(خان طومان) و(اللواء 80) و(كتيبة حندرات) و(الجندول) و(سجن حلب المركزي) وغيرها، ومع كل فتح جديد يكبر حجمها ويتحسن تسليحها، فصار عمر الشيشاني قائدا لواحدة من أكبر الكتائب في الشام، التي تتنافس الفصائل على كسب ودها، وتتمنى القتال إلى جانبها.

 

ولكن عمر -تقبله الله- كان مستعدا في كل لحظة أن يتنازل عن ذلك كله ويكون جنديا لدى من يثق بعقيدته ومنهجه، ولم يكن حينها من هم أفضل من (جبهة النصرة) لينضم إليها بجنوده، مع عدم علمه بتبعيتها للدولة الإسلامية، حيث كان القائمون عليها حريصين على إخفاء ذلك لمآرب في أنفسهم فضحها الله فيما بعد، ولما عرض عليه أبو أثير الحلبي -تقبله الله- أن يتوحّد (مجلس شورى المجاهدين) مع (كتيبة المهاجرين) أجابه عمر بعرض آخر هو أن ينضم كلاهما إلى (جبهة النصرة) توحيدا للكلمة وتقوية لصف المجاهدين، لكنّ أبا أثير رفض ذلك لعلمه بانحراف منهج القائمين على الجبهة آنذاك، وسوء أخلاقهم، حيث كان مجاورا لهم في السجن، وخبر معادنهم في السراء والضراء، وخاصة في قصة الاستعصاء الشهير في سجن صيدنايا.

 

وأوّل المواقف التي كشفت له حقيقة أولئك الغادرين هي مشاركته لهم في غزوتي (الشيخ سليمان) و(كتيبة الطعانة) حيث اغتنم الفاتحون غنائم كثيرة وضعوها في يد القائمين على (جبهة النصرة) لحسن ظنهم بهم، حيث تفاجؤوا بخيانة هؤلاء للأمانة، فأكلوا نصيبهم بالباطل، وتلاعبوا بكميات الأسلحة المغتنمة، وحتى الجزء القليل الذي أقرّوا به حقا لهم، ماطلوا في توزيع حصص الكتائب المشاركة منه لشهور، بل وعملوا على ابتزازهم فيما بعد بذلك للضغط عليهم من أجل أن يبايعوهم، فلما أيسوا من ذلك صاروا يساومونهم بها لصدّهم عن بيعة أمير المؤمنين بعد أن أعلنت الدولة الإسلامية تمددها إلى الشام رسميا.

 

ورغم هذه المشكلة عرض الغادر الجولاني البيعة على عمر وكتيبته، مستشفعا لتحقيق ذلك بكل من الحاج سلام وأبي أسامة المغربي -تقبلهما الله- لعلمه بحب عمر لهما، فاجتمع عمر بمجلس شوراه واتفقوا على أن تكون بيعتهم للجولاني (الذي بدأ حينها يأخذ البيعة لنفسه) مقتصرة على القتال، وذلك لكي يدرسوا الجبهة عن قرب خلال مشاركتهم معهم في القتال، وحصل اللقاء الذي قدّر الله أن يكون كاشفا لصفة أخرى للخبيث الجولاني غير خيانته في قصة الغنائم، حيث جلس في اللقاء مزهوّا بنفسه، وخاطبهم بكبر وعنجهية، رافضا أي اشتراط في البيعة التي هو من تقدم بعرضها عليهم، فكان أن وقاهم الله من استدراج ذلك الخبيث بما رأوه من سوء طبعه.

 

انحرافات الجولاني وزمرته كانت قد بدأت تبلغ مسمع أمير المؤمنين -حفظه الله- الذي لم يجد بدا من الحضور بنفسه لإصلاح ما أفسده المفسدون، وبذلك تهيأت الفرصة لعمر الشيشاني وإخوانه لمقابلته، حيث بايعه بعد أن جلس معه ووجد من صفاته ما أقر عينه، وذلك بعد إعلان تمدد الدولة الإسلامية رسميا إلى الشام، وقبل الشيخ من (كتيبة المهاجرين) اشتراطهم تقديم الدعم للمجاهدين في القوقاز وسرّه ذلك، وقال: لا خير فينا إن لم ننصر إخواننا، وصار عمر الشيشاني بذلك جنديا من جنود الدولة الإسلامية، وهنا دخل -رحمه الله- في مرحلة جديدة من الابتلاء.

 

فتنازله عن استقلال كتيبته القوية، وتحوله إلى جندي عليه السمع والطاعة لأميره، لم يكن بالأمر السهل، وقد ظهر بين صفوف (كتيبة المهاجرين) من يريد الانفصال حفاظا على سراب الإمارة ومكتسباتها التي زالت ببيعة الدولة الإسلامية حيث صار الجميع جنودا فيها، وهنا كان رد عمر واضحا بالثبات على بيعته، ورفضه نقض العهد، ووضعه كل ما تحت يده من سلاح وجنود وممتلكات تحت تصرف الدولة الإسلامية، وهكذا بقي دعاة الفتنة لوحدهم، وترك لهم عمر اسم الكتيبة الذي لم يغن عنهم شيئا، إذ ما لبثوا أن انفض الناس عنهم وتركوهم، بل تعرضوا للمذلة والمهانة، ورفع الله ذكر من تواضع لله، وهم زال ذكرهم، والحمد لله.

 

الجانب الآخر من الابتلاء تمثل في عروض أهل الفتن من أصحاب الدعم الذين يوجههم مشايخ السرورية والإخوان وتحركهم مخابرات الطواغيت، ومن بينهم الخبيثان حجاج العجمي وعبد الله المحيسني، ففور انتشار خبر بيعته لأمير المؤمنين هرع الداعمون إلى عمر يحاولون إغراءه بالمال، حتى عرضوا عليه تمويلا شهريا بمئات الآلاف من الدولارات لقاء نقضه البيعة، لكنه رفض دولاراتهم الرخيصة، ليؤكد أنه بايع رغبة في الجماعة إرضاء لله، لا طلبا للتمويل أو الدعم.

 

فلما فشلت وسائل الضغط التي بأيديهم من التحريض عليه، وإغرائه بالمال، انطلقوا في حملة لتشويه سمعته مستعينين بإخوانهم من شياطين الإنس ممن جعلوا أنفسهم أوصياء على الجهاد في الشيشان، فأشاعوا أنه صليبي عميل للمخابرات الروسية، وبنوا شبهتهم التافهة على قضية أنه ولد في جورجيا من أب نصراني، رغم أن هذا ليس بمطعن فيه وإلا جاز الطعن في كل مسلم وُلد لأبوين كافرين، وأخفوا في الوقت نفسه حقيقة أنه شيشاني الأصل، وأن أباه تنصّر في صغره، وكذلك ركّزوا على خدمته في الجيش الجورجي، مخفين حقيقة أنه تبرّأ من ذلك الجيش الصليبي بعد خدمة قصيرة، انتهت بسجنه، وتعرضه للتعذيب والمرض، حتى خسر إحدى رئتيه في السجن، وأنه كان من المناصرين للمجاهدين في القوقاز، وأنه بقي على ارتباطه بمجاهدي القوقاز وأن أحد الشروط التي رفضها الجولاني كانت تقديم الدعم لمجاهدي القوقاز، وأنه كان يُراسل أمراءهم يحثّهم على إعلان البيعة لأمير المؤمنين.

 

وكما أن عمر الشيشاني لم يبال باسم كتيبته المشهور وتخلى عنه في سبيل توحيد جماعة المسلمين، فإنه لم يبال باسمه وشهرته، وطعن الحاقدين في عرضه، وهم من كانوا بالأمس يمتدحونه ويثنون عليه، ويسبغون عليه الألقاب الرنانة، بل زاد تعلقه بالجماعة وحرصه على الدولة الإسلامية، وصار يدعو الكتائب والفصائل إلى اللحاق بها، فكانت بيعته وبيعة أبي أثير -تقبلهما الله- محرضا لمجاهدي (كتيبة البتار) على البيعة، ليلحق بهم أبو مهند حسان عبود ومجاهدو (لواء داود) وغيرهم من المجاهدين والكتائب.

 

وكما فتح الله على الشيخ عمر في غزواته مع (كتيبة المهاجرين)، فتح الله على يديه بعد البيعة فتوحات أكبر على رأسها تحرير (مطار منّغ) شمال حلب مع أبي أسامة المغربي، تقبله الله، (ومستودعات الحمراء) في ريف حماة الشرقي مع عابد الليبي، تقبله الله، ومنّ الله على جيش الدولة الإسلامية فيهما بغنائم كبيرة، ليبدأ بعدها للإعداد لغزوات كبرى في الشام، وبعد دراسة واستطلاع طويلين ومفاضلة بين مدينتي البركة والخير، استقر الأمر على مدينة الخير، وكان الشيخ عمر هو قائد الغزوة، وفي الوقت نفسه كانت صحوات الشام تخطط للغدر بالدولة الإسلامية مستغلة انشغال جيشها بهذه الغزوة الكبرى، بالإضافة لجبهات القتال الطويلة في حلب وإدلب والساحل، حيث لم يبق في مقراتها غير عدد قليل من المجاهدين.

 

خرجت الصحوات وأعلنت غدرها، وقطعت الطرق، واعتُقل مجاهدو الدولة الإسلامية على الحواجز، وحوصر كثير منهم في ريف حلب، وهنا لم يعد بُدٌّ من إيقاف غزوة الخير رغم أهميتها وضرورة التوجه لاستنقاذ الإخوة المحاصرين، فحشد الشيخ عمر المقاتلين وسحبهم من ولاية الخير مرورا بولاية الرقة حيث كان مقاتلو فصائل الصحوات من أمثال جبهة الجولاني و«أحرار الشام» يظهرون أن لا علاقة لهم بغدر إخوانهم في حلب وإدلب والساحل، فوثق فيهم الشيخ عمر وأفرغ الرقة من المجاهدين ليأخذهم معه لفك الحصار عن الإخوة في مدن ولاية حلب، فما كان من مرتدي الصحوات إلا أن غدروا بمن بقي في مدينة الرقة من المجاهدين فور خروج الرتل الذي قاده الشيخ عمر، ليخزي الله المرتدين ويفشل عملهم ويهربوا من الرقة باتجاه ولاية الخير.

 

وفي الطريق تعرض الشيخ عمر ومن معه من المجاهدين لحادثة غدر من «أحرار الشام» قرب بلدة مَسْلَمَة، حيث طلبه المرتدون للتفاوض بعد أن حاولوا قطع طريق وصوله إلى حلب، وفي طريقه إليهم نصبوا له كمينا، وبعد أن نجاه الله منهم جاءه الخبيث الهالك أبو خالد السوري ليعقد معه اتفاقا لعبور قواته إلى حلب وذلك خوفا من عبورهم بالقوة، واستيلائهم على مطار الجراح الذي كان بيد المرتدين، وهكذا عبر الشيخ عمر وإخوانه إلى ريف حلب الشرقي ليفكوا الحصار عن الإخوة في مدن منبج والباب وجرابلس، ويعينوا المحاصرين في حريتان على فك الحصار عن أنفسهم والوصول إلى اعزاز ومنها إلى مناطق تمكين الدولة الإسلامية في حلب والرقة والبركة.

 

ولم تكن حرب الصحوات لتنتهي حتى فتح الله على عباده الموحدين مدن العراق التي تساقطت واحدة تلو الأخرى بعد فتح الموصل، وعادت الخلافة في الوقت الذي كان فيه الشيخ عمر مشغولا بالإعداد لواحدة من أكبر الغزوات في الشام كاد هدفها أن يكون إزالة كافة نقاط النظام النصيري القريبة من مناطق الدولة الإسلامية، التي حاصرتها الفصائل لسنين، وانطلقت الغزوة التي شملت (الفرقة 17) و(اللواء 93) و(مطار الطبقة) في ولاية الرقة، و(الفوج 121) في ولاية البركة، و(مطار كويرس) في ولاية حلب، وكانت نتيجتها فتح كل تلك القواعد العسكرية وقتل وأسر الآلاف من جنود النصيرية، واغتنام كميات كبيرة من السلاح ومستودعات ممتلئة بالذخيرة، في حين لم يتم العمل على مطار كويرس بسبب غدر صحوات الريف الشمالي وسحب القوة المخصصة للهجوم عليه لصد هجومهم.

 

وبعد هذا الفتح العظيم الذي أعقب فتوح العراق، وإعادة الخلافة، بدأت ملامح مرحلة جديدة من الصراع مع المشركين وعملائهم المرتدين تلوح في الأفق، عنوان هذه المرحلة الحملة الصليبية الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، ويعينها فيها طوائف الشرك والردة من كل جنس ولون.

 

فجاء أمر أمير المؤمنين -حفظه الله- بنقل الشيخ عمر الشيشاني إلى ولايات العراق، التي كانت قد فقدت واحدا من أعظم رجالها، وأشد محاربيها، وهو الشيخ أبو عبد الرحمن البيلاوي، تقبله الله.

 

فكان خير خلف لخير سلف، فصال في ولايات العراق وجال، محاربا لمرتدي الرافضة والصحوات والبيشمركة، أميرا لديوان الجند، وقائدا لجيش الخلافة في ولايات العراق، وبقي على هذه الحال حتى أتاه اليقين في ساحات النزال التي عشقها وتعلق قلبه بها، كما نحسبه والله حسيبه، فتقبله الله في الخالدين.

 

 

 

 

 


 

20- العدد 040 - الثلاثاء 21 شوال 1437 هـ

منفذ أول عملية استشهادية في ألمانيا
أبو يوسف الكرّار استُنفر فنفر... واستُنصر فنصر

لا يمكن لمن عرف التوحيد أن يطيق العيش بين المشركين مسالما لهم، ولا لمن عرف الجهاد، وجاهد في سبيل الله مخلصا أن يطيب له القعود بعيدا عن ساحات الجهاد، ولا لمن عاشر الموحدين المجاهدين في سبيل الله أن يستبدل بهم أنيسا من البشر، فتراهم يرجون أن يموتوا على ما عليه أهل الجهاد، فقد عرفوا عظم ثوابه، وذاقوا حلاوته التي لم يجدوا مثلها في متاع الدنيا الزائل. ومن هؤلاء الاستشهادي البطل أبو يوسف (محمد دليل) تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا من عباده.

 

تعلّق قلبه بالجهاد مبكّرا، وأعانه الله على النفير، فالتحق بمجاهدي دولة العراق الإسلامية، وبقي بينهم شهورا، ثم رجع إلى مسقط رأسه في مدينة حلب قبل أن يُفضَح أمرُ غيابه وتبحث عنه مخابرات النصيريين، فعاد ليسكن في منزله في حي (حلب الجديدة) ويعمل في دكان لوالده، دون أن يلفت الأنظار، وساعده في ذلك -بعد لطف الله به- ما اعتاد عليه من الاحتياط والحذر واتخاذ ما يستطيع من الإجراءات الأمنية.

 

ومع بدايات الجهاد في الشام ضد النصيرية، شكّل مع بعض رفاقه خلية أمنية جهادية، تخصصت بإلقاء القنابل والزجاجات الحارقة على مقرات النظام النصيري، واستهداف آليات جنوده وعناصر أمنه، ثم تنقّل بين عدد من الفصائل المقاتلة، لكنه لم يستطع البقاء في صفوفها لما كان يراه من فساد في عقيدتها وانحراف في أخلاق عناصرها، إذ كيف له أن يرضى بمخالطة هؤلاء وقد خاض تجربة الجهاد مع مجاهدي الدولة الإسلامية، فما كان منه إلا أن يشكّل مع مجموعة من إخوانه كتيبة أرادوا منها أن تكون على منهج أهل السنة والجماعة، وقاتل في صفوفها فترة من الزمن.

 

مع دخول مجاهدي الدولة الإسلامية إلى الشام، وانطلاق عملهم في مناطقها المختلفة تحت مسمى (جبهة النصرة)، وجد محمد وإخوانه ما كانوا يبغون فانضموا كلهم إلى الدولة الإسلامية، وقاتلوا في جبهات مدينة حلب المختلفة مع مجاهديها، إلى أن قدّر الله له الإصابة بشظايا قذيفة هاون أبعدته عن ساحات المعارك، واضطرته إلى الخروج من البلاد للعلاج.

 

أعلنت الدولة الإسلامية عن وجودها رسميا في الشام بمسمّاها الجديد (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وحدثت بعد ذلك التطوّرات المتعددة وصولا إلى مرحلة العز والتمكين بالفتوحات الكبيرة، وإعادة الخلافة، وبيعات المجاهدين من مشارق الأرض ومغاربها.

 

في هذا الوقت كان أبو يوسف يراقب الأحداث من بعيد وهو مقيم في دار الكفر أوروبا، وقد تذكّر الجهاد وعزّه، وعرف أخبار الدولة الإسلامية فازداد حبّاً لها، واشتاق إلى القتال في صفوفها من جديد، ولكن فشلت محاولاته العديدة في العودة إلى الشام للالتحاق بصفوف جيش الخلافة، فقد أُوصدت أمامه بوابات الحدود، فبقي في مكانه يترقّب، متحسّراً على ما فاته من فضل الهجرة، وثواب الجهاد، ولذة العيش تحت حكم الشريعة في دار الإسلام، ولم يجد ما ينصر الدولة الإسلامية من خلاله إلا ساحة الإنترنت، فطفق ينشئ الحسابات، التي يناصر من خلالها التوحيد وأهله، ويذب عن أعراضهم، ويعرّف المسلمين بحقيقة دولة الإسلام، حتى أذن الله أن ينصرها بالأفعال لا بالأقوال.

 

فوجد ضالته بتنفيذ وصية الدولة الإسلامية لعموم المسلمين باستهداف الصليبيين في عقر دارهم بما استطاعوا، فانطلق يبحث عن وسيلة ينكي بها في أعداء الله في ألمانيا الصليبية، فكان أول خياراته أن يكرّر ما اعتاد فعله في خليته الجهادية الأولى من إلقاء القنابل الحارقة على السيارات والمباني، فلم يحصل على ما يحتاجه من المواد النفطية اللازمة لصنع القنابل الحارقة، وكان من الخطر عليه أن يطلب كميات كبيرة منها دون أن يثير شبهة، لكونه لا يمتلك سيارة، ولأسباب أخرى، فعدل عن موضوع حرق سيارات الصليبيين وبيوتهم بهذه الطريقة البدائية، وانتقل للتخطيط لعمل أكبر وأكثر فاعلية، هو عملية تفجير وسط حشد من الصليبيين، بقنبلة مصنوعة من مواد بسيطة، يستطيع هو إعدادها بنفسه.

 

فمضى في تنفيذ خطته الجديدة بهمة عالية، وصبر كبير، وجلد في العمل عظيم، واستغرق الأمر منه ثلاثة شهور حتى أكمل تجهيز القنبلة، وصار جاهزا للتنفيذ.

 

وقد أكرمه الله خلال تلك الفترة بالستر، فلم يُكتَشَف أمره، ولم يشعر به الصليبيون، وأعميت عيونهم عنه، فلم يعلموا به إلا وهو يمسّيهم بفاجعة، ويشعل ليلهم بنار غضبه عليهم.

 

بل إن الشرطة الألمانية كانت قد دخلت المكان الذي كان يعد فيه قنبلته مرةً للتفتيش بحجة وجود أحد المطلوبين فيه، فأعمى الله أبصارهم عن العثور على القنبلة التي كان قد خبأها قبل لحظات من التفتيش، فحفظه الله من شرهم.

 

بدأ بعد ذلك رحلة البحث عن هدف يحقق أكبر نكاية في الصليبيين، فوجد ضالّته في حفلة مجون موسيقية سيحضرها المئات من المشركين، فذهب لاستطلاع المكان قبل يوم من ميعاد عمليته، ويدرس الخيارات الممكنة أمامه للتنفيذ، وفي هذه الأثناء كان على تواصل دائم مع أحد جنود الخلافة، يذكّره بالله، ويثبّته، ويشجّعه.

 

انطلق الكرّار إلى هدفه ليقطع أوصال الصليبيين بقنبلته، ويغرس ما حشاه بجوفها من شظايا في صدورهم ورؤوسهم، ولكن قدّر الله أن لا يتمكّن من الدخول إلى هدفه الذي اختاره ورصده، لحكمة يعلمها الله وحده، ولكن لم تنثن إرادة فارسنا الهمام، ولم تلن عزيمته فانطلق يبحث عن هدف بديل، يسهل عليه اقتحامه وتحقيق نكاية كبيرة من خلاله، حتى وقع اختياره على الحانة التي فجر قنبلته داخلها، موقعا عددا من الصليبيين بإصابات بليغة، ليلقى ربه، وقد مُزّقت أشلاؤه في سبيل الله، نحسبه كذلك.

 

كانت أمنيته الأولى إن مكّنه الله من الوصول إلى دار الإسلام، أن يتطوّع انغماسيا، وينفّذ عملية استشهادية على الروافض المشركين، فكانت خاتمته كما أراد، وأبدله الله بالروافض أولياءهم الصليبيين المشاركين في الحرب على الدولة الإسلامية.

 

وثّق أبو يوسف الكرار ما أراده من العملية في رسالة مصورة، خوفا من أن يشوّش عليها الصليبيون والطواغيت، فينسبوها لمن شاؤوا من المختلين عقليا والقوميين، وأرسل تلك الرسالة التي استهلها بتجديد بيعته لأمير المؤمنين، لتبلغ كل القاعدين عن الجهاد، ممن رضي القعود تحت حكم الصليبيين والطواغيت، لينهضوا من سباتهم، وينصروا دينهم، وينجوا بأنفسهم من عذاب يوم القيامة، ولتبلغ كل المشركين كي يعلموا أن المسلمين اليوم على حال غير التي ألفوهم عليها بالأمس، وأن لهم إماما إذا قال سمعوه، وإن دعاهم أجابوه ولبّوه، وإن أمرهم في المعروف أطاعوه، وإن خاصم في الحق نصروه وآزروه.

 

ومما جاء في رسالته، تقبّله الله:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

 

أولاً: أجدد بيعتي لأمير المؤمنين أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي، حفظه الله.

 

ثانياً: ثأراً لله ولرسوله وللمؤمنين، وردّاً على الجرائم التي قام بها التحالف بالاشتراك مع ألمانيا من قصف وقتل للرجال والنساء والأطفال، وردّاً على ذلك مستعيناً بالله الواحد القهار أعلن عن العملية الاستشهادية في أنسباخ في مقاطعة (بافاريا) ردّاً على قتلهم وتشريدهم المسلمين ومحاربتهم لدين الله ورسوله.

 

وإن المعاملة بالمثل، فوالله لن تهنؤوا بالعيش طالما تحاربون الدولة الإسلامية، وإني أعدكم بأنّ هناك رجالا طلقوا الدنيا وزينتها، والله لترون أشياء... أقسم بالله أنكم لن تهنؤوا بالنوم في بيوتكم، وأقسم بالله لننغِّصنّ عيشكم، ولننسفنّ بيوتكم، فإن كانت هذه العملية بعبوة ناسفة فقسماً قسماً لن يكون هناك عبوات ولا أحزمة في المرة القادمة، بل سيكون هناك مفخخات، وأبشر يا أمير المؤمنين أبا بكر البغدادي، وأبشر يا أبا محمد العدناني، وأبشروا أيها المسلمون، يا من عرف الولاء والبراء، إن جنود الدولة الإسلامية أصبحوا جاهزين ومستعدين، وهذه العملية المباركة سوف تتلوها عمليات وتجديد البيعات.

 

يا أيها الشعب الألماني: إنّ دولتكم هي التي تقتلكم بفعلها وإنّ الدولة الإسلامية لم تبدأ الحرب معكم، فطائراتكم تقصف، ولا تفرق بين رجال ولا نساء ولا أطفال.

 

وأقول لإخواني من جنود الدولة الإسلامية، وأخص منهم المتواجدين في ألمانيا وأوروبا: الله الله في الثبات وفي النكاية فيهم والإثخان بهم.

 

كلمة أخيرة أقولها لأهلي: الملتقى الجنة.

 

اللهم تقبلني شهيداً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [انتهى كلامه، تقبّله الله].

 

فتقبّلك الله يا أبا يوسف، وبيّض الله وجهك يوم تسودّ وجوه المشركين وأوليائهم، ورفع مقامك في عليين، كما رفع ذكرك في الدنيا، ورزقك ثواب كل من سيقتدي بك من الموحّدين، وجعل أعمالهم في ميزان حسناتك، إنه برٌّ كريم، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 


 

21- العدد 041 - الثلاثاء 28 شوال 1437 هـ

العالم العابد والداعية المجاهد
الشيخ أبو علي الأنباري (تقبّله الله) (1)

أنعم الله على العراق قبل الغزو الأمريكي بأشتات من الموحّدين حملوا على عاتقهم همّ نشر التوحيد ومحاربة الشرك والبدعة رغم طغيان البعث العلماني الكافر وحربه على الإسلام والمسلمين، فلما نزل الصليبيون على أرض العراق كانوا هم السدّ المنيع في وجههم، فأفشلوا بفضل الله مخططاتهم، وأخرجوهم منه أذلاء مدحورين، وأقاموا دولة الإسلام على أرض الرافدين، وثبتوا على ذلك، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من أبقاه الله حتى أنعم عليه برؤية اليوم الذي يكون فيه الدين كله لله، في دولة إسلامية تولّى أمرها خليفةٌ قرشيٌّ يسوس الناس على منهاج النبوة.

 

وكان من أولئك الدعاة الذين ساروا على منهج الأنبياء في تعلم التوحيد، وتعليمه للناس، وجهاد أعداء الله بالسيف والسنان والحجة والبرهان، والصبر على ما أصابهم في هذه الطريق من ابتلاءات، حتى قُتلوا شهداء في سبيل الله، الشيخ المجاهد أبو علي الأنباري تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

ففي الوقت الذي كان طاغوت البعث الهالك صدام حسين وحزبه المرتد يهيمنون على العراق بحكمهم الفرعوني الغاشم، الذي لم يتوقف عند حد استبدال القوانين الوضعية بحكم الله، بل سعى إلى تغيير عقائد المسلمين بإفساح المجال لمشركي الصوفية والرافضة، ونشر المذاهب العلمانية الماديّة، وفتح الباب مشرعا أمام الرافضة والصوفية لنشر أديانهم الباطلة، وفي الوقت الذي كان فيه الناس تحت سطوة هذا الطاغوت المجرم، كان الشيخ عبد الرحمن القادولي (وهو اسمه الحقيقي) يصدع بالتوحيد في أحد مساجد مدينة تلعفر الواقعة غرب مدينة الموصل، وكان الناس يحتشدون في مسجده يوم الجمعة حتى تمتلئ الشوارع المحيطة به، فناله من أذى الطاغوت وأجهزة مخابراته ما ناله.

 

لم ترهبه تهديدات البعثيين، ولم يصدّه عن جهادهم أن كان وحيد أبويه، ولا كونه معيلا لأسرة كبيرة ليس لها من معيل سواه، ولا خوف على مسجد يدعو إلى الله بين جنباته، فكفر بالبعث وكفّر المنتسبين إليه، وحرض خاصته وإخوانه على تكفيرهم وقتالهم.

 

لم يدم صبر مرتدي البعث طويلا عليه، فلم يلبثوا أن منعوه من الخطابة، بل وحتى من الأذان في المساجد، وصاروا يضيقون عليه، إلى درجة أنه لا يمر عليه شهر إلا ويُستدعى من قبل مخابرات الطاغوت.

 

في ذلك الوقت كان نظام البعث في العراق يزداد ضعفا، بعد سلسلة الحروب الفاشلة التي خاضها مع أعدائه، وكان الموحّدون يترقبون انهياره، ويتوقعون في الوقت نفسه أن تقدم أمريكا الصليبية على غزو العراق لاحتلاله بحجة إسقاط نظام الطاغوت، ولكن لم يكن لديهم القدرة على تشكيل جسم قوي ينازل الطاغوت في معارك فاصلة، فكان الحال أن تجتمع كل مجموعة بعناصرها في منطقة من المناطق ليتعارف أفرادها، ويتآلفوا، ويتدارسوا الدين بعيدا عن أعين البعثيين، فتشكلت بذلك عدة مجموعات غير مترابطة ببعضها في كلٍّ من بغداد وحزامها، والأنبار وباديتها، وديالى وكركوك، والموصل، وتلعفر التي كان الشيخ أبو علاء (وهي كنيته الحقيقية) كبير إخوانه فيها، وشيخهم، ومرجعهم في الفتوى والقرارات.

 

لم يقتصر نشاط الشيخ أبي علاء على مدينة تلعفر التي أقام فيها ودرس سابقا في معهدها الشرعي، بل امتد إلى مناطق أخرى من العراق، وخاصة بغداد التي درس في جامعتها من قبل، حيث نسج علاقة مع جماعة الشيخ فايز -تقبله الله- السلفية، وموحدي مدينة الموصل التي كانت حاضرةَ شمال العراق، ومجاهدي كردستان، حيث جماعة أنصار الإسلام الذين كانوا يديرون ساحة الجهاد الوحيدة في المنطقة آنذاك وإليهم نفر كثير من شباب العراق وغيرها من البلاد.

 

أثمرت دعوة الشيخ أبي علاء وإخوانه في تلعفر خيرا، فتاب على يديه -بفضل الله- كثير من الروافض من سكان المدينة، وكفر كثير من الناس بعقيدة البعث، وتبرأ غيرهم من العمل في خدمة الطاغوت صدام في جيشه وأجهزة أمنه، وكان من هؤلاء جميعا من ثبّته الله وصار من خيار المجاهدين فيما بعد حتى توفاهم الله شهداء في سبيله، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

وبموازاة نشاطه الدعوي لم يهمل الشيخ الجهاد في سبيل الله، فكان ينسق مع المجاهدين في جبال كردستان، كما عمل مع من يثق بهم من الموحدين في تلعفر على تشكيل جماعة مجاهدة للقيام بعمليات عسكرية ضد نظام الطاغوت صدام حسين، وحزبه الجاهلي، وجنوده وأنصاره المرتدين، وأشرف على التدريب العسكري لتلك المجموعة الشيخ أبو المعتز القرشي -تقبله الله- الذي كان حينها من الضباط التائبين الذين كفروا بالبعث وتبرؤوا من موالاة الطاغوت وجيشه المرتد، ولكن قدّر الله أن يوجَّه نشاط هذه الجماعة المجاهدة إلى عدو أكبر، وهم الصليبيون الذين غزوا أرض العراق بقيادة أمريكا.

 

كان للغزو الصليبي للعراق نتائج عديدة، منها انهيار النظام البعثي، وجيشه، وجميع أجهزة الدولة الأمنية، وانتشار الفوضى في البلاد، وكثرة السلاح في أيدي الناس، والضربة القاصمة التي أصابت جماعة أنصار الإسلام في كردستان فقُتل الكثير من مجاهديها بصواريخ الكروز الأمريكية، ودخول عدد من المجاهدين المهاجرين إلى العراق مستغلين حالة الفوضى، ومن بينهم الشيخ أبو مصعب الزرقاوي، تقبله الله، وكذلك إظهار الإخوان المرتدين في العراق لعقيدتهم الشركية ومنهجهم الكفري، ودخولهم في صف الصليبيين والروافض.

 

وبعد فترة قصيرة من سقوط بغداد بأيدي الصليبيين، تشكل في العراق عدد كبير من الفصائل المقاتلة، ذات غايات ومذاهب شتى، ومن بين تلك الجماعات (جماعة التوحيد والجهاد) التي تشكلت من مجموعات المهاجرين والأنصار وقادها الشيخ أبو مصعب الزرقاوي، و(أنصار السنة) الذي كان تشكل من بقايا (أنصار الإسلام) بعد انحيازهم إلى مدن العراق ومن مجموعات الموحّدين المنتشرة في مناطق العراق المختلفة، وأسندت قيادته لقادة (أنصار الإسلام) الذين نزلوا إلى مدن العراق بعد أن فقدوا ملاذاتهم القديمة في جبال كردستان، وكانت مجموعة تلعفر السلفية من المجموعات التي انضمت إلى (أنصار السنة)، وذلك بعد فترة قصيرة من انطلاق عملها العسكري باسم (كتائب محمد رسول الله)، عليه الصلاة والسلام، ولم تمض فترة طويلة حتى اختير الشيخ أبو إيمان (وهي كنية الشيخ الأنباري التي اختارها لنفسه بعد الاحتلال الصليبي) مسؤولا شرعيا عاما لجيش أنصار السنّة.

 

وقدّر الله أن يتم اللقاء بين الشيخين أبي مصعب الزرقاوي وأبي إيمان تقبلهما الله، فأحبّ كلٌّ منهما الآخر، وفرح كل منهما بأن الآخر على عقيدته ومنهجه السليم، وكان الاتجاه العام للمجاهدين في (أنصار السنة) آنذاك السعي لتوحيد الصف والاجتماع تحت إمرة الشيخ الزرقاوي والانضمام إلى صفوف (تنظيم القاعدة)، فضغطوا على قيادتهم لتحقيق ذلك، وجهد الشيخ أبو إيمان بنفسه لتنسيق اجتماع مباشر يضم أميري الجماعتين، وهذا ما تم له، حيث اجتمع الشيخ الزرقاوي بأمير (أنصار السنة) أبي عبد الله الشافعي، والذي امتنع عن توحيد الجماعتين متعلّلا بالرغبة في استشارة جنوده، رغم علمه المسبق برأيهم وأنهم هم من كان يدفع لجمع الكلمة وتوحيد الجماعتين ببيعة (أنصار السنة) لـ (تنظيم القاعدة) آنذاك، وهنا أعلن الشيخ أبو إيمان بيعته للشيخ الزرقاوي وانضمامه إلى صفوف (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين)، ومن ورائه بايع القسم الأعظم من مجاهدي (أنصار السنة)، في واحدة من أكبر البيعات في تاريخ الجهاد في العراق والتي عرفت حينها ببيعة «الفاتحين»، حيث اختار الشيخ أبو مصعب الشيخ أبا إيمان نائبا له في إمارة التنظيم، ولكنه ما لبث أن اعتقله الصليبيون، وأودعوه زنازين سجن أبو غريب، ليأذن الله له بالخروج بعد شهور وقد أعمى أبصارهم عنه، فلم يعرفوا شخصيته الحقيقية، ولم يعرفوا الدور الذي كان يلعبه في ساحة القتال المشتعلة عليهم.

 

كانت وسائل الإعلام الصليبية تشنّ حملة شرسة لتشويه سمعة المجاهدين في العراق وعلى رأسهم الشيخ أبو مصعب الزرقاوي -تقبّله الله- وإخوانه، وشارك في تلك الحملة أمراء الفصائل الضالّة وقادة حزب الإخوان المرتدين «الحزب الإسلامي»، وخاصة بعد أن أصبح اسم الشيخ الزرقاوي ملء السمع والبصر، وصار وجود مجاهدي (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) سداً منيعا في وجه كل مشاريع الخيانة من أولئك الضالّين الذين أعلنوا ردّتهم، ومما زاد من هموم الشيخ الزرقاوي ما كان يبلغه من انتقادات مصدرها القائمون على تنظيم القاعدة في خراسان، لا تدع مجالا للشك في أنّهم كانوا يصدّقون ما يثار في الإعلام الصليبي من شائعات ضد مجاهدي العراق، ولكن لانكشاف أمر معظم الفصائل ووضوح انحرافاتها مبكّرا، لم يكن أمام هؤلاء إلا الشكوى من سوء العلاقة بين الشيخ الزرقاوي وإخوانه و(أنصار السنّة)، فقد كان قادة (أنصار السنة) على اتصال دائم مع عطية الله الليبي عن طريق إيران، حيث كان للطرفين فيها موطئ قدم ونقاط تواصل، وأمام حالة الحزن التي انتابت الشيخ الزرقاوي -تقبله الله- من معاملة بعض القائمين على قاعدة خراسان له، وسوء ظنهم به، وبسبب صعوبة التواصل معهم، كان الخيار الأفضل لديه أن يرسل مبعوثا من قبله إليهم، ليبيّن لهم حقيقة ما يجري في العراق ويكشف لهم حقيقة افتراءات أمراء (أنصار السنة) على المجاهدين، ولم يكن في نظر الشيخ الزرقاوي -رحمه الله- من هو أفضل من الشيخ أبي إيمان لإنجاز هذه المهمّة، لكونه نائبا له، ولعلمه، وقدره، ولكونه كان المسؤول الشرعي السابق لتلك الجماعة المفترية (أنصار السنة)، فهو الأعرف بحالهم وخفايا أمرهم، فاستجاب الشيخ لطلب أميره، ومضى إلى خراسان، حيث التقى بالقائمين على قاعدة خراسان وشرح لهم حقيقة ما يجري في أرض العراق، وعاد بعد ذلك ليطلع الشيخ الزرقاوي على أحداث تلك الرحلة، والنتائج التي تحققت من خلالها.

 

وفي الوقت الذي كان الجيش الصليبي الأمريكي يترنح في العراق، كانت مشاريع أهل الضلال أيضاً تتشكل على الأرض، وكل منهم يحاول أن يسرق ثمرة الجهاد في العراق بتلاعب شياطين «السرورية» ومخابرات الحكومات العربية المرتدة وخاصة في الخليج، فكان ردّ الشيخ الزرقاوي وإخوانه الإسراع في تطوير مشروعهم ليصلوا به إلى جمع خيرة الفصائل عقيدة ومنهجا في إطار واحد بما فيها (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين)، وأُطلق على هذا الإطار الجامع مسمى (مجلس شورى المجاهدين في العراق)، وحصل الاتفاق على أن تكون إمارة هذا المجلس دورية بين الفصائل المشكّلة له، ووقع الاختيار هنا على الشيخ أبي إيمان ليكون أول أمير لمجلس شورى المجاهدين، حيث ألقى بنفسه البيان الأول لهذا المجلس واتخذ لنفسه اسما حركيا هو (عبد الله بن رشيد البغدادي) الذي اشتهر حينها على وسائل الإعلام.

 

وفي شهر ربيع الأول من عام 1427 هـ، قدّر الله أن يحضر الشيخ أبو إيمان من الشمال، ليلتقي مع بعض مسؤولي التنظيم وليذهبوا جميعا للقاء الشيخ الزرقاوي في حزام بغداد الجنوبي، وفي إحدى المحطات على الطريق، حدث إنزال أمريكي على المنزل الذي استقروا فيه، وقد كانوا خرجوا من المدينة إلى ريف بغداد بغير سلاح بسبب اضطرارهم إلى سلوك طريق عليه الكثير من الحواجز، فاعتقلهم الصليبيون بقدر من الله بعد اشتباك مع مجموعة من الاستشهاديين كانوا في مضافة بجوارهم وقصْف مقرهم، وبالتالي اكتشفت الاستراحة التي كان فيها الشيخ أبو إيمان مع إخوانه، وكانت تلك من أقسى الضربات الأمنية التي تعرض لها تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.

 

وفي السجن أعمى الله أبصار المحققين مجددا عن حقيقة أغلب من وقع بأيديهم من مسؤولي التنظيم، ولما رأى الصليبيون حرص الإخوة على الشيخ أبي إيمان (وكان الأمريكيون في فترة اعتقاله يسمونه الحاج إيمان)، واجتهادهم في إبعاد التهم عنه، ورغبتهم بتخليصه بأي وسيلة، ولو بأن يتحمل بعضهم كل المسؤولية، انتابتهم الشكوك حوله، وزاد من تأثير تلك الشكوك ما رأوه من وقار الشيخ وهدوئه، فزادوا من بحثهم حول شخصيته وهم على يقين بأنه شخص مهم في التنظيم، إلا أن الله خيّب مساعيهم وكان أكثر ما توصّلوا إليه أن عرفوا انتماءه إلى التنظيم فظنوا أنه أمير تلعفر، حيث كان الشيخ يعمل في مدينته بطريقة شبه علنية، لكونه معروفا في تلك المنطقة.

 

فمكث في السجن بضع سنين، قضاها متنقلا بين سجون ومعتقلات الأمريكيين من جنوب العراق إلى شمالها، فلا يمكث في عنبر من سجن فترة، حتى ينقلوه إلى عنبر آخر، ثم لا يلبثون أن يسفّروه من هذا السجن إلى سجن آخر بعيد، لعلمهم بتأثيره على المعتقلين، ولما كانوا يشاهدونه من تحلقهم حوله في كل مكان يدخل إليه، وكاد الصليبيون أن يقتلوا الشيخ في سجنه، حين قُتل أحد المرتدين في عنابر السجن ولم يعرفوا المحرّض على ذلك، ولكن نجاه الله بفضله من كيدهم، واستمروا في محاولة إنهاكه بالتنقّلات، وهم لا يعلمون أنهم يخدمونه بذلك أعظم خدمة، فكلما انتقل إلى مكان جديد فُتحت له ساحة جديدة للدعوة والتعليم، وكان يركز جلّ دعوته على توحيد الله في حكمه وما ينقضه من شرك الطاعة وشرك القصور والدستور، فلا يحلّ في مكان إلا ويحدِّث أصحابه حديث يوسف عليه السلام، {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، فيجتمع عليه الإخوة لينهلوا من علمه، وليكون لهم أميرا ومرجعا في الأمور كلها، إذ درس عليه في تلك الفترة كثير من جنود الدولة الإسلامية، منهم الواليان البطلان اللذان جعلهما الله عذابا على الرافضة في بغداد، مناف الراوي وحذيفة البطاوي تقبّلهما الله.

 

وفي فترة سجنه تلك جرت أحداث هامة في تاريخ الجهاد في العراق، إذ انتقل الشيخ أبو مصعب الزرقاوي -تقبّله الله- إلى ديالى لتهيئة الأوضاع لإقامة الدولة الإسلامية، لكنه قُتل على يد الصليبيين قبل أن يعلن عن قيامها بنفسه، ليستلم الراية من بعده الشيخ أبو حمزة المهاجر، تقبله الله، والذي أعلن حلّ تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وأعلن البيعة للشيخ أبي عمر البغدادي -تقبله الله- أوّل أمير لدولة العراق الإسلامية، ومن تلك الأحداث الجسام الردة الجماعية للفصائل والتنظيمات التي دخلت في مشروع الصحوات الأمريكي، وضاقت الأرض على الموحدين، واستحرّ القتل في المجاهدين، حتى قُتل الشيخان أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر، تقبّلهما الله، ليأخذ الراية الشيخ أبو بكر البغدادي حفظه الله، وتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ دولة العراق الإسلامية.

 

خرج الشيخ أبو علي الأنباري في بدايات تلك المرحلة الهامّة التي كانت أبرز معالمها دخول مجاهدي دولة العراق الإسلامية إلى الشام بعد الموجة التي عمّت الكثير من بلدان المسلمين وأطلق عليها (ثورات الربيع العربي)، وتمدد الدولة الإسلامية إلى الشام، لتقوم بذلك الدولة الإسلامية في العراق والشام، ليشارك -رحمه الله- في صناعة الكثير من الأحداث الهامة حتى مقتله، بعد أن قرت عينه بإقامة الدين، وعودة الخلافة، وهذا ما سنتناوله -بإذن الله- في حلقة أخرى من سيرته العطرة، تقبله الله.

 

 

 

 

 


 

22- العدد 043 - الثلاثاء 12 ذو القعدة 1437 هـ

العالم العابد والداعية المجاهد
الشيخ أبو علي الأنباري (تقبّله الله) (2)

من آيات حفظ الله للجهاد في العراق أن حفظ كثيرا من قادته بعد أن كاد بهم الصليبيون وأعوانهم، فأودعوهم السجون والمعتقلات وعرّضوهم لبطش الطواغيت ليتخلصوا منهم، ليخرج بعد ذلك بتقدير الله مِن هؤلاء مَن يقيم الدين ويرفع الله به راية الجهاد.

 

فلا يلبث هؤلاء أن يعودوا إلى ساحات الجهاد، فيحيي الله بهم جبهات القتال، وينقلوا إلى إخوانهم خبرات سنين في التعامل مع أصناف المشركين والمرتدين، ويرفع الله بهم الهمم، ويثبّت بهم الأقدام.

 

ومن الذين منّ الله على الدولة الإسلامية بخروجهم من الأسر الشيخ المجاهد أبو علي الأنباري، تقبله الله.

 

فبعد ست سنين من الأسر في معتقلات الصليبيين والروافض، خرج الشيخ من محبسه، وإذا الحال غير الحال الذي شهده قبل دخوله السجن.

 

فالصليبيون قد تركوا حكم العراق لأذنابهم من مشركي الرافضة بعد أن أثخنتهم الجراح وأنهكتهم التكاليف، والمجاهدون منحازون في الصحاري والقفار بعد زمن من العزّ والتمكين، أعلنوا فيها دولتهم، وبايعوا فيها إمامهم، فيما الفصائل قد ذابت واندثرت تماما، بعد أن سقط أغلبها في فتنة الصحوات، وأحبطوا كل أعمالهم بوقوعهم في الردّة الصريحة، وأنظمة حكم الطواغيت باتت تتساقط في عدة دول لتأذن بمرحلة جديدة من مراحل التمكين لدين الإسلام، مفتاحها مشاركة مجاهدي الدولة الإسلامية في قتال طاغوت الشام بشار الأسد.

 

خرج الشيخ من سجنه فوجد إخوانه الذين كانوا معه في (مجلس شورى المجاهدين) في انتظاره ليأخذ مكانه من جديد في صفوف (دولة العراق الإسلامية) التي بلغه نبأ قيامها وهو في الأسر، وكان أميرا لجنودها ومعلما ومرجعا لهم في السجون التي تنقل بينها، فجدّد البيعة لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي -حفظه الله- بعد أيام قليلة من خروجه، وانطلق يخدم دولة الإسلام جنديا من جنودها، لا يبالي بتاريخه القديم، ولا بقدره عند تلاميذه أو أقرانه، ولا حتى بما حازه من علم وتجارب، بل وضع نفسه تحت تصرف إخوانه ممّن كان كثير منهم تحت إمرته قبل السجن وأثناءه، ولم يكن إخوانه ليكفروا العشير، ولا لينكروا المعروف، ولا ليجهلوا مقادير الرجال، وقيمة العلماء المجاهدين، فأنزلوه المنزل الذي يليق بأمثاله، وسعوا ليستفيدوا من علمه وتجربته خير استفادة.

 

فكانت أولى المهام الملقاة على عاتقه الاتصال بالجماعات المقاتلة خارج العراق وخاصة أفرع (تنظيم القاعدة) في العالم، ليفتح معهم قناة للتواصل بعد انقطاع دام سنين، بسبب الظروف الأمنية، وبسبب ما جرى من القائمين على التنظيم من تهجم على الدولة الإسلامية ظنّه الإخوة وليد جهل بالحال، بسبب حجم التشويه الإعلامي لسمعة الدولة الإسلامية، فأرسل الشيخ أبو علي إليهم عدة رسائل يوضح لهم بعض القضايا التي كان يظنّها أشكلت عليهم، وهو يحسب نفسه يخاطب أقواما على منهج الشيخ الزرقاوي -تقبّله الله- الذي عرفه ورضي منهجه وبايعه على ذلك الأساس، فكانت تلك الرسائل بدايةً لعودة الاتصال بين الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة وفروعها.

 

وفي تلك الأثناء كان جنود الدولة الإسلامية في الشام قد صارت لهم شوكة وانتشار واسع، ومع أخبار الفتوحات والانتصارات كانت التقارير الواردة من الشام إلى العراق لا تبشّر بخير، وخاصّة فيما يتعلق بانحراف القائمين على العمل هناك عن منهج الدولة الإسلامية، وسعيهم المبكر لاسترضاء طوائف الشرك والردّة، وسوء إدارتهم، وقوة العصبيات العشائرية والمناطقية داخل الصف، ما يهدّد فعليا بانهيارها أو اختطافها من قبل زمرة من الخونة المتآمرين.

 

فقرّر أمير المؤمنين إيفاد من ينوب عنه للاطلاع على حقيقة الوضع، والتأكد من صحة التقارير، فوقع اختياره على الشيخ أبي علي لأداء هذه المهمّة لعدّة أسباب، على رأسها معرفة الشيخ بالجولاني في مرحلة سجنه، حيث كان معه في بعض الفترات، وكان ذلك الماكر يظهر له التقدير والاحترام داخل السجن وبعده، إلى درجة أنه كان يخاطبه في رسائله إليه بصيغة (والدي العزيز)، والشيخ يحسن به الظن، ويرى أن الشهادات ضده من جنس الخصومات التي تنشأ كثيرا بين الجنود وأمرائهم، أو بين الأقران من الأمراء.

 

فدخل الشيخ أبو علي الأنباري -تقبله الله- إلى الشام عابرا الحدود المصطنعة، وكانت رحلته تلك من النعم التي أنعم الله بها على الدولة الإسلامية، إذ قام فور وصوله بجولة استغرقت أسابيع عديدة على مختلف المناطق والقواطع في الشام، ورأى بأم عينيه حجم الأخطاء المرتكبة في إدارة العمل، وتعرّف على طبيعة الانحرافات المنتشرة لدى أفرادها وأمرائها، التي سببها الأساسي إهمال جانبي التربية والعلم الشرعي من قبل القائمين على العمل، ولكنه -رحمه الله- كان يرى أن هذه الأخطاء مما يمكن إصلاحه بمزيد من الجهد، ثم كانت الفرصة الكبرى لكشف بواطن الأمور عندما قرر الشيخ أن يقيم في نفس مقر الجولاني، ليكون لصيقا له فترة من الزمن فيدرس عن قرب شخصيته ويعرف كيفية إدارته للأمور، فكشف الله له خلال شهر أو أقل الكثير من الحقائق، وكان ذلك سببا في صيحة النذير التي أرسلها إلى أمير المؤمنين أن يتدارك الوضع في الشام قبل أن تفلت الأمور من زمامها، فأرسل الرسالة التي فضح الله بها حقيقة الغادر الجولاني، ووصف فيها مشاهداته عنه، وتقييمه الدقيق لشخصيته، وكان مما جاء فيها وصفا للجولاني:

 

«شخص ماكر، ذو وجهين، يحبّ نفسه ولا يبالي بدين جنوده، وهو على استعداد لأن يضحي بدمائهم ليحقق له ذكرا في الإعلام، يطير فرحا كالأطفال إذا ذُكر اسمه على الفضائيات...».

 

وقد كانت هذه الرسالة السبب الرئيس في قدوم أمير المؤمنين بنفسه إلى الشام، فليس الشيخ أبو علي عنده بالمكذَّب، وهو مبرّأ من تنافس الأقران، وخلافات الجنود مع أمرائهم، فعبر الحدود رغم المخاطر الكبيرة عليه ليجده في انتظاره على الجهة الأخرى يطلب الإذن بالعودة إلى العراق بعد انتهاء مهمّته، ورغبة عمّا عايشه من وضع سيء للجهاد في الشام، ولكن أمير المؤمنين أبى ذلك واستصحبه معه في رحلته، ليكون عونا له في إصلاح الأخطاء التي ارتكبها الجولاني وزمرته، ويكون يداً له في التغيير.

 

لم تنجح محاولات الجولاني وزمرته في تقييد حركة أمير المؤمنين بعد وصوله إلى الشام بزعمهم الحرص على سلامته، فكانت جولات قليلة على الجنود، ولقاءات معدودة بالأمراء كافية ليحسم أمير المؤمنين القضية، ويتأكد أن القائمين على العمل قد أفسدوا الأمر، وأنهم يعملون لخدمة أنفسهم وحظوظها، الأمر الذي انعكس سلبا على الاهتمام بالجنود والعلاقة بهم، فاستدعى الجولاني وزمرته ليجتمع بهم ويسمع تبريراتهم لما تأكد بحقّهم من أخطاء، فكان ذلك المجلس المشهور، الذي كانت فيه مسرحية بكاء الماكر الجولاني، وإصرار الدجّال الهراري على تجديد البيعة، واستجابة شركائه للدعوة، وقيامهم فردا فردا بتجديد البيعة لأمير المؤمنين، أملا في اكتساب مزيد من الوقت ليكملوا فيه مشروعهم بشق الصف، والاستحواذ على ما استؤمنوا عليه من الرجال والأموال.

 

ولم تنطلِ خدعتهم تلك -بفضل الله- على أمير المؤمنين ومجلس شوراه، واستقر الأمر لديهم على ضرورة عزل الجولاني وزمرته وتعيين قيادة جديدة لـ (جبهة النصرة) التي كانت هي الاسم المعتمد لمجاهدي الدولة الإسلامية في الشام، ولكن الوقت لم يكن في مصلحة تبنّي هذا الخيار لعلمهم بأن الغادرين يخطون خطوات سريعة في مشروعهم لنقض العهد، وإعلان الخروج على إمامهم، حيث استدعى الجولاني المقربين منه وأعلمهم بنيّته الانشقاق عن (دولة العراق الإسلامية) في تآمر مع قيادة تنظيم القاعدة في خراسان، وقد تسرّب خبر هذا الاجتماع الذي انعقد بعد أسبوع من تجديدهم البيعة لأمير المؤمنين أبي بكر البغدادي، حفظه الله، فكان الخيار الأصلح لدى قيادة الدولة الإسلامية في تلك المرحلة إلغاء مسمى (جبهة النصرة) والإعلان الصريح عن تبعيتها للدولة الإسلامية، وكان الشيخ أبو علي الأنباري -تقبّله الله- على رأس المؤيدين لهذا الرأي الذي استقر عليه أمير المؤمنين في خطابه المشهور، الذي تضمن إلغاء اسمَي (دولة العراق الإسلامية) و(جبهة النصرة)، وتوحيدهما تحت مسمى جديد هو (الدولة الإسلامية في العراق والشام).

 

وهنا أُسقط في أيدي الغادرين ولم يعد لديهم من بدّ من إنهاء فصول مؤامرتهم على الدولة الإسلامية بمشاركة من أمير (القاعدة) أيمن الظواهري، فبادروا بإعلان بيعتهم للظواهري كي يخلطوا الأمور على الجنود فيعجزوا عن اتخاذ القرار وحسم الخيار، ويكسب الغادرون فرصة جديدة للمضي في مشروعهم خطوة أخرى.

 

وكان من قدر الله تعالى أن الشيخ الأنباري قد اكتسب محبة وتقديرا كبيرين لدى الجنود والأمراء وطلبة العلم في مختلف نواحي الشام أثناء قيامه بجولاته التفقدية التي سبق الحديث عنها، فكان ذلك أحد الأسباب التي ساعدت في تثبيت جنود الدولة الإسلامية في الشام في ظل الفتنة الكبيرة التي عصفت بهم، فلم يستغرق الأمر سوى زيارات قليلة قام بها على المناطق والقواطع المختلفة ليشرح للجنود حقيقة الأمر، ويبين لهم سبب اتخاذ القرار بحل (جبهة النصرة)، حتى ثبت جنود أكثر القواطع على بيعتهم لأمير المؤمنين، ليُسحب بذلك الجزء الأكبر من البساط من تحت أقدام الغادرين الذين لم يبقَ في صفّهم حينها سوى قلّة من المخدوعين أو المنتفعين، وجزء قليل من جنود المنطقة الشرقية كانوا مرتبطين بالدجال الهراري، فأُسقط في أيديهم، وما بقي لديهم من حيلة سوى اختراع قضية تحكيم الظواهري المشهورة التي طبخوها معه ومع الهالك أبي خالد السوري.

 

وبلغ غضبهم على الشيخ الأنباري -تقبله الله- الذي أفشل الله به الجزء الأكبر من مشروعهم حدّ التخطيط لقتله مع بعض الشيوخ والأمراء الآخرين، كجزء من مخطط أكبر يتضمن السيطرة على الحدود ومنع أي اتصال بين جنود الدولة الإسلامية في كل من العراق والشام، لكنهم أحجموا عن الأمر خشية التعرض لانتقام جنود الدولة الإسلامية الذين كانوا يعرفون بأسهم، ويعلمون انتشار مفارزهم الأمنية في الشام، ويتيقنون بقدرة تلك المفارز على الوصول إليهم واستئصال شأفتهم إن صدر القرار بذلك.

 

ثم تابع الشيخ أبو علي الأنباري -تقبله الله- نشاطه الذي لا يكلّ في الشام، مسؤولا عن (الهيئة الشرعية)، وعضوا في (اللجنة العامة المشرفة) على عموم العمل في الشام، فكانت تلك الفترة من أشق الفترات عليه -رحمه الله- لحجم ما ألقي على عاتقه من مسؤوليات، ولكثرة ما كان يبذله من جهد في التعليم والدعوة والبحث في المسائل الشرعية، بالإضافة إلى قضايا إدارة المناطق واستلام ملف حل المشكلات مع الفصائل والتنظيمات، عدا عن إشرافه على القضاة والمحاكم الإسلامية التي بدأت الدولة الإسلامية في إنشائها في المناطق التي حصل فيها شيء من التمكين، فعمل على تسيير عملها، ووضْعِ ضوابط لتسيير عمل المحاكم.

 

وكان من صفاته -تقبّله الله- في تلك المرحلة أنّه لم يكن ييأس من دعوة الفصائل والتنظيمات إلى التزام التوحيد والسنة، فكان يلتقي قادتها ويحذّرهم من خطر الارتباط بدول الطواغيت وأجهزة مخابراتهم، وإعلامهم أنهم يستدرجونهم من خلال الدعم المقدم لهم إلى أبواب الردّة والعمالة، ليمسكوا من خلالهم بخيوط الجهاد في الشام، ويستخدموهم فيما بعد لقتال الدولة الإسلامية عبر تجنيدهم في مشاريع صحوات شبيهة بالتي أنشؤوها في العراق، وهو ما كان بقدر الله بعد أشهر قليلة فقط، عندما خرجت تلك الفصائل على الدولة الإسلامية، وقصة غدرهم بالمجاهدين في مناطق حلب وإدلب والساحل والمنطقة الشرقية معروفة.

 

ومع فشل مشروع الصحوات في الشام -بفضل الله- وما منّ الله به على الدولة الإسلامية من تمكين في مناطق واسعة منها، بدأ العمل حثيثا لإنشاء مؤسسات الدولة التي يمكن من خلالها إدارة تلك المناطق وإقامة حكم الله فيها، فكان الشيخ أبو علي الأنباري -تقبله الله- على رأس القائمين على مشروع الدواوين والتأسيس لها، وخاصة الدواوين الشرعية منها، كالقضاء والحسبة والدعوة والزكاة، بالإضافة إلى مكتب البحوث والدراسات، وذلك بعد إلغاء مسمّى (الهيئة الشرعية) وتوزيع مهامها على الدواوين بحسب اختصاصاتها.

 

وبعد أن فتح الله على عباده الموحدين الموصل ومناطق واسعة من العراق، ورُبطت مع الشام بكسر الحدود المصطنعة، طلب الشيخ -رحمه الله- إعفاءه من المهام الموكلة إليه، والسماح له بالعودة إلى المكان الذي بدأ منه دعوته وجهاده، إلى مدينة تلعفر، حيث استقر هناك فترة من الزمن جنديا من جنود الخلافة، فشارك بنفسه في كثير من المعارك ضد ملاحدة الأكراد، ومرتدي البيشمركة، ومشركي الأيزيدية في جبل سنجار والمناطق المحيطة به، فثبّت الله به أقدام المجاهدين في معارك عديدة.

 

وكانت نهاية مطافه أمينا لبيت مال المسلمين، حيث استدعي من جديد لإدارته، واستقر في مدينة الموصل لأداء تلك الوظيفة، فأشرف بنفسه على كثير من مراحل إنجاز مشروع النقد الإسلامي المتمثل باستبدال عملات الطواغيت الورقية عديمة القيمة، بالنقود المعدنية ذات القيمة الحقيقية كما هو الأصل في الأموال، وقد أقرّ الله عينه برؤية التجار في ربوع الدولة الإسلامية يتداولون الدنانير الذهبية والدراهم الفضية.

 

وفي هذه الأثناء كان الصليبيون يتعقبون الشيخ أبا علي بطائراتهم وجواسيسهم، ويعلنون عدّة مرّات نبأ مقتله، بينما كان هو مستمرا في دعوته وجهاده، مشرفا على ما تحمله من تكاليف دون أن يعبأ بتهديداتهم، فكان يلتقي بالتجار، ويجتمع بالمسؤولين عن الإدارات في الدولة الإسلامية، ويتنقل بين ولاياتها، ويعلّم الرعيّة في مساجدها خطيبا ومدرّسا، حتى أذن الله بمقتله على أيدي الصليبيين بعد أن فجّر حزامه الناسف في وحدة من جنودهم حاولت اعتقاله عبر عملية إنزال جوي فاشلة أثناء عبوره من الشام إلى العراق، رافضا أن يعطي الدنية في دينه، أو يقرّ أعين المشركين بأسره وتقييده.

 

قُتل الشيخ عبد الرحمن بن مصطفى الهاشمي القرشي، وقد بلغ من العمر ستين عاما، قضى أغلبه على منابر المساجد، وفي حلق العلم، وبين صفوف المجاهدين، وخلف أسوار سجون الصليبيين والمرتدين.

 

قُتل الشيخ أبو علي الأنباري شهيدا على أيدي المشركين، ليلحق بولديه الشهيدين علاء وعماد، الذين قُتلا قبله في جهاد الصليبيين، ويلحق بأحبّائه وإخوانه الشهداء، أبي مصعب الزرقاوي وأبي حمزة المهاجر وأبي عبد الرحمن البيلاوي وأبي المعتز القرشي وأبي الحارث الأنصاري، نحسبهم جميعا كذلك ولا نزكي على الله أحدا من عباده.

 

قُتل العالم العابد والداعية المجاهد، وقد خلّف وراءه إرثا من العلم، وإرثا من الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، والتحذير من الشرك بكل أنواعه وخاصة شرك الطاعة الذي ألف فيه كتابا، وأعطى في موضوعه عشرات الدروس والخطب والمحاضرات.

 

فتقبّل الله شيخنا المجاهد، وجزاه عنّا وعن المسلمين خير الجزاء، وجمعنا الله به في الفردوس الأعلى مع النبيين والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقا.

 

 

 

 

 


 

23- العدد 045 - الثلاثاء 26 ذو القعدة 1437 هـ

القائد الإعلامي لغزوة سبايكر أبو مارية العراقي..
صيَّاد اللقطات... ومبدع الإصدارات

عباس مزهر عباس الرفيعي أسد مقدام، وخليفة الركب الأول من أعلام الإعلام كميسرة الغريب وناصر الجزراوي وغيرهم من الفرسان الذين تركوا بصمة عميقة في مجال الإعلام، أثخن في الرافضة، ومن قبلهم في الصليبيين، فأوجعهم هنا، وآلمهم هناك، قاتلهم ببندقيته في موضع، وجابههم بكاميرته في مواضع، حتى انتهى به المطاف أميراً للإعلام العسكري في الولايات الشرقية.

 

سلك طريق الهيجا بسلاحه، فما زاده السير على طريق الموت والقتل والأشلاء إلا ثباتاً، طريق ما هابه، بل كان كثيرا ما يقول لأصحابه مازحا: «من يخشى الموت فلا يرافقني».

 

أمنيته القتل في سبيل الله، ودعاؤه لنفسه رضى الرحمن، ورجاؤه من ربّه الفوز بالجنان، وكأن الشاعر نطق بلسانه يوم قال:

 

أَشدُّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سِواها

ولي نفس تتوق إلى المعالي

ستتلف أو أبلّغها مناها

 

تعرفه صحراء (الجلام) درة ولاية صلاح الدين، موطن الأبطال ومصنع الرجال، تلك الأرض التي كانت مُنطلق الفتوحات التي وثّق فارسنا معاركها ومجريات أحداثها وقت العسرة والضيق، يوم كانت تلفح وجوه المجاهدين حرارة الصيف وتمزّق جلودهم برودة الشتاء.

 

صقلته أيام البلاء تلك، واشتد عوده فيها وازدادت خبرته من تجاربها، ونهل من مشايخ الجهاد الذين صالوا وجالوا على ثراها، كالشيخ أبي المغيرة القحطاني، تقبله الله، فكان بحق نِعمَ القائد ونِعمَ الأمير، متواضعا نصوحا حسن القيادة.

 

كان تقياً، نصوحا، يوصي إخوانه بالحذر من ذنوب الخلوات ومعاصي الغفلات، حريصا على توجيه إخوانه إلى إخلاص النية لله في العمل، وأن يوافق باطنُهم ظاهرَهم.

 

يخاف الرياء ويخشى العجب، ويحذّر رفاقه منهما، لدرجة أنه كان لا يُظهر حزامه الناسف الذي لا يفارقه، فيرتديه تحت ملابسه، فيما يخفي مسدسه الشخصي تحت صدريته العسكرية التي لا يكاد يخلعها.

 

شديد المراقبة لنفسه، فتراه إن سمع ثناءً عليه يقول: أخشى أن آتي يوم القيامة ويقال لي: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}.

 

شارك في الفتح ودخل تكريت والدور والعلم وبيجي والصينية متواضعا حامدا لله، لم يغيره النصر والتمكين، بل زاد تواضعا لله رب العالمين.

 

امتثل لفريضة الجهاد وهو ابن الرابعة عشر من عمره، فدخل سجن الأحداث، ثم المطار، ثم بوكا، وشارك إخوته وأباه زنازينهم، رغم صغر سنه، كان يرفض أن يبتعد عن والده حتى داخل السجن، ليخدمه ويخفف عنه أهوال القيود وعذابات الاعتقال، لكن السجّان الصليبي أبى إلا أن يفرّق بينهما، ويشتت شملهما، مثلما شتت شمل أسرتهم خارج أسوار السجن، فكانت عائلة أبي مارية دائمة التنقل والترحال بين هذه المدينة وتلك، فتارة تجدهم قد استوطنوا الإسحاقي، وتارة سكنوا بلد، وتارة الدور، وتارة الضلوعية، وتارة الكرمة، وتارة أخرى تكريت، فالعلم، حتى انتهى بهم التنقل والترحال في الموصل.

 

وكان قد اتخذ محلا تجاريا في محطة مدينة (بلد) ليجعل منه نقطة مراقبة لأرتال الصليبيين، حيث يقوم بمهاجمتها بالقنابل الحرارية مع رفاق جهاده، فيُعتقل بسبب ذلك.

 

قُتل شقيقه أبو أنس وهو يجاهد الصليبيين، فازداد أبو مارية تمسكاً بطريق الجهاد، وكان حينها في بداية شبابه، وقُتل شقيقه الثاني أبو مريم، ذاك الطبيب الذي رفض مغادرة تكريت حينما طوقها وحاصرها الرافضة، وكيف يغادر ويترك مرضاه الذين تجاوز عددهم في مستشفى تكريت مئتي جريح، وهو الجرّاح الذي لا يمكن الاستغناء عنه، فبقي ثابتاً ولم يترك عمله، وحينما أزفت ساعة المواجهة مع الرافضة فجّر عليهم حزامه الناسف، ليكون شهيد العائلة الثاني، فتيقن أبو مارية أكثر بصحة المنهج الذي يسير عليه، هو وعائلته، ثم جاء دور شقيقه الثالث أبي طلحة، ذاك الاقتحامي الذي أدمى الرافضة في سبايكر، وأوجعهم في مواطن عدة وغزوات كثيرة، ليُقتل برفقة الشيخ عمر الشيشاني قبل أسابيع قليلة.

 

وكان من الذين أثخنوا في الرافضة، وتحديداً في مجزرة سبايكر، فقد كان رائد الغزوة إعلامياً، بل ونفذ بيديه حكم الله في مشركي الرافضة.

 

أبرز إعلاميي ولاية صلاح الدين، وحازت الإصدارات التي أشرف على إنتاجها -أثناء إمارته للمكتب الإعلامي للولاية- المراتب الأولى في الترتيب العام لإصدارات الدولة الإسلامية، الأمر الذي أهّله فيما بعد ليكون أميرا لقطاع الإعلام العسكري في الولايات الشرقية، فجعل منه خلية نحل لا تعرف الهدوء أو السكون، رغم رفضه الشديد لتكليفه بهذا المنصب.

 

أنتج أكثر من خمسة وعشرين إصداراً جهادياً، كما كان له شرف المشاركة في عشرات الإصدارات الأخرى. إصدارات كان لها التأثير الكبير في رفع الهمم وتقوية العزائم وإرهاب أعداء الملة والدين، حتى أَلِف الناس ذلك الصوت الخفي من وراء الكاميرا وهو يعلو بالتكبير، ويردّد «ثأرا لأمنا عائشة» فوق جثث الروافض.

 

من آساد معارك بيجي، ومن موثقي ملاحم مصفاتها، التي كان يدخلها جرياً على قدميه مع كادره الإعلامي، رغم محاصرتها من قبل الرافضة وميليشياتهم، ورغم رصاص قناصي الشرك والردة، ورغم الطيران الصليبي الذي لا يفارق سماء المصفى، كان يركض مسافة كيلومترين في أرض مفتوحة وسط انهمار الرصاص، ليصل إلى المجاهدين داخل المصفى، ويخرج بالطريقة ذاتها بعد انتهاء وتوثيق المعارك.

 

سقف أحلامه وطموحاته كان عاليا جدا، وفي داخله ثقة كبيرة بأنه سيحقق كل ما كان يسعى إلى تحقيقه، كيف لا وهو الذي أحدث فرقاً ونقلة نوعية في الإعلام، بوقوفه على رأس هرم الإعلام العسكري، وأسس لمستقبل إعلامي عسكري على أسس صحيحة ومتينة، فقد وزّع العمل والمهام بشكل ناجح، دون أن يجعل العمل مركزيا أو مرتبطا بشخصه حصرا، كي يضمن عدم توقف العمل بغياب إعلامي أو بمقتل أمير.

 

كان دائم الإلحاح على أن يحل مكانه أخ آخر يحمل هذه الأمانة الثقيلة، ويتفرغ هو ليكون مصورا في المعارك والغزوات، حيث يجد نفسه هناك في ساحات المعارك، وفي الثغور التي بقي مرتبطا بها رغم التزامه بالتكاليف الكبيرة لعمله الجديد.

 

يعشق أجواء الجهاد وغبار المعارك ورفقة المقاتلين ولا يطيب له العيش بعيدا عنهم، لهذا تجده دائم الوجود معهم في الغزوات والمعارك، فهو من يقود ملاحمها الإعلامية، ولا يقبل إلا أن يكون في قلب المعارك، مهما كانت شدة وطيسها ووقع أوارها، تجده يزف بشارات النصر دائماً، وتجد العيون كلها تترقب ما يصدر عنه، وتتعالى التكبيرات وهو يزف ما يثلج صدور المؤمنين من أنباء تدمير الدبابات الأمريكية أو صد الهجمات الرافضية، أو تحرشات مرتدي البيشمركة الكردية.

 

يواصل ليله بنهاره بين تلبية لاحتياجات العمل المكلف به، وطواف على جبهات القتال حتى أعياه التعب، فلا يجد وقتا للاجتماع بجنوده أحيانا إلا بعد منتصف الليل، ولا ينتهي اجتماعه معهم إلا قبيل الفجر، لضيق وقته وكثرة شغله.

 

وفي ساعة متأخرة من ليلة رحيله ودّع أبو مارية جنوده وداع مفارق...

 

«قد حانت الساعة، وقريباً قريباً بإذن الله سنلقى الأحبة، والله إني قد اشتقت للقاء الله».

 

هكذا رددها كلمات أخيرة من قلب استشعر قرب لقاء الله جل في عليائه، وفي صباح اليوم التالي، رغم التعب والإرهاق والإجهاد، توجه إلى الثغور ليطلع على أحوال المعارك وسيرها في أحد القواطع، وفي طريق عودته قصفته طائرة أمريكية صليبية، ليودّع فارس الإعلام مضماراً لطالما خاضه بتعب ونصب نصرة لدين الله وطمعا بما عند مليك مقتدر، ولينتهي فصل من فصول شجاعة فارس من فرسان الدولة الإسلامية، الرجال الذين خضبوا مسيرتهم بالدماء، وطرزوها بالفداء، ومهروا خاتمتها بالأشلاء.

 

قُتل أبو مارية، وهو ابن سبعة وعشرين ربيعا، قضى نصفها في ساحات الجهاد، مقاتلا، وأسيرا، وطريدا، وفاتحا، وأميرا.

 

قتل صاحب المروءة الذي كان يشتد غضبه إن علم تقصيراً في حق أسرة أخ قتيل أو أسير أو مرابط، فيسارع بنفسه إلى تلبية احتياجاتهم، حتى أنه شكل لجنة في الإعلام العسكري خاصة بمتابعة شؤون عوائل وأسر القتلى والجرحى والأسارى من الإعلاميين.

 

رحل الذي كان يكثر من ترديد: «أخاف أن أشق على من يعمل برفقتي فيبتليني الله بأمير يشق عليّ في عملي»، ما جعله لا يعرف للظلم طريقاً، بل كان ينتصف لمن يصاب بظلم، ويسعى لحل كل مشاكل رفاقه، رغم انشغاله الشديد بأمور العمل الإعلامي والعسكري.

 

رحل الفارس ملتحقا بأشقائه الثلاثة، ممن سبقوه إلى الجنان، بإذن الله تعالى، تاركا فراغا سيجد من يخلفه مشقة كبرى في سده، فنحسبه كان ممن قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، يبتغي القتل والموت مظانه)، فلله درك يا أبا مارية.

 

رحلت أبا مارية، يا من تدمع العين لفقدك، وتبكيك المعارك وقت النزال، كيف لا، وأنت الضرغام حين الاحتدام، فنم قرير العين يا جبلاً، فقد خلّفت جيلاً من بعدك لن يناموا على ضيم!

 

 

 

 

 


 

24- العدد 051 - الخميس 19 محرم 1438 هـ

صهيب المدائني
أنا فارس لا أنثني.. لا أنحني وبلاء ربّي زادني إيمانا

إن الجهاد في سبيل الله نعمة من النعم، لا يعرفها كثير من الناس، أما من ذاق حلاوتها، وعرف حقيقة الولاء والبراء، وجرب النكاية في الكفار والمرتدين، فلا يصبر عن مواطن النزال، ولا يأنس إلا بعشرة الموحّدين الأبطال.

 

فإن أصابته جراحات في سبيل الله استعجل الشفاء، وإن حبسه الأسر سعى في فكاك أسر نفسه، وإن عجز عن الجهاد في مكان هاجر إلى موطن آخر من مواطن العبودية لله، وشعاره في كل موقعة:

 

أكر على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها

 

ومن هؤلاء الأبطال المجاهدين الذين عشقوا التعرض للمنايا، وألفوا مقارعة الحتوف، الشهيد -كما نحسبه، والله حسيبه- صهيب المدائني، تقبله الله.

 

ولد -رحمه الله- في مدينة المدائن جنوب بغداد، وعاش فيها، ولما خطا على درب الجهاد كانت خطواته الأولى في مدينة بغداد حيث العمل مع دهاة الأمنيين، وأخطر فرسان الكواتم والعبوات، فأنكى في الروافض أيّما نكاية، حتى قدر الله وقوعه في أيديهم، فلم يطل به المقام في الأسر حتى استطاع أن يفك قيده ويهرب من قبضتهم، ليكمل مشواره الجهادي في ولاية كركوك، التي كان العمل فيها لا يقل خطورة عن العمل في بغداد، وذلك بسبب التشديد الأمني الكبير لمخابرات البيشمركة والقوات الرافضية التي تتقاسم السيطرة على المنطقة.

 

عمل صهيب في أحد قواطع مدينة كركوك، حيث مزّق المرتدين بالعبوات، وقطف رؤوسهم بالاغتيالات، وهز أركانهم بالعمليات الاستشهادية التي كان يشرف عليها ويديرها، مع مفرزة من جنود الدولة الإسلامية.

 

خرج في أحد أيام جهاده إلى موعد مع أخ من جنوده، وحين وصل مع أخ آخر إلى مكان الموعد، وهو محطة وقود على طريق (بغداد - كركوك) فوجئ بمرتدي البيشمركة يحاصرونه بأعداد كبيرة ويطلبون منه أن ينبطح أرضا ليقيدوه، ورغم أنه كان أعزل من السلاح إلا أنه رفض الانصياع لهم، عزة عليهم وأنفة من الخضوع لهم، وهم يحيطون به يشهرون أسلحتهم باتجاهه دون أن يجرؤ أي منهم على التقدم نحوه وتقييده، فبادر هو بالهجوم عليهم وحاول سحب بندقية أحدهم من بين يديه، ليشتبك بها معهم ويفك نفسه وإخوانه من الأسر، وأثناء تنازعهما على السلاح تكالب عليه جنود الطاغوت وأسقطوه أرضا محاولين تقييده وهو يصارعهم، حتى أطلقوا النار على قدميه، ليحملوه مقيدا إلى المستشفى بعد أن صار عاجزا عن الحركة.

 

بعد خروجه من العملية بدأ ضباط المخابرات بالتحقيق معه وهو في المستشفى مستخدمين قدميه المصابتين وسيلة لتعذيبه عن طريق تحري مواضع الألم فيهما بالتحريك والضغط، وأثناء هذه الفترة جاء وفد من ضباط مخابرات الحكومة الرافضية من بغداد للتعرف عليه والتحقيق معه، وعندما عرفوه لاموا مرتدي مخابرات البيشمركة لأنهم لم يقتلوه أثناء الاعتقال، وعرّفوهم بما نفّذه من عمليات في بغداد قبل انتقاله إلى كركوك، وبيّنوا لهم صدور حكم إعدام غيابي بحقّه بعد هروبه من اعتقاله الأول في بغداد.

 

بعد فترة من العلاج نُقل صهيب إلى أحد السجون السرية لمرتدي «إقليم كردستان» في منطقة السليمانية، ليجد أمامه في السجن أخويه الذين اعتقلا معه.

 

قضى أول شهرين من اعتقاله وحيدا في محجر انفرادي رغم عجزه عن الحركة، وحداثة إصابته وحاجته إلى المعين، ثم يسّر الله أن نُقل أخواه إلى محجره بعد ذلك ليساعداه على قضاء حوائجه، ومنذ اليوم الأول لاجتماعهم من جديد بدؤوا التفكير بإنقاذ أنفسهم من الأسر، والعودة إلى مراغمة المرتدين، ولكن الأمر كان من الصعوبة بمكان، ففضلا عن كون جدران المحجر ونوافذه محصنة بالحديد، كان سجنهم على أطراف قطعة عسكرية لمرتدي البيشمركة، وبالتالي يجب عليهم عبورها حتى يصلوا إلى مناطق آمنة.

 

ولكن فكرة فكاك أسرهم لم تفارق أذهانهم، وبقوا يدعون الله أن يفرج عنهم ما هم فيه، حتى جاءت بوادر الفرج من الله بعد سبعة أشهر من اجتماعهم في المحجر، كانوا قد تعاهدوا على استغلالها بحفظ كتاب الله، وقضوا لياليها قياما ودعاءا.

 

إذ أخرج السجانون الأخوين المرافقين لصهيب ليكلفوهما بأعمال السخرة، ومن بينها تنظيف مخزن قديم للمرتدين، فوجد أحدهم أثناء تنظيف المخزن قطعة من منشار خبأها تحت ملابسه وعاد بها إلى المحجر، ليفرح بها أخواه، إذ صار بأيديهم أول مفاتيح الفكاك من الأسر، حين صار بإمكانهم أن يقطعوا قضبان النافذة الحديدية التي تحجزهم عن العالم.

 

تم تأجيل العمل على خطة الهروب لبعض الوقت، لأن زنزانتهم كانت قريبة من غرفة السجانين، وكان نشر قضبان الحديد سيحدث صوتا قويا لا يمكن إخفاؤه، فكان مفتاح الفرج الثاني جرافة أحضرها مرتدو البيشمركة للقيام ببعض الإنشاءات في القطعة العسكرية الواقعة خلف مبنى السجن، فاستغل الإخوة صوت الجرافة المرتفع للتغطية على صوت نشر القضبان الحديدية، حتى انتهوا منها بعد 5 أيام من العمل وتركوا من كل واحد منها جزءا يمكنهم كسره بأيديهم عندما تحين ساعة التنفيذ.

 

ثم قرر الإخوة تنفيذ الخطوة الأخيرة، فكسروا القضبان، وخرجوا من النافذة بعد منتصف الليل يحملون معهم ما توفر بأيديهم من كِسَر الخبز ليتزودوا بها على الطريق، حيث وجدوا أنفسهم في قلب معسكر البيشمركة، فانطلقوا نحو السياج المحيط به متوكلين على الله، فلم ينتبه لهم المرتدون، ثم أكملوا مسيرهم لسبعة أيام يمشون في الليل وينامون في النهار مخافة أن يُكشف أمرهم، ولم يكن بإمكانهم الإسراع في المسير بسبب ما ألمّ بصهيب من إصابة.

 

على أطراف مدينة جمجمال فارقهم أحد الإخوة ليجد حيلة للدخول إلى المدينة التي يعرف فيها صديقا علّه يجد عنده المال واللباس لإخوانه، فلما تأخر عليهما خافا أن يكون قد سقط بيد المرتدين من جديد، فيدلهم على مكانهما فاستعجلا المسير إلى كركوك، حيث قدر الله لهم أن وجدوا في طريقها من تصدّق عليهم ببعض المال والطعام لما رأى حالتهما الرثة، فاستقلا بذلك المال حافلة إلى مدينة كركوك.

 

على بوابات المدينة أوقفهم مرتدو البيشمركة من جديد ومنعوهم من الدخول إليها لأنهم لا يحملون بطاقات هوية، وأصروا على عودتهم من حيث جاؤوا رغم ما ادعوه بأنهم تعرضوا للسلب من اللصوص وفقدوا أموالهم وثبوتياتهم.

 

رقم هاتف أحد الإخوة كان صهيب ما زال يحتفظ به في ذاكرته أنقذهم هذه المرة، إذ اتصل به صهيب وأخبره بحاله ومن معه، فخرج إليهما، وأدخلهما إلى مدينة كركوك، لتكون فرحة عظيمة للإخوة فيها، وخاصة لوالي كركوك الشيخ أبي فاطمة، تقبله الله، وهناك لحق بهم أخوهم الثالث، بعد أن أصابه -بدوره- القلق، عندما لم يجدهم في مكانهم الأول قرب جمجمال.

 

عاد صهيب بعكازيه إلى الساحة من جديد، ليعمل في ورشة التفخيخ التابعة لولاية كركوك، حتى كان الفتح، لتتغير بعد ذلك طبيعة عمله.

 

ولم يطل به المقام حتى اختير أميرا عسكريا لجيش الخلافة في الولاية، بعد مقتل أميرها الأسبق أبي عبد الناصر -تقبله الله- وصار يشارك بنفسه في ملاحمها، وقاد إخوانه في كثير من المعارك ضد الرافضة والبيشمركة، على رأسها معارك (مكتب خالد)، وغزوة الفتح المبين، حتى قتل في معارك حقول علاس وعجيل في شهر رجب من عام 1436 هجرية.

 

وهكذا طويت صفحة فارس شهم أبيّ من فرسان دولة الإسلام، لم يسكن عن جهاد المرتدين، ولم يتعب من السجون والأسفار، حتى أناخ ركابه على أبواب الجنة، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

 

 

 

 


 

25- العدد 053 - الخميس 3 صفر 1438 هـ

أبو محمد السهلي صبر فظفر

إذا فات الإنسان خير يرجوه، أو غاية كان يسعى لنيلها، حزن واغتم، وتكاثرت عليه الهموم مخافة ألا يحصّل مثل ما فاته مرة أخرى، أو يتراجع عن تحقيق الغاية وبلوغ الهدف، فكيف إذا كانت هذه الغاية هي الشهادة في سبيل الله، والفوز برضى الله تعالى؟ فكيف إذا تكاثرت على العبد الفتن وخاف على نفسه منها أن تبعده عن نيلها، وبلوغ أعلى مراتب الجنان من خلالها؟

 

هذه قصة بطل من أبطال الإسلام، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما نحسبه، فما انحرف عن وجهته، ولا تراجع عن مطلبه في أن يُعقر جواده ويهراق دمه فيكون من أعظم الشهداء درجة عند الله، وكلما تأخر عن تحقيق أمنيته ازداد إصرارا على تحقيقها، حتى أكرمه الله بالانضمام إلى جماعة المسلمين، فقُتل تحت راية أهل التوحيد في هذا الزمان، راية الدولة الإسلامية.

 

إنه (ثامر بن محمد بن عبيدان السهلي) تقبله الله، من أرض القصيم الودود الولود، الرجل الذي أغواه الشيطان بضع سنين فجذبه إلى ملذات الدنيا، حتى هداه الله فعاد يبحث عن طريق الاستقامة، ويتحرى صالح الأعمال ليكفّر بها عن سيئاته التي تاب منها.

 

فلما علم أن الجهاد هو أفضل الأعمال عزم على القيام به، فولّى وجهه شطر العراق مع اثنين من أصحابه ليلحق بالمجاهدين هناك، ويشاركهم في مقارعة الغزو الأمريكي الصليبي، فباع سيارته، وحمل معه 100 ألف ريال ليعين بها المجاهدين، ومضى مهاجرا إلى الله لا يبغي الرجوع، ولكن الطواغيت من آل سعود وجنودهم كانوا له بالمرصاد، فاعتُقل هو وصاحباه في معبر حديثة على الحدود مع دويلة الأردن، لتبدأ بذلك محنة السجن التي أظهرت صلابة معدنه، وصفاء جوهره، وما زادته إلا إيمانا وتسليما.

 

كان سجن مديرية المباحث في بريدة أول محطات جهاده لطواغيت الجزيرة، دخله عام 1427 هـ، وفيه خالط الموحّدين الصابرين، فازداد علمه بالولاء والبراء، وطبّقه واقعا عمليا في سلوكه ومعاملته مع جنود الطاغوت، فكان لا يخاف في الله لومة لائم، يتصدى للسجانين وإدارتهم رغم ما يلقاه من أذى على يديهم، فعذبوه وجلدوه، حتى اسودَّ ظهره من أثر عصيهم وسياطهم.

 

نُقل بعدها إلى سجن الملز في الرياض منتصف العام 1428 هـ، ليغادره في نهاية العام إلى سجن الحائر، حيث أمضى فيه شهرين أو ثلاثة، ليعيده المرتدون معاقبا إلى سجن الملز، حيث صبوا عليه ألوان العذاب صبّا، وآذوه وإخوانه أشد الإيذاء، دون أن تلين له عزيمة، أو ينكسر له شموخ، أو تهون له كرامة، بل كان يمعن في تحدّي جنود الطاغوت وإسماعهم ما يكرهون، فيجتمعون عليه ويوسعونه ضربا حتى يقع على الأرض من الإعياء، ثم يعود لما كان، كيلا يفرحوا بهزيمته أو يستبشروا بانكساره، حتى أيس منه المرتدون، وصار كبراؤهم يشتكون منه، ومن مشاكله في السجن، ولم يتوقف عن ذلك إلا بعد أن رقّ لحال إخوانه الذين ينالهم انتقام جند الطاغوت كلما غضبوا منه وأيسوا من تأثير العقوبات فيه.

 

لبث أبو محمد في السجن بضع سنين، حتى أخرجه الله منه عام 1434 هـ، وبدل أن ينشغل بإصلاح دنياه، والتعويض عما فاته منها كما يفعل المنتكسون، عاد ليبحث عن غايته القديمة، وينقب عن الطريق إلى ساحات الجهاد، ولما كانت الطريق إلى العراق صعبة خطرة في ذلك الوقت، لم يبق أمامه من بدٍّ سوى البحث عن الشهادة في أرض اليمن، حيث كان تنظيم القاعدة ينشط حينها، ولم تكن عقيدة التنظيم ومنهجه قد وضعت على المحك، فيظهر زيف شعاراته، ويستبين سبيل قادته الضالّين المبدّلين، فمضى أبو محمد مهاجرا إلى الله من جديد ينوي الشهادة في سبيل الله، ويتحرى الراية التي سيموت تحتها.

 

فوصل -تقبله الله- إلى اليمن في العام 1435 هـ، ولما اختار وضع اسمه في قوائم الاستشهاديين، أخذه المشرفون إلى مضافة مغلقة بقي فيها أياما عديدة، حتى جاؤوه يوما وأبلغوه بموعد عمليته الاستشهادية.

 

فتجهز لها واستعد، ومضى إلى هدفه مضيا مودّعا لهذه الحياة، مقبلا على الآخرة، وكان الهدف حاجزا للمرتدين في منطقة نشيمة في مدينة شبوة، وقدّر الله أن لا ينجح في التنفيذ على هدفه، فانسحب من الموقع، ولم يجد أحدا في أثره يدلّه على طريق العودة، فاجتهد في تذكره حتى بلغ مأمنه.

 

ولم تمض فترة طويلة حتى سمع هيعة للحرب أخرى، فقام ولبّى، يبتغي الموت مظانّه، ومضى بسيارته المفخخة إلى هدف جديد، وهو ثكنه عسكرية في محور (عتق)، وهو يسأل الله أن يكرمه بالشهادة في غزوته هذه، ولم يَدُرْ في خلده أن ربّه سبحانه ربما أخره عن نيلها في هذا الموقف ليزيد من أجره ويرفع من مقامه، فاكتشف المرتدون أمره، واضطر للانسحاب من الموقع مجددا وسلّمه الله من الأسر.

 

انسحب تنظيم القاعدة من شبوة بأمر من قادتهم المخذولين لتجنب الصدام مع المرتدين، فاستقر أبو محمد السهلي معهم لفترة من الزمن في حضرموت، وهو على أمله القديم، أن يرزقه الله القتل في سبيله، ويوفقه لتنفيذ عملية استشهادية تمزق المرتدين وتعظم فيهم النكاية.

 

فلمّا دُعي إلى محاولته الجديدة في حضرموت، فرح واستبشر مظنة أن ينال الشهادة فيها، بعد أن حيل بينه وبينها بقدر الله من قبل، ثم ودّع إخوانه يوم العملية، وركب سيارته إلى مكان الهدف، ليُفاجَأ هناك بأنّ رصد الموقع كان قديما، وأن هناك حاجزا قد استجد في الموقع يعيق دخوله إلى البوابة التي تؤدي إلى المرتدين، فعاد أدراجه، وحاول المشرفون على العملية إصلاح خطئهم بزرع عبوة ناسفة لتفجير الحاجز، وفتح طريق العبور للاستشهادي، فلما انفجرت العبوة انطلق أبو محمد ليعبر الحاجز ويقتحم البوابة، وكانت المصيبة أن علقت سيارته في الحاجز لأن التفجير لم يدمّره بشكل كامل، فوقع في مرمى نيران المرتدين، الذين استهدفوا السيارة، وأصابوه بجراح في فخذه وكتفه، ولكن إصابته لم تمنعه من سحب سيارته إلى الخلف تحت وابل الرصاص، فمكث في مركز للعلاج حتى آخر العام 1435 هـ.

 

في ذلك الوقت كانت أخبار الدولة الإسلامية تملأ الآفاق، وكان إعلان الخلافة حدثا يهز العالم كله، ويهزّ قلوب أكثر الموحدين، التي خفقت في مشارق الأرض ومغاربها فرحا وسرورا بذلك، فانطلقوا يرسلون البيعات، معلنين السمع والطاعة لأمير المؤمنين وخليفة المسلمين الشيخ أبي بكر البغدادي، حفظه الله.

 

وكان أبو محمد السهلي -تقبله الله- ممن بلغه الأمر، وسمع بالخبر، فعزم على أن يطيع الله تعالى فيلتزم الجماعة، كيف لا وهو الذي طالما تحرّى الحق، وبذل الغالي والنفيس في سبيل بلوغه، وصبر على الأذى فيه، فاحتال لأمره، وورّى على يهود الجهاد بإبداء رغبته في تقديم النصيحة لمن بايع الدولة الإسلامية ليأمن مكر يهود الجهاد، وينجي نفسه من سجنهم الذي أعتدوه لمن عرفوا غايته الحميدة.

 

يسرّ الله له الوصول إلى إخوانه في ولاية اللواء الأخضر، فكان يستعجل البيعة حتى جاءه مَن قَبِلها مِنه، فصار جنديا من جنود الخلافة، دون أن ينسى أو يتراجع عن هدفه الذي ثبت عليه، فازداد إصرارا على تنفيذ العملية الاستشهادية، وقد صار يعتقد أن الله أخره عن تنفيذها، لينال ثوابها في هذا الركب المبارك، وتكون نتيجتها العاجلة أو الآجلة تمكينا لهذا الدين، لا إزهاقا للنفس في مشاريع الضلالة التي يسوّقها يهود الجهاد، ويضيعون في سبيلها الدماء والجهود، ليسلموا ثمارها للديموقراطيين والصحوات.

 

صبر أبو محمد على تأخر عمليته، وفرح إخوانه بمكوثه معهم، كما فرحوا بقدومه عليهم، فهو البشوش الذي لا تفارقه الابتسامة، السخي الكريم الذي لا يبخل بماله، السهل اللين الذي لا يضنّ بجهد في خدمة المجاهدين، فيطبخ لهم، ويقوم على شؤونهم، وهو ملازم لكتاب الله يقرؤه، محافظ على صيام داود، عليه السلام، فيصوم يوما ويفطر يوما، وهو على ذلك منذ أيام سجنه، حتى حان موعد رحيله.

 

فلما وجد المجاهدون هدفا ثمينا، ألحّ عليهم أن يكون له فيه نصيب، فيسّر الله له ذلك، فدفع ثمن سيارته من جيبه، ليكون ممن خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء، ثم ركب مركوبه الذي ألفه من قبل، ومضى يشق طريقه بين صفوف المرتدين، ليعقر جواده في وسط جمع للمرتدين في عدن، ويُفجِّر سيارته في «فندق القصر» مقر إقامة الطاغوت خالد بحاح، فيحرق المرتدين بناره، ويمزّقهم بعصفه، ويهدّ بنيانهم بقصفه، فنال ما تمنّى، وكانت خاتمة سِفره سعدا، كما نحسب، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

26- العدد 054 - الخميس 10 صفر 1438 هـ

أبو الزبير العراقي مسعر حرب وقائد ركب

أبو الزبير العراقي، أركان جاسم محمد العزاوي، تقبله الله، ولد في سنة 1401 من الهجرة في ولاية ديالى، بين بساتين قرية السادة الواقعة شمال شرقي بعقوبة، تلك القرية التي ذلّ فيها الصليبيون، وتمزقت على ثراها أجسادهم، أمضى فيها أركان سنين نشأته وفتوّته، ثم انتقل إلى بعقوبة فعمل فيها نجارا، طالبا من الله بذلك الرزق وقوت العيش، له ولعائلته.

 

وعقب دخول الصليبيين أرض العراق سنة 1423هـ، تفرغ أركان للجهاد وحمل السلاح، وترك كل ما يشغله عن هذه الفريضة العظيمة، وكان عمله وعمل من معه أشبه بالعمل الفردي في قتال الصليبيين والمرتدين، حتى بايع الشيخ أبا مصعب الزرقاوي -تقبله الله- في أواخر عام 1424هـ، فكان بذلك من الأوائل في هذا الركب المبارك.

 

عمِلَ فارسنا أميراً لإحدى المفارز العسكرية في قاطع بعقوبة مع الشيخ أبي داود -تقبله الله- سنة 1425هـ، فكانت هذه السنة وبالاً على المرتدين وأسيادهم في بعقوبة ونواحيها، وكانت أبرز العمليات فيها عملية مديرية الشرطة في بعقوبة، التي قُتل فيها العشرات من متطوعي الشرطة الرافضية بعملية استشهادية، ثم حميَ وطيس الحرب فكان له الدور البارز في إضرام نارها، فجاءت عملية مركز شرطة المفرق في بعقوبة، العملية التي أثخنت في أعداء الله، فأبلى أبو الزبير في تلك المرحلة بلاء حسنا.

 

ثم عمل أميرا عسكريا لمنطقة السادة بأمر من الشيخ أبي جابر -تقبله الله- وما ذاك إلا لأنه الأدرى بشعابها وأهلها، وعُرِف هنالك بأبي عمر.

 

وفي 1426هـ، كُلّف أميرا عسكريا على قاطع شهربان، فبَرَز دوره في العمليات النوعية التي كسرت عظم الصليبيين، وساهمت في تطهير قرى شهربان من رجس الرافضة المشركين، ومنها قرى (أبو كرمة وزهرة وعبد الحميد)، وكانت العمليات الاستشهادية التي أشرف عليها تحصد رؤوس الصليبيين والمرتدين في السادة، ومنها عملية (جسر الجورجية) المباركة.

 

ولما قامت دولة العراق الإسلامية كان بطلنا من رجالها ومن أُسُس بنائها في ولاية ديالى، وشدد وطأته مع إخوانه على الصليبيين وعملائهم في بساتين شهربان وأذاقوهم مرّا علقما.

 

إلى أن أنجب الصليبيون مولودهم التعيس صحوات الردة والدياثة في نهاية سنة 1427 للهجرة، فكان لزاما على جنود الدولة الإسلامية أن يقفوا في وجه هذه الموجة الهوجاء، فكُلّف الشيخ أميراً عسكريا على المناطق التي تسيطر عليها صحوات الردة، ومن بينها مدينة بعقوبة، فكان بحقٍّ رجلَ تلك المرحلة، إذ عملت اللاصقات والعبوات وزمجرت، وقطفت رؤوس الردة هناك، ومكّن الله المجاهدين في تلك الفترة من قتل العشرات من رؤوس الصحوات وعناصرهم.

 

وفي أواخر عام 1428هـ أُسر الشيخ وأودع في سجن بوكا الذي يُديره الصليبيون، فمكث سنة وثمانية أشهر، ليبدأ فصلا جديدا من الإعداد والتحضير لمرحلة أخرى من الجهاد، فدرس العقيدة والتجويد والفقه على يد الشيخ أبي حفص العراقي -تقبله الله- والي كركوك، كما صب جل اهتمامه على دراسة العلوم العسكرية، وأخذ كثيرا من الدروس النظرية في تطوير الأسلحة والمتفجرات، كما كان مدربا بدنيا للإخوة هناك.

 

خرج من الأسر في منتصف 1431هـ، ليعود إلى ساحات القتال من جديد، إذ أصبح أميرا أمنيا لقاطع شهربان، وفي إحدى العمليات الأمنية أُسر مرة أخرى ولكنه أودع في سجون المرتدين، وكتب الله له الخروج بعد شهرين مع عدد من إخوانه.

 

وفي بداية سنة 1434هـ، اختير أبو البراء (كنيته حينها) أميرا عسكريا عاما لولاية ديالى، فعمل على استنزاف الحكومة الرافضية، وأشرف على العمليات النوعية فيها، ومنها عملية مديرية الأفواج، وعملية مركز شرطة هبهب، وعمليات الاقتحام في العظيم، ثم اختير نائباً للشيخ أبي عبد الله العزي -تقبله الله- والي ديالى.

 

ولم تحل المسؤوليات التي كان يتحملها ولا شدة انشغاله دون مباشرة القتال بنفسه، فكان يقود إخوانه بنفسه في كثير من الغزوات ويقتحم المهالك أمامهم، وفي إحدى الغزوات في قاطع العظيم كان هو الأمير العام، فحاصر هو ومن معه جمعا من المرتدين في إحدى المقرات العسكرية، فاقتحم عليهم المقر وحده واشتبك مع المرتدين لبعض الوقت، وإخوانه على الأسوار ينظرون إلى شجاعة أميرهم وإقدامه، وما هي إلا دقائق حتى وقع انفجار داخل المقر وجلت له القلوب، وجهشت له النفوس بالبكاء، وكلهم يقول: قُتل أبو البراء، وإذ به يعود مقطوع اليد ممزق الثياب جريح الجسد، في مشهد أدهش أمراءه وقادته، لما وجدوه من فرط شجاعته وإقدامه، وبسبب شدة الإصابة ابتعد عن الساحة فترة من الزمن للعلاج، إذ قد امتلأ جسده بالجراح، لكنه كان حريصا على العودة إليها ليشارك في أهم مراحل هذه الحقبة الجهادية.

 

ولما بزغ فجر التمكين في الفلوجة، أُرسل الشيخ عسكريا لقاطع الكرمة، وكان يكنى هناك بأبي حذيفة، فأشرف على غزواتها وفتح الله على يديه منطقة السجر التي كان الجيش الرافضي يتخذها حصنا له، والتي كانت تفصل منطقة الكرمة عن مدينة الفلوجة، وردَّ عادية الصحوات في قرية البوخنفر، وساهم في إطفاء نار أشعلها صحوات الإخوان المرتدين في مدينة الكرمة.

 

وبعد الفتح المبين وإعلان الخلافة عاد إلى ولاية ديالى والياً، فكانت عودته إعلان مقتلة للرافضة فيها، حيث أشرف على التخطيط والتجهيز لغزوات كبيرة داخل الولاية بعد أن ظن الروافض أنهم قد استحوذوا عليها، فكانت عمليات خان بني سعد، والهويدر، وعمليات بلدروز، وعمليات الخالص وغيرها شاهدة على حسن إدارته للمعارك والعمليات في أحلك الظروف، كما أذهل الروافض باستهداف الرافضي المجرم صادق الحسيني داخل مكتبه في جامعة ديالى، وكان لهذه العملية أبعد الأثر في إشعال الرعب في قلوب الروافض.

 

وأما درة هذه العمليات وتاج جبينها، فهي التخطيط وإدارة عملية كسر القيود في سجن الخالص، التي جعلت الروافض يتخبطون من عظيم المصاب، فقد كُسر القيد عن أكثر من 40 فارسا من فرسان الخلافة، كان من بينهم العسكري العام لولاية ديالى أبو معاذ العراقي -تقبله الله- الذي قُتل فيما بعد في ثغور علاس بولاية كركوك.

 

كُلِّف الشيخ بعد ذلك بإدارة المعارك في ثغور علاس وعجيل في ولاية كركوك، فكان مشرفاً ومباشراً للغزوات فيها، إذ قاد العشرات من الغزوات والعمليات اليومية ضد قطعان الحشد الرافضي، وكان مدرباً لكتائب القنص هناك، إلى جانب بصمته في التصنيع العسكري، إذ أشرف على تصنيع المدافع والهاونات والصواريخ والمضادات الأرضية وأسلحة القنص الثقيلة، ثم تطوير المواد المتفجرة والإشراف على عمليات القصف الجوي من الطائرات الصغيرة كما في العملية على تازة الرافضية، كذلك أشرف على تفخيخ وتدريع السيارات.

 

ثم أصبح الشيخ عضوا في هيئة الأركان التابعة لديوان الجند، وخاض العديد من المعارك وأشرف عليها في ولاية كركوك ثم في ولاية دجلة، وبعد أن أكمل 35 عاما من عمره الذي قضى أهمّه في ساحات الجهاد، جاءه أجله حين استهدفته طائرة صليبية مع اثنين من رفقاء دربه، وهما أبو جابر العراقي وأبو صدّيق العراقي، فالتحقوا بركب السابقين، تقبلهم الله جميعا، وحشرهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وحسُن أولئك رفيقا.

 

 

 

 

 


 

27- العدد 059 - الخميس 15 ربيع الأول 1438 هـ

أبو جهاد الكبيِّر
حفظ كتاب الله وعمل بما فيه، نحسبه والله حسيبه..

يوفّق الله -سبحانه وتعالى- عبده لسبيل النجاة إن جدّ في السعي إليه، مهما كثر من حوله دعاة الضلالة أو قلَّ في محيطه المصلحون، فقد عرف الحقَّ زيدُ بن عمرو -رضي الله عنه- وتحنَّف لله في وَسَطٍ جاهلي، وطلب الحقَّ عمرو بن عبسة السلمي -رضي الله عنه- فجاء من الصحراء إلى مكة قاصداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعرف الحق وصدّقه وآمن به، وكذلك الأمر مع كل من أراد اتباع ملة أبينا إبراهيم -عليه السلام- الذي قال يوما: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].

 

أبو جهاد، عبد الرحمن الكبيِّر، تقبله الله، من مدينة بريدة في جزيرة العرب، تُوفي والده في صغره، فعاش يتيماً في كنف والدته، ثم تعلق قلبه بالمساجد وتوجّهت همته إلى كتاب الله، عز وجل، فحفظ القرآن كاملاً في مقتبل عمره، وانشغل ذهنه بالبحث عن نصرة دينه.

 

ولهذين السببين وجد فيه رؤوس السرورية ضالتهم، فقرّبوه منهم، ورفعوا مكانته بين أقرانه، فكلفوه بالإشراف على إحدى حلقات التحفيظ التي يديرونها، كي يكبر على أعينهم، ويكون قرة عين لهم ولأولياء أمورهم المرتدين، الذين وظّفوهم أيما توظيف في تخدير الشباب، وتعبيدهم لطواغيت الجزيرة وأسيادهم الصليبيين، ولأن منهجهم سِلْمٌ للطواغيت حرب على المجاهدين، وثق بهم طواغيت آل سلول فقاموا بإلغاء ومنع حلق التحفيظ في عموم المساجد وحصروها في عدد محدّد منها، لتُدار غالباً من قِبل أفراد من هذه الفئة الضالة، يختارون من يعجبهم من الطلاب ليسلموه حلقة مستقلة، ويبقوه إلى جانبهم، ويهيئوه لمراكز متقدمة في مشروعهم العفن.

 

فبذل جهوداً كبيرة معهم، وحضر مجالسهم ونواديهم، ونافح ودافع عن رموزهم ومشايخهم، حتى منّ الله عليه وأنقذه منهم، إذ وقع -قَدَراً- على بعض المواقع التي تتابع أخبار المجاهدين على الإنترنت، فشدّه ذلك، وأكثر القراءة فيه، فبدأ يطلع على منهج أهل التوحيد، ويتنبه لحرب الحكومة السلولية لدين الله، وبدأ يناقش زملاءه ورفاقه في بعض المسائل، ولِحبِّه نشر الحق لم يسكت بعدما عرفه، فبدأ بمناقشة «مشايخه» ومعلميه في حلقات التحفيظ، محاولاً تبيين الحق لهم، محسناً الظن بهم، جاهلاً بحجم ضلالهم وخبثهم، واستمر على هذا فترة من الزمان، يحاول هدايتهم إلى الحق ويحاولون إعادته إلى طريق الضلال.

 

وأرادوا به كيداً فجعلناهم المكيدين

 

ولم يُنهِ سنته الأولى في الجامعة حتى اختطفته مباحث آل سلول، ليتفاجأ في السجن ببعض رسائله التي أرسلها إلى مشايخ السوء ينصحهم فيها بيد ضباط المباحث يستجوبونه في أمرها، فحققوا معه فترة من الزمن، فلما لم يجدوا لديه غير محاولته إيضاح بعض ما يُكذب به على المجاهدين، ولم يكن قد تعمَّق في طريق الجهاد كثيرا بعد، اكتفوا بأن يعاقبوه ببعض السنين سجنا، ليُرهبوه ويرهبوا به من حوله من الشباب الذين يفكرون بالخروج عن خط علماء السوء من «الشيوخ» الرسميين و«الشيوخ» المدجنين، فخدموه بذلك -قاتلهم الله- خدمة عظيمة.

 

فقد التقى في السجن ببعض الإخوة الموحدين الذين كفروا بالطواغيت من آل سلول، ودينهم، وعلمائهم، وتعلّم منهم ما كان صعبا عليه تعلّمَه خارج السجن، فعَلم كفرَ الطواغيت وعساكرهم، وتنبّه لحقيقة حمير العلم وبغاله، وأنهم أشد كفرا من عساكر الطواغيت ومباحِثهم، وأولى بالقتل منهم.

 

وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن

 

مكث في السجن 3 سنين حتى فرّج الله عنه مع بدايات الجهاد في الشام، وبمجرد خروجه بدأ بالبحث عن طريق إلى ساحات الجهاد، وتخطي منع السفر الذي فرضه الطواغيت عليه، فبقي عدة أشهر على هذا الحال حتى يسر الله له طريقاً إلى الشام، وكان خلال فترة الانتظار يجهز بعض المواد الإعلامية، ويجمع ما تفرّق من كلمات المجاهدين وعلمائهم، ليعدها ويوزعها بين الشباب، وكذلك شارك في مواقع التواصل مع أنصار الجهاد، حتى يسّر الله له الطريق فلم ينتظر أو يتوانَ، وانطلق مستعيناً بالله ووصل -بفضل الله- إلى الشام بسهولة ويسر.

 

وما إن أنهى المعسكر حتى بدأ بإكمال بعض مشاريعه الدعوية والإعلامية، وتوزيع ما جمعه من مواد علمية على الإخوة ليستفيدوا منها في أوقات فراغهم، فقد كان يتحسر دائماً على أي لحظة يضيعها من عمره دون أن يقدم شيئا للإسلام والمسلمين.

 

ومن تجربته الأولى مع حمير العلم ودعاة الضلالة عَلم كبير خطرهم على المسلمين، فكان لا يجلس مجلساً إلا حذّر منهم، ودعا إلى البراءة من أولئك الرموز الذين اتخذهم الناس طواغيت يتبعونها على ضلالة، خاصة وأن شرّهم وصل إلى ساحات الجهاد، فحشروا أنوفهم في كل صغيرة وكبيرة، لينفّذوا أوامر أسيادهم في تخريب الجهاد، والتحريض على الموحدين، ولم يطل الوقت حتى قامت صحوات الشام وغدرت بالمجاهدين بفتاويهم وتوصياتهم، فثبت -تقبله الله- وثبت إخوانه، وقد سمع في أول يوم من قيام الصحوات عن مجموعة من الشباب تردّدوا في قتال الصحوات، فقام إليهم مسرعاً وجمعهم وخطب فيهم خطبة بليغة انشرحت بها صدورهم، بفضل الله، ومضوا يقاتلون أولئك المرتدين بثبات ويقين.

 

ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ

 

وبعد القضاء على الصحوات في أغلب المناطق وانحياز المجاهدين في ريف حلب الشمالي، كان أبو جهاد واحدا منهم، حيث انتقل إلى مدينة منبج وعمل في مركز الحسبة فيها، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر.

 

فكان لا يترك منكراً إلا وأنكره مهما صغُر، وإن لم يجد منكراً أمر بالمعروف، فلا يجد رجلا من عامة المسلمين أو مجاهدا من إخوانه إلا أمره بمعروف يناسب حاله، فتميَّز بذلك، فلا تجده في مكان إلا وهو يتكلم مع هذا وينصح ذاك، وكان يصل ليله بنهاره مجتهدا في الاحتساب في هذا الميدان، وكان له ولإخوانه في منبج قصب السبق في إقامة الدورات الشرعية للموقوفين من أهل المعاصي والمنكرات.

 

وبقي على هذه الحال زماناً طويلاً لا يفتر ولا يكل أو يمل، وكل همه رفع راية لا إله إلا الله، وإن كان حاله يوم أن كان بين أظهر السرورية شعلة لا تنطفئ فهو في الجهاد بركان لا يخمد، وقد كان المجاهدون يتعجبون أشد العجب من صبره وجلده وبذله في كل مجال، خاصة فيما لم يكلَّف به إدارياً، فعمله الأساسي لا يحتمله إلا رجل جلد صبور؛ إذ يقابل عشرات وربما مئات الناس يومياً في مكتب الحسبة ويتعامل مع قضاياهم، ومع كل هذا لا تفارق الابتسامة وجهه، فأحبه عامة المسلمين وكان سبباً بعد توفيق الله لهداية كثير منهم، ولحوقهم بالمجاهدين.

 

من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، نحسبه

 

ومع كل هذا البذل ومع أنه لم يترك هيعة أو صيحة للقتال إلا كان من أول المجيبين لها، فقد كان يتهم نفسه دوماً بالنفاق ويحزن على بقائه كل هذه المدة بعيدا عن الرباط والقتال، فكم ألح على أميره لينقله من عمله إلى الكتائب العسكرية فيبقى في الرباط دائماً، ولكن أميره كان يذكِّره بأهمية عمله، وقلة من يسد مكانه، حتى وصل القتال إلى مدينة منبج، فصدَّق الأقوال بالأفعال، والتزم الرباط على ثغور منبج.

 

وفي اليوم الثالث عشر من رمضان تسلل إلى موقع قريب من نقطته مجموعة من مقاتلي حزب الـ PKK المرتدين، فلم يتراجع من مكانه، بل بادر بالهجوم عليهم، وسمعه الإخوة على اللاسلكي وهو يقول: قتلت المرتد الأول! ثم يخبرهم أنه قد أجهز على الثاني، ثم الثالث، حتى قتل 5 من المرتدين، ثم أُصيب برصاصة في قدمه فلم يترك موقعه، حتى يسر الله له الشهادة فأصابته قذيفة RPG، وكانت نهايته كما أحب وتمنى، فقد كان يدعو أن لا يُقتل حتى يَقتل من الكفار ويثخن فيهم.

 

رحل -رحمه الله- وبقيت أعماله لتشهد له -بإذن الله- يوم القيامة، فمشاريعه في الحسبة والدعوة والتعليم والإعلام وغيرها قائمة وصدقة له -بإذن الله- جارية.

 

 

 

 

 


 

28- العدد 066 - الخميس 4 جمادى الأولى 1438 هـ

أبو عمر الأردني تقبله الله
عبدٌ يبتغي الموت مظانّه، نحسبه

عشاق الشهادة.. ذاك الصنف النادر من البشر، تجد أحدهم لا يكل ولا يمل في طلب المنزلة، والسعي للقتل في سبيل الله كي ينالها، فيكون من الذين يغفر الله لهم ذنوبهم، ويلقى الله وهو عنه راض، فيدخل الفردوس الأعلى من الجنة من غير حساب، في زمرة الأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.

 

تجدهم يلقون بأبدانهم في أفواه المنايا، ويخوضون المعارك، ويتقحمون المهالك، منغمسين في أتون الحروب، يتتبعون الموت مظانّه، وكل أمنيتهم قتلة في سبيل الله.

 

وآخرون ينثرون أجسادهم، ويمزقون أشلاءهم ليحرقوا أعداء الله بلهيب نارهم، قربة إلى الله، سبحانه، ولاءً للمسلمين، وبراءةً من المشركين، ولسان حال أحدهم في كل حال، وعجلت إليك ربّ لترضى.

 

ومن هؤلاء العشّاق للمنازل العلى من الجنة، أبو عمر الأردني، تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

مهندس خبير في برمجة الحاسب، وإداري محترف، جمع الله له من علوم الدنيا، وحفظ آيات الكتاب العزيز، ورزقه من خير الدنيا المهنة المريحة، والمكانة المرموقة في الوظيفة، في أكبر الشركات التي عمل بها في الأردن ودول أخرى، كما رزقه -سبحانه- الزوجة التي يرضاها والولد الذي يحب، فلم يلهه ذلك كله عن السعي في أمر ربه له بالهجرة والنفير، كيف لا وهو يقرأ قوله سبحانه: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]، فبقي سنوات يتحرق لميعاد الهجرة، وهو يتابع أخبار إخوانه المجاهدين، ويرى بطولات أحبابه الاستشهاديين، متشوقا إلى اليوم الذي يكون بينهم، وإلى الساعة التي يلحق بقوافلهم المباركة.

 

ولمّا سمع خطاب أمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي -حفظه الله- الذي خص فيه الكوادر العلمية والشرعية والعسكرية بوجوب الهجرة والنفير، عزم أمره، وكتم خبره إلا عن زوجته التي آزرته وحفظت سرّه، ومضى يتجهز للرحيل، وينهي معاملاته وينجز ما علق من شؤونه، وينطلق مهاجرا إلى الله ورسوله.

 

وفي الطريق إلى دار الإسلام يسمع أهله بنبأ هجرته، فيجهدون أنفسهم في صدّه عن سبيل الله، وحثه على الرجوع إليهم، والسعي في التلبيس عليه في شأن هجرته وجهاده بالطعن في الدولة الإسلامية، خاصة من قبل أبيه الذي كان مؤيدا للإخوان المرتدين، فلم يسمع أبو عمر لكلامهم، ولم تأخذه في دين الله اللائمة، وأكمل رحلته، حتى منّ الله عليه بالوصول إلى أرض الخلافة، فكان ذلك اليوم أسعد يوم في حياته.

 

سمع وطاعة.. في المنشط والمكره

 

بمجرد وصوله إلى مضافات المهاجرين في الدولة الإسلامية، وضع نفسه تحت تصرف إخوانه المجاهدين، كاشفا لهم عن غايته الكبرى من الهجرة بأن ينفذ عملية استشهادية في أعداء الله، مستعجلا القتل في سبيل الله.

 

فلما عرف إخوانه بعلمه وخبراته، طلبوا منه أن يتريث في أمر العملية الاستشهادية، وأن ينفع المسلمين بما منّ الله عليه من العلم، خاصة وأن دار الإسلام اليوم أحوج ما تكون للخبراء والعلماء من الموحّدين الذين يؤتمنون على دين الناس ودنياهم، وأموالهم ودمائهم وأعراضهم، فما كان منه -رحمه الله- إلا السمع والطاعة، راضيا بالعمل في أي ثغر يُندب إليه، وتنفيذ أي مهمة يُكلَّف بها، ما دامت في رضى الله سبحانه، وفي خدمة الإسلام والمسلمين.

 

فكان عمله -تقبله الله- في ديوان الركاز، حيث تحفظ أموال المسلمين مما أنعم الله عليهم من بركات الأرض وكنوزها، وتوجه لخدمة دين الإسلام وإقامته، وحيث العمل على أشده في تأمين احتياجات المسلمين من الوقود في ظل الحرب على الدولة الإسلامية.

 

بدأ أبو عمر الأردني عمله في القسم الإداري من الديوان، فبذل كل ما يستطيع من جهد في عمله، مرهقا نفسه في سبيل ضبط العمل، وتحسين الأداء فيه، ومع زيادة جهده واجتهاده، وزيادة ثقة إخوانه بدينه وخبراته، ترقى في المسؤولية حتى كُلِّف بالإدارة العامة لديوان الركاز، فلم تخدعه الألقاب، ولم تغرِه المغانم، ولم تعنِ هذه المسؤوليات الجديدة بالنسبة إليه إلا مزيدا من التعب والجهد، والمراقبة لنفسه وعمله، فلا يعود إلى بيته إلا في أوقات متأخرة من الليل، جالبا معه جداوله وسجلاته، ليكمل عمله حتى يتعب فلا يبقى مناص من قليل راحة للبدن والذهن.

 

وعجلت إليك ربّي لترضى

 

الشوق إلى القتل في سبيل الله لم يخفت في ظل زحمة العمل وكثرة المهام، والرغبة في تنفيذ العملية الاستشهادية كانت تزداد كلما ازداد إيمانه، مع العمل الصالح الذي كان يؤديه، نحسبه، فيزداد إلحاحا على أمرائه أن يأذنوا له بالالتحاق بصفوف الاستشهاديين، وهم يتهربون من إجابته، ويؤجلون في طلبه، حتى أعياهم ردّه، فاشترطوا عليه أن يختار لهم بديلا له في عمله، يستأمنه عليه، ويرتضيه في دينه وخلقه، وخبرته، فسعى لهم فيما أرادوا حتى ترك ديوان الركاز وقد اطمأن أنه لم يترك ثغرة مكانه، بل سدّه بمن يقوم به حق القيام، ومضى في تحقيق أمنيته، يبتغي الموت مظانّه، والقتل مكامنه.

 

فكلما سمع عن غزوة في ولاية من ولايات الشام يمضي إليها، عارضا نفسه على الأمراء العسكريين، طلبا لتجاوز إخوانه الذين قد سبقوه التسجيل في قافلة الاستشهاديين.

 

عرفه أحد إخوانه من الولاة، فعزم عليه أن يرجع إلى عمله السابق ليخدم دين الله في ذلك الثغر، وهو أهل له، فعاد من الغزوة حزينا، ويمم وجهه شطر ولايات العراق، وقد أمّل نفسه أن لا يعرفه أحد هناك، ليفاجأ بالعدد الكبير من الاستشهاديين في المضافات، كلٌّ يترقب أن ينادى لدوره، ويأبى أن يؤثر أخاه بذلك الدور، فعاد إلى هناك أيضا، وهو يسأل الله لنفسه فرجا قريبا.

 

سأله أحد إخوانه مرّة عن سبب استعجاله القتل في سبيل الله، فأشار إلى قلبه، وأنبأه بخوفه على نفسه من الفتن.

 

وفي فترة انتظاره كان يراسل أهله ينصحهم في دين الله، ويسعى في هداية أبيه، ويدعوه للبراءة من الإخوان المرتدين، حتى وصل به الحال أن يبلغه ببراءته منه إن لم يتبرأ منهم ومن شركهم بالله العظيم.

 

بعد طول انتظار، بلغه أمر غزوة في عقر دار النصيرية، فتقدم إلى إخوانه ولسان حاله يقول: أنا لها، رغم ما في تلك الغزوة من خطر أمني، لكونه في طريقه إلى الهدف سيمر بالكثير من مواقع النصيرية، ويتسلل من بين جنودهم، وتحت سمعهم وبصرهم وفي مرمى نيرانهم، واحتمال انكشافه لهم ليس ببعيد، وبالتالي أسره أو قتله، وفشل خطته قبل تنفيذها، فلم يبالِ بكل ذاك وعزم على التنفيذ مستعينا بالله تعالى.

 

فكتب وصيته لأولاده أن لا يغادروا دار الإسلام أبدا، وأن يكثروا مما ينفعه من الأعمال الصالحة، ولأهله أن لا يقولوا على المجاهدين في الدولة الإسلامية ما ليس فيهم، وللمسلمين عامة أن يهاجروا ويجاهدوا في سبيل الله تعالى، ولكل من عرفه من المسلمين أن يسامحه ويعفو عنه إن أخطأ بحقه أو قصر.

 

وفي العشر الأوائل من ذي الحجة من العام 1437 هـ فَجَّر أبو عمر -تقبله الله- سيارته المفخخة في عقر دار النصيرية، فنسف حاجزا للمرتدين في حي عكرمة بمدينة حمص، فقُتل وجُرح على يديه العشرات منهم، بفضل الله، فأصابهم على حين غرة، ورماهم في مقتل، تقبله الله وأعلى نزله.

 

قُتل رحمه الله، وهو ابن سبعة وثلاثين ربيعا، وهو يتمثل قوله، صلى الله عليه وسلم:

 

(من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة، أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه) [رواه مسلم].

 

نحسبه كذلك، ونسأل الله له ولإخوانه الفردوس الأعلى، وأن يلحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين.

 

 

 

 

 


 

29- العدد 068 - الخميس 18 جمادى الأولى 1438 هـ

أبو نذير العراقي شابت لحيته في طاعة الله

لا تظهر معادن الرجال إلا بنار الفتن، والاحتكاك بالتجارب الصعبة، والابتلاءات الشديدة، فأما ما اختلط جوهره فإن الشوائب التي فيه توهنه أمام الابتلاءات، وتكشف رداءته أمام النار، وأمّا ما صفا وحسنت صياغته فإنه لا يزيد بالفتن والابتلاءات إلا حسن مظهر، وصلابة جوهر، وهكذا هم الموحّدون، لا تزيدهم المحن والابتلاءات إلا إيمانا، يظهر بهاؤه في حسن أخلاقهم وطيب معشرهم وكلامهم، وحسن أعمالهم، فلا يخرج أحدهم من فتنة إلا وقد زادته إيمانا، وأضافت على سيرته العطرة، صفحات جديدة من المجد، تبقى مآثر لمن بعده من أجيال الموحّدين.

 

ومنهم الشيخ المجاهد أبو نذير العراقي، عبد الوهاب محمود فرحان الكبيسي، تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

فارس من فرسان الأنبار، وكاسر من كواسرها، ولد في هيت، وتربّى في مساجدها، وأحبه أهلها منذ شبابه الأول لما رأوه من حسن سيرته، وسعيه في إعانة الناس أيام الحصار الذي فرضه الصليبيون، واستفاد منه طاغوت البعث وزبانيته في التسويق لمظلوميتهم، وهم يعيشون رغد العيش في قصورهم، تاركين للناس الجوع، وآلام الحصار.

 

كَفَر بالبعث وعقائده مذ تعلم التوحيد، وأحبّ الجهاد ورغب فيه، فيسّره الله له مع بدايات الغزو الأمريكي للعراق، في زمرة من الموحّدين بدأت تعد العدة لقتال الصليبيين، والحرب بينهم وبين مرتدي البعث لمّا تضع أوزارها بعد، فهيؤوا الشباب، وجمعوا السلاح، وخبؤوه تحسبا لانطلاق الجهاد الحقيقي بعد انكسار راية البعث الجاهلية، ليرفعوا راية واضحة نقية، يجاهد المسلمون تحتها على بينة.

 

وما إن أعلن الأحمق المطاع بوش انتصار جيشه في العراق حتى بدأت أصداء الهجمات التي تستهدف القوات الأمريكية في مناطق مختلفة من البلاد تنتشر، تقوم بها مجاميع من المجاهدين متفرقة متباعدة، فكلٌ يقاتل في بساتين قريته، أو شوارع مدينته، وما لبثت تلك المجاميع أن تشكلت من جديد على هيئة سرايا وكتائب مختلفة الأهداف والعقائد، فكان مآل أبي نذير إلى إحدى عصائب الموحّدين، في سرايا الأهوال، فصاول المشركين في صفوفها على امتداد أرض الأنبار، وأنكى في أعداء الله تحت لوائها، وصاحب خيرة القادة والأمراء من المجاهدين الأوائل، من أمثال الشيخ أبي عمر البغدادي، والشيخ أبي يعقوب المصري، والشيخ أبي الزهراء العيساوي، وغيرهم من الأفذاذ الأبطال، تقبلهم الله.

 

ولما كان تأسيس قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، نصرة للمجاهدين في خراسان، وسعيا لتوحيد صفوف المسلمين، ودفعا لتصحيح العقيدة والمنهج، كان الشيخ أبو نذير من فرسانها المبرزين، وصناديدها المشتهرين، فلا يشارك في غزوة إلا ويتقدم الصفوف، ويثخن في الأعداء، هو وخله الشهم أبو نور الأنباري (محمود عبد الكريم)، تقبله الله، حتى كان إقدامه وحسن بلائه سببا في منعه من تنفيذ العملية الاستشهادية التي تقدم لطلبها، وحرص على تنفيذها، لما رآه أمراؤه من فائدة وجوده بين إخوانه في ساحات المعارك.

 

أسره الصليبيون في بغداد، وهو مرسل من إخوانه لأداء واجب هناك، أثناء التحضير لغزوة كبيرة كان هدفها اقتحام معسكر هيت، ثم السيطرة على قاعدة عين الأسد قرب حديثة، ولكن شاء الله أن يكتشف الصليبيون مخطط الغزوة عن طريق جواسيسهم ويداهموا مضافات المجاهدين في المنطقة، فقُتل الكثير من المجاهدين في تلك الاشتباكات، وأُسر آخرون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

 

كان سجن بوكا بالنسبة إليه محطة ابتلاء جديدة، زاد فيها بريق معدنه الأصيل، وصَلُب عوده الشديد، فتفرغ لتعليم إخوانه القرآن الكريم، وثبته الله في وجه المشركين، فكان يتصدّى لهم، ويعتز عليهم، ولا يريهم منه ما يُفرح قلوبهم به وبإخوانه شماتة وسخرية، ولم يفتّ من عضده مقتل اثنين من أشقائه المجاهدين في مدينة الرمادي في الأيام الأول لقيام دولة الإسلام، بل صبر واحتسب، وزاد تشوقا للخروج من محبسه لملاقاة الصليبيين في ساحات المعارك.

 

وكذلك لم ينجح عملاء الصليبيين من مرتدي الحكومة الرافضية في كسر شموخه، ولا توهين عزيمته، فشهدت على رسوخ إيمانه وصدق جهاده زنازين سجن مكافحة الإرهاب في الأنبار، وسجانوها، فلم يروا منه ثغرة يمكنهم التسلل منها لإذلاله وإخضاعه، بل عاملهم بمقتضى دينه، شديدا عليهم في الله، مظهرا دينه وتوحيده، مترفعا عن سفاسفهم ومغرياتهم، فلما عرفوا قوة تأثيره على إخوانه وشدّه من عزائمهم، تعمدوا نقله إلى زنازين المجرمين والسرّاق، فسار فيهم بسنة إمامه يوسف، عليه السلام، يدعوهم إلى الله، ويرغبهم في التوحيد، ويحذرهم من الشرك والمعاصي، حتى تاب على يديه خلق كثير من العصاة والمرتدين، وهداهم الله إلى التوحيد والعمل الصالح، ورزقهم الجهاد في سبيله لما خرجوا من السجن، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

 

خرج من السجن بعد 7 سنين، بعد أن دفع أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي -تقبله الله- الغالي والنفيس من الأموال، لإنقاذه وإنقاذ إخوانه من الأسر، فنجاه الله تعالى من 18 حكما بالإعدام أصدرتها ضده محاكم المرتدين، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) [رواه الترمذي]، فخرج من محبسه، ليلتحق بالدولة الإسلامية، ويبايع أمير المؤمنين الشيخ أبا بكر البغدادي، حفظه الله، ويعود إلى مربع صباه، وساحة جهاده في ولاية الأنبار، أميرا عسكريا لجنود الدولة الإسلامية في الولاية، تحت إمرة الشيخ أبي إسماعيل، تقبله الله، ولم يطل به الأمر إذ سرعان ما أعاد المرتدون اعتقاله بعد أن دلّهم عليه جاسوس في إحدى السيطرات التي كان عليه عبورها في غرب الولاية، ليمكث في السجن سنة أخرى، عاد بعدها إلى إخوانه في معسكرات الصحراء وهم يعدّون العدة لإطلاق مرحلة جديدة من مراحل الجهاد في العراق، وهي السيطرة على المدن.

 

فشارك -تقبله الله- إخوانه في عدة غزوات، أشهرها غزوة كبيسة، لينزل بعدها معهم مقتحما مدينة الرمادي وجزيرتها، ويمكّنهم الله من السيطرة على أجزاء واسعة منها، ويخوض مع جملة من الأبطال كأبي تراب الأنصاري، وأبي وهيب الفهداوي، وأبي محمود الفرّاج، وأبي أحمد الزعيم، وغيرهم من أبطال الجهاد تقبلهم الله، ملحمة من ملاحم الجهاد الكبرى، بثباتهم في مساحة ضيقة من الأرض، أمامهم عدوهم، والنهر من خلفهم، لأكثر من 17 شهرا، دَمَّروا فيها جيش الروافض تدميرا، وأجبروهم -بفضل الله- على هيكلة عشرة من الفرق العسكرية التي تمزقت في قاطع الرمادي وقاطعي جزيرة الرمادي وجزيرة الخالدية، قبل أن يأذن الله بالفتح المبين، الذي سبقه بفترة مقتل والي الأنبار الشيخ المجاهد أبي مهند السويداوي، تقبله الله.

 

كُلِّف الشيخ أبو نذير بولاية الأنبار رغم تهربه منها، فأكمل معركة الرمادي، حتى فتحها الله على يديه وإخوانه، وأغاظ بهم ملل الكفر كلها، فهربت حشود المرتدين من أمامهم لا تلوي على شيء، في ظل عجز أوليائهم من الصليبيين عن نجدتهم، وتقديم العون لهم.

 

وبعد انقشاع غبار معركة الرمادي عن فتح وتمكين، انتُدب -رحمه الله- للعمل في ولاية الجزيرة، نائبا لواليها، ثم أميرا عسكريا لجنود الدولة الإسلامية في أرضها، ثم اختير عضوا في هيئة الحرب لجيش الخلافة، فصال وجال في ربوع ولايات العراق المختلفة، ليعود مرّة أخرى إلى ولاية الأنبار، بعد انحياز المجاهدين من مدنها، ويبدأ وإخوانه من جديد معارك الصحراء التي خاضوها قبل سنين، فكانت الصولات الكثيرة على ثكنات المرتدين وأرتالهم، فشارك فيها تخطيطا وإعدادا وتنفيذا، حتى كان في طليعة القوة التي دخلت مدينة الرطبة في الهجوم الذي شنه جنود الخلافة عليها مع بدايات الحملة على الموصل.

 

مع اشتداد المعارك في الموصل دعي إليها مع ثلة من إخوانه، فلبوا الأمر، واستجابوا للنداء، وصحبه في رحلته الأخيرة الأخ أبو عبد الرحمن النمراوي (عبود الشيشاني) تقبله الله، وما إن وصل المدينة واستلم تكليفه بإدارة أحد قواطع المعارك فيها، حتى نزل في يومه الأول يتجول في قاطعه سيرا على الأقدام، ويطوف على جنوده بلحيته البيضاء وابتسامته اللطيفة، ثم مضى في ترتيب القاطع وتنظيم صفوف المقاتلين، ليبدأ بهم قصة جديدة من قصص البطولات التي سطرها مرارا في سني حياته، ويحيي ملاحم الرمادي في أحياء الموصل وأزقتها، ويسقي مرتدي سوات -بفضل الله- كأسا جديدا من العلقم قد سقاهم أضعافها قبل ذلك، وبقي على ذلك حتى قدّر الله له القتل، فيتمزق جسده الذي أفناه في جهاد أعداء الله، وتتخضب لحيته التي شابت في طاعة الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

 

 

 

 


 

30- العدد 074 - الخميس 2 رجب 1438 هـ

أبو أنس الأنصاري السيناوي (تقبله الله)
من الذين تبوَّؤوا الدار والإيمان كما نحسبه

من المجاهدين الأنصار من إذا ذكرته تذكرت قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. يبذلون كل ما بأيديهم لنصرة دين الله، ويحبّون المهاجرين في سبيل الله، ويتقربون إلى الله بالإحسان إليهم والقيام على حوائجهم، ويسعون جهدهم في خدمة إخوانهم والنصح لهم، ومن هؤلاء السائرين على خطى أنصار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو أنس الأنصاري السيناوي، تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

آوى ونصر بنفسه وماله، ولم يدَّخر شيئاً في سبيل نصرة هذا الدين، في زمن قلّ فيه النصير والمعين، في أشد أوقات الجهاد في سيناء تأزما ومخمصة، أيام الاستضعاف، وبقي على ذلك حتى إعلان البيعة لخليفة المسلمين، وتأسيس ولاية سيناء، لم يغير أو يبدل حتى لقي الله تعالى، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

عرف الحق والتزمه، وجرت عليه سنة الله في المؤمنين إذا قالوا آمنا، أن يبتليهم ويمحصهم، فدخل مدرسة يوسف، ولقي فيها من العذاب والنكال من الطواغيت ما الله به عليم، فلم تَفُتَّ في عضده قيود السجن حتى نجاه الله منه، لم يركن إلى الدنيا، بل ثبت على نصرته وجهاده حتى أتاه اليقين، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

سيِّد قومه.. خادم إخوانه

 

لما طُلب من المجاهدين ملء استمارات استبيان التخصصات والأعمال التي يمكن أن يؤدوها في جهادهم، كان أبو أنس الوحيد الذي طلب خدمة المهاجرين، ولم يكتبها غيره.

 

كان لكل الإخوة -مهاجرين وأنصارا- أباً وأخاً أكبر، بعطفه وقيامه على شؤونهم، وأخاً أصغر لهم، بتواضعه وتذلُّله لهم، يأرز إليه كل الإخوة، من عرفه منهم ومن لم يعرفه، فقد كان لسانهم ويدهم، يتكلم عنهم ويقضي لهم ما يحتاجونه، حتى قال بعضهم بعد مقتله: أحسست باليُتم بعده.

 

إذا رأيته هبته، وإذا كلَّمته ألفته، وإذا خالطته أحببته، موطَّأ الأكناف، عالي الهمة، إذا رأيته بين قومه حسبته سيدهم، يأمر فيطاع ولا تُرَدُّ له كلمة، وإذا وجدته بين إخوانه وهو يقوم على شأنهم حسبته خادمهم، وهو من هو، فقد كان له قصب السبق، وله بين الأمراء حظوة لما له من رأي ومشورة.

 

ينظر في وجه أخيه ويعرف ما به دون أن يتكلم، بل قال أحد الإخوة المهاجرين: ناديته مرة على جهاز الاتصال لأطلب منه حاجة، فما إن رد قال: ما تطلبه هو في طريقه إليك، قال: وما يدريك ما أريد؟ قال له: "ابن بطني يعرف رطني"، وهي مقولة مشهورة، تقال كناية عن القرب بين الإخوان، أي كعلاقة الولد بأمه، وبالفعل أتى له بما كان يحتاج، فلقد كان سريع البديهة، حاد الذكاء، لماحا كيِّسا فَطنا، رحمه الله.

 

من أراد أن يتزوج استشاره، ولربما خطب له، ومن أراد بناء بيت ساعده، ومن شكى قلة المال أقرضه، أو سعى في توفير المال له، حتى لو اقترض هو لنفسه ليعطي أخاه، لا تكاد تجده مضيعاً لوقته، فيومه مزدحم بالأعمال التي جلها لخدمة الجهاد إلا ما يكون من نزر يسير لسد ضرورات حياته اليومية، ولحق بصف الجهاد كثير من المجاهدين بسبب دعوته، وما ذلك إلا لصدقه، نحسبه والله حسيبه.

 

وكان من حسن عشرته لإخوانه في سريته وهو أميرهم، أن ينام آخرهم ويستيقظ أولهم، يوقد النار في الأيام الباردة ليسخن ماء الوضوء لإخوانه، ويعد لهم الطعام، لا يكل ولا يمل.

 

مرة في الشتاء ومع قلة الغطاء، آثر ترك إخوته ينامون في الداخل، وذهب لينام في السيارة ويتغطى بغطاء خفيف لا يكاد يقي من البرد.

 

توحيد واتّباع ..

 

كان آية في الولاء والبراء نحسبه والله حسيبه ولا نزكيه على الله، يبحث عن الحق بدليله، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

 

بدأ يبحث ويفتش عن المجاهدين حتى التحق بجماعة أنصار بيت المقدس، وصار من الأوائل فيها، ومذ بدأ الجهاد في سيناء وهو لبنة من لبناته، لم يدخر غاليا ولا نفيساً، بل سخَّر في سبيل نصرة الدين كل ما يملك، وكل ما له عليه سلطان.

 

فقد كان -رحمه الله- أحد أفراد تنظيم التوحيد والجهاد في سيناء، ثم كتب الله عليه الأسر فترة من الزمن، ثم فرَّج الله -تعالى- عنه فعاد إلى الجهاد والعمل، ثم كتب الله عليه الأسر، ثم كان من الهاربين من السجون في أيام "الثورة" في مصر، وفي طريق هروبه قُبض عليه مع بعض إخوانه وقيد إلى السجن مرة أخرى، ثم كتب الله له الخروج من سجن الطواغيت ليُتِمَّ طريقه في الجهاد رغم أنوفهم، فلم يغيِّر ولم يبدِّل، وكان أشد ثباتاً على منهجه، وأحرص على جهاد المرتدين واليهود.

 

ولما كانت غدرة الجولاني، ومؤامرة القاعدة، كان من المنافحين عن الدولة الإسلامية، الداعين إلى بيعة أمير المؤمنين، وصدَّق فعلُه قولَه فكان من أوائل المنضمين في سيناء إلى ركب الخلافة المبارك، فما أحرصه على طلب الحق، وما أشده فيه، وما أشد صبره عليه.

 

كان -رحمه الله- حريصا على الصلاة والجُمَع والجماعات كأشد ما يكون الحرص، كما كان حريصا على النداء للصلاة، فكان صاحب أول أذان للفجر فيمن حوله.

 

كان يسأل عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمور كلها، ليعمل به، حريصاً على نصح إخوانه، فإن عرف في بعضهم خطأ، أو معصية، أو شبهة، كان يدعوهم إلى جلسات يحضرها بعض طلبة العلم، فيسألهم ليتعلم، ويعلم إخوانه، ليصحح أخطاءهم بلا إحراج، فما أحسن خلقه، يعرف كيف يعامل إخوانه، ومتى يكلمهم ومتى يذكرهم لتنفع الذكرى، بإذن الله.

 

ربّ رجل بأمّة من الرجال ..

 

أوكل إليه الأمراء أعمالا كثيرة، حتى أنهم بعد مقتله احتاجوا لعديد من الإخوة لسد الفراغ الذي تركه، فلقد كان صاحب مهارات كثيرة مهمة، وله بين إخوانه من المودة والحب ما جعل بعضهم يقول: كنت إذا لقيته ظننته لا يعامل أحداً مثلي من شدة رفقه ولينه ووده وحرصه على قضاء أموري.

 

كان الأمراء يمنعونه من المشاركة في بعض الغزوات، وفي بعضها يأمرونه بأن يكون في الصفوف الخلفية، لأهمية ما يقوم به من أعمال وقلة من يسدها، فكان يسمع ويطيع لهم تقربا إلى الله رغم حرصه على الشهادة، وخوفه أن يموت بغير قتلة في سبيل الله، وكان يقول: إن يعلم الله في قلبي الخير والصدق سيكتب لي القتل أينما كنت، وأسأل الله موطن شهادة ترضيه.

 

وكانت قتلته من أعجب ما يكون، فهو الذي كان يشدد على إخوانه إذا جاء الطيران الحربي أن يكونوا في المنخفضات، وأن لا يتحركوا، وأن يكونوا خلف السواتر كي لا تصيبهم الشظايا، فلما حانت ساعته كان له غير هذا، فقد روى من كان معه أنه اعتلى ربوة من الرمل وجلس على ركبتيه ومد قامته، يرصد الطيران، وما هي إلا لحظة ويسقط صاروخ بقربه، فتصيبه شظية في رأسه وأخرى في يده وثالثة في رجله، فكُسِر عظمه، وقُطِّع لحمه، وأُهريق دمه، وفاضت روحه، ليودع الدنيا تاركا خلفه في القلوب لوعة الفراق، وشوق اللقاء، وفي صف الجهاد نورا على الدرب ونارا على أعداء الله.

 

رحمك الله يا أبا أنس، لقد أتعبت من بعدك يا صاحب الهمة العالية، بكتك نقاط الرباط يا محب الرباط وفقدك أفراده، بكتك المجالس فأنت أنيسها، ما دخل إخوانك مكان إيواء إلا ولك فيه بصمة، وما تحركوا في مكان إلا ولك فيه جولة، فرحمك الله رحمة واسعة وأسكنك الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

 

 

 

 

 


 

31- العدد 075 - الخميس 9 رجب 1438 هـ

أبو سليمان الشامي (تقبله الله)
بين عشق الشهادة.. وطمس الرموز

لا نفع من عالم يكتم علمه في صدره، فلا يصدع بالحق ولا يدعو إليه، ولا نفع ممن لم يوافق عملُه علمَه، بل العالم الرباني هو الذي أخذ العلم بحقه، مخلصا لله فيه، قائلا به وعاملا، وما أقلهم في زماننا هذا الذي كثر فيه كنز العلم في الصدور، والمتاجرة به عند أقدام الطواغيت، والاستكثار به من المريدين والأتباع.

 

أبو سليمان الشامي -تقبله الله- طالب علم من الصنف النادر من العلماء، عرف الإيمان عملا لا يقوم بغير علم، فطلبه ليقيم إيمانه، وعرف أن الفقه في الدين خير يؤتيه الله من شاء من عباده، فسعى في طلب ذلك الخير بالإكثار من الصالحات، وأيقن أن زكاة العلم تبليغُه للناس، فجهد في ذلك ما أمكنه بقلمه ولسانه، وخاف أن يكون ممن يقول بغير عمل فسعى لينال ما كان يدعو الناس إليه، فكانت خاتمته ما أراد، قتلة في سبيل الله، في الصف الأول، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

رحلة البحث عن أهل الحق

 

لم تغره الدنيا وزينتها، ولم تقيِّده الشهادات العلمية وزخارفها، ولم تفتنه عن دينه زوجة ولا مال ولا ولد، بل جعل ذلك كله وراء ظهره لمّا عرف التوحيد، وعلم أن الجهاد في سبيل الله هو أفضل شهادة له بالولاء للمسلمين، والبراءة من المشركين، والذين ولد بينهم وعاش طفولته وشبابه بين ظهرانيهم.

 

وكان قد أنهى دراسته لعلوم الحاسوب في جامعة (ماساتشوستس) في بوسطن، وتخرَّج منها مهندسا ومبرمِجا، قبل أن يعزم على النفير في سبيل الله مع بعض أصدقائه، فخرجوا مهاجرين إلى الله من غير تنسيق لرحلتهم أو تحضيرات للوصول إلى المجاهدين، فطافوا باليمن وباكستان والعراق وهم يأملون أن يجدوا من يوصلهم إلى المجاهدين، فلما أعياهم أن يجدوا الطريق، وخافوا أن يثيروا ريبة أجهزة المخابرات، عادوا إلى أمريكا، وهم يسألون الله تعالى أن يهيئ لهم من أمرهم رشدا.

 

فما طال به المقام إلا وقد همّ بأن يجعل من أرض أمريكا ساحة لجهاده واستشهاده، فخطَّط مع اثنين من رفاقه لتنفيذ عملية تستهدف أمريكا في عقر دارها، ورسموا الخطط لعمليتهم المنشودة التي أملوا أن يغتنموا السلاح اللازم لها من أيدي الصليبيين أنفسهم، لينفذوا به هجومهم الذي طمحوا لأن يسبب مقتلة عظيمة في صفوف المشركين، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فكُشف أمرهم قبل أيام من موعد العملية، فيما نجاه الله من الوقوع في الأسر بأن خرج من أمريكا قبل أن تحصل المخابرات الأمريكية على معلومات عنه وتعمِّم أمر اعتقاله على الحدود والمطارات، فعاد إلى مسقط رأس أبيه في الشام، ومكث فيها سنوات يترقب موعد نفيره الجديد، قضاها في مدينة حلب، يطلب العلم، ويدعو إلى التوحيد أهله وأصدقاءه، متجنِّبا عيون المخابرات، ومجالس علماء السوء الموالين للطواغيت، وأصدرت الولايات المتحدة بحقه مذكرة بحث دولية، ووضعت على رأسه مكافأة بعشرات الآلاف من الدولارات.

 

الوصول إلى الدولة الإسلامية..

 

مع بدايات الجهاد في الشام خرج يبحث عن أهل التوحيد بين الفصائل المقاتلة، وقاتل في صف إحدى الفصائل حتى أصيب في معركة مع النصيرية في أحد أحياء مدينة حلب، فلما سمع بوصول جنود الدولة الإسلامية إلى الشام، الذين كانوا حينها يعملون في الشام تحت مسمى (جبهة النصرة لأهل الشام) انضم إليهم، والتحق بأمراء الجبهة وهو يعلم أنهم من جنود الشيخ أبي بكر البغدادي -حفظه الله- أمير دولة العراق الإسلامية آنذاك، وطلب منهم أن ينقلوه إلى العراق فلم يجيبوه، فألح عليهم بأن يأذنوا له بتنفيذ عملية استشهادية على النصيرية فأجّلوه، فمكث يعطي دروسا في العقيدة لمن معه من المجاهدين ويرابط معهم على جبهات مدينة حلب، ويشارك معهم في الغزوات على مواقع النصيرية، حتى جاءت فتنة الغادر الجولاني، فظهر له من القائمين على الجبهة ما كانوا يخفون، وبان له منهم ما كانوا يكتمون.

 

فلما أنكر عليهم غدرهم بالدولة الإسلامية، ونكثَهم لعهدهم وبيعتهم لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي، حفظه الله، وصار يفضح للجنود حقيقة المؤامرة، ويكشف لهم ما خفي عنهم من تبعية الجبهة للدولة الإسلامية، ويبين لهم أنهم جنود لأمير المؤمنين لا يسعهم الخروج عليه، ولا نقض بيعته ما لم يروا منه كفرا بواحا، ضاق أهل الغدر به ذرعا، وراموا التخلص منه بأي وسيلة، فكان أن تذكروا إلحاحه القديم عليهم بالإذن له بعملية استشهادية، فأبدوا له الموافقة، وعرضوا عليه التنفيذ، فعرف غايتهم، وكشف خطتهم، وأعلن لهم براءته منهم، وخرج من صفوفهم ليجدد بيعته لأمير المؤمنين، ويكون من جديد جنديا من جنوده.

 

إن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها ورزقها..

 

تحت راية الدولة الإسلامية في العراق والشام عمل الشيخ أحمد أبو سمرة (وهو اسمه الحقيقي) كعامة الجنود، لا يتعالى عليهم بعلم، ولا يترفع عليهم بلقب، بل ينتقل بين خطوط الرباط ومواقع القتال، وقد جدد الالتحاق بقوافل الاستشهاديين، وزاد من إلحاحه على الأمراء أن يأذنوا له بالتنفيذ، حتى وجدوا له هدفا مناسبا وهو تجمع كبير لأنصار الطاغوت بشار في قلب مناطق النظام النصيري في مدينة حلب، وتم التخطيط لتنفيذ الهجوم بحزام ناسف يلبسه ويتسلل به إلى وسط التجمع ليمزق به المرتدين، ولكن نفسا لن تموت حتى تقضي أجلها ورزقها، فقدر الله له أن يعثر عليه الشيخ أبو محمد الفرقان -تقبله الله- ويلتقي به ويتعرف عليه أكثر فأكثر، فأمره بعدم الذهاب للعملية المخطط لها، ليرسل الإخوة بديلا عنه إليها، وقرر ضمه إلى ديوان الإعلام في الدولة الإسلامية الذي كان الشيخ أبو محمد يسعى لتقوية أركانه، وتوسيع نشاطه، ورفده بالكوادر العلمية والفنية المؤهلة للقيام بذلك.

 

الموعد دابق..

 

فكانت البداية الفعلية لنشاط أبي سليمان الحلبي (وهي الكنية التي كان يتحرك بها ويعرفه بها الكثير من المجاهدين في ديوان الإعلام) هي العمل مع فريق اللغات الأعجمية الذي بدأ الشيخ أبو محمد الفرقان بتجميعه وتنظيمه لإطلاق حملة دعوية هدفها تعريف المسلمين في الشرق والغرب بالدولة الإسلامية، وتحريضهم على الهجرة إليها، من خلال الإصدارات المتنوعة التي بدأ بإطلاقها (مركز الحياة للإعلام) الذي أنشئ خصيصا لهذا الغرض، فكان يجهد مع إخوانه في الترجمة من اللغة الإنجليزية وإليها، ثم بدأت فكرة إصدار مجلة موجهة للناطقين بهذه اللغة تبلورت بعد النجاح الذي حققته نشرة "تقرير الدولة الإسلامية" (IS Report)، ليقرر الشيخ أبو محمد تحويل المشروع إلى مجلة دورية حققت -بفضل الله- شهرة عالمية، ونجاحا منقطع النظير، وهي مجلة (دابق) المباركة، وفي الوقت نفسه بدأت تبرز مواهب الشيخ أبي سليمان في الكتابة والتأليف، وتظهر قدراته المعرفية، ويتجلى نور العلم الشرعي فيما يقوله ويكتبه، والشيخ أبو محمد يراقب ذلك، ويقيِّمه، ويدرس كيفية توظيفه في خدمة دين الله، وهو جنديه المطيع، الذي لا يعصيه في معروف، ولا يتقدّمه في فضل، ولا يبخل عليه بمشورة.

 

وهكذا خرجت (دابق) التي اختار لها الشيخ أبو محمد اسما يغيظ به الروم الصليبيين، ويبلغهم من خلاله بنهايتهم المحتومة -بإذن الله- كما أخبر بذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويذكر المجاهدين بوعد الشيخ الزرقاوي -تقبله الله- للمسلمين بأن الشرارة التي انطلقت في أرض العراق لن تنطفئ -بإذن الله- حتى تحرق الصليبيين في مرج دابق، وتسلَّم الشيخ أبو سليمان الشامي إدارة تحريرها.

 

فكان يكتب المقالات المتعددة فيها، ويراجع ما يكتبه إخوانه المحررون الآخرون في المجلة، ويدقق ما يُترجم من مواد للنشر فيها، وينفق في ذلك الوقت الطويل، والجهد الكبير، والشيخ أبو محمد ملازم لهم في مختلف نواحي عملهم، بل كان لفرط حرصه على أن تظهر بأفضل حلة، وأن توصل رسائل الدولة الإسلامية بأبهى مظهر، كان يراجع مع أبي سليمان أكثر المواد، بل ويوجههم غالبا في قضايا التحرير والتصميم، حتى كتب الله لهذه المجلة النجاح، وبات ما ينشر فيها حديث الإعلام.

 

فتم توسيع المشروع لنشر مجلات بلغات أعجمية أخرى، فظهرت مجلات المنبع (بالروسية) والقسطنطينية (بالتركية) ودار الإسلام (بالفرنسية)، وفي الوقت نفسه زاد ضخ (مركز الحياة) من الإصدارات المتنوعة، ونشطت عملية الترجمة للإصدارات المنشورة باللغة العربية إلى الكثير من اللغات الرئيسة والثانوية في العالم، حتى لم يكد قوم من أقوام الأرض إلا وتصلهم إصدارات الدولة الإسلامية ومنشوراتها بلغتهم وبلسانهم، بفضل الله وحده.

 

التوقيع.. أبو ميسرة الشامي

 

وبالإضافة لمسؤوليات أبي سليمان -رحمه الله- في إدارة تحرير مجلة دابق، وإمارته لكل فرق اللغات الأعجمية، كان الشيخ أبو محمد -تقبله الله- يعتمد عليه كثيرا في صياغة الرسائل والمقالات التي توضح منهج الدولة الإسلامية وتفضح أعداءها، نظرا لانشغال الشيخ بأمور الديوان، ومسؤولياته في ولاية أمر الدولة الإسلامية بما فوضه إليه أمير المؤمنين -حفظه الله- من صلاحيات، وكان يعهد لأبي سليمان بصياغة أفكاره على شكل مقالات، لقناعته بحسن صياغته، وجودة صنعته في الكتابة، وتمكنه من العلم الشرعي، وفهمه لمنهج الدولة الإسلامية، ليكتبها أبو سليمان باسم مستعار هو (أبو ميسرة الشامي) تحت إشراف الشيخ ومتابعته.

 

وهكذا ذاع صيت هذه الكنية التي وجه من خلالها ضربات موجعة لصحوات الردة وشيوخهم من علماء السوء، وفضح بها فصائل الفرقة والضرار المنتسبة للإسلام وقادتها من أهل الأهواء والضلال، وهتك أستار كثير من "الرموز" الذين يعبدهم الناس من دون الله، حتى صار اسم (أبي ميسرة الشامي) مصدر قلق لفصائل الصحوات، وأنصارها، وخاصة علماء السوء المجادلين عن المشركين، الذين اشتكوا منه مرارا، مع عجزهم الدائم عن الرد على تلك المقالات، وبحثهم الدؤوب عن حقيقته، وتقصيهم عن ذلك لدى كل من يقيم لهم وزنا، أو يرفع بهم رأسا، دون أن يصل أيٌّ منهم إلى نتيجة، أو يحصل على معلومة، فقد كان -تقبله الله- كتوما في أقواله، مستخفيا بأعماله، يخشى الرياء، ويتجنب السمعة، ويزهد في الظهور والشهرة.

 

كان أبو سليمان -تقبله الله- شديد الغيرة على دين الله، شديد الغضب لله، شديد البغض لعلماء السوء، وخاصة من ينسب نفسه منهم للتوحيد والسنة، وعلى رأسهم شيوخ الصحوات ومنظروهم، فلم يكن يترك فرصة إلا ويحذر منهم، ويشهّر بأفعالهم الخسيسة ومواقفهم الدنيئة، بل ويحرض إخوانه وأميره على قتلهم وقطع دابر فتنتهم، ويعرض نفسه لأداء هذه المهمة، وتحقيق هذه الغاية.

 

كما حرض من خلال كتاباته على قتل كثير من علماء السوء الموالين للصليبيين، وساهم في التخطيط لقتل الأمريكي المرتد (حمزة يوسف) أثناء زيارة له إلى تركيا، ولكن قدر الله له النجاة من أيدي مفارز الدولة الإسلامية العاملة هناك.

 

علم.. وعمل.. ودعوة

 

لم يكن علم الشيخ أبي سليمان من ذلك النوع النظري التجريدي، بل كان -رحمه الله- عمليا في علمه فلا يركّز انتباهه إلا على ما ينفعه وإخوانه في دينهم ودنياهم، متبحرا في مسائل التوحيد، عارفا بأقوال الملل والنحل المختلفة قديمها وحديثها، واسع الاطلاع في المذاهب الفقهية، شديد الحرص على اتباع السلف ومن سار على آثارهم، عظيم الحذر من أهل البدع ومقالاتهم، فلا يرفع لهم قدرا، ولا يعلي لهم منزلة، كثير المطالعة في كلام الأوائل من أئمة الدعوة النجدية، محذرا مما علق بهذه الدعوة من ضلالات على أيدي المتأخرين من المنتسبين إليها زورا من الموالين للطواغيت من آل سعود وأذنابهم.

 

ومن حرصه -رحمه الله- على معرفة الحق والأخذ به كان يقضي الساعات الطوال في تحقيق المسائل العلمية والبحث عن الرأي الراجح فيها أيا كان قائله، ولا يلتفت عند الحق إلى مخالفة إمام معروف أو ترك قول مشهور.

 

وهذا ما زاد على عاتقه من الأعباء الكثيرة التي أنهكت بدنه، وأشغلت ذهنه، فكان -تقبله الله- يبدأ عمله في الصباح الباكر في تنظيم العمل مع إخوانه في مجلة دابق وفرق الترجمة المختلفة، لينصرف بعدها إلى اجتماعات مطولة مع بعض إخوانه المجاهدين الذين علقت بأذهانهم بعض الشبهات، يوضح لهم ما خفي عنهم من حقائق حول منهج الدولة الإسلامية، ويدعوهم للعودة إلى جادة الصواب، ثم يعود بعد ساعات منهِكة من الحوارات والنقاشات ليغوص في البحث والتحقيق والكتابة والمراجعة، حتى ساعات متأخرة من الليل، فينقلب إلى أهله وقد أنهكه التعب، وأضناه السهر، وأضعفه الجوع، إذ كان أحيانا لا يذوق طوال يومه سوى لقيمات معدودات، يقمن صلبه.

 

الشهادة.. عشق لا ينطفئ

 

عِظَم نفعه للمسلمين لم يخفف من إلحاحه في طلب العملية الاستشهادية، وكثرة انشغاله في طلب العلم والدعوة لم يطفئ شوقه إلى جبهات القتال وخطوط الرباط، فكلما وجد إخوانه يخططون لمشروع جديد يمازحهم أن ينفذوا ما يخططون لوحدهم، ويتركوه خارج الخطة ليتفرغ للتخطيط لعمليته الاستشهادية.

 

وفي أيامه الأخيرة، عمل مع الشيخ أبي محمد على إنجاز مشروع مجلة (رومية)، التي كان الهدف منها توسيع مجال النشر، ليشمل العديد من اللغات الأعجمية الأخرى، وضبط مواعيد صدورها، وتوحيد مواقيت نشرها، وقد نجح المشروع بفضل الله تعالى، وصدرت رومية، مجلة شهرية تصدر في وقت واحد بثمان لغات أعجمية، ليغيظ الله بها الكفار، ويفرح الموحدين، وينصر بها دولة الإسلام والمسلمين.

 

وبعد صدور العدد الأول منها قُتل الشيخ أبو محمد الفرقان -تقبله الله- بغارة صليبية في مدينة الرقة، فحزن لفراقه أبو سليمان أشد الحزن، وظهر ذلك عليه واضحا، فكان في أكثر أوقاته شارد الذهن، حائر النظرات، لا تكاد الابتسامة تعرف إلى وجهه سبيلا، وذلك لعظم مكانة الشيخ أبي محمد في نفسه، ومعرفته بمكانة الشيخ في الدولة الإسلامية وبين أمرائها وجنودها.

 

فزاد إلحاحه في طلب الخروج إلى الرباط والمشاركة في المعارك، حتى أذن له أميره بذلك، فخرج يطلب أقرب نقاط الرباط من الأعداء، وأشدها خطورة على المقاتلين، فهداه إخوانه إلى جبهة القتال في شمال مدينة الطبقة، فثبت في إحدى القرى مع عدد قليل من إخوانه تحت قصف الطائرات الصليبية، حتى قدر الله له القتل بقذيفة أصابت المنزل الذي تحصنوا فيه، ليتحقق له ما تمنى، وتنتهي قصة جهاده كما أرادها في بدايتها، شهيدا في سبيل الله، في الصف الأول، لم يلفت عن لقاء عدوه وجها، ولم يولهم دبرا، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

رحل أبو سليمان الشامي الذي لم يهنأ براحة بال ولا جسد مذ صاحب شيخه الهمام أبا محمد الفرقان، تقبلهما الله.

 

رحل وبقيت صورته مطبوعة في ذهن إخوانه عاكفا على حاسوبه في ساعات متأخرة من الليل، وفي أول النهار يحقق مسألة، أو يراجع كتابا، أو يخط مقالا.

 

رحل أبو سليمان وقد عرف الإعلام دعوة إلى الله، وهداية إلى سبيله، وتحريضا على قتال أعدائه، فعمل بذلك، وأبلى حسنا.

 

رحم الله أبا سليمان، وجمعنا به في عليين، مع الصديقين والشهداء والصالحين، اللهم آمين.

 

 

 

 

 


 

32- العدد 080 - الخميس 15 شعبان 1438 هـ

أبو عيسى البحريني حارس للشريعة لا جندي للقوانين

في الوقت الذي ينتكس فيه المنتكسون، وينحرف فيه المنحرفون، ويرتد فيه من يرتد، يهدي الله للحق من يشاء من عباده، ويوفقهم لسلوك درب النجاة، وإنما الأعمال بالخواتيم، و (إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها) [متفق عليه].

 

ومن أولئك الذين خُتم لهم على الإيمان فيما نحسبُهم -والله حسيبهم- أبو عيسى البحريني، تقبله الله.

 

وهو من مواليد عام 1411هـ، عاش وترعرع على الأخلاق والشيم الفاضلة.

 

التحق بالمعهد "الديني" التابع لـ"الأزهر" في البحرين، فدرس فيه الدراسة النظامية "علوم الشريعة"، بما فيها من ضلال وطوام عظام، إلى أن تخرَّج فيه ليحصل على بعثة دراسية في "الأزهر" بمصر، غير أن بعض المرتدين من أقاربه عملوا على إقناعه بالانتساب لوزارة الداخلية المرتدة، فدخلها كمرشح ضابط، فما كان من بعض أقاربه سالكي طريق الحق إلا أن هجروه في الله.

 

أحس أبو عيسى بالمنجرف الخطير الذي وقع فيه بعد أن هجره بعض أقاربه، وكان يُكِن لهم الحب والتقدير، مما جعله يعيد التفكير بانتسابه لذلك السلك، ويبحث ويقرأ في كتب أهل العلم حول مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة الكفار ومناصرتهم على المسلمين.

 

وأخيراً طلب لقاء أحد الإخوة في البحرين ممن كان لهم ارتباط بجنود الدولة الإسلامية، فلما لقيه قال له: "أريد أن تجد لي طريقاً إلى المجاهدين"، وكان ذلك في السنة الثالثة من دراسته في سلك الداخلية، التي تزامنت مع بداية الجهاد في الشام، فما كان من الأخ إلا أن أجابه: "لن أبعث بك حتى تخرج من الداخلية وتتوب وتتبرأ من الكفر الذي وقعت به"، فقال أبو عيسى: "توبتي وبراءتي بنفيري، إذ إنني لو فعلت ما ذكرته لي لن أتمكن من النفير بسبب تمكنهم من سجني وأسري"، فرفض الأخ رفضاً قاطعاً.

 

مرت الأيام وأبو عيسى يتوق إلى راية التوحيد، ويجاهد نفسه ليتخلص من راية الشرك والتوبة من الردة، ويتابع كل ما يصدر عن المجاهدين من مرئي ومسموع ومقروء، إلى أن حزم أمتعته وألحَّ على من كلَّمه أول مرة أن يجد له طريقاً إلى الدولة الإسلامية خاصة دون سواها، لأنها الدولة الوحيدة التي تحكم بشرع الله تعالى وتجاهد في سبيله، وهي الدولة الوحيدة التي اجتمع على حربها الكفار والفجار شرقاً وغرباً.

 

تمَّت الموافقة -بفضل الله- بعد أن تاب من الكفر وتبرأ منه، فطار إلى تلك الراية التي أحبَّها وعلم صدقها وعرف منهجها، بعد قرابة العام ونصف العام تقريباً من عمله ضابطاً في الشرطة المرتدة.

 

براءة من الطاغوت وولاية لأهل التوحيد..

 

خرج أبو عيسى من أرض البحرين كافراً بالطاغوت مؤمناً بالله وحده، متبرئا مما كان عليه من كفر وردّة، حتى وصل إلى دار الإسلام في أرض الشام، وكانت أولى مراحله فيها هي المعسكر الشرعي الذي يُدرَّس فيه التوحيد الصافي والولاء والبراء، والحب والبغض في الله، وتدرس فيه أهم أحكام الإسلام وأبرز مسائل الجهاد، ثم انتقل إلى المعسكر العسكري ليلتقي برفاقه ممَّن تعرف عليهم في البحرين قبل هجرته بأشهر.

 

وبعد المعسكر اختار العمل في الجندية بين رباط وغزو علَّ الله يكفِّر عنه ما مضى، فصار إلى خطوط المواجهة مع الـ PKK الملحدين ومن ناصرهم في المبروكة وغيرها، فمكث فيها مرشداً وموجهاً وخطيباً في مساجدها، ومرابطاً ومغيراً وغازياً، حتى أصيب بطلقة في بطنه، دخل على إثرها المستشفى وأجريت له عملية لم يبرأ منها إلا بعد أشهر.

 

ثم أعاد الكرَّة ليشارك في معركة عين الإسلام، فمكث في ذلك الثغر مدة إلى أن انحاز الإخوة منها.

 

ولما كان أهل السنة هم خير الناس للناس، جدَّ أبو عيسى واجتهد في دعوة الناس إلى الحق المبين، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العالمين، وخاصة جنود الطاغوت الذين خبرهم وعرفهم عن كثب، وكان ظهوره في إحدى إصدارات الدولة الإسلامية خير وسيلة لذلك، فقد دعا فيه جنود الطاغوت وبين لهم حكمهم صراحة دون تمويه أو تورية، أو تحريف أو تعمية، وتوعدهم بالوبال والنكال في الدارين إن لم يسارعوا إلى التوبة والإنابة.

 

في كلية الشريعة بالموصل..

 

بدا لأبي عيسى أن يطلب العلم الصحيح دون تزييف، ليس كما كان الحال في المعهد "الديني" الذي درس فيه خلال نشأته في البحرين، فرحل إلى الموصل التي زارها من قبل.

 

التحق أبو عيسى بالكلية الشرعية الأولى في الدولة الإسلامية، تعلم فيها العقيدة والفقه والتفسير والأصول ومصطلح الحديث والنحو والصرف وغيرها من العلوم النافعة، على أساتذة ومدرسين لم يجعلوا العلم مسائل نظرية فحسب، بل طبَّقوه واقعاً عملياً، كما نحسبهم، والله حسيبهم.

 

كلية ليست كعامة الكليَّات في العالم، فالمتخرج فيها يتخرج إلى القضاء بالقرآن والسنة، لا بالقوانين والأنظمة الكفرية، وللقيام بوظائف الجهاد والحسبة والزكاة والدعوة وغيرها من شعائر الإسلام التي تقوم عليها دواوين الدولة الإسلامية.

 

أحب أبو عيسى كليته فلزمها سنة ونصف، يقضي أيامه فيها بين دراسة وحفظ ومراجعة ورباط وجهاد، فشارك في معارك بيجي، ورابط في ثغر جبل مكحول، فكان من خيرة المقاتلين الصادقين.

 

من يُرد الله به خيراً يُصب منه..

 

وكان من عرف أبا عيسى يتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يُرد الله به خيراً يُصب منه) [متفق عليه]، وفي رواية: (إن الله عز وجل إذا أحب عبدا ابتلاه) [رواه البيهقي].

 

فقد أصيب وابتلي مرات عديدة فصبر واحتسب، من ذلك أنه أصيب بحادث سير بليغ، بين حلب والرقة أقعده في الفراش فترة من الزمن، فما كان منه إلا الحمد والرضى على ما ابتلي به.

 

وما إن خرج أبو عيسى من كليَّته حتى فُرز إلى إحدى كتائب جيش الخلافة، يلقي الدروس التي تعلمها خلال دراسته، ويبيِّن ويوضح، ويرشد ويصلح، ولم تقتصر مهمته على ذلك، بل كان أسبق إخوانه إلى النزال والقتال، كلما سمع هيعة طار إليها، فشارك في معارك حماة ومنبج، كما شارك في معارك "صباح الخير" شرق الرقة، وأصيب فيها بطلقة في يده اليمنى.

 

لم تُقعِده الإصابة عن خوض المعارك واقتحام المعامع، فما إن سمع عن بدء حملة المرتدين على سد مدينة الطبقة حتى لبس جعبته التي لا تفارق سيارته وأخذ سلاحه وودَّع بعض أقاربه.

 

مكث أبو عيسى في بعض القرى غرب الرقة مرابطاً أياماً، يملأ وقته بقراءة القرآن والصلاة والصيام، وبينما هو على هذه الحال استهدفته طائرة أمريكية، يوم الجمعة (23/ربيع الأول/1438هـ)، تقبله الله في الشهداء، ورفع الله قدره في عليِّين.

 

نسأل الله أن يُعظم أجره، وأن يتقبل منه هجرته وجهاده ورباطه ودعوته، وأن يجعله قدوة لكل من عزم على التوبة والإنابة والالتحاق بركب الخلافة.

 

 

 

 

 


 

33- العدد 083 - الخميس 6 رمضان 1438 هـ

أبو ياسر الأنصاري آثر المهاجرين على نفسه.. فسابقهم إلى رحمة الله

نسطّر سيرة فحل من فحول أمة الإسلام، قصّة من سطّر سيرته بنفسه قبل أقلامنا، بدمائه الزكية التي سالت على أرض الرافدين وهو يجاهد الصليبيين، هو الفارس المجلّى والسيف اليماني المحلى الأمير أبو ياسر الأنصاري.

 

وُلد أبو ياسر (ميثاق كيطان رشيد الجبوري) في مدينة بعقوبة قلب ولاية دَيَالى، صبيحة يوم 22 من شهر الله المحرّم لِعام 1395 هـ، وسط أسرةٍ ملتزمةٍ بشرائع الدّين الحنيف، تربّى فيها (ميثاق) على العقيدة الصّافية الناصعة يوم كان العراق تسوده مبادئ حزب البعث الملحد.

 

التوحيد قبل الجهاد

 

درس وتعلم وتفقّه على كتب الإمام المجدّد محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله، فكان يجتمع هو ورفاق المنهج في أحد مساجد بعقوبة يتذاكرون كتب ورسائل الشيخ رحمه الله، يحفظونها ويتدارسونها على يد أحد الدعاة المربين وكان عددهم ستة.

 

ولم تقتصر علاقة هؤلاء الشباب في مسجدهم على العلم الشرعي، بل تطور بهم الأمر إلى اتخاذه مكانا للإعداد البدني، حبا في الجهاد، ورغبة في عبادة الإعداد، بعد أن يوصدوا على أنفسهم أبواب المسجد الذي كانوا قائمين على إدارته، فجواسيس البعث كانوا لا يزالون عاملاً ينهشُ في المسلمين ويصدّ عن دين ربّ العالمين، وعاقبة من يفعل هذه الأمور في ذلك الوقت السجن الطويل أو الإعدام بحسب قوانين البعث الوضعية العفنة.

 

وبقوا على حالهم هذه، يستخفون بإيمانهم، ويعدُّون أنفسهم لجهاد طاغوت البعث وجنوده، حتى قدَّر الله -تعالى- أن ينهزم جيش صدام، ويزول ملكه على يد إخوانه في الكفر من الصليبيين، فطويت صفحة البعث المنهزم، وفتحت صفحةٌ سوداء يلتقي فيها حاملو لواء الصليب مع حاملي لواء الرفض معلنين ضد المسلمين حربهم العقائدية، التي امتدت لجميع أحياء ومناطق أهل السنة في العراق.

 

أهل التوحيد في طليعة المجاهدين

 

شكل أولئك الستة إحدى أبرز المجاميع المباركة التي بعثت الجهاد في بعقوبة ومحيطها، وبدؤوا منذ الأيام الأولى من الغزو بنشر دعوة التوحيد، بطبع آلاف النسخ من رسائل أئمة الدعوة النجدية، فلاقت استجابة منقطعة النظير، وحرّضوا المؤمنين على قتال الصليبيين، وجمّعوا مختلف أنواع الأسلحة التي تركها الجيش العراقي السابق في المخازن والمشاجب.

 

فتاريخ الأمة الحديث إنما جرى بقدر من الله على أيدي أفذاذ خطّوا بدمائهم وشيدوا بمواقفهم أمجاد أمتهم المكلومة وقد بدت صناعة التاريخ الإسلامي جليّة بأرض العراق يوم ارتفعت معاقل الإسلام الجديد، بالجماجم لا بالحجارة والقرميد.

 

فتزايدت أعداد الموحدين من فورهم فغدوا بالألوف بل مئات الألوف، والحمد لله الذي يُعين على نشر الدعوة الصحيحة من لدن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

 

فارس في كل الساحات

 

عمل أبو ياسر في كل أصناف الجهاد، فهو من أوائل من صَنَّع العبوات الناسفة وفَجَّرها على جيش الغزو الصليبي، ورمى بالقاذفات على دروعهم، وقصف بالهاونات مقرّاتهم، واصطاد عناصرهم بالقناصات، واشتبك معهم بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وأوصل أعداداً غفيرة من الاستشهاديين لأهدافهم المنشودة.

 

نقل عنه من قاتل معه قصصاً للشجاعة والبطولةِ قلّما يُوجد نظيرها!

 

جاب أرض ولاية ديالى طولا وعرضا بحثا عن المجاهدين، وتنقيبا عن الخبراء في ما يحتاجه الجهاد، فعلى يديه دخل العشرات إلى هذا الدرب المبارك، وجاهد بدوره في أغلب مناطق الولاية، من أقصى شرق السعدية وخانه قين، إلى أقصى غرب العظيم والخالص، ومن ذرى جبال حمرين شمالاً، لأطراف بساتين الخان والبزايز جنوباً، مرورا بمصنع الرجال الأبطال، قاطع الوقف بأحيائه (المخيسة، وأبو كرمة، وزاغنية)، ودرّب السرايا والمفارز في معسكرات الجهاد الخاصّة في الحديد والهاشميات وبهرز.

 

مدرسةٌ جهاديةٌ علميةٌ متنقّلة، يحفظ الكثير من القرآن الكريم، وقرأ كثيراً من كتب أهل السنة والجماعة، مهتمٌّ بالحديث الشريف، وبتمييز الصحيح منه عن الضعيف.

 

عُرفَ عنه حبّه ومواظبته على صلاة الجماعة في مساجد بعقوبة.

 

طلبه الصليبيون فحث الخطى في طلبهم

 

أُذيع اسمه على الفضائيات العراقية العميلة، وعُدّ مطلوباً أمنياً للجيش الأمريكي، مما اضطره للمغادرة إلى ولاية بغداد، فالتقى بفوارسها الأفذاذ، وقاتل فيها لأشهُر، واشتبك مع الجيش الصليبي بقلب رصافتها، أصيب جرّاءها بجراحات، حملها معه قافلاً إلى بعقوبة من جديد فلم يقر له قرارٌ فيها، كل يومٍ هو في حي، ويشدو بملء فيه:

 

أوانا في بيوت البدو رحلي     وآونة على قتد البعير

 

روى عنه أحد الإخوة أنه عندما قيلَ له: اذهبْ إلى الطبيب كي يستخرج الشظايا التي في خاصرتك. قالَ رحمه الله: لا؛ سوفَ ألقى الله تعالى بهنَّ.

 

فدى إخوانه بنفسه تقبله الله

 

كان مقرّباً جداً من إخوانه المهاجرين، فالتقى بخيارهم، وكان مسؤولاً عن أمنهم وحمايتهم، وقد شنّ الجيش الأمريكي حملة دهم واعتقال في منطقة (الكاطون)، فنقل المهاجرين لمنطقة الهاشميات وعندها وصلوا إلى نهر يقطع عليهم الطّريق، مكثوا غير بعيدين عنه، فأراد أن يستكشف المكان فيما لو كان ثمة كمين، قال لهم: "سأعبر النهر بقوة الله، وأجسُّ لكم المكان"، فشرع بعبور النهر حتى إذا انتصفه، لاقته دورية صليبية كامنة في الضفة الأخرى، فرموه بوابلٍ من الرصاص، استقرت واحدة في صدره وأخرى في الكتف، فانقلب إلى كرامة الله وعفوه، وأفضى به الأمر إلى الأجل المنتظر، لستٍّ وعشرين ليلةٍ خلت من شهر صفر 1426 هـ، نحسبه والله حسيبه، وحين علم المهاجرون بالأمر عادوا وقلوبهم منفطرةٌ، وأكبادهم متمزّقة بعدما رأوا أميرهم وحاديهم مجندلاً على صفيح الماء تحيطه هالةٌ من دمه الزاكي.

 

نعمت الحياة حياة المجاهدين

 

هنيئا لك أبا ياسر ما كدحت وركبت من أجله المخاطر والصعاب، ولم تُدخل سيفك في غمده حتى نلته، ولم تُرِحْ جسدك لحظة واحدة، وأنت تخطط وتربي وتدرب وتنفذ، وأنت مطارد من قبل جيوش الصليبيين والمنافقين والمرتدين.

 

رحل عنا بعمر الثلاثين وحياة المجاهد لا تُحسب بالأيام، بل إنها تُحسب بالأعمال، فمقام المجاهد في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة رجل ستين سنة.

 

إنها حياة الجهاد والدعوة والعطاء، حياة البذل والفداء، حياة الرجال، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، لقد آثرَ تقبله الله حياة الجهاد على كل ملذات الدنيا التي فتحت ذراعيها إليه مقبلة غير مدبرة، فآثرَ مرضاة الله عز وجل، ونصرة دينه، والإثخان في عدوه.

 

 

 

 

 


 

34- العدد 089 - الخميس 19 شوال 1438 هـ

أبو مجاهد الفرنسي
تجارة مع الله تعالى.. إيمان وجهاد بالمال والنفس

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10-13]

 

هذه التجارة الرابحة يطلبها كثير من الموحدين، ويحرصون عليها، ويبذلون في سبيل الفوز بها المال والنفس، طلبا لثمن تلك التجارة الذي وعد الله به، ومن هؤلاء التجار الفائزين، أبو مجاهد الفرنسي، تقبله الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

مكرم أبروقي، شاب تونسي الأصل أمضى طفولته وشبابه في الضواحي الفرنسية البائسة، همّه الدنيا التي حصّل منها نصيبا كبيرا، لاهيا عن الآخرة التي لم يتعلم من أمرها شيئا.

 

رجل عصابات جريء، كسب أموالا ضخمة من عمليات السطو الكثيرة على أموال الكفار، حتى امتلك سيارات فارهة، وصار يزاحم أغنياء باريس ومشاهيرها في نواديهم وحفلاتهم، وهي أكثر ما يطمح إليه أفراد هذا العالم الموبوء.

 

مرهوب الجانب، كان معروفا بين أقرانه بالشجاعة والإقدام، وعدم الخوف من مواجهة أو التهرب من صدام، خاصة في جولات الصراع التي لا تنتهي بين أحياء البؤساء في ظل جاهلية الضواحي الفرنسية، ولم يكن يكترث لعناصر الشرطة الفرنسية، فطالما اشتبك معهم بالسلاح، ونجح في الإفلات منهم أثناء عمليات السطو والسرقة أو بيع المخدرات.

 

كريم النفس، شهم الأخلاق، رغم انغماسه بشهوات الدنيا، فلا يتأخر عن مساعدة صديق، ولا الدفاع عن جار، ولا بذل المال مهما كثر لسد حاجة محتاج، أو كف يد قريب.

 

ذو عقلية إدارية منظَّمة، فلا يخطو خطوة إلا وقد هيَّأ لها أسبابها، ودرس عواقبها ومآلاتها، فاستخدم هذه الخصلة في عمله بشكل فعال، فلا يسطو على منزل إلا وقد استطلعه بشكل جيد، وإن اقتحمه يكون قد تجهز لأسوأ الاحتمالات، وهيأ لنفسه أسباب النجاة من القتل أو الاعتقال.

 

كل هذه الصفات كانت مؤهلات كافية ليكون زعيم عصابة خطير، أو تاجر مخدرات كبير، ولكن هيأ الله له السبيل إلى طريق آخر، عَكَس مجرى حياته بالكلية.

 

ومن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام

 

على عادة الكثيرين من المنتسبين إلى الإسلام، الذين لا يتذكرون دينهم إلا في رمضان، فيهرعون إلى المساجد طلبا للمغفرة، وتعويضا عما فات، وتكفيرا للخطايا والسيئات، قرر مكرم أن يقضي أياما من الشهر معتكفا في أحد مساجد باريس، حيث قدَّر الله له الاجتماع بأحد الدعاة إلى الله، رآه وهو يعلم بعض المسلمين أصول الإسلام، فانجذب إليه، والتزم حلقته، وسمع منه كلاما عن أحكام الإيمان والكفر ومعاملة الكفار، فازداد به تعلقا، ومن يومها قرر مكرم أن يتوب إلى الله، ويسلك طريقا جديدا فيما تبقى من حياته، هو طريق الهداية والعمل لدين الإسلام، وعن طريق هذا الأخ الداعية، تعرف مكرم على مجموعة من الشباب المسلمين، الدعاة إلى التوحيد، المناصرين للمجاهدين، فصار منهم، داعيا إلى الله، ساعيا إلى نصرة دينه بالمال والنفس.

 

كان الخياران أمام هذه المجموعة أن ينفروا إلى ساحات الجهاد، فيقاتلوا هناك حتى يُقتلوا، أو ينفذوا عمليات داخل فرنسا ضد النصارى، ولكن موانع كثيرة صدتهم عن الجهاد في سبيل الله، فاختاروا الانشغال بالدعوة في ذلك الوقت ريثما يهيِّئ الله لهم من أمرهم رشدا.

 

على خطى عثمان (رضي الله عنه)..

 

كتب الله للدولة الإسلامية النصر والتمكين، فأقامت الدين، وجدَّدت الخلافة، وخرج أمير المؤمنين يخطب في الناس، ويحث المسلمين على الهجرة والجهاد، ويبشِّرهم بقيام دولة لهم يأرزون إليها، وإمام يقاتلون من ورائه.

 

كانت هذه الخطبة لحظة حاسمة في حياة أبي مجاهد وإخوانه، فلم يعودوا يطيقون صبرا على العيش في ديار الكفر، وقد أيقنوا أن الله منَّ على عباده بدار إسلام، يُقام فيها شرعُه، وتعلُوها أحكامه، فصار الهاجس الأول للمجموعة أن يهاجروا من فرنسا، خُفية عن أعين المخابرات التي كانت تراقبهم، وقد منعت بعضهم سلفا من السفر إلى خارج البلاد، وكذلك تحريض أكبر عدد ممكن من الشباب على الهجرة، خشية أن تنقطع بهم السبل بعد أن يصلوا إلى أراضي الدولة الإسلامية، ويصبح التواصل معهم صعبا عسيرا.

 

فبدأ الإخوة يُعدون العدّة للهجرة، ويهيِّئون أهلهم للرحيل، وقاموا بجولة على كل من يعرفونه من الشباب ويثقون به، ليحرضوه على النفير، فكان مكرم -الذي اتخذ لنفسه منذ هدايته كنية جديدة هي أبو مجاهد- يجالس الإخوة ويذكرهم بفضل الهجرة، وبنعمة العيش تحت ظل الشريعة، وتربية أطفالهم في ديار الإسلام، فإذا وجد من أخ اعتذارا بمانع من موانع الدنيا، سعى لإزالة هذا المانع بأي وسيلة كانت.

 

فمن كان ممنوعا من السفر، يشتري له جوازا مزورا مهما بلغ ثمنه، ومن كان لا يملك تكاليف الرحلة تعهَّد له بدفع تكاليفها مهما كبرت عائلته، بل ويشتري له سيارة ليستقلها في رحلته إن لزم، ومن كان عليه دَين أدى عنه الدين مهما كبر، هذا عدا عن شراء كل ما يحتاجه من لباس وتجهيزات للسفر والهجرة.

 

وبالإضافة إلى ذلك كله، دفع تكاليف كبيرة لشراء أجهزة ومعدات إلكترونية، وأجهزة كمبيوتر، طلبها بعض الإخوة ليستعملوها في خدمة دين الله، فور وصولهم إلى أرض الدولة الإسلامية.

 

وبالمحصلة، كان جميع الإخوة الذين حوله يشعرون أن هذا الرجل همّه أن ينفق ماله في سبيل الله، حتى باتوا يشبِّهون فعاله بفعال عثمان -رضي الله عنه- الذي موّل جيشا كاملا من ماله الخاص، طلبا لمرضاة رب العالمين.

 

هجرة في سبيل الله..

 

تجهزت العوائل للهجرة في سبيل الله، والسفر إلى دار الإسلام، وكان أكثر الرجال من المتابعين أمنيا، ولهذا كان لزاما على المهاجرين أن يرتبوا أمر الرحلة جيدا حتى لا يشعر بهم أعداء الله، فيصدوهم عن سبيل الله، ويحولوا بينهم وبين الوصول إلى أرض الدولة الإسلامية.

 

فاستمر الإخوة في أعمالهم حتى يوم الرحيل، فيما كانت العوائل قد تجهزت للانطلاق فور رجوع الرجال من أعمالهم، لتنطلق السيارات التي تحملهم والأخرى التي تحمل العوائل وتسير في مسارات مختلفة، وعبر دول عديدة، حتى الوصول إلى اليونان، لتعبر عندها حدود "الاتحاد الأوروبي" إلى تركيا، ومنها إلى أرض الشام.

 

على عادته كان أبو مجاهد قد رتَّب كل شيء للرحلة، وهيأ لها كل أسباب النجاح مهما بلغت التكاليف، وصاغ لها القصة المقنعة لكي لا يثير انتباه المراقبين، أو شبهات المتطفِّلين، ووضع لها المخطط المحكم، من لحظة خروجهم من فرنسا، إلى لحظة وصولهم إلى داخل دار الإسلام، باستثناء حلقة هي الأهم في هذه الرحلة، وهي التواصل مع الإخوة في الدولة الإسلامية، ليساعدوه في تجاوز العقبات الخطيرة في طريقه، إذ توكَّل على الله أن يهديه ويعينه لتأمين تواصل معهم فور وصوله إلى تركيا، مستعجلا الرحيل، خوفا من انقطاع السبيل.

 

كان ترتيب الرحلة الذي وضعه أميرها أبو مجاهد يقضي بعزل العوائل عن الإخوة المعروفين، وإرسالهم مع عائلة أخ غير معروف ليعبر بهم الحدود، في حافلة صغيرة اشتراها أبو مجاهد لهذا الغرض، فيما اشترى لنفسه وبعض الإخوة الذين تعرفهم أجهزة المخابرات سيارة فارهة، كجزء من الغطاء الأمني الذي رسمته المجموعة، وهو اتخاذ صفة رجال أعمال راغبين في الذهاب إلى تركيا لعقد صفقات تجارية هناك، وهيَّأ لهذا الغرض اللباس المناسب والأوراق المزورة التي تثبت مزاعمهم، بالإضافة إلى جوازات السفر المزورة الضرورية لعبور الحدود.

 

تمكنت القافلة من عبور إيطاليا، ودول البلقان، وصولا إلى اليونان حيث المرحلة الأكثر خطورة في الرحلة، وعندما وصلوا إلى النقطة الأخيرة قبل الحدود، أوقف أبو مجاهد العوائل وبقية الإخوة في إحدى الاستراحات، وصمم أن يكون أول من يحاول العبور، خشية أن يكون في الأمر خطر، فيقع عليه، وينجو الآخرون من الاعتقال.

 

عندما فحص مسؤولو الحدود اليونانيون جواز سفره، وطابقوه مع الصور الموجودة عندهم، عاد أحدهم ليخبره بالعودة من حيث جاء، وألا يحلم بعبور الحدود مرة أخرى، ليكتشف أبو مجاهد ومن معه أن حكومة فرنسا قد عممت صورهم على كل الحدود الأوروبية قبل 10 أيام من انطلاق رحلتهم.

 

أُسقط في أيديهم، فهل بعد هذه العزيمة على الهجرة يرجعون أدراجهم؟ وهل ذهب كل تدبيرهم مهبّ الريح؟

 

قدر الله غالب..

 

كانت الدنيا تدور بهم، ولما علموا بأمر المذكرة الفرنسية تكوَّن لديهم هاجس الإفلات من الاعتقال، والتفكير بالخروج من اليونان قبل أن تطلب فرنسا إلقاء القبض عليهم وإعادتهم إليها مكبَّلين بالحديد.

 

جرّب الأخ الذي يصحب العوائل العبور، فتمكن -بفضل الله- من ذلك، إذ لم يكن هو أو أحد من النساء اللواتي بصحبته على قوائم المنع من المغادرة، فدخل إلى تركيا بعد أن زوّدهم أبو مجاهد بكمٍّ كبيرٍ من الأموال، على أمل أن ينتظروه هناك لفترة وإلا عبروا جميعا إلى دار الإسلام دونه ومن معه.

 

صار الهمّ الأول لأبي مجاهد، وقد حمل أمانة هذه المجموعة الكبيرة من المسلمين، أن يوصل العوائل إلى أراضي الدولة الإسلامية، وبعد أن يطمئن عليهم، تصبح الخيارات أمامه هو ومن معه مفتوحة، فإما أن يزيل العوائق التي تحول بينهم وبين دار الإسلام فيلحقوا بمن سبقهم، أو أن يعودوا أدراجهم إلى فرنسا، ليبدؤوا عملهم الجهادي هناك، في أرض الصليبيين التي تحارب الدولة الإسلامية، وتمنعهم من الهجرة إليها.

 

فكان من رحمة الله بهذه الثلة من المهاجرين أن يسَّر الله لهم التواصل مع أحد منسقي الهجرة في الدولة الإسلامية، فاتصلوا به وبيَّنوا له حالهم، وطلبوا مساعدته في إخراجهم من اليونان بأسرع وقت ممكن خشية أن يعثر عليهم الصليبيون فيعتقلوهم، فوعدهم المنسِّق خيرا، ومكثوا أياما ينتظرون جوابه.

 

وما هي إلا أيام حتى عبروا الحدود إلى تركيا، تاركين خلفهم في اليونان سيارتهم الفارهة، وأمتعتهم، مقدّمين الإفلات من الاعتقال على كل شيء، فوصلوا إلى إسطنبول، والتقى الإخوة بعوائلهم، وبدأت مرحلة التخطيط لعبور الحدود من جديد إلى أراضي الدولة الإسلامية، فقرر أبو مجاهد أن يرسل الإخوة جميعا لعبور الحدود، وتخلف عنهم لترتيب عبور أحد الإخوة الذي علق في اليونان، مصرّا أن لا يدخل دار الإسلام من دونه، فقد كان عزم على نفسه أن يكون آخر المجموعة دخولا إلى أرض الدولة الإسلامية، وأن لا يحقق حلمه بدخولها حتى يكون قد اطمأن على وصول كل المجموعة من المهاجرين التي تحمَّل أمانة إيصالهم إلى مبتغاهم، منذ وافقوا على الهجرة معه.

 

فلما تراكمت المشكلات على هذا الأخ في اليونان، وتعثرت محاولاته المتعددة لعبور الحدود مرارا، ألحّ على أبي مجاهد بالطلب، أن يكف عن انتظاره، ويبادر بإكمال رحلته فورا، فوافق أبو مجاهد على مضض، بعد أن أرسل له مبلغا كبيرا من المال ليتدبر أمر نفسِه وعائلتِه، ويستعين به في فترة ترقُّبه.

 

وأخيرا.. في دار الإسلام

 

وصل أبو مجاهد الفرنسي أخيرا إلى دار الإسلام، ووجد في انتظاره على الحدود إخوانه من جنود الدولة الإسلامية، بلباسهم المميَّز، وأقنعتهم السوداء، وهيئاتهم ذاتها التي طالما رآها في الإصدارات المرئية، فعانقهم وعانقوه، عناق المحب للمحب، فقد سبقته سيرته الحسنة إلى أراضي الدولة الإسلامية، مع إخوانه الذين سبقوه بالوصول، والذين رووا قصة هجرتهم، وحدثوا عن أميرهم الذي بذل كل ما يملك في سبيل تمكينهم من الهجرة إلى دار الإسلام، وكشفوا لهم عن جوانب من شخصيته، ونصحوهم بالاستفادة منه في أي عمل جهادي ضد فرنسا.

 

وهكذا صار أبو مجاهد جنديا من جنود الخلافة، بعد أن أنهى دوراته الشرعية والعسكرية، وصار يعمل في أحد دواوين الدولة الإسلامية ناصحا لإخوانه في المجالات المختلفة، ينفعهم بما لديه من خبرات في إدارة الأعمال، وتنظيم المشاريع، مساعدا للإخوة المسؤولين عن العمليات الخارجية، عارضا كل ما لديه من جهد ومال ومعلومات في أي عمل جهادي يستهدف الصليبيين في فرنسا.

 

كان أبو مجاهد توَّاقا للقتال في سبيل الله تعالى، وكان نعم الجندي في كتائب ولاية الخير، حيث شارك في عدة معارك لجيش الخلافة فيها ضد الجيش النصيري، ثم انتقل إلى ولاية دمشق، حيث أمضى أيامه مرابطا في بادية الشام، تلفح وجهَه شمس الصحراء وغبارها، ويقرص عظامه بردها، مشاركا في الغزوات، مغيرا مع الأبطال في الصولات.

 

أبو مجاهد الشهم الكريم في فرنسا، ازداد شهامة وكرما في دار الإسلام، فكان لا يترك فرصة لمساعدة أحد من إخوانه إلا واستغلها، مقدّما أقصى ما في وسعه لذلك، مركزا في إحسانه على أرامل الشهداء وأيتامهم، يتفقد أحوالهم، ويعينهم بماله ونفسه.

 

وأبو مجاهد الداعية البسيط الذي كان يجذب حديثه السهل الشباب الصغار إليه في ضواحي باريس، استمر على عادته، يستغل أي موقف مع المجاهدين أو عوام المسلمين، ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى اتباع السنن، فلا يسأم من أن يقف مع بائع في دكانه لساعات يدعوه إلى الله، ويحرضه على الجهاد في سبيله، حتى إذا اشتكى منه رفاقه لتأخرهم في طريق سفر، أو حاجتهم إلى الإسراع في مسير، عاتبهم على ذلك، وذكرهم بأنه كان غافلا عن الدين مثل هؤلاء الناس، فهيّأ الله له من يذكره بالله، ويدعوه إليه، وإنه من الواجب عليه أن يشكر نعمة الله عليه بدعوة الناس، والسعي في هدايتهم.

 

بعد المال.. بذل النفس في سبيل الله

 

أثناء هجوم جنود الدولة الإسلامية لفك الحصار عن غوطة دمشق، والذي استهدف مطاري السين والضمير، ومدينة الضمير، ومنطقة المحطة الحرارية، وغيرها من المواقع، والذي توقف بسبب اتفاق الصحوات المرتدة في القلمون الشرقي مع الجيش النصيري على عرقلته، واستهدافهم طرق إمداد المجاهدين في المنطقة، كان أبو مجاهد يقتحم مع إخوانه منطقة المحطة الحرارية جنوب شرقي دمشق، وأثناء الاشتباكات استهدفت دبابة للجيش النصيري موقعهم، فأُصيب إصابات بالغة في رأسه ويده، وغاب عن الوعي، فلما أفاق وجد أنه قد فقد يده اليمنى التي بترتها القذيفة المنفجرة أمام وجهه، فنُقل إلى الخطوط الخلفية للعلاج، ونجّاه الله -تعالى- من القتل في هذه الحادثة.

 

لم تكن خسارته ليده، لتقعده عن الجهاد في سبيل الله، ولا لتصده عن البذل طلبا لمرضاته نحسبه كذلك، بل قضى فترة نقاهته وهو يترقب العودة إلى ساحات القتال، واعتذر من إخوانه عن تولي أيّة أعمال إدارية تناسب حالته الصحية الجديدة، مصرّا على الخروج إلى المعارك من جديد فور قدرته على ذلك، واستبدل لهذا الأمر ببندقيته الروسية، أخرى أمريكية خفيفة الوزن، صغيرة الحجم، كي يستطيع القتال بها بيد واحدة.

 

بلغه أن إخوانه يعدّون العدة للهجوم على مواقع الصحوات المرتدة في القلمون الشرقي، فأعد للخروج العدة على عجل، وسافر ملتحقا بكتيبته، دون أن يخبر أحدا من أصدقائه مخافة أن يتمسكوا به ويؤخِّروه عن الغزوة، متعللين بسوء صحته، أو بحاجتهم إليه في عمل ما.

 

كان جنود الدولة الإسلامية ينكلون بالمرتدين، ويسيطرون على مواقعهم في جبال البتراء في تلك الفترة، ويتقدمون باتجاه معاقلهم في قلب القلمون الشرقي، عندما وصلهم أبو مجاهد، وانطلق إلى خط القتال، رافضا البقاء في المواقع الخلفية للمجاهدين، وصاحبه في ذلك أخ مهاجر آخر، هو أبو إحسان، من جنوب فرنسا، تعرّف عليه في ساحات القتال، وتآلفت أرواحهما، كما تشابهت طباعهما، فمن عرف أبا إحسان، كان يصفه بالأوصاف ذاتها التي اتصف بها أبو مجاهد، من شجاعة، ومروءة، وحرص على إعانة المسلمين، وبذل كل ما يملك نصرة للدين، وسعيا لإرضاء رب العالمين.

 

وكعادته في التأهب، وأخذ الحيطة، رفض أبو مجاهد أن يسلك طريقا سلكه بقية المجاهدين، مكشوفا للعدو، يستهدفونه بالأسلحة الثقيلة والقناصات، مفضلا سلوك طريق آخر، أكثر وعورة، ولكنه مستور عن أعين المرتدين، فوصل إلى خط المجاهدين الأول، حيث كانت مجموعة من المجاهدين تستهدف المرتدين بطلقات رشاش ثقيل منصوب على سيارتهم التي وقفت في أعلى تلة، استتر خلفها أبو مجاهد ورفيقه أبو إحسان فور وصولهما إلى الموقع.

 

حاول المرتدون استهداف سيارة المجاهدين التي تطلق النار عليهم بصاروخ موجه أطلقوه عليها، وأخطأ الرامي توجيهه إلى الهدف، فسقط الصاروخ خلف التلة التي انتصبت السيارة في قمتها.

 

وقع الصاروخ الذي أخطأ هدفه بين أقدام أبي مجاهد وأبي إحسان، وانفجر لتمزق شظاياه أجسادهما، ويقتلا على الفور، تقبلهما الله.

 

وصل الخبر إلى أهل أبي مجاهد وإخوانه، فبشروا إخوانهم في فرنسا، سائلين الله له الشهادة، وبلغ الخبر المخابرات الفرنسية، فأعلنت لوسائل الإعلام الفرنسية أن أبا مجاهد -تقبله الله- قُتل بقصف جوي نفذته طائرات فرنسية، أثناء تحضيره لهجمات جديدة ضد الصليبيين في فرنسا.

 

قُتل أبو مجاهد تقبله الله، ونحسبه ولا نزكي على الله أحدا أنه نال ما تمنى وصدق فيما عاهد الله عليه، وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله تعالى، وتاجر مع الله التجارة الرابحة، ونسأله -تعالى- أن يكون ممن فاز فيها الفوز العظيم.

 

 

 

 

 


 

35- العدد 090 - الخميس 26 شوال 1438 هـ

أبو أيمن العراقي رجل بأمة من الرجال

رُبّ رجل بأمّة من الرجال... عبارة تصدق في حق كثير من مجاهدي الدولة الإسلامية، فكم من أخ أحيى اللهُ به وبهمته العالية الجهاد في منطقة من المناطق، وكم من أخ أخمد اللهُ به وبثباته على الحق فتنا كادت أن تعصف بجماعة المسلمين، وكم من أخ فتح الله للمسلمين على يديه الأرض، ومكن لهم فيها، ومن هؤلاء الأفذاذ الشيخ المجاهد أبو أيمن العراقي، تقبله الله.

 

علي أسود الجبوري، بطل من أبطال الجهاد في العراق والشام، بدأ مسيرة جهاده مقارعا للصليبيِّين بعد غزوهم للعراق، وكانت الموصل أولى الساحات التي صال فيها وجال، إذ هي مربع صباه وشبابه، وفي جامعتها أتم دراسته في قسم اللغة الإنكليزية، فكان أول علاقته بهذه اللغة، أن يقاتل أصحابها من الأمريكيِّين، حتى اعتقلوه وأودعوه سجونهم، في مرحلة من مراحل التربية الجهادية التي مرّ بها كل مجاهدي العراق تقريبا.

 

عاد للجهاد متوثبا لقتال المرتدين، فور خروجه من سجون أوليائهم الصليبيِّين، فكان فارسا من فرسان العمل الأمني في مدينة الموصل، الذين أرهقوا جيش الروافض وشرطتهم وأجهزة أمنهم بالعبوات والكواتم، والمفخخات والعمليات الاستشهادية، حتى انهار المرتدون تماما على أيدي هؤلاء الأبطال، فلما اقتحم إخوانهم من أسود الجزيرة مدينة الموصل لم يجدوا أمامهم إلا صورة جيش مهزوز لم يلبث أن كسره الله على أيديهم في الصدمة الأولى.

 

لم يكتب الله لأبي أيمن العراقي أن يكون شاهدا على فتح مدينته العزيزة، وساحة جهاده الكبرى، ويشارك في تحقيق الفتح المبين الذي ساهم فيه من خلال سنوات من الجهاد سبقت الفتح ومهدت له، إذ كان في هذه الأثناء يصاول أعداء الله من صحوات الردة في الشام.

 

تأسيس ولاية الساحل

 

بدأت قصة أبي أيمن -تقبله الله- مع الجهاد في الشام منذ أيامه الأولى، إذ انتدبه أمير المؤمنين مع مجموعة من كوادر الجهاد في العراق لنصرة المسلمين في الشام، وتأسيس نواة للمجاهدين على أرضها، هذه النواة التي أطلق عليها في ذلك الوقت (جبهة النصرة لأهل الشام)، وألحَق بها الجندي المكلف بإدارة العمل عبارة (من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد)، هذه اللاحقة التي أُشيع حينها أنها وسيلة لخداع الصليبيِّين، والتعمية على وجود المهاجرين، ليتبين لاحقا أنها كانت تخفي وراءها ضلالات وأهواء، تفوح منها رائحة العصبية الوطنية، والتمهيد للغدر ونكث البيعة، وقطع الصلة مع دولة العراق الإسلامية التي لم تَعْدُ (جبهة النصرة) عن كونها سرية من سراياها المقاتلة، لا تختلف عن أي من السرايا الأخرى التي تقاتل في الموصل وصلاح الدين وبغداد وغيرها من مناطق العراق.

 

دخل الشيخ إلى الشام، وحط رحاله في حلب، التي كانت حينها مركزا لقيادة (جبهة النصرة)، فيها أغلب الأمراء والمسؤولين المقربين من الجولاني، والموالين له، الذين كانوا كلهم تقريبا من "السوريين"، في سعي واضح من الجولاني آنذاك لتهيئة الأوضاع للغدر وشق الصف، ولذلك كان مصير أي كادر من الكوادر القادمة من العراق العزل والتهميش، أو الزج به في الجبهات المشتعلة للتخلص منه، أو النفي إلى مناطق الأطراف كما كان مصير أبي أيمن العراقي الذي وجدوا فيه خطرا عليهم، لما يحمله من عداوة للمرتدين وشدة على أعداء الدين، ومن إخلاص لمن بايعه أميرا للمؤمنين، كان جزاؤه على ذلك النفي والإبعاد إلى منطقة الساحل، حيث لا وجود يذكر للجبهة فيها، فانقلب هذا الأمر -بفضل الله- وبالا على الغادرين، بأن فتحوا بذلك لأبي أيمن المجال ليعمل قريبا من مناطق دخول المهاجرين، بعيدا عن تأثير القيادة المنحرفة التي كانت تقود العمل، وتسير به إلى طريق الضلال.

 

حط الشيخ أبو أيمن رحاله في الساحل وما فيه آنذاك من جنود الدولة الإسلامية إلا أفراد، يعدون على الأصابع، ووجد أن الساحة هناك يغلب عليها التشرذم والتفرق، في ظل فوضى الفصائل والكتائب التي طغت على الواقع آنذاك، إذ كان السائد اجتماع عدد من المقاتلين فور امتلاكهم لقطع قليلة من السلاح الخفيف، لا يجاوز عددهم في أكثر الأحيان عشرة أفراد، يعلنون تشكيل كتيبة أو سرية، وينصبون لها راية، ويختارون لها اسماً، ويطلبون من الناس الانضمام إليهم والقتال تحت رايتهم، دون أن تُعرف لهم عقيدة صحيحة، أو منهج مستقيم، أو حتى هدف واضح لقتالهم، ولتأسيس كتيبتهم.

 

بدأ الشيخ جهاده في الساحل داعيا إلى الله -تعالى- في جبال التركمان، طائفا على هذه المجموعات المقاتلة، يذكرهم بالله، ويدعوهم إلى تصحيح عقائدهم، والإخلاص في قتالهم ليكون جهادا في سبيل الله، ويبين لهم أهمية صحة الراية التي يجب أن لا يقاتل المسلم إلا تحتها، كي لا يكون قتاله قتالا جاهليا، ولا تكون ميتته ميتة جاهلية، ويحضهم على البيعة لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي -حفظه الله- أمير دولة العراق الإسلامية آنذاك، فألّف الله على يديه قلوب كثير من العباد، وهداهم إلى الانضمام إليه، أنصارا لهذا المهاجر المجاهد، وجنودا للدولة الإسلامية، ومقاتلين تحت راية التوحيد.

 

وكذلك منَّ الله عليه بانضمام الكثير من المجاهدين المهاجرين إليه، فقد كانت ولاية الساحل واحدة من أكبر بوابات دخول المهاجرين إلى الشام، العابرين للحدود من جهة أنطاكيا، ليشكلوا لأنفسهم مجموعات مقاتلة مستقلة، أو يبقوا منفردين يتنقلون بين الجماعات والتنظيمات بحثا عن الراية الصحيحة والمنهج القويم، وهكذا انضم كثير من هؤلاء المهاجرين إلى الدولة الإسلامية في الساحل، وبايعوها جماعات وأفرادا، لينصر الله بهم الدين، وتكون لمجاهدي الساحل صولات وجولات في مختلف مناطق الدولة الإسلامية وولاياتها في العراق والشام.

 

في قتال النصيرية

 

لم تكن ظروف الحرب في منطقة الساحل لتسمح لجنود الدولة الإسلامية بطويل إعداد، إذ كان عليهم أن ينغمسوا في المعارك مباشرة بما تيسر لديهم من مقاتلين وسلاح، وهكذا لم يكد تعدادهم يبلغ العشرات، حتى انطلق بهم أميرهم إلى ساحات القتال، ليغمسهم ونفسه في أتونها.

 

فكانت أولى غزواتهم المباركة، صولات على نقاط وضعها الجيش النصيري لتأمين منطقة كسب، ومشاركة في صد هجوم كبير شنه الجيش النصيري لاستعادة ما خسره في منطقة الساحل، فكسر الله هجمته وخسر المرتدون كثيرا من عناصرهم، وسلاحهم الذي أضحى غنيمة للمقاتلين.

 

ثم كانت الحادثة التي اعترفت على إثرها الفصائل والتنظيمات بشراسة مجاهدي الدولة الإسلامية وشدّة بأسهم في القتال، عندما استجدى أمراء فصيل (أحرار الشام) بالشيخ أبي أيمن العراقي لإنقاذ مجموعة من مقاتلي الفصيل حاصرهم جنود الجيش النصيري بعد هجوم فاشل لهم على (قمة النبي يونس)، فلم يتأخر الشيخ وانغمس جنود التوحيد في المعركة التي أُبعدوا عنها، وفكوا الحصار عن المحاصرين، رغم تآمر أمرائهم ضد الدولة الإسلامية، بعد نكث الغادر الجولاني لبيعته، وفتحهم معركة الهجوم على (قمة النبي يونس) دون علم الشيخ أبي أيمن وجنوده، بسبب ثباتهم على بيعتهم لأمير المؤمنين، ورفضهم السير مع الغادر الجولاني في غدرته، ومخططه لشق صف المجاهدين في الدولة الإسلامية، وكان قادة (أحرار الشام) حينها يظهرون الإسلام، والسعي لتحكيم الشريعة، ويزعمون أن خلافهم مع الدولة الإسلامية منحصر في مسائل السياسة الشرعية، فيعاملهم المجاهدون على ما ظهر منهم، حتى كشف الله حقيقتهم، وأظهر خبيئتهم في الشهور اللاحقة.

 

وكما كان لأبي أيمن وإخوانه الدور الأكبر -بعد تيسير الله- في وضع موطئ قدم للدولة الإسلامية في الساحل، فقد كان له -تقبله الله- الدور الأكبر كذلك في تثبيت جنود الدولة الإسلامية هناك على بيعتهم لأمير المؤمنين، إذ طاف بالمقرّات والمضافات، وبيَّن للجنود حقيقة الجولاني ومن معه، وأنهم جنود للدولة الإسلامية، في عنقهم بيعة لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي حفظه الله، وأنهم نكثوا هذه البيعة، وطمعوا في الاستحواذ على فرع الدولة الإسلامية في الشام، وهو (جبهة النصرة)، ووضح لهم حكم من ينقض العهد مع من أعطوه صفقة يدهم، وبايعوه على السمع والطاعة في المنشط والمكره، فكان لدعوته هذه الأثر الكبير في نفوس الجنود، الذين كانوا يكنون له غاية الحب، وغاية الاحترام والثقة، وذلك لما لمسوه منه، على طول خلطة ومعاشرة، من صدق في الحديث، وبسالة في القتال، وحرص على دين إخوانه، وعلى سلامتهم في المعارك، فبقي مجاهدو الساحل على بيعتهم، ومنهم تكونت ولاية الساحل، التي أصبح الشيخ أبو أيمن العراقي -تقبله الله- أول ولاتها.

 

ثم كانت غزوة "أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها" أولى المعارك التي خاضها جنود الدولة الإسلامية بعد إعلان ولاية الساحل، وأكبرها في تلك الأرض، فمَكَّن الله مجاهدي ولاية الساحل من تنفيذ الجزء المخصص لهم من خطة المعركة، وسيطروا على أبراج مراقبة الجيش النصيري التي نصبوها على قمم الجبال، ثم نزلوا إلى السفوح، ففتح الله على أيديهم 16 قرية نصيرية، بعد أن هرب رجال تلك القرى أمام المجاهدين، تاركين نساءهم وذراريهم وأموالهم وأسلحتهم، وكان لتلك الغزوة أن تكون من المعارك الفاصلة في جهاد الشام، وتفتح الطريق باتجاه مدن الساحل الكبرى، لولا إخلال بعض الفصائل في تنفيذ الهجوم على النقاط التي تعهدوا بالسيطرة عليها، وتخاذلهم عن القتال حتى تمكن الجيش النصيري من لملمة صفوفه، واستقدام التعزيزات من مناطق أخرى، ثم انسحاب مقاتلي الفصائل، ليستعيد النصيرية كل ما سلبه منهم جنود الدولة الإسلامية من مناطق، بذل فيها عشرات الشهداء والجرحى من الموحدين دماءهم رخيصة، نصرة للدين، وسعيا لتحكيم شرع رب العالمين.

 

التصدي لغدر الصحوات

 

ما إن أعلن الشيخ أبو بكر البغدادي -حفظه الله- عن وجود جنوده في الشام، وإلغائه للمسمى الذي عملوا تحته فترة من الزمن وهو (جبهة النصرة)، جامعا المجاهدين جميعا تحت اسم جديد هو (الدولة الإسلامية في العراق والشام) حتى بدأت المؤامرات على الدولة الإسلامية، طلبا لإخراجها من الشام، خوفا من إفسادها لمشاريع المرتدين والصليبيِّين في هذه الأرض، فكان العمل يجري على قدم وساق تحضيرا لقتالها، من قبل أطراف عديدة، يدفعهم ويُمَوِّلهم الصليبيون والطواغيت، ويحرضهم أمراء تنظيم القاعدة وشرعيوهم، ويروجون بينهم أن جنود الدولة الإسلامية بغاة خوارج، مبدين استعدادهم للمشاركة في أي قتال ضدهم.

 

ولم يكن مجاهدو الدولة الإسلامية غافلين عما يحاك لهم، بل كانوا موقنين أن الصحوات ستظهر في الشام لا محالة، ولكن غم عليهم موعد ظهورها، فكان العمل الأمني قائما على رصد تحركات جميع الفصائل على الأرض، وخاصة الكبيرة منها، ومعرفة قادتها، ومصادر قوتها، وخططها، استعدادا لتوجيه ضربات موجعة لها عند تحركها ضد الدولة الإسلامية.

 

ولم يتأخر أبو أيمن العراقي وإخوانه عن هذا الواجب، فكانت معالجته للموضوع تقوم على محورين؛ الأول وقائي يتمثل في سعيه إلى تأمين منطقة حصينة خاصة بمجاهدي الدولة الإسلامية، تكون مأوى لهم إذا خرجت الصحوات، ينشئون فيها معسكراتهم ومقراتهم، وتكون قاعدة خلفية آمنة لكل تحركاتهم، ووقع اختيار الشيخ على منطقة جبلية تغطيها الغابات شمال جبال التركمان، لتكون حصنه الحصين عند غدر الصحوات، بينما كان المحور الثاني لعمله هجوميا ضد الصحوات يقوم على اختراق الفصائل أمنيا، لمعرفة تفاصيل المعلومات عنها، وكذلك تعزيز خيار ضرب رؤوس المرتدين، وخاصة من يثبت عنه الاجتماع مع الصليبيِّين أو الطواغيت في تركيا للتحضير لقتال الدولة الإسلامية، بل واجتثاث الفصائل التي تتعهد بقتالها كليا، قبل أن تبدر منها أي حركة معادية.

 

وهكذا مكَّن الله الشيخ أبا أيمن وإخوانه من ضرب مجموعة من رؤوس فصائل المرتدين، الذين عزموا على قتال جنود الدولة الإسلامية، وإخراجها من ولاية الساحل، ومنهم المرتد (كمال حمامي) عضو المجلس العسكري لمنطقة الساحل، والمرتد (جلال بايرلي) الذي أفتى لبعض المجرمين بقتل مجاهدي الدولة الإسلامية وخاصة المهاجرين منهم، وقُتل بفتواه هذه أربعة من المهاجرين، والمرتد (أبو فراس عيدو)، بالإضافة إلى ضرب بعض الكتائب التابعة للمجلس العسكري، والسيطرة على مستودعات السلاح الذي استلمته من هيئة الأركان المرتدة.

 

ويروي أحد الإخوة مشهدا جمعه بأبي أيمن بعد تلك المرحلة، وقد رآه يركب سيارة جديدة، سأله: بكم اشتريتها، فأجاب أبو أيمن: بطلقة في رأس مرتد.

 

في ظل استعدادات الفصائل للغدر بجنود الدولة الإسلامية، كان المجاهدون يعدون العدة لواحدة من أكبر الغزوات في الشام، وهي "غزوة الخير" التي كان هدفها السيطرة على المحيط الغربي لمدينة الخير والذي يضم عددا من كتائب وألوية الجيش النصيري، بالإضافة لواحد من أكبر مستودعات سلاحه، هذه الغزوة التي شاركت فيها كل ولايات الدولة الإسلامية، شارك فيها مجاهدو الساحل أيضا، وأبلوا فيها بلاء حسنا.

 

استغل المرتدون انشغال جنود الدولة الإسلامية في "غزوة الخير"، فخرجت الصحوات في حلب وإدلب، وبدأت الاستعدادات من الفصائل للغدر بالمجاهدين في المنطقة الشرقية والبادية والساحل، ولكن الحملة الأمنية السابقة كانت قد آتت أكلها بفضل الله، فقد زرعت عمليات المجاهدين الرعب في قلوب الفصائل، ونجحت الحملة الدعوية في توعية كثير من المقاتلين بخطورة موالاة الكافرين على المسلمين، وبالتالي لم توجد في الساحل قوة قادرة على الوقوف في وجه الدولة الإسلامية، ما دفع صحوات الردة إلى إرسال تعزيزات عسكرية من المناطق الأخرى لقتال المجاهدين في الساحل، وكان على رأسهم المرتد (جمال معروف) والفصائل التابعة له، الذي أرسل رتلا كبيرا من جبل الزاوية لقتال الدولة الإسلامية في الساحل.

 

فتصدى لهم المجاهدون، وأعظموا فيهم النكاية، فلما جاء الأمر لهم بالانحياز من الساحل، متحيزين إلى فئتهم التي تجمعت في المنطقة الشرقية، مَكَّن الله الشيخ أبا أيمن من إدارة خطة الانتقال بطريقة جيدة، فقسمهم إلى مجموعات، وأرسلهم من طرق متعددة إلى دار الإسلام، بحسب حال كل منهم، ومدى قدرته على اجتياز حواجز المرتدين، حتى أكمل إرسال كل جنوده مع عوائلهم، ثم كان من أواخر المهاجرين من ولاية الساحل إلى مناطق سيطرة الدولة الإسلامية، بعد أن اطمأن على سلامة إخوانه ووصولهم إلى بر الأمان، بفضل الله.

 

في ولاية الخير

 

دخل مجاهدو الساحل وأميرهم الشيخ أبو أيمن العراقي في قتال الصحوات فور وصولهم إلى المنطقة الشرقية، ووقع على عاتقهم عبء مهاجمة الصحوات من جهة البادية الشامية، في حين تولى مجاهدو ولاية البركة والرقة والخير، جبهات القتال من جهة الجزيرة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، فكانت غزواتهم المباركة على مناطق كباجب والشولة غرب مدينة الخير وغيرها من المناطق، التي كانت درتها غزوة البوكمال، التي كانت من أهم وأكبر عمليات الالتفاف في ذلك الحين.

 

إذ هاجم مجاهدو الدولة الإسلامية آخر نقطة في مؤخرة مناطق أعدائهم، التي تبعد عن جبهات القتال الرئيسية قرب مدينة الخير أكثر من 80 كم، ليضربوا جنود الصحوات داخل مدينة البوكمال في هجوم مفاجئ من جهة الصحراء، نجح خلاله المجاهدون في السيطرة على أجزاء واسعة من المدينة، وقُتل عدد كبير من الصحوات المرتدين، ثم الانحياز والعودة مرة ثانية إلى الصحراء، لتقليل الخسائر في صفوف المجاهدين، بعد أن استنفر المرتدون كل قواتهم في ولاية الخير لاستعادة ما خسروه في المدينة، فأجبرتهم الغزوة، رغم عدم تحقيقها الهدف الرئيسي لها والمتمثل في السيطرة على مدينة البوكمال، على حشد قوات كبيرة في مناطقهم المختلفة خوفا من هجمات مفاجئة جديدة من جهة الصحراء.

 

وفي هذه الأثناء فتح الله مدينة الموصل لعباده المجاهدين، وسقطت منطقة الحدود كلها، فاستغل جنود الدولة الإسلامية الفرصة مجددا لتنفيذ هجوم جديد على مدينة البوكمال قاد أبو أيمن العراقي أحد محاوره، لتفتح المدينة بفضل الله، وينتهي أمر الصحوات في ولاية الخير بين يوم وليلة، وكذلك أمر ربنا عز وجل، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

 

وعُيِّن الشيخ أبو أيمن العراقي واليا على الخير، خلفا للشيخ أبي عمر الرفدان -تقبله الله- الذي انتدب للعمل في ولايات العراق، فكَرَّس جهده الجهيد على تنقية الولاية من فلول الصحوات المختبئين، ثم القضاء على فتنة المرتدين في منطقة الشعيطات شرق الولاية، الذين غدروا بجنود الدولة الإسلامية بعد أن طلبوا الصلح، ليستقر أمر ولاية الخير -بفضل الله- وتنقطع آمال الصحوات المرتدين بتعكير أجوائها، والتغرير بالناس للخروج على الدولة الإسلامية.

 

نهاية الرحلة.. في الموصل

 

بعد شهور من إدارته لولاية الخير، جاء الأمر بنقله إلى ولاية شمال بغداد، فما كان منه إلا أن يسمع ويطيع لأمرائه، فانتقل إليها، ليجاهد على أرضها جنديا من جنود الدولة الإسلامية، فلم يطل به الزمن أن اختير أميرا لأحد قواطع العمل فيها، ثم أميرا عسكريا لكل جنود الخلافة فيها، ثم واليا على ولاية شمال بغداد، وبقي فيها حتى انحاز بجنوده منها إلى ولاية الفلوجة، ليصاب هناك بشظية من قذيفة هاون انفجرت على مقربة منه بينما كان يتفقد جنوده على جبهة القتال، ليعود إلى الموصل جريحا، حتى تماثل للشفاء بعد أشهر طويلة، ويعود إلى ساحات الجهاد من جديد، أميرا لاستخبارات ديوان الجند، حيث قُتل -تقبله الله- بغارة صليبيَّة استهدفته في مدينة الموصل، لتنتهي رحلة جهاده في المدينة التي بدأت فيها.

 

فتقبلك الله يا أبا أيمن، يا أمني الموصل، وأمير الساحل، وأسد البادية، والشهيد في سبيل الله، كما نحسبك والله حسيبك، ولا نزكي على الله أحدا.

 

 

 

 

 


 

36- العدد 092 - الخميس 10 ذو القعدة 1438 هـ

أبو جندل الكويتي وأبو محمد الجنوبي (تقبلهما الله) فارسان جمعهما الحب في الله وعلى ذلك افترقا

قال عليه الصلاة والسلام: (تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) [رواه البخاري].

 

فكم من رجل حباه الله -تعالى- من خير شمائل الرجال، كالشجاعة والنجدة والمروءة والكرم، وهو بعيد عن شكره -سبحانه- على هذه النعم، فلما هداه الله إلى الحق، زاده ذلك حسنا على حسن، وطيبا على طيب، فما أجمل أن تجتمع الفضائل مع الشمائل.

 

أبو جندل الشمري الكويتي، وأبو محمد الأزدي الجنوبي، فارسان من فرسان دولة الإسلام، تشابهت صفاتهما الحميدة قبل هجرتهما، وجمعهما الله على محبته في دار الإسلام، وترافقا في طريق الجهاد، وتلازما في ساحات القتال، حتى توفاهما الله -تعالى- شهيدين، نحسبهما كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

في نهاية شوال من العام 1434 للهجرة، كان أبو محمد الجنوبي (إبراهيم بن محمد البكري الشهري) قد أنهى للتَّوِّ دراسته الجامعية، وتخرج في كلية ينبع الصناعية، مهندسا كهربائيا، ثم غيَّر مجرى حياته كليا، فبينما ودع أهله منتقلا من جنوب جزيرة العرب إلى مدينة الجبيل ليباشر عمله في شركة (أرامكو)، فاجأهم باتصاله من أرض الشام، يبَشرهم بلحوقه بالمجاهدين، وعزمه على نصرة الدين، لتكون فاتحة جهاده في ولاية الخير، ويرزقه الله التدرُّب في معسكر (أبو سَجَّاد العراقي) تقبله الله، الذي تخرجت منه كوكبة من أبطال الدولة الإسلامية، كان أبو محمد واحدا منهم، حيث شارك مع مجموعة أبي سجاد في المعارك ضد الـ PKK المرتدين في تل حميس، ثم في غزوة الخير في معركتي مستودعات عياش واللواء 137 وغيرها.

 

وفي هذا الوقت كان أبو جندل الكويتي (عبد المحسن الطارش الشمري) قد عاد إلى أرض الشام، بعد رحلة علاج خارجها، إثر إصابته في معركة مع الجيش النصيري، أثناء اقتحامه مع المجاهدين ثكنة (معسكر الشبيبة) في إدلب، بعد أن التحق بالجهاد في الشام منذ أيامه الأولى، حيث شكل بعد أن تماثل للشفاء مع مجموعة من الشباب سرية (أسود الجزيرة) التي ضمّها إلى صفوف الدولة الإسلامية، بعد بيعته لأمير المؤمنين أبي بكر البغدادي حفظه الله، وتفرغ مع سريته لقتال الـ PKK المرتدين في جبل أطمة ومنطقة إعزاز، ثم ضبط الأمن في المنطقة بعد ضرب مرتدي (عاصفة الشمال) وسيطرة الدولة الإسلامية على مدينة أعزاز وما حولها.

 

ثبات في قتال صحوات الردة..

 

انتقل أبو جندل إلى ولاية البركة بعد انحياز الدولة الإسلامية من ريف حلب الشمالي، إثر غدر فصائل الصحوات المرتدة بالمجاهدين، وذلك بعد أن أبلى فيها بلاء حسنا، إذ قامت سريته باقتحام حاجز (دير جمال) بين أعزاز وماير، حيث أسروا مجموعة من قادة فصيل (جيش الفتح) المرتد، ثم شارك في المعارك التي وقعت مع الصحوات في رتيان، ومعرستة الخان، وحردتين، وحريتان وغيرها، ثم مكنه الله -تعالى- من الخروج من حصار الصحوات، والتحق بقوات الشيخ أبي عمر الشيشاني، تقبله الله تعالى، الذي فك الحصار عن الإخوة في حريتان، لينتقل مع مجموعته إلى ولاية البركة.

 

وفي الوقت الذي كان أبو محمد منشغلا مع جنود الدولة الإسلامية في قتال الصحوات في ولايتي البركة والخير، كان أبو جندل قد عُيِّن أميرا على قاطع تل حميس، حيث تفرغ لقتال الـ PKK المرتدين، والتصدي لمحاولاتهم المستمرة للتقدم في هذه المنطقة، حيث نفَّذ -تقبله الله- مع مجموعة من الإخوة الأكراد، عددا من الغارات الليلية الناجحة في عمق مناطق المرتدين، فزرعوا من خلالها الرعب في قلوبهم، كما أشرف على تنفيذ عدد من العمليات الأمنية الناجحة ضدهم في مدينة القامشلي، أهمها عملية انغماسية على مقر قيادة لهم في (فندق هدايا) داخل المدينة، التي سقط فيها عدد من قادتهم، كما قاد -رحمه الله- عددا من العمليات العسكرية الناجحة ضدهم، أهمها هجوم على بلدة (جزعة)، قُتل فيه عدد كبير من المرتدين، وخرج هو من المعركة مصابا في كتفه وصدره.

 

وبعد إعلان الخلافة، عُيِّن الجنوبي أميرا لمركز الفيء والغنائم في الولاية، ولكن ذلك لم يقطعه عن ساحات القتال، إذ شارك مع إخوانه العاملين في المركز في عدة معارك على محور شرق الخابور، ومنه باتجاه مدينة (الشحيل)، حيث جرت على أطرافها المعركة الأخيرة مع الصحوات، التي شارك فيها أبو جندل تقبله الله، حيث اقتحم المدينة من أطرافها الشرقية مع مجموعة أبي محمد، لتبدأ تلك المسيرة المشرِّفة التي خطَّاها بالعرق والدماء، واستمرت لثلاثة أعوام على مختلف جبهات القتال.

 

فراق.. وجراحات في سبيل الله

 

فاشتركا -تقبلهما الله- في غزوة فتح (فوج الميلبية) في رمضان من العام 1435 للهجرة، وكانا مرابطين في نقاط متقاربة على مدخل مدينة البركة الجنوبي، حيث أُصيب أبو جندل بقصف للطائرات النصيرية استهدف مجموعته داخل محطة الكهرباء التي كُلِّف بحراستها، وقطع طريق الإمداد من جهتها على الفوج الذي اقتحمه المجاهدون، ليُضطر بسبب إصابته الشديدة إلى الخروج للعلاج.

 

وبعد الغزوة، ترك أبو محمد إدارة الغنائم لأحد إخوانه، بعد أن اختير أميرا على جبهة مدينة البركة، حيث عمل على تأسيس خط الرباط، وتنظيم صفوف كتيبته المرابطة هناك، لتستهدفه دبابة نصيرية أثناء تفقده للمجاهدين، ويصاب إصابة بالغة أقعدته عن الجهاد لشهور.

 

ولم يكد يتمكن من الحركة من جديد حتى عاد إلى كتيبته، التي طُلب منها التَّوجُّه لمؤازرة الإخوة المرابطين في جبل سنجار، بعد الحملة الصليبية عليهم، التي تمكن مرتدو الأكراد تحت غطائها من الوصول إلى أطراف المدينة، والإشراف عليها من خلال السيطرة على قمم الجبل، فساهم وإخوانه في تثبيت المرابطين هناك والشد من أزرهم، حتى قدر الله أن يصاب من جديد بقذيفة هاون انفجرت بقربه، أثناء تقدمه لاستطلاع مواقع المرتدين.

 

عاد أبو جندل من رحلة علاجه بعد عام من الغياب، ليطلب منه الشيخ أبو أسامة العراقي -تقبله الله- تشكيل كتيبة خاصة من الإخوة الانغماسيين، يقع على عاتقها تنفيذ هجمات خاطفة على المرتدين، فقَبِل التكليف رغم الآلام التي لم تنفك عنه بعد، فجمع المجاهدين، وأنشأ لهم معسكرات للتدريب، ونظم الكتيبة في وقت قصير، وأدخلها فورا في القتال، حيث نفَّذت عددا من الصولات على مواقع النصيرية جنوب مدينة البركة، التي كانت تهيئة للهجوم الكبير على المدينة، الذي سيكون له ولكتيبته فيه الدور الكبير.

 

فارسا غزوة فتح مدينة البركة

 

 في رمضان من العام 1436 للهجرة، جاءت الأوامر إلى الإخوة أمراء جيش الخلافة في ولاية البركة بالتحرك للسيطرة على المدينة، فبدأ إعداد خطة الاقتحام، واختيار الكتائب التي ستساهم فيه، حيث تقرر أن يكون الهجوم من ثلاثة محاور، شرقي يقوده فاضل الحلبي تقبله الله، وأوسط يقوده أبو محمد الجنوبي تقبله الله، وغربي يقوده أبو جندل الكويتي تقبله الله.

 

وتمكن المجاهدون في المحاور الثلاثة من اقتحام المدينة والسيطرة على بعض أجزائها بعد يومين فقط من بدء الهجوم، وبدأ الجيش النصيري يتهاوى في المدينة التي باتت في حكم السقوط بيد المجاهدين، فهرع التحالف الصليبي لمنع ذلك، وبدأت الطائرات الصليبية تصب حممها على المدينة، وتنفذ مئات الغارات على مواقع المجاهدين، فاضطر الإخوة إلى سحب المقاتلين من داخل المدينة تقليلا للخسائر، بعد أن مكنهم الله من تدمير الجيش النصيري في البركة تماما، ونفَّذوا هجوما هو من أنجح عمليات التسلل الليلي وأكبرها في العمليات العسكرية.

 

وفي معركة البركة، أنجى الله -تعالى- أبا محمد وأبا جندل من الموت، عندما قصفت الطائرات الصليبية كلا منهما، فأصيبا إصابات طفيفة، في حين قُتل الأخ فاضل الحلبي -تقبله الله- عندما استُهدفت سيارته أثناء توجهه إلى جبهة القتال.

 

إلى كتيبة (أبو المعتز القرشي) (تقبله الله)

 

عُيِّن أبو محمد الجنوبي أميرا على قاطع الهول، بينما كان أبو جندل في نقاهة بعد أن وعكه التعب في غزوة فتح مدينة البركة، حتى أذن الله لهما بالاجتماع من جديد، في ظل جيش الخلافة، ليكون الجنوبي مساعدا للكويتي الذي اختير أميرا لكتيبة (الشيخ أبو المعتز القرشي، تقبله الله)، التي كان لها -بفضل الله- صولات كبيرة على النصيرية، وحزب الـ PKK المرتدين، من منبج شمالا إلى دمشق جنوبا، ومن البركة شرقا إلى خناصر غربا، مرورا بكويرس، والشيخ نجار، وتدمر، والرقة، والطبقة، وإثريا، وغيرها من الديار والقفار.

 

ففي غزوة خناصر الشهيرة التي أُريد منها حصار النظام في مدينة حلب، قسَّم أبو جندل كتيبته إلى قسمين، تسلل بالقسم الأول إلى مناطق الصحوات في ريف حلب الجنوبي، وترك الآخر بقيادة أبي محمد الجنوبي شرق الطريق بين خناصر والسفيرة جنوب مدينة حلب، فلما انطلقت الغزوة أطبقت الكتيبة على جانبي الطريق، ليتمكن الإخوة -بفضل الله- من قطعه، وعزل المرتدين في خناصر عن منطقة إمدادهم في السفيرة، في الوقت الذي كانت كتائب أخرى من جيش الخلافة تقتحم عليهم حصونهم في خناصر وجنوبها، لتنجلي العملية عن خسائر كبيرة جدا في صفوف النصيريين، بينهم ضباط كبار، وقياديون في ميليشيا (حزب اللات) الرافضي اللبناني، ويغتنم المجاهدون غنائم كثيرة، ويتمكنوا من إخراج أعداد كبيرة من مناصري الدولة الإسلامية من مناطق الصحوات ليأتوا مهاجرين إلى أرض الدولة الإسلامية، في حين أُصيب أبو جندل إصابات بالغة في قدميه، ليتولى الجنوبي قيادة الكتيبة عنه، وينطلق مع إخوانه للمشاركة في غزوة فك الحصار عن الغوطة الشرقية.

 

حيث تمكنت كتيبة (أبو المعتز القرشي) في هذه الغزوة من السيطرة على (المعمل الصيني) و (تلة أبو الشامات)، في الوقت الذي كانت كتائب أخرى من جيش الخلافة تقتحم باتجاه مطاري (الضمير) و (السين)، حيث غدر صحوات الردة في القلمون الشرقي بالمجاهدين، واستهدفوا طرق إمدادهم بالصواريخ الحرارية، في اتفاق مبرم مع الجيش النصيري، وتوقفت العملية بعدما أعظم المجاهدون في النصيريين النكاية، بفضل الله.

 

بعد تعافيه قليلا، تولى الكويتي قيادة لواء في جيش الخلافة، يضم بين كتائبه، الكتيبة التي يقودها الجنوبي، وأثناء انشغال المجاهدين بصد الحملة الصليبية على مدينة منبج، توهم النظام النصيري أنه سيسهل عليه تحقيق اختراق كبير، عن طريق هجوم سريع ينفذه بمؤازرة الطيران الروسي، للسيطرة على مدينة الطبقة انطلاقا من عقدة (إثريا) الشهيرة، وبعد تمكنه من التقدم أكثر من 100 كم في الصحراء ووصوله إلى مقربة من مطار الطبقة، وجد جنود الخلافة أمامهم، وعلى رأسهم أبو جندل الكويتي -تقبله الله- وجنوده، الذين تمكنوا -بفضل الله- من التصدي للهجوم النصيري بل ومحاصرته، عن طريق توزيع القوى على محورين الأول في الطبقة، حيث كان أبو جندل ومجموعة من كتائب لوائه، والثاني من بادية حماة، حيث توجه الجنوبي، وقِسْمٌ من كتيبته، فلم تطل المعركة أياما بفضل الله، حتى ولَّى الجيش النصيري هاربا، وعاد إلى نقطة انطلاقه في إثريا، مشبعا بالجراح والخسائر المادية والبشرية.

 

إلى قتال الـ PKK المرتدين من جديد

 

وبعد عودتهم من معارك منبج التي شاركوا فيها، ضمن محاولات جيش الخلافة فك الحصار على المدينة، انتقل أبو جندل الكويتي وإخوانه في اللواء إلى ولاية البركة، ليفتحوا جبهة قتال جديدة ضد الـ PKK المرتدين هناك، حيث خاضوا ضدهم الكثير من المعارك، التي كانت أشهرها غزوة جنوب الشدادي، التي سيطر فيها المجاهدون على كثير من القرى، وقتلوا العشرات من المرتدين، رغم تواجد الطيران الصليبي الذي وقف عدة أيام عاجزا عن التدخل بسبب التداخل الكبير وقرب الاشتباك بين المجاهدين والمرتدين في المعارك.

 

ثم انتقل الإخوة إلى ولاية الرقة، حيث استقر أبو جندل في ريفها الشرقي يصاول المرتدين، ويمنعهم من الراحة في مناطق جنوب جبل عبد العزيز والمكمان وغيرها، في حين انتُدب الجنوبي إلى ريفها الغربي لتحصينه في ظل المعلومات المؤكدة عن نية الصليبيين توجيه أتباعهم المرتدين للهجوم على هذه المنطقة.

 

فلما بدأ الهجوم، تلقى الكويتي الأمر بتعزيز المواقع هناك، فانتقل مع إخوانه إلى منطقة الطبقة، حيث دارت بينهم وبين المرتدين معارك شرسة في قرى الجعابر، التي تكبد فيها أعداء الله مئات القتلى والجرحى بينهم عدد من الصليبيين، وفي ظل عجزهم عن التقدم، وكثرة ما تعرضوا له من الهجمات، ووقعوا فيه من الكمائن، صار اسم أبي جندل -تقبله الله- مصدر أرق للصليبيين والمرتدين، حتى قدّر الله أن يُستهدف بقصف جوي قُتل على إثره، تقبله الله تعالى، فيفرح بذلك الصليبيون، ويعلنوا البشرى لأوليائهم، في قنواتهم ووسائل إعلامهم، وكان ذلك في شهر ربيع الأول من هذا العام (1438 للهجرة).

 

ولم يكن الجنوبي -تقبله الله- الذي استلم قيادة الجبهة من بعده بألين عريكة، ولا أهون ضربا في هام المرتدين، فمكَّنه الله وإخوانه من تأخير تقدمهم أكثر من شهرين في قرى السويديات، مستخدما تكتيكات جديدة لم يعهدوها من قبل في قتالهم للمجاهدين، من بينها الأنفاق التي أعمت أبصارهم، والأسلحة الوهمية التي استنزفت طاقة طيرانهم.

 

فلما انتقل محور الحملة على مدينة الرقة إلى ريفها الشرقي، انتُدب أبو محمد الجنوبي أميرا عسكريا على القاطع الجنوبي لولاية الخير، لتهيئة الكتائب هناك للتصدي للجيش النصيري، وصحوات الردة الذين كان كل منهما يحشد على حدة للهجوم من جهة البادية والحدود المصطنعة باتجاه مدينة البوكمال، والمناطق الجنوبية من ولاية الخير.

 

وبينما كان متوجها إلى البادية لاستطلاع المناطق، والتعرف عليها، لتقرير كيفية الاستفادة من مسرح المعركة في صد الهجوم النصيري، استهدفته طائرة صليبية، فقُتل مع رفيق دربه وجهاده أبي صفوان الجزراوي، الذي شاركه في أغلب معاركه وغزواته، مسؤولا إداريا يؤمن له ولجنوده مستلزماتهم، ويسهر على قضاء حوائجهم، ليلحقا بأخيهما وأميرهما أبي جندل الكويتي تقبله الله، وكان ذلك في شعبان من العام 1438 للهجرة.

 

جمعت أبا جندل الكويتي وأبا محمد الجنوبي محبة في الله تعالى، وتشابه خصالهما الحميدة، من شجاعة وعزة وأنفة ونجدة وحمية، سخراها في طاعة الله وجهاد أعدائه، فكانوا نارا على الكافرين، أذلة على إخوانهم في الدين، كما جمعتهم الخاتمة، شهداء في سبيل الله تعالى، نحسبهم، ونسأله -تعالى- كما جمعهم على خير في هذه الدنيا، أن يجمعنا بهم في جناته، وسائر المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

37- العدد 103 - الخميس 6 صفر 1439 هـ

أبو حفص البنغالي رجل صدق الله فصدقه الله... (كما نحسبه)

عاش يتيما، فتكفل به جده بعد أن فقد والديه بحادث مروري، ولم يكن وقتها يتجاوز أعوامه السبع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى فقد جده، فكفلته جدته لتكون له خير حاضن ومربٍّ.

 

كان وحيد أبويه فلم يكن لديه إخوة أو أخوات، وقد ترك له والده الذي كان ميسور الحال مبلغا من المال أعانه على استكمال حياته مع جدته التي كانت له خير أنيس.

 

وما إن اجتاز المرحلة الثانوية في إحدى المدارس ذات المنهج الغربي في البنغال حتى عزم الرحيل إلى إحدى الدول الغربية لاستكمال تحصيله العلمي فيها، فالتحق بكبرى الجامعات الغربية في أستراليا متزودا بنشاطه وجديته ومثابرته، وبعد تخرجه بدرجة امتياز في تخصص برمجة الحواسيب، تزوج ممن أحس أنها ستكون له عونا على حياته، التي ستتفق معه لاحقا على أن ينفذا عملية استشهادية مشتركة.

 

وكان لزوجته ابنٌ من زوج سابق، فأحس أبو حفص بالمسؤولية تجاه ربيبه فأحبه وعني بتربيته، فهو يعلم جيدا معنى أن تفقد والديك أو أحدهما، فكان له خير أب وخير راع، أحسن تربيته وتعليمه حتى صار من المتفوقين، وكان أحد الخمسة الأوائل على مستوى الدولة في المرحلة الإعدادية.

 

انخرط أبو حفص في المجتمع الغربي وعمله، قرابة سنتين، عمل خلالهما في إحدى الشركات المتخصصة بالبرمجيات.

 

حتى تعرف على أخ بدأ بنصحه وإرشاده، وأوصى الرجل صديقه بالاستماع لإحدى المحاضرات التي تتحدث عن حال المسلمين وما أصابهم من الذل والهوان، وقال له: استمع لما يُقال أحقٌ أم باطلٌ؟

 

وبعد سماعه للمحاضرة بدأت الأسئلة تجول في ذهنه، لماذا حال المسلمين هكذا؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وما هي سبل الخروج من هذا المستنقع؟ وكيف نجح إعلام الكفار والمرتدين بعزل الأمة عن خيرة أبنائها المجاهدين وتشويه صورتهم؟ وكيف نجح في التعتيم والتشويه والتشويش على دولة العراق الإسلامية؟ وما هو واجب كل مسلم تجاهها؟

 

أسئلة كثيرة بدأت تجول في خاطر أخينا أبي حفص البنغالي -تقبله الله- وبدأ مشوار البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، ووفقه الله لأن يجد أكثرها في إصدارات الدولة الإسلامية، وكلمات علماء الجهاد المناصرين لها.

 

وتعرَّف الرجل الباحث عن الحق على مسجد صغير في العاصمة الأسترالية يجتمع فيه عدد من الموحدين، ويتدارسون مع بعضهم على يد شيخ المسجد أبوابا في العقيدة، وكان ينقل كل ما يسمعه ويراه لرفيقة دربه، وما هي إلا سنة أو تزيد حتى وضحت له ولزوجه معالم الطريق، فحزما أمرهما وعزما على ترك تلك الديار، وقصدا البنغال كمحطة أولى للتخلص من الحياة التي كانا يعيشانها في أستراليا.

 

وفور وصوله فتح بيته لتعليم الأطفال المواد العلمية إضافة إلى تعليمهم ما تعلمه عن التوحيد، ورفض العمل في أي شركة خوفا من الوقوع فيما يغضب الله عز وجل.

 

وما هي إلا أشهر معدودة حتى بدأ الحراك ضد النظام النصيري في الشام، وبدأت بوادر تمدد دولة العراق الإسلامية إليها تلوح في الأفق، فعزم أمره مع زوجته على الهجرة، ونزل في تركيا وعينه على حلمه الذي ظل يراوده لسنوات، وهو العيش في دار الإسلام، وتحت ظل الشريعة الإسلامية، والالتقاء بإخوانه المجاهدين الذين طالما تمنى لقاءهم، والقتال إلى جانبهم.

 

فدخل بدايةً إلى مناطق الصحوات في إدلب فكانت أول محنة له بانتظاره، حيث سجنه المرتدون وحققوا معه عن سبب قدومه، ثم أطلقوا سراحه بعد أيام مع أسرته، فمكث غير بعيد، حتى يسر الله له طريقا إلى أرض الخلافة، حيث وافق قدومه إعلان الخلافة أدامها الله.

 

وبعد التحاقه بمعسكر لجندية الدولة الإسلامية وتخرجه فيه بدأ مسيرة عمله بتقديم كل ما يملك من خبرات في تخصصه (هندسة البرمجيات) إلى إدارات الدولة الإسلامية الفتية، ولم ينس وهو منشغل في عمله خطوط الرباط، فكان كثيرا ما يحن للرباط ويأنس به ويرتاح إليه.

 

وعند وقوع ملحمة الموصل استأذن منه ربيبه (أبو سليمان البنغالي) للالتحاق بصفوف إخوانه والمشاركة معهم في رد الكفار عن الموصل، وهو الذي كان قد التحق بكلية الطب فور وصوله الرقة، فأذن له وعيناه تفيض من الدمع فرحا بشجاعته وحزنا على فراقه.

 

فقد كان ربيبه نموذجا للمسلم الذي نشأ في طاعة الله، ورحل الشاب ذو الستة عشر ربيعا بعد توديع أمه وعمه، ليتلقَّيا بعد عدة أشهر خبر تنفيذه عملية استشهادية في جموع الروافض المشركين، فما كان منهما إلا أن حمدا الله ورجَوَا منه أن يلحقا به في جنانه.

 

وبعد عدة أشهر ومع اقتراب الجيش النصيري -أخزاه الله- من مدينة الميادين، اشتاق أبو حفص إلى لقاء ربه فلبس جعبته واستنفر نفسه وأهله وعزم مع زوجته على تنفيذ حلمهما بعملية استشهادية مشتركة، غير أن أولي الأمر رفضوا أن تشاركه زوجه العملية الاستشهادية التي أراد أن ينفذها، وفي تلك الأثناء رفض البقاء في البيت أو الانتظار فطلب الرباط عدة مرات، وجلس في مضافة المستنفرين، مرتديا جعبته وسلاحه، متجهزا لأي نداء قد يستدعيه في أية لحظة.

 

وأثناء وجوده في المضافة جاء أحد الإخوة ليوصل أحد المستنفرين للرباط فرأى أبا حفص فناداه -متوهما أنه هو المطلوب- فخرج معه من دون أن يستوضح الأمر منه، لشدة رغبته باللحاق بسوح المعارك، فخرج بسلاحه وجعبته وصعد السيارة مودعا إخوانه.

 

تفاجأ الإخوة بعد ذلك بسماع صوته عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي، وهو ينادي: يا إخوة إنهم يرمون عليَّ... يا إخوة لقد أُصِبت... ادعوا لي أن أكون شهيدا... ثم سكت، فتعجبوا أليس هو الذي في المضافة؟ كيف خرج؟ ومن هو الذي طلب منه الخروج؟

 

وبعد مراجعة الأخ الذي جاء وأخذه للرباط قال: إنه طُلب منه إحضار أخ من المضافة اسمه (أبو عمر) ليصطحبه إلى نقطة الرباط، وجاء الأخ فوجد أخانا أبا حفص متجهزا مستعدا قريبا من الباب، فناداه ظنا منه أنه (أبو عمر)، فخرج معه مسرعا، كأنه على موعد قد آن وقته، وما هي إلا ساعات ويأتي نبأ استشهاده، في نقطة الرباط تلك.

 

رحل أبو حفص الذي ترك الدنيا خلف ظهره راغبا بما عند الله، رحل تاركا زوجه وطفليه اللذين استقيا منه حب الجهاد، والبذل والعطاء في سبيل الله، فرحمك الله يا أبا حفص وأسكنك فسيح جناته.

 

 

 

 

 


 

38- العدد 104 - الخميس 13 صفر 1439 هـ

من جبال خراسان إلى ربوع الشام
الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري:
"أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط"

 

"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.

 

لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.

 

كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.

 

إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.

 

لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.

 

وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".

 

وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.

 

ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.

 

وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.

 

ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.

 

وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.

 

وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقِ عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.

 

وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرَ وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.

 

وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.

 

 

 

 

 


 

39- العدد 105 - الخميس 20 صفر 1439 هـ

أسد من أسود الصحراء أبو طلحة العلقاوي -تقبله الله- تنكيل بالصليبيين الأمريكيين واغتيال للروافض والصحوات

إن الابتلاءات والمحن تسفر عن معادن الناس، وكلما عظم الابتلاء عظمت الرجال، رجال أعلنوا موقفهم من الكفر العالمي وأتباعه بكل وضوح، وشنُّوا هجماتهم على أرتاله التي قدم بها إلى أراضيهم، وأقسموا أن لن يناموا على ضيم، وأن موعدهم روما، فكانت هممهم عالية ونفوسهم أبية.

 

بدأت القصة في الوقت الذي تحقق للعالم الكفري حلمه ببلوغه قمة الحضارة -بحسب زعمه- وانطواء دوله وقاداته كلهم تحت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وارتباط دول العالم أجمع بهذا النظام الشيطاني الكفري سياسيا وأمنيا واقتصاديا وعسكريا ربطا وثيقا، وبينما هم في أوج هذه القوة وهذا الترابط، خرجت ثلة بأرض الرافدين أعلنت موقفها تجاه هذ الحلف بكل وضوح كما أراد الله وكما فعل نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس هذه الثلة أمير الاستشهاديين، الشيخ أبو مصعب الزرقاوي، تقبله الله.

 

وأكثر ما فاجأ هذا النظام العالمي الخبيث نقاء منهج هذه الثلة ووضوح إعلانها وإلحاق أفعالها بأقوالها، فشمر الشجعان ونهض الأسود والتحق الركب بالركب عبر مجاميع قتالية كل منها ينهش من جسد العدو المغتصب جزءاً، ومن هؤلاء الأسود البطل المجاهد "أبو طلحة العلقاوي"، تقبله الله.

 

بداية الطريق

 

ومع دخول القوات الصليبية الأمريكية الغازية أرض العراق عام 1424 هـ، انبرى البطل أبو طلحة لهم مع عدد صغير من إخوانه بعد أن اشترى كل منهم سلاحا بماله الخاص، ولم يرضوا القعود والهوان، فأعملوا فيهم قتلا وتشريدا إلى أن يسر الله -تعالى- للمخلصين إعلان دولة العراق الإسلامية، فكان من أول المبايعين لأميرها الأول أمير الاستشهاديين الشيخ أبي مصعب الزرقاوي، تقبله الله.

 

كان -تقبله الله- طويل القامة قوي الجسد نبيها صبورا كريما، لينا على إخوانه شديدا على أعدائه، بسيطا يعتمد على نفسه بشكل كبير، يحب خدمة إخوانه، انحدر من أسرة كريمة عُرفت بصيد الأسماك في مدينة حديثة، وعند دخول الغزاة الصليبيين بلده، أقسم أن يجعل ليلهم نهارا ونهارهم نارا، فهبَّ مع اثنين من رفاقه وبدؤوا العمل، إذ كان دخول الأمريكان الصليبيين أكبر محرض له على الجهاد، وكان حينها لم يتجاوز الـ 23 من عمره.

 

وبدأ العمل يكبر والضرر ضد القوات الصليبية يعظم، وباتت دماؤهم تسيل ومركباتهم تحترق وبدأت كذلك ضريبة الجهاد تعظم حتى وصل ضرر الغزاة إلى أهله وإخوانه فحاولوا ثنيه عن الطريق، فأقسم لهم إن حدثه أحد في هذا الشأن أو حاول رده عن الطريق أن يقتله، عندها استشعر إخوانه حرص هذا الشاب الغيور على الجهاد، وبعد أشهر، ولما رأى الإخوة أفعال أخيهم الحميدة الأبيّة، وتضحيته في سبيل أمته والذود عن أهله، انضم إليه أحد إخوانه، وما هي إلا أشهر أخرى حتى انضم اثنان آخران، فباتت العائلة كلها مجاهدة ومناصرة للمجاهدين.

 

قراءة القرآن، وتقوى الله وصوم الاثنين والخميس والذكر وصلاة النافلة، كل ذلك كان زاده وأنيسه أينما حل وارتحل، عاش أغلب أيامه في الصحراء حيث جعل منها منطلق عملياته، فكانت عرينه التي يهاب الغزاة الاقتراب منه.

 

سجون وابتلاءات

 

كان للسجن نصيب من حياة هذا البطل، حيث سجن 3 مرات، هرب بالمرة الأولى وبقي في المرة الثانية أكثر من عام دون أن يتعرفوا على شخصيته أو يكتشفوا هويته، مع شبه يقينهم أنه الشخص المطلوب، ولكن حفظ الله له وثباته وعدم اعترافه جعلهم في حيرة من أمره فأطلقوا سراحه، وكانوا قد ألقوا القبض عليه بإنزال نفذوه على بيته فاقتادوه مع زوجته التي أطلقوا سراحها بعد ضربها والتحقيق معها لعدة ساعات، وظل عندهم في سجن "بوكا" ما يقارب 14 شهرا، بتهمة ضرب رتل للغزاة الصليبيين.

 

لقد كان لهذه الفترة من حياة أبي طلحة الأثر الكبير في نفسه وثباته على جهاده، فلقد علم داخل السجن ما يقاسيه إخوانه وأدرك أنهم لا يلاقون ما يلاقون إلا بسبب أمر عظيم جدا، وفي السجن تعرض لتعذيب شديد فقد على إثره ذاكرته، فلم يتعرف على أبنائه وزوجته بعد خروجه وبقي فاقدا لذاكرته ما يقارب 40 يوما، ثم بدأت تعود إليه شيئا فشيئا.

 

لم يكلّ أو يملّ، وكان في كل مرة يسجن فيها يعود للعمل فور خروجه، فلم تكسِر عزيمته المعتقلات، ولم يوهن نفسه التعذيب والتحقيقات رغم قساوتها.

 

حديثة وسدها وشوارعها خير شاهد

 

كثيرة هي العمليات التي نفذها بمفرده أو بمشاركة إخوانه ضد الصليبيين الأمريكيين، فسدُّ حديثة وطرقها وشوارع بروانة يشهدون على ذلك، ففي صباح أحد الأيام السود على الأمريكيين في شارع بروانة، كمن أخونا أبو طلحة في السوق بعد أن أعلنوا حالة الطوارئ، وبعد اقتراب دورية راجلة صليبية من مخبئه خرج أمامهم مكبرا بصوت عال لا يبعد عنهم سوى أمتار قليلة، فأصابت الجنود حالة من الخوف خلعت قلوبهم فسقط بعضهم أرضا من الرعب ورمى بعضهم بسلاحه ورفع يديه، وفتح بعضهم النار بشكل عشوائي على بعض، وفرّ الآخرون، ففتح نيرانه عليهم وأردى أكثر من 7 منهم قتلى دون أن يصاب بمكروه.

 

وفي عام 1428 هـ، علم بقدوم رتل إلى بروانة، فكمن للصليبيين، وأقسم هو وإخوانه ألا يتركوا أحدا من الرتل يخرج حيا، ففخخوا الطريق وتناولوا أسلحتهم وربضوا كالأسود الجائعة، وما إن قدم الرتل حتى انفجرت بهم العبوات وبدأت القذائف والطلقات تنهش لحومهم، فقتلوا 18 صليبيا أمريكيا بينهم 4 ضباط.

 

وفي واحدة من العمليات البسيطة -حسب قوله نقلا عمن عرفوه- اعتاد الصليبيون في مراقبتهم للسد على خروج الدبابة منه نهارا وعودتها إليه ليلا، ففي أحد الأيام زرع عبوته قبل مجيء الدبابة، وعند قدومها فجَّرها عليهم، بفضل الله.

 

وتمضي الأيام تلو الأيام، ليصبح اسم أبي طلحة مؤرقا للصليبيين، وليصبح أحد أهم المطلوبين لديهم لما نالهم من أذى على يديه.

 

كان بطلنا أبو طلحة ذا قلب صلب لا يعرف التردد والخوف، ويتجلى ذلك واضحا في اصطياده للصحوات ورؤوسهم، فكان يهوى دخول منازلهم وخطفهم والتحقيق معهم والحصول على معلومات حول الجواسيس والعملاء، ثم الذهاب لخطف الآخرين وقتلهم.

 

وفي إحدى الليالي، جاءته معلومة عن عميل من الصحوات له تواصل مع العديد من رؤوس الصحوات والروافض، فعزم على خطف هذا العميل وتمكن من ذلك بفضل الله، وأتى به إلى عرينه وحبسه ببئر قديم حتى حصل منه على معلومات كثيرة بوقت قصير، ووضع بطلُنا قائمة بأسماء العملاء وأماكن سكنهم ومناطق تواجدهم، وبدأ بالعمل على هذه القائمة حتى مكَّنه الله -تعالى- من قتل معظم الأهداف التي رتبها بقائمته بحسب الأهمية.

 

لطف من الله ورعاية

 

وفي إحدى الليالي، سمع برتل صغير للصليبيين الأمريكان على طريق (بيجي - حديثة)، مؤلف من 5 آليات، فأعد العدة واشتبك معهم برفقة إخوانه، فقتلوا وأصابوا عددا من الكفار وهرب بعضهم، فغنم من الرتل أسلحة متوسطة وذخائر، ومسدسين وجوازي سفر وبطاقات لأمريكيين، وذهب بها باتجاه بيته ولم يكن يعلم بأن طائرة استطلاع تراقبه، ووضع السلاح في سيارة رباعية الدفع كانت مركونة أمام البيت لنقله إلى مكان آخر، ووضع فوقها سعف النخيل، وما هي إلا ساعة حتى طُوِّق منزله عدد كبير من الجنود ترافقهم الهمرات والمركبات العسكرية، وكانت الطائرات الحوامة تحلق فوقهم، وكان برفقته أخوان من الجزيرة العربية.

 

الأطفال نيام، والأخوان في غرفة الاستقبال، وأبو طلحة موجود بغرفة الأطفال، فما كان منه إلا أن باعد بين فرش الصغار، واستلقى بين اثنين منها، فدخل الأمريكيون الصليبيون وأعوانهم المرتدون الغرفة، فلم يلاحظوا سوى الأطفال النائمين، وقيدوا أخاه الكبير الذي كان بالبيت، وضربوه بغية إخبارهم عن مكان الأسلحة، فأنكر علمه بالأمر، وقال: "لا يوجد بالبيت سوى أطفالي الصغار وزوجتي"، وخلال انشغالهم بأخيه، قامت أمه -رحمها الله- بإخراج الأخوين من الباب الخلفي لغرفة الاستقبال وخبأتهما خلف عباءتها، ونجاهما الله من الأسر، ولم يدخل أحد من الصليبيين إلى غرفة الاستقبال التي كانت مليئة بالسلاح، ولم ير أحد منهم السلاح الذي كان بالسيارة تحت السعف رغم اقترابهم منها وبحثهم بشكل سريع فيها.

 

وفي عام 1429 هـ وأثناء ركوبه سيارة رباعية الدفع في منطقة "المدهم" برفقة ابنه ذي الأعوام الست، تبعته طائرة الأباتشي واستهدفته بسلاح رشاش، فأُصيب إصابة بسيطة برأسه بينما لم يصب ابنه أذى سوى بعض شظايا الزجاج المتطاير من السيارة بفضل الله، وتمكن -رحمه الله- من النجاة بدخوله مزرعة نخيل كانت قريبة منه.

 

صبر واحتساب

 

ولقد لاقت زوجه الصبور ما لاقت من الأذى، سواء من أهلها أو من الغزاة الصليبيين أو الصحوات المرتدين، فلقد كان أهلها من الصحوات، وكانوا كثيرا ما يزجرونها ويضايقونها إذا وضعها عندهم وذهب، ويرفضون حتى تقديم شيء من المساعدة لها، وكان -تقبله الله- يغيب عنها الأشهر الطويلة، حتى أنه غاب 14 شهرا في أحد المرات، لم يتمكن خلالها من زيارتها أو رؤيتها، وبعد هذه المدة تواصل معها والتقى بها وجلس معها يومين، ثم أوصاها بأبنائه وبنفسها خيرا وبتقوى الله.

 

وفي يوم من أيام رمضان، لم يكن في بيته شيء للإفطار، فأخبرته زوجته بذلك وأن الأطفال لم يأكلوا شيئا من الصباح، وأنهم لا يملكون خبزا، فأجابها بأن الله سيرزقهم إن شاء الله، وبعد ساعتين تقريبا، قصدت بيت الجيران لتأتي منهم بقليل من الخبز، وأثناء توجهها إليهم أصاب قدمها مكروه، فرجعت، وإذ بطارق ينادي أبا طلحة، فإذا بهم بعض المجاهدين، فسألوه إن كان بحاجة إلى شيء، فقال: "لا أحتاج سوى الخبز"، فانصرفوا عنه وأحضروا الطعام والخبز، وعلموا بفراستهم وبمعرفتهم بأخلاقه وعفة نفسه أن لا طعام ببيته.

 

وفي أحد أيام رمضان كذلك، وأثناء تواجده في الصحراء، بقي أبو طلحة 3 أيام دون إفطار، حيث أنه لم يعلم بمكانه أحد ولم يكن لديه مركبة يتنقل بها.

 

وحانت ساعة الوداع

 

وفي أحد الأيام من عام 1432 هـ، كانت المنية بانتظار أبي طلحة العلقاوي تقبله الله، وكانت نهاية مشرفة له، أودت بحياة العديد من الصليبيين والصحوات والروافض المرتدين الذين حاولوا أسره وفك أسيرهم.

 

حيث أقدم أبو طلحة على خطف شخصية حكومية رافضية بارزة، واقتاده إلى منزل مهجور في الصحراء، وشك الصحوات المرتدون بأمره، فبلغوا أسيادهم، وجاء جيش كامل لاستنقاذ عميلهم، وخاض الأسد مع أخوين فقط حربا استمرت 3 أيام، قُتل خلالها الأسير الرافضي، وارتقى بطلنا مع أخويه إلى الرفيق الأعلى بعد قصف البيت بالطائرات، بعد تأكد المرتدين من مقتل ذلك الرافضي الوضيع، وخسر المرتدون العشرات من عناصرهم وسمع القريب والبعيد بهذه المعركة التي تناقلها أهالي المنطقة لأشهر طويلة، والتي كانت حديث المجالس، والتي كانت خاتمة مسك لبطل أذاق الصليبيين الأمريكيين المر الزؤام لسنوات طوال وأذاق أعوانهم المرتدين طعم الكواتم والمفخخات.

 

وبعد مقتله -تقبله الله- أسروا 5 من إخوانه، ورفضوا تسليم جثته لأهله، وكذلك رفضوا إطلاق سراح إخوانه إلا بعد دفع 45 مليون دينار عراقي، وسيارتين وقطعة أرض بمدينة حديثة، فدفع أهله للروافض الملاعين ما طلبوه، فسلموهم جثته الطاهرة بعد 13 يوما، ولم تكن قد تغيرت، وأفرجوا عن 4 من إخوانه وبقي الخامس مسجونا لسنوات.

 

 

 

 

 


 

40- العدد 106 - الخميس 27 صفر 1439 هـ

أبو عبد الله الطبيب كانت حياته قرآناً وسنةً.. وبذلاً وإيثاراً

إذا رأيته حسبته من زمن آخر، حمل القرآن في صدره، فانعكس على أقواله وأفعاله، أحب الخفاء والخلوة وكره الشهرة والسمعة، حتى أن عددا من الأعمال العسكرية ضد المرتدين لم يُعلم منفذها إلا بعد مقتله من مقربين منه في أرض الجهاد خارج ولاية سيناء، ولم يعرف المرتدون حتى الآن من نفذها.

 

هو الأخ الناصح والصديق المشفق والخِل الرقيق، المسارع في الخيرات، "أبو عبد الله الطبيب"، كان أكبر همه إرضاء الله تعالى.

 

قليل الطعام والكلام، كثير الذكر، بسيط الملبس متشبها بالسلف، إذ كان له ثوبان يغسل أحدهما ويلبس الآخر، وكان من أصحاب الإيثار، رحمه الله، فهو يُهدي أحب ما عنده لإخوانه ويرضى بالقليل، فلله دره وعلى الله أجره، وكنتَ إذا رأيته وسط إخوانه لا تعرف من الطبيب ومن الممرِّض، فهو تارة يعالج ويطبب، وتارة يذكِّر بالله -تعالى- ويحرض، يذكر إخوانه بأن يتعلقوا بالله -تعالى- فهو الذي بيده الشفاء، ولا يتعلقوا بالطبيب أو بالدواء، وتارة يجهز الطعام أو يرتب المكان أو يُطْعِمُ بعض إخوانه المرضى بنفسه، ولقد كان لوجوده وسط الجرحى أثر كبير في سرعة الشفاء بإذن الله، وكان يجهِّز الملصقات الدعوية ويضعها في أماكن تواجد المصابين أمام أعينهم ليجعلهم على ارتباط بالله طيلة الوقت.

 

وكان -تقبله الله- مجازاً برواية حفص عن عاصم، رحمهما الله، فكان يُعلّم إخوانه القرآن، ولقد انتدبه إخوانه ليكمل طلب العلم بالموازاة مع عمله فاجتهد في ذلك، ولقد كانت له أبحاث في بعض المسائل الخاصة بعمله، ولم يكن يحب الجدال، ويكره النزاع والشقاق ويحب الألفة والاتفاق في غير معصية الله تعالى.

 

وكان مثالاً للسمع والطاعة وفق الكتاب والسنة فبالرغم من حبه للقتال وحرصه عليه، إلا أنه لما تم تكليفه بأمر المرضى بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك، فكان أميراً لمركز الصحة وقتها، ومن مواقف سمعه وطاعته أن هناك طريقا تمنع فيها إضاءة النور للسيارات وكانت هذه الطريق جديدة عليه ولا يحفظ تضاريسها مثل باقي الإخوة، فامتثل للأمر، فانحرفت السيارة به لتطأ على حجر ضخم على جانب الطريق فهرع إليه بعض الإخوة لمساعدته وتعجبوا أن السيارة لم تنقلب ولم يمسه -بفضل الله- أذى، ففرح الإخوة بنجاته وبلطف الله به.

 

أما عن توفيق الله -تعالى- له في عمله، فقد كان شعاره ولسان حاله ومقاله قول الله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]، فلقد قام هذا الأخ الطبيب بعمليات جراحية مع أنه ليس جراحاً، إلا أنه طبيب عنده معلومات عامة في غير تخصصه، ولكن ليست بالحرفية التي تؤهله لمثل هذه الجراحات التي لها من الخطورة ما لها أثناء تنفيذها وبعد تنفيذها، ولكننا كنا نرى بركات من الله -تعالى- تتنزل على المريض بالصبر وسرعة الشفاء وعلى الطبيب بالتوفيق والتسديد حتى أنه كان يتعجب من ذلك ويقول إنها بركة الجهاد في بلاد الشام.

 

فلقد أجرى عملية بتر ذراع من فوق المرفق، وبتر في رجل شخص كُسر فخذه وحوضه، وكذلك قام على عدد من الكسور منها كسور خطيرة تحتاج لتجهيزات كبيرة، ومعلوم خطورة هذه الحالات وكيفية متابعتها في بيئة ملوثة بعيدة عن التعقيم فقيرة لأقل التجهيزات، وكان -تقبله الله- كثيرا ما يُردد: "مجبر أخاك لا بطل"، ويقول: "لو تم إعمال المعايير الطبية على أعمالنا هذه ربما منعوني من مزاولة المهنة؛ فلقد خرقنا كل المحاذير الطبية وتعاملنا بعشوائية مجبرين مضطرين، ولكن الله على كل شيء قدير".

 

ومن الحالات اللطيفة التي وفق الله -تعالى- أخانا فيها أن أحد الإخوة أصيب في حادث سيارة مما جعله يضغط بأسنانه على لسانه وكاد أن ينقطع فذهب إليه لإسعافه، وكان يظن أن الأمر نزيف داخلي، فالدم يخرج من فمه وبعد أن فتح فم الأخ المصاب علم بأن في لسانه قطعا كبيرا، فاللسان مُتدلٍّ ولم تبق إلا قطعة صغيرة جداً من اللحم تمسك اللسان ببعضه، فأخرج -تقبله الله- خيوطه بعد تفتيش دقيق لحقيبته بابتسامة علت على وجهه وبعد أن انتهى من الأمر، سأله الإخوة عن ابتسامته فقال: "إن اللسان يحتاج لخيط معين وبالأمس احتجت لمثله فلم أجده وفتشت في حقيبتي على أنني لن أجده لأنني بحثت كثيرا عليه بالأمس، ولكن عندما وجدته اليوم سررت كثيرا، وكأن الله -تعالى- أعماني عنه بالأمس حيث لم يكن ضرورياً ووجدته اليوم لضرورته فالحمد لله، ولم أقم بعمل غرز للسان من قبل وكنت خائفا من أن أتسبب بأذى للأخ، ولكن الله وفقني والحمد لله"، ولقد شُفي الأخ وأكل وشرب وتكلم في فترة وجيزة جداً ولله الفضل والمنة.

 

كان ناصحاً بضوابط السنة قليل الغضب إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى، صابراً محتسباً، يحب النصح.

 

ولقد كان شديد التأثير بإخوانه، فقد كانوا في حياته كالأبناء يحتمون بوالدهم ولا يحملون هماً، ويعتمدون على تواجده بينهم ويهرعون إليه إذا قابلتهم معضلة، وكان يربيهم ويزرع فيهم التوكل على الله، وإنكار الذات وإرجاع كل نجاح وتوفيق لله عز وجل وحده، فلما قُتل -تقبله الله- تحولوا إلى شعلة من النشاط وكأنهم كلهم أبو عبد الله، كان دمه نورا ونارا وما هو إلا قليل حتى اصطفاهم الله -تعالى- إثر قصف يهودي أثناء انحيازهم لأحد المناطق ببعض المصابين لعلاجهم.

 

أما عن مقتله -تقبله الله- فلقد قُتل في قصف يهودي وهو في زيارة طبية لإحدى السرايا المقاتلة، هو ومرافقه حيث باغتتهم الطائرات المسيَّرة اليهودية وظلت تحوم فوقهم واتبعها قصف للمقاتلات اليهودية للموقع، فتقبل الله إخواننا نحسبهم والله حسيبهم من الشهداء.

 

أما عن زوجته وابنه فقد نفروا من بعده، وكان فرحاً جداً بوصولهم إليه، وكان يتمنى تربية ولده في ديار الإسلام، وكان حريصاً على أن يمتد سلطان المجاهدين إلى كل ربوع الأرض لِيعم الخير البلاد والعباد.

 

وبقيت زوجه فترة لم تعلم بمقتله، فلما أخبرت به حمدت الله واسترجعت واستبشرت واحتسبته عند الله عز وجل، وقالت: "وهل كنا ننتظر غير ذلك؟"، وفرحت أنه نال ما تمنى، وكانت نيتها إكمال وصيته ببقائها في ديار الإسلام وتربية ولدها في كنف المجاهدين، وشاء الله -تعالى- أمراً آخر، إذ لم تنتصف عدة أختنا حتى جاء أمر الله، فقُتلت وولدها على يد اليهود، فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، فلله درك يا أبا عبد الله وعلى الله أجرك.

 

 

 

 

 


 

41- العدد 107 - الخميس 5 ربيع الأول 1439 هـ

قُتل منغمساً بالمشركين الحوثة في الصف الأول أبو صالح العولقي: قائد عسكري أقسم أن ينصر دينه وألَّا ينام على ضيم

كان قليل الكلام، شديد التواضع، كريم النفس، طيب السجايا، عفيفا، شهد له إخوانه برُقيّه وسمو أخلاقه، مع ما اكتسى به من شجاعة مفرطة، أقسم أن ينصر دينه وألا ينام على ضيم، عُرض عليه أن يأخذ كفالة مالية من الدولة فلم يرض وقال: لكي نبني الدولة يجب أن نقدم لها لا أن نأخذ منها.

 

إنه الأخ المجاهد والقائد العسكري أبو صالح العولقي، تقبله الله، من قبيلة العوالق، إحدى أكبر قبائل ولاية شبوة في اليمن، خرَّجت هذه القبيلة كثيرا من المجاهدين الأبطال على مر العصور، وكان للدولة الإسلامية منهم نصيبٌ ليس بالقليل.

 

تزوج أبو صالح في أرض اليمن وجلس فيها فترة، ثم ضرب في الأرض متجهاً لبلاد الحرمين طلبا للرزق، فعمل في مجال التسويق، لما تميز به من أسلوب قوي في الإقناع وشخصية رزينة في الإلقاء والتعامل، وبينما هو كذلك إذ أراد الله له الخير فساقه له سوقاً.

 

كان شقيقه يتابع أخبار الدولة الإسلامية، ويحدثه عنها ويبشره بالخير العظيم الذي تحمله وما يناله من ينتسب إليها ومن يكون مؤيدا وناصرا لها من أجر وثواب، ثم ما طفق أن بات يبحث عن أخبار المجاهدين، ويتابع ويواكب أحداث الدولة الإسلامية وتحركاتها في جميع بقاع العالم، حتى تعلق قلبه بها تعلقا كبيرا، وصار جل اهتمامه أن يكون مجاهداً في صفوفها، ويقدم كل ما يستطيع في سبيل نصرتها ونصرة جنودها.

 

التحاقه بالركب

 

أصبح فؤاد أبي صالح يموج بخلجات النفير والالتحاق بركب جيش الخلافة، وأثناء هذا التماوج ظهر إصدار "جند الخلافة في اليمن" فترك سعيه في الدنيا واكتفى بما رزقه الله منها في بلاد الحرمين وعاد إلى اليمن باحثاً عن سبب أو سبيل يربطه بجند الخلافة، فيسر الله -تعالى- له الأمر وهداه إلى إخوانه وانضم إليهم.

 

لقد كان لإعلان الخلافة من قِبل الدولة الإسلامية الأثر الكبير في انتشار منهجها، ومؤشرا كبيرا على الهمة العظيمة التي حملها قادة الدولة وأمراؤها من الجيل الأول الذين قدموا دماءهم فداء دينهم وفداء أمتهم، تقبل الله منهم وتقبلهم، لقد حملوا همّ الأمة على عاتقهم ولموا شملها بعد ضياع استمر لمئات الأعوام، فجمعوا الأمة ووحدوا صفها وأقاموا الفريضة المغيبة، فريضة الخلافة، ففرح بها وأحبها كل مؤمن، وكذلك فعلت بأبي صالح العولقي، واغتاظ منها وعارضها وكرهها كل كافر ومنافق.

 

نفر أبو صالح والتحق بإخوانه في المعسكر، وظهر تميزه -تقبله الله- بين إخوانه منذ بداية نفيره وجهاده، في المضافات والمعسكرات والكتائب، ورأى منه إخوانه الصلاح والسمت والوقار، ما جعله محل ثقة بين إخوانه وأمرائه، فأسلموا إليه المهام تلو المهام، معينا لإخوانه وأميرا عليهم وخادما وناصحا لهم، حتى سلموه إمارة كتيبة "الصديق"، فأجاد وأحسن فصار خير أمير لجنده، إن جالسهم أحبوه، وإن أمرهم أطاعوه، إن شكوا إليه مشكلة أو بثوا إليه هماً لم يجدوا منه إلا أذناً مصغية وقلباً عطوفاً، ومع لين الجانب لإخوانه إلا أنه كان شديداً على أعداء الله، كثيراً ما يشارك في صد حملات الحوثة المشركين، فتجده أول الحاضرين للصف، وكثيرا ما كان يخرج مع إخوانه في مفارز القنص لاصطياد الحوثة المشركين، ويرابط على ثغور المسلمين.

 

ومن كانت هذه صفاته كان جديراً أن يزيده الله رفعة، فعُيِّن بعدها إداريا عسكريا للجيش.

 

من أشد ما مرّ به

 

ومن أشد ما مرّ به -تقبله الله- أنه لما تزوج لم يُرزق بذرية وبقي على ذلك مدة طويلة، وقد حاول أن يتعاطى العلاج علّه يُرزق بمولود وسعى لذلك سعياً حثيثاً، لكن دون جدوى، ولما وفقه الله للنفير والجهاد أتاه خبر بأن امرأته حامل، وما هي إلا أشهر معدودة حتى وضعت له مولوداً، فشكر الله وحمده، وعرف أنه فتنة له وأنها الدنيا تزيّنت، ولم يكن ضعيفاً أو مفتوناً فيترك الجهاد أو يستأذن، بل احتسب الأمر عند الله وواصل جهاده، ورباطه وقتاله لأعداء الله.

 

استشهاده -تقبله الله-

 

عند إعداد جنود الخلافة للغزوة المباركة على منطقة "حمة لقاح"، كلَّفه أمير الجيش بترتيب السرايا وتوزيعها، وكان مما أمره به تجهيز 6 من الانغماسيين، فجهَّز له 5 أسماء وقدمها له، فقال له: أين السادس؟ قال: موجود، ولم يخبره أنه سيجعل نفسه السادس مخافة أن يُمنع من المشاركة في الغزوة، فكان يماطل أميره، وكلما سأله أين الأخ الانغماسي السادس؟ يجيبه بأنه: موجود، حتى اقترب موعد الغزوة، فقال له الأمير: ستبدأ الغزوة ولم تخبرني من السادس؟ فقال أبو صالح: أنا سادسهم، فرفض الأمير والإخوة مشاركته في الغزوة، وبعد إلحاحه الشديد وافقوا، فكان أمير سرية الانغماسيين في اقتحام الجبل.

 

ولما كانت ليلة الغزوة أخذ يحرض إخوانه على القتال والثبات، وحب لقاء الله، ويذكرهم بالتضرع إلى الله والتوكل عليه وحده دون سواه، وتعظيم الأمر الذي هموا عليه، والانكسار لله عز وجل، ولما طلع فجر يوم الغزوة، سلّم على إخوانه الذين كانوا موجودين فردا فردا وطلب منهم السماح، ثم شد هو وإخوانه الانغماسيون كالصقور الجارحة على مواقع الحوثة المشركين، فقاتلوا قتال الأبطال الشجعان وأثخنوا بالحوثة المشركين، فارتقى -تقبله الله- شهيداً كما نحسبه والله حسيبه، مقبلاً في الصف الأول لم يلفت وجهه حتى قتل، مسطراً بدمه معنىً لمن بعده أن قادة المجاهدين أحرص الناس على نيل الشهادة في سبيل الله، وأنهم يتقدمون الصفوف قبل إخوانهم ولا يتأخرون، وبذلك يكونون خير قدوة وخير محرض لثبات إخوانهم وتنكيلهم بأعدائهم.

 

 

 

 

 


 

42- العدد 108 - الخميس 12 ربيع الأول 1439 هـ

دعا إلى الله بقوله، وقاتل أعداءه بفعله أبو سليمان الليبي: "لقد عاهدت الله على رصاصة تدخل من هنا وتخرج من هنا"

إن الدعوة إلى الله هدي الأنبياء، وسبيل الصالحين والأتقياء، قال سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وللدعوة طريقان، طريق السنان وطريق اللسان، وأكمل أسلوب للدعوة هو الجمع بين الطريقين، وقد تجسَّد ذلك كله بأخلاق النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، وسار على هديه الصحابة والتابعون الكرام، فقد كانوا دعاة لله بأفعالهم قبل أقوالهم.

 

وممن نحسبه كذلك -والله حسيبه- الأخ المجاهد أبو سليمان الليبي -تقبله الله- فلقد كان -رحمه الله- مثلا في الدعوة إلى الله بفعله وقوله، حيث كان طالب علم على صغر سنِّه الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين، وقد كان حافظا لكتاب الله، ولآلاف من الأحاديث النبوية الصحيحة، وكان له باع في علوم الآلة.

 

ولم يكن -تقبله الله- ممن حفظ المتون والكتب وتجاهل العمل بها، بل كان علمه قائدا له في جميع شؤون حياته، فكان قوّاما بالليل صواما بالنهار، عابدا لله على بصيرة، مجاهدا ذا أخلاق كريمة رفيعة.

 

لم تمنعه الدنيا من الالتحاق بجندية الخلافة

 

ينحدر أبو سليمان الليبي -تقبله الله- من عائلة ثرية من مدينة بنغازي، فلم يكن ينقصه المال كي يطلبه عبر الغزوات أو القتال، ولم تكن تنقصه الشهرة كي يطلبها عن طريق الالتحاق بصفوف الدولة الإسلامية وجنديتها، لم يرض القعود ودماءُ المسلمين تسيل، وأعراضهم تنتهك، فشمَّر عن ساعد الجد، وتسلَّح بالإيمان وتوكل على الله، وأدرك يقينا حقيقة الضر والنفع، التي لخَّصها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بقوله لابن عباس -رضي الله عنه- عندما كان يافعا: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [سنن الترمذي].

 

كان حريصا على طلب العلم وتعلمه، وكان أكثر ما يحرص على علم المواريث، ولم يكن طلبه للعلم يصدُّه عن الجهاد في سبيل الله، بل كان من السباقين للقتال في ليبيا منذ اندلعت شرارة الجهاد فيها، وأُصيب -تقبله الله- في إحدى المعارك هناك خلال قتاله ضد المرتدين أعوان الصليبيين الأمريكان.

 

ولما منّ الله على عباده المجاهدين بإعلان الخلافة، سارع بإعلان بيعته لخليفة المسلمين وحثَّ إخوانه هناك على اللحاق بركب الخلافة، خاصة وأنه وجد في إعلانها في ذلك الوقت فرصة ذهبية لجمع شتات الأمة بعد تبعثرها ولإحيائها بعد موتها بمئات السنين، ففرح أشد الفرح لإعلانها وبدأ ينشط نشاطا كبيرا لإقناع إخوانه بالالتحاق بركبها.

 

ابتعاثه إلى أرض الشام

 

فانتدبه إخوانه للهجرة إلى أرض الشام مبتعثا من قبلهم للتواصل مع الأمراء، وإخبارهم عن حال إخوانهم في ليبيا وإطلاعهم على منهجهم وعقيدتهم، فانطلق أبو سليمان قاصدا أرض الشام، فالتقى بإخوانه من الأمراء ورفع لهم أمر إخوانه في ليبيا، فرحبوا به وبإخوانه بعد أن تأكدوا من صحة منهجهم، وقوة عزيمتهم، وقام بدوره -تقبله الله- بنقل ما رآه في أرض العراق والشام لإخوانه في ليبيا مشجعا ومحرضا لهم على البيعة، فبايع الإخوة هناك.

 

وبعد فترة وجيزة من وصوله لأرض الشام، عُين -تقبله الله- الشرعي العام لولاية حمص وأميرا للمراكز الشرعية فيها، فأحبه الإخوة حبا شديدا لما رأوا من طيب أخلاقه وحسن إدارته، وما زادته تلك التكليفات إلا انكسارا لربه وتواضعا لإخوانه الذين وُلِّي أمرهم.

 

واستمر الشيخ -رحمه الله- في طلب العلم والجهاد في سبيل الله حتى بعد تكليفه بمهام كثيرة منها خدمة إخوانه، فكان يدير شؤونهم في النهار ويسهر على طلب العلم في الليل، وإذا ما نادى منادي الجهاد والقتال تراه في الصفوف الأولى بجنب إخوانه المقاتلين في المعارك يحرض ويقاتل، وكأن لسان حاله ما قاله ابن حزم:

 

مناي من الدنيا علوم أبثها وأنشرها في كل باد وحاضر

دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر

وألزم أطراف الثغور مجاهدا إذا هيعة قامت فأول نافر

لألقى حمامي مقبلا غير مدبر بسمر العوالي والربيع البواتر

فيا رب لا تجعل حمامي بغيرها ولا تجعلني من قطين المقابر

 

لم يغفل -رحمه الله- عن العمل بما تعلمه من خلق نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فلقد كان لينا رحيما بإخوانه المجاهدين، يؤثرهم على نفسه حتى في أموره الخاصة، وكانوا لا يسمعون منه إلا طيب الكلام ولا يرون منه إلا حسن المعاملة، ولقد صدق من قال عنه إنه كان مدرسة بفعله وأخلاقه وتعامله مع إخوانه.

 

مقتله -تقبله الله-

 

ولقد كان لمقتله -تقبله الله- أثر كبير في نفوس إخوانه لا يمحى، فلقد كان مقتله علامة على صدقه -نحسبه والله حسيبه-، صدق الله عز وجل فصدقه الله، وما أشبه مقتله بمقتل ذلك الصحابي الكريم الذي قال عندما وصله نصيبه من الغنائم: "ما على هذا بايعتك يا رسول الله، بايعتك على سهم يدخل من هنا ويخرج من هنا، بايعتك على أن أقتل في سبيل الله"، وما هي إلا أن دارت رحى الحرب حتى تفقد الصحابة الكرام الصحابي فرأوا السهم وقد اخترق رقبته كما أشار.

 

وهنا مع أخينا أبي سليمان الليبي حصل الشيء نفسه، حيث ينقل لنا أحد إخوانه الذين كانوا معه في آخر غزوة خاضها -رحمه الله- ما حدث فيقول: ركب أخونا أبو سليمان معنا في عربة BMP لينغمس في حاجز للجيش النصيري في محيط المحطة الثالثة بولاية حمص شرق مدينة تدمر، فأصيب بطلق ناري وبدأ ينزف دما فيغمى عليه ويفيق، فقال له الأخوة: ارجع يا شيخ لن تستطيع مواصلة القتال معنا فلقد أُصبت، فقال: "لا والله لا أرجع"، فلما أعاد عليه إخوانه طلب الرجوع وألحوا عليه قال: "لا والله لا أرجع ولقد عاهدت الله على رصاصة تدخل من هنا وتخرج من هنا وأشار إلى جبهته ومؤخرة رأسه"، وما هي إلا دقائق قليلة حيث رفع رأسه فجاءته رصاصة أصابت جبهته بالمكان الذي أشار إليه فارتقى -تقبله الله- شهيدا كما نحسبه.

 

رحمك الله أبا سليمان، لقد كنت نعم الأخ ونعم الرفيق ونعم الأمير ونعم المعلم، وأسكنك الله فسيح جنانه.

 

 

 

 

 


 

43- العدد 109 - الخميس 19 ربيع الأول 1439 هـ

أبو عمر القوقازي وإخوانه هاجروا معاً وسقوا بدمائهم أرض الدولة الإسلامية 11 أخاً جمعتهم الحياة ولم يفرقهم الموت

لم يكن أبو عمر القوقازي وإخوانه العشرة على موعد بمعركة بيجي أو الموصل أو الرقة، ولم يتوقعوا عندما غادروا أرض القوقاز قبل سنوات طويلة متجهين إلى جزيرة العرب لتلقِّي العلوم الشرعية ودراسة اللغة العربية في إحدى جامعاتها أن يسقوا بدمائهم الطاهرة أرض الخلافة.

 

وكما جمعتهم الأرض على وجهها سنواتٍ طويلة متحابين متآخين في الله، جمعتهم الأرض كذلك في باطنها شهداء، نحسبهم والله حسيبهم.

 

لقد قُتل الإخوة الأحد عشر على أرض الشام والعراق في المكان الذي طالما حلموا بالعيش فيه والموت على ثراه، لم يمض على هجرتهم عدة أشهر حتى بدأ أحدهم يلحق بالآخر إلى الرفيق الأعلى، لقد تعاهدوا على المضي في الطريق إلى نهايته وقد بلغوها، لم يشغلهم شاغل، أو يمنعهم مانع، أو يعِقهم عائق، أو يلفت وجوههم بريق.

 

ألقوا ما على أكتافهم من متاع وأزالوا ما في قلوبهم من وهن، شدوا عزائمهم وأزمعوا أمرهم وصححوا هدفهم وجددوا نياتهم وحددوا وجهتهم الجديدة، إنها أرض الخلافة بعد أن تزودوا من علوم الآلة والعلوم الشرعية ما يعينهم على بلوغ الهدف، وبعد أن لم يجدوا بُدّاً من تطبيق ما تعلموه من مسائل العقيدة في الولاء والبراء والحاكمية وقتال الأعداء.

 

لقد ارتقوا مراتب الشرف ولم يُقنعهم دون النجوم مرام، فكان هاديهم في الطريق قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وكان حاديهم في المسير قول الشاعر:

 

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر صغير

كطعم الموت في أمر عظيم

 

إذًا فلتكن الهجرة إلى أرض الخلافة هي الهدف، وليكن القتل في سبيل الله هو المرام، ولتصب المحن والبلايا منهم ما تشاء، فإن سلعة الله غالية وهي تستحق العناء، وإن قدَّر الله لنا أن نُقتل ونحن في أرض الخلافة، فلنقتل ونحن في أرض الخلافة، هذا ما قاله هؤلاء الإخوة الأحد عشر قبل هجرتهم عندما حاول ثنيهم الأهل والأصحاب.

 

لقد كان لبعض هؤلاء الإخوة أنشطة دعوية في القوقاز وكان أغلبهم يتابع أخبار المجاهدين فيها ويناصرونهم، لم يكونوا جماعة ولكن كانوا يعرفون بعضهم البعض ويحبون الجهاد ويدعمون أهله، ثم التقوا في أرض الجزيرة أثناء طلبهم للعلم وظلوا على تواصل مع بعضهم البعض يلتقون بين الفترة والأخرى.

 

الصدمة هي الكلمة الوحيدة التي يمكن أن تُعبِّر عن حالة الإخوة ساعة إعلان الخلافة، وكما حدث لآلاف بل لملايين المسلمين في العالم، بدأت الأسئلة تنهال على ألسنتهم، كيف ذلك؟ من هؤلاء الذين أقدموا على أمر عظيم وكبير كهذا؟ هل هذا هو الوقت المناسب لإقامتها؟ هل؟ وهل؟ أسئلة كثيرة دارت على ألسنتهم وجالت في أذهانهم، دفعتهم إلى البحث عن الحقيقة بموضوعية وشجاعة، وبما أنهم طلاب علم فقد لجؤوا إلى الكتب والمؤلفات التي تحدثت عن ذلك، وبدؤوا بالتعرف على الدولة الإسلامية عبر ألسنة قادتها وإصداراتها، وليس عبر كلام المُغرضين الكارهين والمحاربين، والتعرف على معنى الخلافة ومفهومها الشرعي ووجوب إقامتها، ووجوب الدفاع عنها، والتهيؤ لما يمكن أن يلاقوه في ذلك.

 

فكان أن علموا الحق ووقفوا على الحقيقة بعد أشهر من البحث والنقاش والجدال، ووصلوا إلى نتيجة مفادها أن الدارَ دارُ إسلام وجبت الهجرة إليها، وأن الرجل الذي بايعه المسلمون إمام شرعي واجبة طاعته عليهم، وأن جنوده مجاهدون يقاتلون تحت راية صحيحة نقية، وأنه لا خيار أمامهم سوى الهجرة إلى تلك الأرض، والبيعة لذلك الإمام، والالتحاق بصف أولئك المجاهدين.

 

فهاجروا إلى الله وهم يعلمون أن بركة العلم في العمل به، لا في الركون إلى الدنيا بزعم التفرغ له في وقت تزداد الحاجة إلى أهله خصوصا في زمن الفتن، ولم يصدهم عن طاعة ربهم تلبيسات المنتسبين إليه من علماء السوء الذين كانوا يتحلَّقون حولهم في الجامعة، وفي المساجد، وفي حلق العلم، وهم يحسنون بهم ظنا، ويحسبونهم على خير، حتى إذا جاءت الفتن عرّت عن أولئك الضالين ما لبسوا من مُسوح العلماء العاملين، وأظهرت سوءاتهم، وأبانت حقائقهم، فإذا هم أدعياء منافقون، يقولون ما لا يفعلون، وبالدين يأكلون، وفي مرضَات الطواغيت يعملون.

 

وكان من هؤلاء الإخوة الأبطال الذين قضوا جميعا في المعارك ضد الكفار والمرتدين وأعوانهم الطبيب المجاهد أبو عمر القوقازي صاحب السبعة والثلاثين عاما، أب لأربعة أبناء، طالب علم لا يكاد يفارق الكتاب يمينَه، لقد سبق أن سجن في بلده بتهمة صداقته لأحد المجاهدين وكانت فترة سجنه رغم قصرها كفيلة بأن تعلمه شراسة الحرب التي يخوضها إخوانه ضد الكفار والمرتدين، فقد لاقى ما لاقاه من أذى، وما إن خرج من محبسه حتى جمع حقائبه وخرج فارا بنفسه وأهله ودينه.

 

لقد كان مقتل أبي عمر وأحد إخوانه العشرة مثالا على التضحية والفداء، حيث ترافقا -تقبلهما الله- إلى خط الدفاع الأول عن مدينة الموصل وكان ذلك الأخ قناصا، فشاهد مدرعة للروافض المشركين قريبة من نقطة رباطهم فتناول قذيفة خارقة للدروع لقذفها باتجاه المدرعة، ودنا مسافة باتجاه الهدف وفور اقترابه أصابته طلقة بجسده فسقط، فما كان من أبي عمر -تقبله الله- إلا أن تسلل باتجاه أخيه لإنقاذه وإسعافه رغم انكشاف موقعه للروافض المشركين، وما إن وصل إليه حتى وجد أخاه قد فارق الحياة، فأخذ يسحبه حتى أصابته طلقة أردته قتيلا، فسقط فوق أخيه -تقبلهما الله تعالى-.

 

وكان -تقبله الله- يحلم بأن يكون قناصا يدافع عن دولته، لكنه كان يعاني من ضعف في بصره، وقبل نفيره إلى أرض الخلافة خضع لعلاج كلَّفه ما يزيد على 2000 دولار، وعندما وصل إلى أرض الدولة الإسلامية والتحق بمعسكراتها، أخبر أمير المعسكر بأنه يرغب في الالتحاق بسرايا القناصين، فلما عُرِض على الإخوة في سرايا القنص رفضوا طلبه لضعف بصره، فما كان منه إلا أن بكى وحزن على ذلك.

 

وكان له -تقبله الله- باعٌ في مجال تربية الأطفال لما يتحلى به من صبر وحلم وأناة وعلم وتقوى -نحسبه والله حسيبه- وكان حافظا لكتاب الله تعالى، مجيدا تجويده وترتيله، فتم فرزه لمعسكرات الأشبال فقدَّم ما يملك في هذا المجال، فكان خير أب وخير معلم وخير مربٍّ، ورغم ضيق الوقت لديه إلا أنه لم ينس حلمه في القنص فكان يتعلمه بمساعدة أحد إخوانه في أوقات فراغه، وكلما سنحت له الفرصة رابط بقناصته على الكفار والمرتدين، فخرَّج في معسكرات الأشبال رجالا سيشهد لهم التاريخ والناس، نسأل الله أن يتقبل منه ومن إخوانه، وأن يتقبلهم جميعا في جنانه.

 

 

 

 

 


 

44- العدد 115 - الخميس 1 جمادى الأولى 1439 هـ

المعلم عبد الودود

"رجل من أهل الخير، هادئ الطبع قليل الغضب ليس له خصومة مع أحد، صاحب مبدأ وعزيمة وإرادة قوية، يفي بالعهود ولا يُخلفها حتى في أحلك الظروف، ملتزم بقيام الليل" هكذا يصفه أقرب أصدقائه.

 

إنه الأخ الشهيد -كما نحسبه- المعلم عبد الودود -تقبله الله- واسمه الحقيقي "محسن"، ولد -رحمه الله- في بادية مدينة مانديرا شمال شرقي كينيا، وتربى فيها وأكمل فيها دراسته الابتدائية والثانوية وحفظ فيها كتاب الله، ثم انتقل بعدها إلى مدينة نيروبي حيث أكمل فيها دراسته الجامعية وتلقى فيها العلم الشرعي على أيدي عدد من أهل العلم هناك.

 

بعد ذلك بدأ -رحمه الله- مرحلة الجهاد، فخرج من كينيا مهاجرا إلى الله والتحق بصفوف المجاهدين في الصومال وتحديدا عام 1429 ه، وفي نفس العام تخرج -رحمه الله- من معسكر "عبدي طوري" والتحق مباشرة بصفوف المجاهدين في شبيلى السفلى حتى صار أميرا للحسبة في مدينة براوى ثم أميرا للحسبة في مدينة أمبريسا وما حولها من القرى، وبعد فترة قضاها في الحسبة تحول -رحمه الله- إلى الجبهات العسكرية في نفس الإقليم، فتم تعيينه مسؤولا عن الدعوة في الكتيبة التي كان ينتمي إليها وكان ذلك في بداية العام 1430 ه، وينقل عنه مرافقوه في تلك المرحلة أنه كان مهتما بالدعوة إلى الله فكان يلقي الكلمات في المساجد وكان يدعو الناس -حتى المارة في الشوارع- ويحرضهم على الجهاد، من عرفه منهم ومن لم يعرفه.

 

ثم نقل مرة أخرى إلى إقليم (بنادر)، وهناك التقى بالمهاجرين وبرزت مهارته في الترجمة، فكان يعمل مترجما بين المهاجرين والأنصار وكان متميزا في ذلك، رحمه الله، إذ إنه يجيد عدة لغات بطلاقة وهي السواحلية والعربية والإنجليزية والصومالية بقسميها "المحاتري والماي" بالإضافة إلى الأورومية، وهي اللغات التي تستعمل في المنطقة التي نشأ فيها شمال شرقي كينيا.

 

وفي أواخر عام 1430 ه، اختير لِيَكون من ضمن معسكر تأهيلي للقيادات العسكرية في السرايا فالتحق بالمعسكر الذي استمر ستةَ أشهر متتالية، كان فيه من أمهر الطلاب وأسرعهم فهما واستيعابا، بل كان هو المترجم بين الطلاب والمعلمين أثناء المعسكر بالرغم من كونه طالبا، ولما رأى المعلمون القدرات والمواهب التي حبا الله بها الأخ -رحمه الله- تم اختياره ليكون من ضمن المعلمين في المعسكرات، وقد كان -رحمه الله- متميزا من بين المعلمين ومن أمهرهم، حافظا لكتاب الله عن ظهر قلب وكان يجيد استنباط الأحكام والفوائد من بين الآيات التي يقرأها خلال دروسه وكلماته، كان لينا رحيما بطلابه، حريصا على أن يفيدهم حتى أثناء قيامهم بالتدريبات العسكرية، وكان متميزا في شرحه وتدريسه محبا لعمله ولا يمل من كثرة الشرح والتكرار، يلقي المحاضرات والدروس بكل اللغات التي يعرفها، وكان تخصصه التدريس في مجالات الأمن والإدارة والقيادة وحروب العصابات بالإضافة إلى اهتمامه بالتاريخ عامة، وتاريخ بلاد المسلمين خاصة، وقد ظل -رحمه الله- في قسم المعسكرات معلما ومترجما مساعدا لغيره من المعلمين حتى التحاقه بركب الدولة الإسلامية ودخوله إلى غابات الجنوب متبرئًا من التنظيمات والفصائل.

 

التحق -رحمه الله- بركب الخلافة رغم أنه كان يعاني من مرض الكلى، لكن نفسه أبت الجلوس بين الفصائل وهو يرى نور الخلافة قد أشرق من جديد، فعمل قبل دخوله إلى الغابات على إقناع وتحريض الناس على اللحاق بالدولة الإسلامية، وما أن تجمع الإخوة في الجنوب بعد أن نجاهم الله من مطاردات يهود الجهاد حتى اختاروه أميرا عليهم، وكلفوه بقراءة البيان الذي نشر على الإنترنت باسم "بيعة ثلة من المجاهدين في الصومال".

 

وبعد أشهر من المطاردة والتخفي عن أعين يهود الجهاد، أراد المعلم عبد الودود اللحاق بركب إخوانه من جنود الخلافة في شرق الصومال ليشد من أزرهم ويفيدهم ويعاونهم في بناء صرح الخلافة هناك، فتسلل -رحمه الله- إلى مدينة كسمايو وسافر من مطارها متخفيا إلى مطار مقديشو لكن قدر الله أن يراه أحد عملاء يهود الجهاد العاملين في مطار كسمايو وكانت بينهم معرفة سابقة.

 

ولما وصل عبد الودود -رحمه الله- إلى مدينة مقديشو واختبأ في أحد المنازل، كان بينه وبين زوجته موعد ليلتقيا وكان في أشد شوقه للقاء ابنه الذي سماه "عبد الله السني"، وكان الموعد بينهما عند عصر اليوم الثاني من وصوله، لكن الأخ تأخر ولم يكن من عادته أن يخلف وعده، وعند المغرب وصل الخبر إلى زوجته أن مسلحين أطلقوا عليه النار بالقرب من سوق "بكارة" وأصابوه بطلقات في بطنه ورأسه نقل بعدها إلى أحد مستشفيات المدينة فذهبت إليه وتأكدت من جثته، رحمه الله، وسرعان ما بدأ يهود الجهاد في الصومال يبشرون بعضهم البعض بأنهم تمكنوا من اغتيال المعلم عبد الودود.

 

وفارق عبد الودود -تقبل الله شهادته- الدنيا وهو في الثلاثين من العمر مقبلا غير مدبر مهاجرا في سبيل الله مبايعا لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر الحسيني القرشي -حفظه الله- ولا يزال إخوانه مستمرين في طريقه من بعده وسيثأرون له في يوم من الأيام، بإذن الله.

 

 

 

 

 


 

45- العدد 121 - الخميس 13 جمادى الآخرة 1439 هـ

أقدم على عمليتين استشهاديتين ولم يُكتب له تنفيذ أيٍّ منهمها
أبو الخير القرشي:
حافظٌ لكتاب الله.. رفيعُ الأخلاق.. شديدُ الحياء.. سخيٌّ

أقدم على عمليته الاستشهادية مرتين ولكن الله -تعالى- لم يكتب له تنفيذها، وكان رحيله عندما شارك في توثيق عملية انغماسية ضد أولياء الشيطان في منطقة "شبام" في اليمن، فلما اشتد الأمر على إخوانه، وضع آلة التصوير التي يستخدمها جانبا، وقذف بنفسه إلى مجموعة الانغماسيِّين، وبايعهم على الموت في سبيل الله، ونكل بالمرتدين، إلى أن قُتل، تقبله الله.

 

كان رفيع الأخلاق، سامي الروح، سخياً كريماً، كثير التصدق، كثير الصمت، شديد الحياء، شديد التواضع، هادئا، نصوحا، مُتقنا لكتاب الله، مكثرا لقراءته، حافظا له، جاهد بماله ونفسه إلى أن لقي ربه، نحسبه والله حسيبه.

 

سأله أحد إخوانه يوما عن أمنيته فأجاب: رؤية وجه ربي الكريم، ومرافقة نبيه، صلى الله عليه وسلم، والفوز بالفردوس الأعلى.

 

إنه أبو الخير القرشي، من مدينة الحديدة غربي اليمن، ولد في أبها، ونشأ وترعرع في الرياض بنجد، وقُتل ولم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره.

 

نشأته وشبابه

 

نشأ في بيت صلاح وتقى، لكن ألهته الملهيات التي أضاعت كثيراً من الشباب، أحب الألعاب القتالية وتمرس بها، وكادت تودي به لولا أن صرفه الله عنها، ثم شُغل بمُلهٍ آخر وهو عالم كرة القدم حتى أنه احترفها، وعُرض عليه أن يلعب في أحد الأندية الخليجية، وصرفه الله مرة أخرى عنها، لم يكن بعيدا عن طريق الصلاح والصالحين، حيث كان ملتزما بحلقات القرآن الكريم، وبفضل الله -سبحانه- ثم بفضل أحد رفاقه الذين كانوا معه في الحلقة التزم فارسنا، وجَدَّ في حفظ كتاب الله، ثم بعد فترة من الالتزام والعكوف عليه حفظه بحمد الله، فأصبح مدرساً في إحدى الحلقات وإماما لأحد المساجد، وما زال رفيقه -الذي كان له الفضل بعد الله في هدايته- سببا في إرشاده إلى طريق الحق، طريق الجهاد والموحدين.

 

قصة نفيره

 

بعد أن أرشده صديقه إلى هذا الطريق وبعد مرور فترة من حياته، سافر رفيقه إلى ماليزيا ليتخصص في مجال الحاسوب، ورغم انشغاله في أمور الدراسة، إلا أنه ما فتئ ينسق ويبحث عن طريق يوصله لديار الإسلام، فمنَّ الله عليه أن وجد طريقاً لأرض الشام، ولكن الطواغيت المرتدين عرقلوا عليه طريق هجرته، وكان هذا الأمر في ظاهره شرًّا، ولكنه في باطنه يحمل الخير الكثير، فكأنما أراد الله لهما وجهةً أخرى لتكون منطلق حياتهما الجهادية، فتم التنسيق والتخطيط للهجرة البديلة، حتى التقيا في ولاية صنعاء ثم اتجها نحو ولاية اللواء الأخضر (مدينة إب)، منطلق الموحدين آنذاك.

 

ثم بعد ذلك، انتقل فارسنا مع المجاهدين إلى ولاية شبوة، وأُمِّر على إحدى المضافات هناك، فلم يزده ذلك إلا تواضعا وتحملاً للمسؤولية، فكان يوزع المهام بين الإخوة ولا ينسى نفسه وهو أحرصهم على الخدمة، فكان لذلك الأثر الكبير على إخوانه، ومن المواقف التي حصلت أنه رسم جدولاً لعمل الإخوة في المطبخ، فاعترض الإخوة على هذا الجدول، كل منهم يريد أن يستأثر بالأجر في خدمة إخوانه، حتى رُفع ذلك إلى الأخ المسؤول ليفصل فيها.

 

ومما امتاز به الحرص على الجانب التوعوي للإخوة، فكان يُدرِّسهم في المضافةِ القرآنَ الكريم، ويعطيهم المواعظ الهامة وينصحهم ويبذل لهم مما منَّ الله به عليه في هذا الباب.

 

وأثناء وجوده في ولاية شبوة كُلِّف من قِبل الإخوة بالتدريب في أحد معسكرات الخلافة، حيث أنه كان يتمتع ببنية جسدية رياضية، فكان نِعم المدرب والمربي، تقبله الله.

 

العمليتان الاستشهاديتان

 

ثم عجِل إلى الله، كما نحسبه والله حسيبه، وطلب من الإخوة أن ينفذ عملية استشهادية ضد الحوثة المشركين، فوافق الإخوة على طلبه، وعندما أعدُّوا له السيارة، قدَّر الله لها أن تنفجر بسبب خلل فني قبل وقت العملية، فما يئس فارسنا وأراد الثانية، فجهَّز الإخوة له السيارة الثانية، ثم ركب فارسنا جواده وانطلق به مقبلا غير مدبر يبتغي القتل في سبيل الله مظانه، فقدر الله له تأخير أجله فلم يُوَفَّق بإيجاد هدفه، فانتظر يومين عسى الله أن ييسر له مبتغاه، حتى عاد فارسنا والحزن يعصر فؤاده، بعد أن ودع صحبه وأحبابه ليعيش معهم مرة أخرى.

 

لكلِّ أجلٍ كتابٌ

 

تعلم فارسنا من هذا الدرس الكبير أن الإنسان له أجل محتوم ويوم معلوم، وأن عمله في الدنيا زادٌ له يوم النعيم، فلم يكل أو ييأس، ولم يقعد لكونه استشهاديا وينتظر موعد عمليته، بل كان يحرض الاستشهاديين، وكان أكثرهم خدمة لإخوانه، ويُجدُّ ويجتهد حتى يتقبله الله، فبدأ العمل في مجال الإعلام.

 

انتقل فارسنا لولاية حضرموت، والتحق بالمجال الإعلامي فاختير إعلامياً ميدانياً، ولزم ذلك أن ينتدبه الإخوة ليأخذ دورة عسكرية لما يتطلب ذلك من لياقة ومرونة.

 

وكما يحكي إخوانه الذين رافقوه في الرحلة إلى المعسكر أنه كان مؤنساً لهم في الطريق، ينشد لهم بعض الأبيات المحرضة، ويسليهم ويذهب عنهم عناء الطريق، مضيفا أنه كان مشجعاً لإخوانه رافعا لهممهم، وكان نشيطاً في أول الصفوف، فكلفه الإخوة بإمارة إحدى السرايا.

 

رحيله (تقبله الله)

 

كان -تقبله الله- قد أمضى ليله في تلاوة القرآن والدعاء والقيام، ثم صلى فجر صبيحة ذلك اليوم بإخوانه واستعانوا بالله ثم انطلقوا لغزوتهم.

 

قسمهم القائد العسكري إلى سريتين: سرية تغزو منطقة "سر" والأخرى منطقة "شبام"، وانطلق فارسنا مع سرية شبام "إعلامياً ميدانياً"، ويُذكِّر إخوانه بالله ويحرضهم ويحثهم على الإثخان في أعداء الله.

 

وأثناء تصويره للمعارك بين جند الرحمن وجند الشيطان، انطلق فارسنا مع الإخوة الانغماسيين ليصورهم، فانغمس الموحدون في أوكار المرتدين، وأثخنوا فيهم القتل والجراح، ثم انحازوا إلى موقع آخر قريب من المرتدين بعدما وصلت تعزيزاتهم، فاشتد الأمر على الإخوة، فأعطى فارسنا آلة التصوير التي كانت معه لأحد الإخوة وصاح بإخوانه يثبتهم ويشد من أزرهم، ثم قال: "لنتبايع على الموت"، فتبايعوا جميعا على الموت وانغمسوا، فخرج أحد المرتدين من مخبئه فانبرى له فارسنا فقتله، ثم انغمس فيهم وتقدم، لينال ما تمناه مقبلاً غير مدبر، تقبله الله.

 

 

 

 

 


 

46- العدد 123 - الخميس 27 جمادى الآخرة 1439 هـ

أغراه المرتدون في خراسان بالمناصب إن تخلى عن الدولة الإسلامية فرفض وقاتلهم
سعد الإماراتي بشَّر بالخلافة وكان من أوائل الملتحقين بصفوفها وقاتل الصليبيِّين والمرتدين تحت سلطانها

لم يكن "سعد الإماراتي" يعلم عندما غادر بلدته "لوجر" في صغره برفقة أهله أنه سيكون يوما ما الأمير العسكري لمدينة "ننجرهار" تحت سلطان الخلافة، وأنه سيكون من أوائل المبايعين لخليفة المسلمين في خراسان، والساعين لامتداد نفوذها هناك.

 

ولم يكن يعلم كذلك بأن كثيرا من الذين يحملون البنادق في بلاده، ويرتدون الجعب، ويطلقون اللحى والشعور، سيرتَدُّون عن دينهم ويقاتلون لصالح قوى صليبية كافرة أو مرتدة عميلة.

 

وهو الذي عاين في صغره اندحار الصليبيِّين الروس عن بلاده وأدرك بفعل ذلك أن الجهاد في سبيل الله عز ليس بعده ذل، وأنه لا بد لذلك الجهاد أن يكون على علم وبصيرة، وتحت راية التوحيد لتطبيق شرع رب العالمين، وتأكد كذلك وهو في السنوات الأولى من حياته، أن لا خيار أمام المسلم غير القيام بفرض دفع الصائل عن دينه وأهله وعرضه.

 

لم يتوقع عبد الهادي الملقب بـ "سعد الإماراتي" أنه سيخوض أشرس حروبه يوما ما مع أبناء جلدته من المرتدين، وأنه سيُقتل على أيديهم، بعد أن شهدت له جبال خراسان بصولاته ضد الصليبيِّين الأمريكيِّين والطالبان المرتدين، والحكومتين العميلتين الأفغانية والباكستانية.

 

تشرب الجهاد وأحب أهله

 

ترعرع في مخيم "باغبانان" في بيشاور بعد أن وصل إليه مع أسرته بسبب التهجير الذي تعرضوا له قبل 30 عاما، بعد دخول القوات الروسية الصليبية بلدته، تلقى في مدارسها علومه، إضافة إلى اللغة الإنجليزية وعلوم الحاسوب، فكان على إلمام جيد بهما.

 

تشرب الجهاد منذ صغره وأحب أهله، وأدرك أنه لا بد من علم ينير طريق المجاهد، وأيقن بأن القتال تحت راية التوحيد هو الجهاد وما دونه مضيعة للدين وللوقت والجهد، وإهدار للطاقات، وتفريط بالأرواح.

 

وما إن اكتمل نضوج الشاب اليافع حتى أعلن الصليبيون الأمريكيون عن حملتهم على بلاده، فقام في سبيل الله قومة الأسود، ليساهم في تحكيم شرع الله في الأرض ودحر الغزاة عنها، وكانت أولى غزواته ضد الصليبيِّين في منطقة "كنر" الأفغانية تحت إمرة القاري إسماعيل، الذي كان من المطلوبين الأوائل لدى الأمريكان.

 

عملية إنزال فاشلة

 

ومن شدة تنكيل سعد وأميره ومجموعاتهما المجاهدة بالصليبيِّين وأعوانهم، نفَّذت عليهم القوات الصليبية الكافرة عملية إنزال دامية لكن الله عصمهما آنذاك، دُمِّرت على إثرها مروحية للكفار وقُتل عدد كبير منهم.

 

بعد ذلك هاجر البطلان إلى باكستان، حيث قُتل أميره قاري إسماعيل في عملية مداهمة للجيش الباكستاني المرتد في "بيشاور"، وبفعل التضييق والملاحقة هاجر عبد الهادي إلى "ميرانشاه" في وزيرستان.

 

لم يكن بطلنا ليحصر جهاده في الحدود التي رسمها الصليبيون، ولم يقصر جهاده على قتال الصليبيين وعلى الحكومة الأفغانية العميلة المرتدة، بل كان يقاتل كذلك الحكومة الباكستانية المرتدة، وكان من ذلك أن أُسر في منطقة "مهمند" شمال غربي باكستان، ومكث في السجن مدة، وبعد خروجه عاود هجماته الدامية على الصليبيِّين والمرتدين في باكستان وأفغانستان.

 

طلب خبيث من المرتدين وعمالة

 

ولما استحكمت شبكة الاستخبارات الباكستانية على حركة "الطالبان" وعلى شبكة "حقاني" طلبوا من عبد الهادي أن يحصر جهاده وعملياته ضد الحكومة الأفغانية فقط، ولكن عبد الهادي كان قد عرف قبل ذلك خُبث عقائد الطالبان ومكائدهم، فلم يُلق لطلبهم بالا، واستمر في العمليات ضد المرتدين في باكستان وأفغانستان، وكان مع عبد الهادي رجال صادقون مخلصون أصحاب عقيدة، وإثر ذلك أعلنت حركة طالبان المرتدة أن عبد الهادي باغٍ على الحركة، لعدم حصر عملياته حيث تريد الاستخبارات الباكستانية.

 

إلا أن سعدًا الإماراتي لم يلقِ لإعلان الطالبان بالا، ولا حسب لهم حسابا، فبدأت ضرباته النوعية -هو ومن بقي معه من إخوانه الصادقين- على الاستخبارات في منطقة "لوغر" الأفغانية، وعلى الاستخبارات الباكستانية المرتدة، ما دفع الأخيرة لمحاولة اغتياله أكثر من مرة، إلا أن الله -تعالى- عصمه منهم.

 

أول من بشَّر بالخلافة

 

أحب سعد إخوانه المجاهدين في العراق من أول ظهور لهم، وأحب رايتهم، بعد أن سمع كلمات قاداتهم وشاهد إصداراتهم وعملياتهم، وتأكد أنهم أصحاب عقيدة ومنهج، فكان من شدة حبه لهم أنه كان دائما يصحب معه راية "العقاب"، ولما أُعلنت الدولة الإسلامية في العراق والشام، أدرك أن بعد هذا الإعلان أمرًا عظيمًا ألا وهو الخلافة، فبشَّر عبد الهادي الأمة والمجاهدين من حوله، وذلك موثق بإصدار يحمل اسم (قافلة الحق، العدد الثالث).

 

كان سعد الإماراتي من قديم الأيام يتفقد أخبار إخوانه المجاهدين في العراق والشام، لصحة عقيدتهم وسلامة منهجهم، وكان يعتبر نفسه أحد الفرسان في ركبهم.

 

ولما أُعلنت الخلافة تحققت أمنيته وأصبح حلمه واقعا، فاجتمع بإخوانه الصادقين كالشيخ مقبول، والشيخ حافظ سعيد خان، والشيخ أبي يزيد، وغيرهم من الصادقين وشكلوا النواة الأولى للخلافة في خراسان، وأرسلوا بيعتهم لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر البغدادي -حفظه الله- الذي قبلها منهم.

 

رفضٌ لابتزاز المرتدين

 

وبعد إعلان ولاية خراسان أمَّره إخوانه على منطقتي "لوجر" و "بكتيا"، ولما وصل لمنطقة عمله استقبله الناس هناك أحرَّ استقبال مما جعل مرتدي حركة طالبان في تخبط كبير، ومن أجل ذلك أرسلوا ثلاثة من كبار أعضاء شورى "كُوِيتَه" إلى عبد الهادي ووعدوه بأن يجعلوه أميرا على كابول من قبل الحركة إن تخلى عن الدولة الإسلامية، ولما رفض عبد الهادي بشدةٍ طلبهم، طلبوا منه أن يعتزل القتال ولا ينضمّ إلى جيش الخلافة في خراسان، فطالب بالأدلة الشرعية على مطلبهم، غير أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولم يكن أمامهم إلا أن عادوا أدراجهم إلى "كُوِيتَه" خائبين خاسئين.

 

ولما هاجم الصليبيون والطالبان المرتدون مناطق سلطان الخلافة في "ننجرهار"، استنفره إخوانه لصد حملتهم، فما كان منه إلا أن استجاب ولبَّى النداء.

 

وبعد وصوله اتجه إلى منطقة "عدل خيل" فدارت بينه وبين المرتدين والصليبيِّين معارك دامية، وكان وقتها أميرا للحرب هناك، كما خاض جيش الخلافة تحت إمرته ضد الطالبان المرتدين معارك عديدة.

 

في الصفوف الأولى

 

وفي عام 1437 هـ خاض معارك شديدة ضد الحكومة الأفغانية في منطقة "كوت"، وبعد السيطرة على عدة نقاط للجيش الأفغاني هو وإخوانه، واجه قوة عاتية للجيش المرتد بمساندة قصف شديد من طائرات الصليبيين، بهدف استعادة السيطرة على ما استلبه منهم جيش الخلافة بقيادته، ومع شدة الحملة الشرسة والقصف العنيف كان عبد الهادي يرص الصفوف، ويرشد إخوانه لأنجع الأساليب في إيقاع القتل بالكفار والمرتدين، وكان لذلك أثر كبير على الجنود، إذ كانوا يرون أميرهم البطل بينهم في صفوف القتال الأولى.

 

وفي اليوم الثالث عشر بعد عيد الفطر لعام 1437 هـ كان القدر بانتظار أخينا وبطلنا عبد الهادي "سعد الإماراتي بن حاجي محمود"، بعدما ناهز عمره 33 عاما، قضى جلها مجاهدا في سبيل الله، حيث أصابه أحد المرتدين بطلق ناري بعد وضوئه لصلاة العصر قتل على إثره، فتقبله الله في الشهداء المخلصين، كما نحسبه والله حسيبه، وأعلى له الدرجات في الجنة.

 

 

 

 

 


 

47- العدد 133 - الخميس 8 رمضان 1439 هـ

أبو كرم الحضرمي
كريمٌ حَيِيٌ مِعْوانٌ في النائبات

أبو كرم الحضرمي، أحمد بن سعيد العمودي، ولد أبو كرم -تقبله الله- في مدينة الرياض وترعرع في بيت ميسور الحال.

 

نشأ في بيئة عصفت بها الفتن والشهوات والأهواء فتأثرت بها قلوب كثير من الشباب، وما ذاك إلا حينما هيَّأ لها الطواغيت أسبابها طمعًا بصرف شباب الأمة عن مواطن عزهم المجيد.

 

تاه قلبٌ صغير لم يجد يدًا تقوده إلى الهدى والرشاد، فتلقفته أيادٍ خدّاعة أغرته بالمال والجاه وغيرها من الملذات التي جعلتْها ستارًا للأوهام والفساد والضياع، مضى برهة من الزمن عليها، ثم أُسِر على إثرِها، فمكث في السجن قرابة الأربع سنين، كان السجن لحظة فارقة غيَّرت مجرى حياته، وجعلت ذلك القلب يُفتّح عينيه لينظر في مجريات الأحداث ويُحللها ويضع نفسه جزءًا منها.

 

أحس أبو كرم بالصدع الحاصل بأمة الإسلام والذل الذي يُكرِّسه الطواغيت عليها، فعزم على التوبة والندم مما كان عليه وعزم على ألا يخرج من سجنه إلا وقد بدأ يعمل لدين الله.

 

امتن الله عليه بالخروج من السجن، ووفقه لتغيير رفقة السوء، وأنار الله بصيرته.

 

بداية الطريق

 

بدأ من بلاد الحرمين يبحث عن موطئ صدق يطأ فيه قدمه لينصر الدين، فلم يُرِهِ الله خيرا من أرض دولة الإسلام، فاختار فَيْلَقَها وانشرح لمنهجها.

 

ثم ظل يبحث عن جنود الدولة الإسلامية، ولم يكن العثور عليهم يسيرًا بادئ الأمر لكن الموفَّق من وفقه الله فوجد من أرشده إلى مسؤولٍ في الدولة الإسلامية في اليمن.

 

لكن واجهته مشكلة لطالما واجهت الكثير ممن رام الالتحاق بصف مجاهدي الدولة الإسلامية، وهي مشكلة عدم وجود من يُزكيه، لكن من علم الله صدقه هداه ويسَّر له أمره، فأعطى الله أبا كرم ما أراد فالتقى بإخوانه في الدولة الإسلامية في اليمن.

 

وبعد أن منَّ الله عليه بسلوكه طريق الجهاد ولقائه بإخوانه، طلب منهم أن يلتحق بالإخوة في الشام وكان ذلك متيسرًا له ولكن طلب الإخوة منه البقاء في أرض اليمن ليكون من حجر الأساس الذي تبنى عليه الدولة الإسلامية.

 

وافق أبو كرم على عدم المغادرة إلى أرض الشام لكن بشرط، ألا وهو تنفيذ عملية استشهادية، فوافق الإخوة على ذلك الشرط، وطلبوا منه أن يعمل معهم فترة لحاجتهم الماسة لمثله، فقد كان له الفضل بعد الله في إيواء الإخوة في حضرموت وفتح المضافات، واستقبال الشباب وقضاء حوائجهم، حتى صار من الإخوة المسؤولين عن سير الحركة في تلك الولاية.

 

ثم بعد ذلك انتدبه الإخوة في سير الحركة بين الولايات، وذلك لما برع به من إتقان لهذا العمل وحسن البلاء فيه، فكان يلبي حاجة الإخوة ويستقبل النافرين، وينقل المجاهدين، وبذل في ذلك جهدًا عظيم الأثر، جليل القدر، وتميَّز أبو كرم بوجهٍ بشوش وقلب كبير وصيت حسن، مع صبر وافرٍ رُزِق به، يأنس به كل من جالسه وعاشره.

 

ساقٍ لإخوانه المجاهدين

 

ثم بعد ذلك انتقل مع إخوانه إلى ولاية البيضاء -قيفة- وشارك مع إخوانه في غزوة حمة لقاح.

 

 وكان من أهم الأعمال التي أسندت إليه وأحبها إلى قلبه سقيا الماء، فكان ينقل الماء إلى إخوانه في المواقع والجبهات، فينعم إخوانه بعذوبتين عذوبة الماء وعذوبة لقاء أبي كرم وحديثه، وعلى ما يحمل هذا العمل من مشقة إلا أنه كان محتسبًا فيه متلذذًا به، مستشعرًا -كما نحسبه- الأجر العظيم حينما يرطّب كَبِدَ مجاهدٍ رمى بنفسه في شواهق جبال البيضاء جائعًا ظامئًا بائعًا نفسه لله، يمتثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (في كل ذات كبد رطبة أجر)، ولما سئل صلى الله عليه وسلم (أي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء).

 

أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين

 

وما من قلب كقلب أبي كرم رقيقًا على إخوانه ذليلاً لهم، إلا وجدته شديد الغلظة على أعداء الله، فكم من مرة يطالب الإخوة ويؤكد عليهم تعجيل عمليته الاستشهادية وتجهيز سيارته المفخخة ليثخن في أعداء الله الكافرين ويمزقهم كل ممزق.

 

استشهاد أبي كرم

 

عرض عليه الإخوة الزواج ولكنه رفض ذلك؛ خشية أن يصرفه عن العملية الاستشهادية، فكان ممن ترك شيئًا لله كما نحسبه فرزقه الله خيرًا منه الشهادة في سبيل الله.

 

وأثناء جولات أبي كرم لسقيا الماء بين الجبهات، خبَّأ الله له خيرًا طالما طلب من إخوانه تعجيله، فعند استراحته في ذلك الموقع تناول مصحفه تاليًا ورده، فإذا بقذيفة من العدو تسقط بالقرب منه فتصيبه، لتصعد روحه الطاهرة محلِّقة في جوف طير خضر -كما نحسبه والله حسيبه- تسرح في الجنة حيث شاءت.

 

فكانت خير قِتلة أُعطِيَها مجاهد، سقْيُ الماء وتلاوة لكتاب الله اجتمعن في موطن رباطٍ يستمر أجر صاحبه إلى يوم القيامة.

 

تأثر لمقتله كل من عرفه أو سمع به، وما فتر لسان عن الدعاء له والترحم عليه، ولْتصدحِ القلوبُ التي كان يؤنسها أبو كرم، والأكبادُ التي كان يرطّبها أبو كرم مجتمعةً مُرَدِدَةً:

 

عليك سلامُ ربك في جنانٍ

مُخالِطُها نعيمٌ لا يزول

 

فرحمك الله يا أبا كرم، وأكرمك من فضله العظيم، وجمعنا بك في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

48- العدد 134 - الخميس 15 رمضان 1439 هـ

أبو الزهراء الأردني
أحد رجال الدولة الإسلامية وطلبة العلم فيها

طلب العلم في الأردن، ورابط جنوب دمشق، ونفَّذ عمليته الاستشهادية في الموصل، رحلة ثرية على درب الجهاد، مليئة بالصبر والثبات والالتجاء إلى الله ومناجزة الأعداء، لم يثنه مقتل 3 من إخوانه كانوا برفقته على الحدود المصطنعة في طريق هجرته إلى الشام من استكمال طريقه، بل تابع المسير إلى أن وصل درعا، ثم اتجه بعد فترة إلى جنوب دمشق مرابطا على الروافض المرتدين فيها، ليحط رحاله الأخيرة بالموصل موقعا بأعداء الله مقتلة كبيرة بعمليته الاستشهادية -نحسبه والله حسيبه-.

 

إنه أبو الزهراء الأردني ابن الثلاثين ربيعا، بطل، همام، طيبُ القلب، باسم الثَّغر، غيور على دينه، مدافع عن عقيدته، لا يخشى في الله لومة لائم، أحد رجال دولة الخلافة الإسلامية وطلبة العلم فيها، من مدرسة أمير الاستشهاديين الشيخ "أبي مصعب الزرقاوي" -تقبَّله الله- نهل وتعلم، وفي مدينته عاش وترعرع.

 

كانت بداية رحلته في طريق الجهاد طلب العلم الشرعي على يد محبي الجهاد في الأردن، لم يثنه ما لاقى من مضايقات وطرد من الجامعة ومن المساجد ومن مقتل إخوانه في طريق هجرته على يد جنود طاغوت الأردن، من استكمال دربه، بل زادته تلك الأحداث والمواقف إصرارا على بلوغ النهاية، فلم يكن يرضى بأنصاف الحلول، وقد استكمل طريقه كما أراد، دون تردد، أو تراجع، أو تلفُّت.

 

نشأَ أبو الزهراء على العقيدة والإيمان، ونَهَل من نبع التوحيد الصَّافي ومنهج السَّلف الصَّالح، وتربى على أيدي الشُّيوخ المطارَدين في سبيل الله، أَنهى المرحلة الثَّانوية، وأراد أن يسجِّل في الجامعة، فرأى الفساد وضلال المنهج في تلك الجامعات الطاغوتيَّة، كان سلاحه قال الله وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فناقش واعترض وخاصم، ولما لم يُجْدِ نفعا تشاجر، وعلى إثر ذلك تم فصلُه، ومُنِع من الدِّراسة في باقي الجامعات، عندها قرر التفرُّغ لطلب العلم الشَّرعي، فدرس على أيدي بعض الشُّيوخ المحبين للجهاد وأهله، ثم بدأ يُدَرِّس حِلَق العلم في المساجد، ولكنَّ المخابرات الأُردنية المرتدة ضيَّقت عليه وهدَّدته مرارًا، وأنّى لها أن ترضى بـ قال الله أو قال رسول الله، فمُنع من إعطاء الدروس في المساجد.

 

فحوَّل -تقبله الله- الدروس إلى لقاءات مع بعض إخوانه في أماكن خاصة، إضافة إلى النصح وتعليم التوحيد والتحريض على الجهاد ما أمكنه في مجالسه حيثما تواجد، وقد همَّ خلال تلك الفترة بالهجرة إلى خراسان مرات عدة، ولكن لم يُوفق إلى ذلك.

 

وهو على هذه الحال ما لبث أن انقدحت شرارة الجهاد في الشَّام، فكان من أوائل اللاحقين بالركب، المهاجرين طلبًا لرضى الرحمن، حيث خرج برفقة ستَّة من أصحابه، فعبروا الحدود الموهومة من الأردن إلى الشام، وفي الطريق أطلق الجيش الأردني المرتد عليهم عدة رصاصات، فقتل ثلاثة منهم، ونجا هو مع أخوَين من رفاق دربه، وتمكن بفضل الله من الوصول إلى مدينة درعا، والتحق بإخوانه في الدولة الإسلامية الذين كانوا في تلك الأيام يعملون تحت مسمى "جبهة النصرة".

 

كانت الدولة الإسلامية حينها في بداية تأسيسها في بلاد الشَّام، واختارت اسم "جبهة النصرة" بداية لعملها، عندها أرادت الدولة الإسلامية -أعزها الله وحفظها- أن تعزز قاطعها في جنوب دمشق، فوقع الاختيار على أبي الزهراء الأردني من بين الكادر المرسل إلى تلك المنطقة، ووصل إلى جنوب دمشق عبر التهريب، وعند وصوله استقبله الإخوة هناك بكل سعادة وفرح، لأَنَّه كان من المهاجرين القلائل المتواجدين هناك.

 

بدأت مسيرة أبي الزهراء الجهاديَّة، بالرِّباط بأَكثر جبهاتِ القتال ضراوة، وهي جبهة "حُجَّيرة" المحاذية لمقام "السيدة زينب" الشركي، وبعد مدَّة من رباطه قدَّر الله له أن يصاب بصاروخ موجه، فابتعد فترة نقاهته عن الرباط، وخلال فترة استراحته لم يفتر عن الجهاد، حيث تفرغ للدعوة وتعليم الإخوة أمور دينهم من بعض ما علمه الله، كما أنه لم يغفل عن دعوة عوام المسلمين أيضًا، فكان يزور مقرات فصائل الصحوات ويدعوهم إلى الله وإلى المنهج الصحيح، وقد منَّ الله عليه بالقبول، فتوافد الكثير من الشبَّان تاركين فصائلهم الضالة ملتحقين بركب الجهاد، وكل ذلك بفضل الله ثم بفضل الأُسلوب الرائع، والصدق الواضح الذي تمتع به أخونا أبو الزهراء.

 

وعند تمدد الدولة الإسلامية إلى الشام، وإعلان الخلافة، وإعلان أن جبهة النصرة ما هي إلا يد الدولة الإسلامية في الشام، تبين له ضلال الذين رفضوا الانصياع إلى أمر أمير المؤمنين بالاندماج تحت مسمى الدولة الإسلامية، وهاله وقوف الجبهة إلى جانب الصحوات المرتدين، وفصائل الجيش الحر المرتد، الذي كان لعبة بيد طواغيت الخليج، وهاله أكثر قتالهم للمجاهدين والمهاجرين في سبيل الله، وموالاتهم للصحوات المرتدين، فسارع للانضمام إلى صفوف دولة الخلافة الإسلامية -أعزها الله-، فكان التحاقه بركب الخلافة بمثابة الصفعة التي أذهبت عقل من رفض الانصياع لأوامر أمير المؤمنين وظل معاندا تحت ما بات يعرف بـ "جبهة الخسرة"، وبالمقابل كان التحاقه بركب الخلافة فرحة أدخلت السرور لقلوب إخوانه المنتظرين قدومه، وذلك لما علموه من صفات حسنة فيه.

 

وبعد فترة من الزمن تم تعيين الأخ أبي الزهراء مُفتيا في صفوف دولة الخلافة الإسلامية وذلك لما يمتلكه من جلد وصبر وهمة عالية، حتى بلغ عدد الدروس التي يقدمها في اليوم الواحد، أحد عشر درسًا، تنوعت بين معسكرات التجنيد، وبين دعوة الفصائل ورعايا أمير المؤمنين إلى المنهج القويم.

 

وفي هذه الأثناء تكالبت جموع الصحوات على دولة الخلافة الإسلامية وأجمعوا على قتالها وتفكيكها في جنوب دمشق، وذلك سنة ١٤٣٥ للهجرة، ودارت رحى المعركة، واضطرت الدولة الإسلامية إثر ذلك للانحياز إلى منطقة الحجر الأسود، وبقيت محاصرة في تلك المنطقة من جميع الجبهات شهورا عدة، وفي هذه الأثناء برز دور أخينا أبي الزهراء بالدعوة والتثبيت والصبر، وقد عُرف عنه طيب معشره، وخفة ظله، كما عُرف بصوته الندي في الإنشاد، فكان سببًا في إمتاع الإخوة والترويح عنهم، وتحبيبهم بالجنة والاستشهاد في سبيل الله.

 

واستمرَّ الحال على ما هو عليه حتى فتح الله على دولة الخلافة الإسلامية، ومكَّنها من رقاب أعدائها في جنوب دمشق، فتلاشت جموع الصحوات المرتدين وذهبت فلولهم ولله الحمد، وذلك بعد عجزهم عن القضاء على دولة الإسلام، وعندها منَّ الله على جنود الدولة بفتح بعض الأحياء الجديدة جنوب دمشق، وعمَّ الخير آنذاك، وإثر ذلك الفتح أكرم الله أخانا أبا الزهراء وتزوج، وأنجب من زوجته طفلا سماه "عمر".

 

واستمر بإعطاء الدروس والتَّوجيه الشَّرعي، حتى بدأت ملحمة الموصل، وتحرقت نفسه لمساندة إخوانه فطلب السماح له بالنفير إلى أرض الموصل، وبعد حصوله على الإذن يسر الله له الطريق، وسرعان ما توجه إلى أرض العزة في الموصل، وانقطعت أخباره عن إخوانه فترة من الزمن، ليعلموا لاحقا أنه -تقبله الله- نفَّذ عملية استشهادية على جموع الروافض المرتدين، فأوقع فيهم القتل والجرح، فنسأل الله سبحانه وتعالى له القبول في عليين.

 

 

 

 

 


 

49- العدد 135 - الخميس 22 رمضان 1439 هـ

أبو عبد الله المناري
نشأ في طاعة الله وطلب العلم ونشط في المنتديات الجهادية

بدأ أولى خطواته على درب الجهاد وهو ابن 16 ربيعا، نشأ على طاعة الله، وشبَّ على طلب العلم، وأمضى أغلب وقته ينهل من عيونه، لم يكتف بنقله إلى قلبه بل عاشه واقعا ملموسا، فعمل به وحرَّض غيره على العمل به.

 

أتقن العمل على الشبكة العنكبوتية، وساهم بفعالية عبر المنتديات الجهادية، وخلال فترة وجيزة تعلَّم المونتاج، وبدأ ينتج الأسطوانات الجهادية الدعوية، التي توضِّح كفر الطواغيت وتدعو لنصرة المجاهدين، وبدأ برفعها عبر المنتديات الجهادية، ونشط في إعادة رفع ما يقع تحت يديه مما يناصر به إخوانه ويدفع عنهم، وبذل كل طاقته في نصرة المجاهدين قبل نفيره، كما بذلها بعد نفيره تقبله الله.

 

أبو عبد الله المناري ولد في مدينة "بريدة" في الجزيرة العربية عام 1414 للهجرة، ونشأ وتربى في بيت صالح -نحسبه كذلك- كانت سمات الجِد والمثابرة واضحة في شخصيته منذ صغره، أحب طلب العلم وقصد حلقات التحفيظ في المساجد، غير أن تلك الحلقات لم تشبع نهمه للعلم، لقلة الجديّة فيها وندرة الدروس، فحاول الاستعاضة عنها بدروس العلماء وتسجيلاتهم الصوتية.

 

لم يقتصر حب أبي عبد الله للعلم على العلم الشرعي، بل تجاوزه إلى فنون الحاسوب والبرمجيات، فتعلم التصميم، ثم التصميم ثلاثي الأبعاد، والبرمجة، وقطع فيها شوطا طويلا، وكان السبب الأكبر لتنقله في عدة مجالات محاولته تعلُّم أي شيء ينفع إخوانه في درب الجهاد، فلما بلغ قرابة السادسة عشرة من عمره قرر مع بعض صحبه صناعة بعض الأسطوانات الدعوية ونسخها وتوزيعها على الناس، يدعون فيها لنصرة المجاهدين ويوضحون كفر الطواغيت، وعندما تم الأمر رأوا أن فيها خيرا كثيرا، فقرروا نشرها على شبكة الإنترنت، وتم ذلك على المنتديات الجهادية.

 

وفُتح لأبي عبد الله باب واسع لنصرة المجاهدين بدخوله في نصرة الجهاد على الإنترنت، وصارت حياته كلها في هذا الباب، فجدَّ في عمله أيما جد، وكرس جلَّ وقته مع المناصرين، فكان يلتمس حاجة إخوانه، وما إن يرى ثغرا حتى يسعى لسده قدر إمكانه، وكان يحرص على العمل الخفي قدر المستطاع، فغالب عمله كان في الظل.

 

شغفه بطلب العلم الشرعي

 

وخلال هذه المسيرة كان يقع على بعض المسائل الشرعية فيبحث عمن يستفتيه فيها فلا يجد، فأيقن أن لا غنى له عن طلب العلم، وعاد إليه حب طلب العلم الشرعي مرة أخرى، فأكثر القراءة في جميع الفنون، وكان لا يسمع بدرس أو دورة شرعية إلا كان من أول من يحضرها، ومن شدة نهمه لطلب العلم، فقد كان يصحو وينام بين الكتب، مستعينا بحاسوبه على ما لا يجده مطبوعا منها، ففتح الله عليه، ثم اجتهد في حفظ القرآن الكريم.

 

ومرة -بعد نفيره- مرض مرضا شديدا، فكان يحاول أن يقرأ، فإن لم يستطع القراءة تحول إلى سماع الدروس الصوتية، فإذا أنهكه التعب يأخذ النوم منه مأخذه، وهو يستمع للدرس، لكنه ما إن يصحو حتى يمد يده لجهازه ليعيد الدرس من بدايته، أو لمتابعة قراءة كتاب كان قد توقف عنده.

 

ومن قصص شغفه بطلب العلم أنه كان يوما في نزهة مع بعض إخوانه، وأثناء تجاذب أطراف الحديث سأله أحد رفاقه أن ينصحه بكتب ليقرأها، فأخرج قلمه ليكتب له أسماء بعض الكتب، فلم يجد ورقة، فظل يبحث حتى أُحرج صاحبه من الأمر، فلما لم يجد ما يريد أخذ قطعة ورق مقوى وجدها على الأرض، وظل يكتب عليها قرابة نصف الساعة، فكتب قائمة طويلة بأسماء الكتب في كل المجالات، ووضع له تسلسلا من أين يبدأ، ولأي مرحلة ينتقل، كل هذا طمعا بأن يتجه صاحبه لطلب العلم.

 

وخلال وجوده في الجزيرة كان يتنقل بين المشايخ لطلب العلم، ولكن أتعبه أن أغلب من تصدَّر للتدريس إما من "المرجئة" أو "السرورية"، فكان يقصد من يرجو منه خيرا، فيرى منه ما يسوؤه، فتأخذه الغيرة على دين الله فيهجر مجلسه، وهكذا، وكان -تقبله الله- يمقت حال كثير من طلبة العلم في الجزيرة (السرورية وأشباههم)، وما آل إليه أمرهم من طلب العلم للعمل به، إلى طلب العلم دون عمل، وغاية ما يصل إليه هو أن يفتتح حلقة جديدة للتدريس أو يؤلف كتابا جديدا يرفع به اسمه، وكذلك حالهم مع تقديس مشايخهم مهما ارتكبوا من موبقات.

 

ولما بلغ قرابة الثامنة عشرة من عمره جاءه أحد رفاقه وأبلغه أنه وجد طريقا للنفير لليمن، فسأله إن كان يود النفير معه، ورغم أن الأمر جاء بشكل مفاجئ إلا أنه أجاب بلا تردد: "وما عذري أصلا في القعود حتى يكون في الأمر اختيار؟"، وقد كان موعد النفير بعد عدة أيام فقط، ولكن لأمر أراده الله لم يتيسر لهم الأمر، فأشعل هذا الموقف رغبته باللحاق بالمجاهدين، ولم يتيسر له ذلك حتى بدأ القتال في الشام.

 

عمله على فكاك الأسرى

 

بدأ القتال في الشام مع بداية الثورات في عدد من البلدان، فصاحب هذا نوع من الانفتاح في جزيرة العرب، لخوف الطواغيت من انقلاب الأمر عليهم، وبدأ خلالها العمل على فكاك الأسرى، فكان أبو عبد الله من أوائل من بدأ العمل، وكان ينبِّه كل من يعمل معه أن هذه خطوة أولى لإزالة الطواغيت، وقدَّر الله أن يؤسر عدة مرات، حيث أودع في السجن في إحدى المرات قرابة الشهرين، وكان في نفس الوقت يبحث بشكل جاد عن سبيل للعمل العسكري داخل الجزيرة.

 

وكان مما يميِّز مسيرة حياته الجدية والوضوح، فكان لا يدخل في عمل إلا بعد تحديد هدفه، ووضع الجدول الزمني لتنفيذه، واتسمت تلك الفترة بتسهيلات من قبل الطواغيت للتجمعات على غير المعتاد ليجعلوها مصيدة للموحِّدين، اقتداء بسياسة طواغيت الأردن، فكانت تلك التجمعات تحت أعين أجهزة الأمن المرتدة، فاستفادوا منها فائدة لا تقدر بثمن، ومن الضيق والغربة التي كان يعانيها أهل المنهج في الجزيرة وقعوا في الفخ سريعا، فلا تمر عدة أيام إلا وهناك اجتماع جديد، تأتي فيه وجوه جديدة، وكان الطواغيت يراقبون التجمعات بكثافة لدرجة أنهم زرعوا كاميرات تصوير عند كثير من تلك المواقع، فصوروا جميع من كان يحضرها دون استثناء، وهذا الجو سلبي مع وجود فائدة قليلة فيه إلا أن الضرر كان أكبر بكثير.

 

النفير إلى الشام

 

فتجنَّب أبو عبد الله هذه التجمعات لما رأى من انعدام للفائدة فيها، وقرر حينها النفير إلى الشام، ولكن لم يتمكن من ذلك بسبب أن عمره لا يسمح له باستخراج جواز سفر، فنفر أصحابه وبقي يبحث عن طريق للنفير، وأفرغ جهده في ذلك ولكن لم يكتب له إلا بعد قرابة العام، وكان ذلك قبيل ظهور صحوات الشام بـ 3 أشهر، ويسَّر الله له الهجرة إلى الشام حيث وصلها بعد انشقاق "الجولاني" وزمرته عن دولة الإسلام بفترة قريبة، وكان الجو مشحونا حينها، فقابل فور وصوله أحد أصحابه ممن كان يطلب معه العلم، فحاول صاحبه إقناعه مباشرة بتجنب مبايعة الدولة الإسلامية وقال له: "تعرف الشيخ الفلاني، كلمته بنفسي فحذرني من الدولة"، -وقد كان هذا ديدن بعض أهل الضلال والعياذ بالله، الطاعة العمياء لأحبارهم-، فقال له أبو عبد الله مباشرة: "لو كنت سأسمع كلام هذا الشيخ ما رأيتني هنا في الشام"!، فبهت صاحبه من جوابه، وكانت هذه الحادثة فراقاً بينهما، رغم العلاقة الوطيدة التي كانت تجمعهما.

 

مرابطاً في حلب

 

فتح الله على أبي عبد الله في هذه المرحلة، وبادر إلى مبايعة أمير المؤمنين حفظه الله، وبدأت غزوة الفتح في ولاية حلب، فذهب للمشاركة فيها، ثم بدأ غدر الصحوات بجنود الدولة الإسلامية، وهو مرابط في "خان العسل" في الريف الغربي لحلب، فلم يتردد في قتال الصحوات إلى جانب إخوانه وثبت معهم بفضل الله وهدايته.

 

وبعد انجلاء المحنة انتقل أبو عبد الله إلى مدينة "منبج"، فعمل في أحد الأعمال الإدارية، حتى بدأ الجهاد ضد ملاحدة الأكراد في ريف "عين الإسلام"، فشارك في عدة معارك وبقي في الرباط فترة طويلة، انتقل بعدها للعمل في الإعلام الداخلي في ولاية حلب، وكان اهتمامه بهذا المجال كبيرا جدًا فبذل جهدا مميزا فيه، يدير النقاط الإعلامية ويوزع المنشورات والمطويات والكتب، وقد بذل كل ما يستطيع، فكان إذا تأخر عليه المال من إخوانه دفع من ماله الخاص حتى لا يتوقف العمل.

 

تزوج -تقبله الله- خلال هذه الفترة ورزقه الله مولودة، وقد حرص على الزواج تنفيذا لوصية رسول الله للشباب، وكذا رغبته في ترتيب وقته لاستغلاله في طلب العلم، وانتقل بعدها إلى العمل في الدعوة، ثم عاد إلى الرباط حبا فيه ورغبة في التفرغ للقراءة والحفظ، فرابط في الريف الشمالي لحلب فترة طويلة، فكان يقوم على رباطه ثم يعود لغرفته منكبا على كتبه، وكان نادرا ما يجلس دون قراءة كتاب أو الاستماع لدرس، وقد كان يلوم إخوانه كثيرا على عدم استغلال أوقاتهم، ويفرح أشد الفرح إن أبدى أحدهم اهتماما بالقراءة وطلب العلم، فيحرص على صحبته ويعلمه ويعطيه بعض الكتب والدروس، ويتابع معه حتى لا ينقطع عنها، وشارك خلال رباطه في تلك الفترة بعدد من المعارك أهمها اقتحام قرية "كفرة".

 

بعد عدة أشهر انتقل للعمل في مركز الحسبة، وعمل فيها على إعطاء الدورات والدروس، وكذلك إعداد البحوث الشرعية، وكانت غيرته على دين الله كبيرة، فلا يترك منكرا إلا أنكره مع كونه صاحب حياء شديد، وكان يجاهد نفسه في ذلك، ومع بدء الحملة الصليبية على منبج كان أبو عبد الله خارج منبج بعمل وقد أغلق الطريق قبل أن يعود، فكان الأمر شديدا عليه، حتى أنهك جسده من شدة الهم كونه خارج الحصار لا داخله.

 

يكتب للنبأ

 

بقي في عمله بمركز الحسبة في حلب، فعمل في مدينة الباب حتى انحياز المجاهدين منها، ومع عمله في الحسبة كان يبذل جهدا مشهودا في العمل مع إخوانه في الإعلام، فلا يمر أسبوع إلا وكتب لإخوانه بما يفتح الله له من فكرة أو نصيحة أو غير ذلك، وكان أحد كتاب صحيفة "النبأ" فكتب كثيرا من المقالات الشرعية والدعوية، ومع كل هذا فقد كان شديد الإخلاص -كما نحسبه-، فقد كان يكتب المقالات ولا يعلم أقرب الناس إليه عن عمله هذا، بل لم يكن يسأل أو يبحث أنُشر المقال أم لا، فيكتب المقال ويرسله ويقول: "إن رأيتم فيه خيرا فانشروه".

 

كان آخر عمله في مركز الحسبة في ولاية الخير، ثم انتقل بعدها إلى إحدى الكتائب العسكرية، وفي ليلة الاثنين 25/4/1439هـ كانت آخر ساعاته، صلى العشاء ثم التفت وقال لأحد إخوانه: "ذكرنا بالله"، فاستغرب منه الأخ، فلم يكن هذا من عادته وأصر عليه أن يتكلم هو، فأبى أبو عبد الله وقال: "في مرة قادمة بإذن الله"، فتحدث الأخ عن التقوى قليلا، وتناول العشاء مع إخوانه بعد الصلاة، ثم أبلغه أحد الإخوة أن هناك غزوة محتملة هذه الليلة، فارتدى جعبته وحمل سلاحه، فطلب أحد الإخوة منه أن يبقى، وقال: "نرسل أحدنا للتأكد إن كان هناك غزوة فعلا أم لا"، فأصر أبو عبد الله على الخروج، وقال: "إن لم تحصل الغزوة لعل الله يكتب لنا أجرها ثم نعود".

 

وبعد خروجه -تقبله الله- من بيته انتهى وقود السيارة التي كان يستقلها، فتوقف على جانب الطريق، فرصدتهم طائرة التحالف الصليبي، ثم استهدفتهم، فقتل أبو عبد الله وأحد رفاقه -تقبلهم الله-، نحسبهم أن قد نالوا أجر هذه الغزوة التي لم تحصل، قتل -تقبله الله- وكان من آخر كلامه نصحه لإخوانه بالثبات، ودعوته لهم بهجر مجالس المخذِّلين والمرجفين، وقال لهم: "لا تستغربوا من كثرة المتساقطين، إنما هي دائرة البلاء كانت واسعة وهرب إلى داخلها من في قلبه مرض، وقد ضاقت بأمر الله حتى لن تبقي فينا إلا من يثبِّته الله، فنسأل الله أن يستعملنا ولا يستبدلنا".

 

نسأل الله أن يكون ما تعلمه وقدمه سلما يرتقي به في درجات الجنة، وأن يلحقنا به ثابتين غير مبدِّلين.

 

 

 

 

 


 

50- العدد 141 - الخميس 12 ذو القعدة 1439 هـ

لم تثنه الدنيا عن الهجرة والقتال
أبو عبد الغفار المقدشاوي عمل قليلاً فأجر كثيراً -كما نحسبه-

يوم لن ينساه كثير من الإخوة في الصومال، ذلك اليوم الذي تجندل فيه الأسد المغوار الفارس طالب العلم، الأخ الصادق المهندس أبو عبد الغفار المقدشاوي "تقبله الله".

 

ولد أبو عبد الغفار "عمر موسى علي سعيد" المنحدر من قبيلة (در) الصومالية المعروفة، في جزيرة العرب -نسأل الله أن يعجل فتحها- ولما كان عمره سبع سنين انتقل مع والديه إلى الصومال، حيث استقر في العاصمة مقديشو، وفيها ترعرع وحفظ كتاب الله.

 

وفي عام 1424هـ توجه المقدشاوي إلى باكستان ليكمل تعليمه، فسكن مدينة كراتشي، وحصل منها على شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسوب (IT)، ثم واصل دراسته حتى حصل على شهادة الماجستير في التخصص ذاته.

 

ومع حلول العام 1432هـ عاد المقدشاوي إلى الصومال وسكن مدينة "هرجيسا" عاصمة إقليم أرض الصومال، حيث لم يستطع السكن في مقديشو التي كانت حينها تشهد معارك طاحنة بين الصليبيين الأفارقة والمجاهدين، ويسر الله له الزواج في العام نفسه الذي عاد فيه من باكستان، وأقام في "هرجيسا" مدة عامين ثم عاد بعدها إلى مقديشو ليعمل فيها.

 

وكان كريم الخلق مع زملائه هادئ الطبع، بارا بوالديه، كثير القراءة، فأحبه الناس لحسن خلقه وطيب معشره.

 

كان المقدشاوي -تقبله الله- يهتم بأمور المسلمين ويحب نصرة المستضعفين ويتابع حال الأمة عبر الإعلام، وكان -رحمه الله- يعد العدة، حتى أنه حصل على مرتبة متقدمة في فنون القتال، قبل سفره إلى باكستان، ولم تصده شهادة الماجستير التي تحصل عليها وعمله كمحاضر في أكبر جامعات الصومال عن الجهاد والقتال.

 

ولما وفَّق الله الدولة الإسلامية لإقامة الخلافة على منهاج النبوة، كان فارسنا يتابع المتغيرات ويأمل أن يكون المجاهدون في العالم كله تحت إمرة أمير المؤمنين القرشي حفظه الله، فانتظر بيعة المجاهدين في الصومال، وبدأ يحرض رفاقه على اللحاق بالركب، ويشرح لهم وجوب البيعة لأمير المؤمنين القرشي، ويسر الله له أن جمع عددا من رفقائه على هذا الأمر، الذين اختاروه لأن يكون أميرا عليهم، فبايعوا خليفة المسلمين سرا، ثم بدأ المقدشاوي بجمع المال ليشتروا به من السلاح ما يكفيهم، وحينها وفق الله بعض المجاهدين في الصومال لبيعة أمير المؤمنين في شرق البلاد وجنوبها، والذين ما لبثوا أن تعرضوا للقتل والأسر على أيدي يهود الجهاد في الصومال، إلا أن أبا عبد الغفار رغم ذلك سجل بيعته هو ومجموعته ونشروها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

 

بعد ذلك عزم المقدشاوي على الانضمام لإخوانه في شرق الصومال ليشد من أزرهم ويكثر سوادهم، ولكي يستفيد الإخوة من خبراته، فيسر الله له التواصل مع الإخوة في الشرق وأخذ يعد العدة ليهاجر إلى الثغور ويكون مع المرابطين في جبال شرق الصومال، وأخبر رفاقه بقرار الهجرة قبل سفره بفترة.

 

أخبر أبو عبد الغفار والدته بأنه يريد أن يذهب للعمل في شرق البلاد، ووافقت أمه على ذلك رغم أنها تكره أن يكون بعيدا عنها، فكتب وصية لأهله يوصيهم فيها بالاحتساب والثبات، وقال لزوجته إن اللقاء سيكون في الجنة بإذن الله، وأوصاها بأن تربي أولاده على الدين والصلاح، وحثَّ أبناءه إذا بلغوا الحلم أن يلتحقوا بركب المجاهدين ليكونوا على طريقة والدهم، وأخفى وصيته في مكان ما داخل المنزل.

 

وحين اقترب موعد الهجرة تراجع أغلب أفراد مجموعته لمَّا رأوا جديَّة الأمر، فبقي هو وأحد إخوانه على العهد وثبتوا بفضل الله، ويسر الله له اللحاق بإخوانه المجاهدين حيث استبشر الإخوة بقدومه، وكان دعاؤه بعد وصوله، والذي طالما سمعه إخوانه يدعو به: "اللهم إني أسألك ألا ترجعني إلى بيتي وأهلي، وأحب أن أكون انغماسيا في أعدائك، أو استشهاديا ممزق الأعضاء والأشلاء".

 

وكان المهندس "عبد الفتاح" كما سمى نفسه في المعسكر يحرض إخوانه ويوصيهم بالصبر والثبات، ويحكي لهم قصص المجاهدين في العراق أيام المحنة، وخاصة الكواسر في الأنبار، وكان أميرا لإحدى المجموعات في المعسكر، وبعد المعسكر طالب عبد الفتاح بأن يُسمح له بتنفيذ عملية استشهادية إلا أن إخوانه رفضوا طلبه، لرغبتهم في الإفادة من خبرته، فهو يتحدث عدة لغات بطلاقة (العربية والإنجليزية والفرنسية والأوردو فضلا عن الصومالية)، ومع ذلك فقد كان -رحمه الله- متواضعا خدوما لإخوانه محبوبا لدى الجميع.

 

وبعد عدة أشهر من لحاقه بركب الدولة الإسلامية اتصل بزوجته وأخبرها بمكان الوصية التي تركها لها، وأوصاها بالثبات وتربية الأولاد تربية صالحة حسنة.

 

وفي آخر أيام حياته أعدَّ عبد الفتاح الطعام لإخوانه المجاهدين، وكان تحليق طائرات الدرونز الأمريكية مكثَّفا فوق مناطقهم، وبعد العشاء قال لإخوانه إنه يرى أن أناسا قد كملت أرزاقهم وحان رحيلهم، وفي منتصف تلك الليلة قامت الطائرات بقصف المنطقة، فسقط أول صاروخ على مقربة منه ولم يصبه بشيء، فخرج من موقع القصف وبعد دقائق استهدفت الطائرات المكان الثاني الذي تحصن فيه بصاروخ آخر، فأنجاه الله مرة أخرى، ثم انتقل إلى مكان آخر فأصابته قذيفة ثالثة وتناثرت أشلاؤه ومُزق جسده كما كان يتمنى.

 

رحل المقدشاوي شهيدا -كما نحسبه- وهو ابن ست وثلاثين سنة، رحل بعد نفيره بخمسة أشهر فقط، رحل المهندس والمعلِّم والقدوة، رحل وقد ترك الدنيا وما فيها بعد أن جاءته مقبلة، ليقبل على الله صادقا كما نحسبه، وليكون عبرة لغيره من المتعلمين وأصحاب الخبرات الذين أفنوا أعمارهم ركضا خلف الدنيا الفانية، فرحمك الله يا أبا عبد الغفار وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

 

 

 

 

 


 

51- العدد 146 - الخميس 26 ذو الحجة 1439 هـ

نفَّذ وخطط عشرات العمليات التي قصمت ظهر الطغاة
(هدايت الله البلوشي) أسد من أسود خراسان نكّل بالمرتدين والمشركين وأدمى قلوبهم

لقد قيَّض الله تعالى لهذه الأمة رجالا سلِمت فطرهم، وعرفوا الحق وصدعوا به، لم يهابوا الطغاة والمتجبرين، بذلوا دماءهم لقيام دولة الإسلام بعد غياب مئات السنين، خلافة على منهاج النبوة، فكانت ربيعا خضرا، أراحت النفوس وشفت الصدور، عبق نسيمها في كل أنحاء الأرض -أرض الله-، فتأسست ولايات لهذه الدولة في كثير من البقاع، ورفعت راية التوحيد برَّاقة، وكل ذلك بفضل الله عز وجل، ثم بفضل أولئك الأشاوس الأبطال الذين امتلأت قلوبهم بعز الإيمان بالله، وبالتمسك بدينه القويم (الكتاب والسنة)، فأعادت إلى الأرض زخرفها بعد أن عاشت خريفا طويلا، لم ييأس فيه أهل الصلاح والإصلاح، باذلين ما يملكون لإعادة النور إلى أرض الله، فقُتلوا وشُردوا وأوذوا في سبيل إعادة هذه الخلافة، على منهاج النبوة، بإذن الله.

 

وهكذا قامت ولاية خراسان إحدى ولايات الدولة الإسلامية، قامت في أقصى المشرق الإسلامي، فعاد الخير لأهلها، ولكن أبى الكفار والمرتدون الظلمة الفجرة وأهل الخيانة والمكر، أبوا جميعا إلا بتر هذا الفرع عن ساقه القويم، وإضعافه، فخابوا وخسروا، وهيهات هيهات أن يطفئوا نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

 

فلقد كان من هؤلاء الأبطال فارسنا المغوار، الأخ الكريم، والشيخ الداعية المجاهد الأسد أبو محمود المعروف بـ (هدايت الله البلوشي) من قبيلة بريهوي، رحمه الله، وتقبله شهيدا في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

 

ولد في قرية "كَنداوَه" بمنطقة "مَستونْغ" بولاية بلوشستان في باكستان عام 1987، وبعد عامين من ولادته فَقَدَ والدته، وبدأ بتحصيل العلوم الشرعية وعمره ثمان سنوات، فحفظ القرآن، ثم سافر إلى مدينة كويته، فحصّل فيها بعض العلم الشرعي، ثم رحل بعدها إلى مدينة (لارْكانَه) بمنطقة السند لاستكمال تحصيله العلمي هناك، وظل كذلك حتى أنهى دراسته في أحد مدارسها.

 

ثم رجع إلى قريته وأسس فيها مدرسة سماها بـ (جامعة الأمير معاوية) قام على إدارتها وتنظيم شؤونها، إضافة إلى ذلك انشغل بالخطابة في القرية ودعوة الناس إلى دين الله وشرعه، فكان -تقبله الله- يركز على التحقيق في المسائل الشرعية، كثير الاستدلال بالكتاب والسنة في علمه وأقواله وخطبه.

 

أخلاقه ومآثره

 

كان محبا لإخوانه العاملين تحت إمرته، ليناً معهم، فكانوا يقدرونه ويحترمونه كثيرا، حتى إن البعض كان يناديه بالخال، والبعض الآخر بلقب الوالد من شدة احترامهم له، كان يقضي أوقاته في الصفوف الأولى، تشجيعا لأصحابه رحمه الله، وكذا يقضي دوره في الحراسة بالمعسكرات في الأماكن الأمنية، فيقيم معهم حرصا على تشجيعهم ورفع معنوياتهم في طريق الجهاد والقتال، ولأجل ذلك كان المفتي -رحمه الله تعالى- قائدا محبوبا من كل إخوانه المجاهدين.

 

فقد حكى بعض أصحابه أنه كان لا يتحمل من يخالف الشريعة بالبدع والخرافات، فينكرها ويوضح للجميع الحكم الشرعي في ذلك، ويقول: "علينا أن نرضي الله ولا نسعى لإرضاء خلقه"، وكانت له هيبته حيثما حل وارتحل، حتى إنه إذا وصل إلى مجلس أو مكان، يخافه أهل البدع فلا يقتربون منه من شدة هيبته، وكان مثالا للولاء والبراء، فكما كان يحب إخوانه المسلمين ويظهر شدة حبه لهم، كان أيضا بهذه الشدة يبغض المشركين والمرتدين والمخالفين لدين الله تعالى، وكان ملازما لتلاوة القرآن الكريم يوميا، نحسبه كذلك والله حسيبه.

 

بداية حياته الجهادية

 

شارك -تقبله الله- في عمليات عديدة، ومن أهمها تلك التي كانت على الرافضة بمنطقة (مَسْتونْغ) حيث قاموا بإنزال الرافضة من حافلة كانوا يستقلونها ثم قتلوهم، وكان عددهم 36 مشركا مرتدا.

 

وفي عملية أخرى قُتل 25 رافضيا كانوا يستقلون حافلة بعد تفجير سيارة مفخخة عليهم في "غنج دوري" بمنطقة "مستونغ" أودت بحياة أعداء الله، ولله الحمد، وفي منطقة "ديرنَغَر" قُتل حوالي 20 رافضيا باستهداف حافلتهم بسيارة مفخخة أحرقتهم جميعا، وقُتل عدد من ميليشيا الحدود الباكستانية بسيارة مفخخة، وقتل في العملية ضابط برتبة رائد مع اثنين من جنوده المرتدين، وكان المفتي قد شارك بنفسه في هذه العملية.

 

وكان رحمه الله يهتم كثيرا بتنظيم أمور الجماعة وإصلاحها قُدما وخاصة بوحدة رجالها وقوتها، وكان من أكبر همومه وحدة الكلمة في العمل الجهادي، فبعد إعلان الخلافة وتعيين الحافظ سعيد خان -تقبله الله شهيدا- واليا على خراسان اجتمع المفتي مع أمير (لشكر جهنغوي باكستان) ثم اتفقا على تنظيم شورى مشتركة بين الفصيلين لينضما مع بعضهما لبيعة دولة الخلافة، فارتبطوا بولاية خراسان مع الوالي الحافظ سعيد خان -تقبله الله-، وقُبلت بيعتهم، وأمرهم الحافظ بأن يتفقوا على جعل أمير عام لكلا الفصيلين ليكونوا جماعة واحدة، فاتفقوا جميعا على تعيين هدايت الله أميرا على الجميع دون منازع ولله الحمد، فأصبحوا متحدين تحت قيادته مبايعين للدولة وتابعين لولاية خراسان، وذلك لِما وجدوا فيه من الأهلية لهذه المسؤولية لعلمه وتجربته وفهمه وفراسته رحمه الله.

 

وهكذا زادت همة وعزيمة الشيخ رحمه الله، حيث وُضع على كاهله حمل أكبر وأعظم، ألا وهو حِمل الإمارة وحِمل رفع راية الخلافة على منهاج النبوة، وحمل مسؤولية تطبيق نهجها علما وعملا وقتالا شديدا ضد أهل الردة وأهل والشرك، فشد رحمه الله ساعده على الكفار، ما جعل فترته مليئة بالملاحم ضد المرتدين والروافض وأهل الشرك والتنديد بمدن باكستان عامة وببلوشستان خاصة.

 

ملاحمه ضد المرتدين والروافض وأهل الشرك

 

ومن أبرز وأكبر العمليات الدامية التي خططها وقام بتنفيذها رحمه الله، العمليات الاستشهادية التي ضربت معابد الرافضة المشركين في السند وبلوشستان إضافة للعمليات التي استهدفت النصارى الصليبيين في كويته والعمليات الاستشهادية التي ضربت الاستخبارات الباكستانية المرتدة في البنجاب وغيرها من العمليات التي استهدفت صروح الشرك والكفر في باكستان.

 

فقد كانت عملياته -تقبله الله- رغم قصر عمره -أيام الخلافة خاصة- عامان ونصف، شديدة على المرتدين وعلى طواغيت باكستان، فطال عمره بأعماله وبعملياته وبجهاده ومثابرته ونشاطه رحمه الله، فكم آذى المرتدين والمشركين بشجاعته وإقدامه، رحمه الله رحمة واسعة ونسأل الله أن يعوض دولة الإسلام فقد مثل هؤلاء الرجال.

 

 

 

 

 


 

52- العدد 148 - الخميس 10 محرم 1440 هـ

أبو أكرم الجميلي -تقبله الله-

(مازن طه خلف أبو أكرم الجميلي) كريم من الكرام الذين سقوا شجرة التوحيد بزكي دمائهم وبذلوا لها مهجهم وأرواحهم، كمي من الكماة هب مع إخوانه لنصرة دين الله، من السابقين الذين حملوا الراية في أرض الجهاد إبان دخول الصليبيين لأرض الرافدين فذاع صيته وعلا شأنه في الفلوجة.

 

ولد في مدينة الفلوجة عام 1402 هـ بكنف بيت بارك الله في أهله، فقد رزقهم سبحانه الهداية وجانبهم طريق الغواية وعرّفهم الغاية، فكان طريق الجهاد لهم خير بداية، ولأن سنة الله ماضية لا تحابي ولا تتبدل فقد ابتلاهم الله بالتهجير والأسر والقتل فنالت عائلته الرفعة في الدنيا قبل الآخرة فقد قدمت خمسة من أبنائها نحسبهم شهداء والله حسيبهم.

 

ابتلي أبو أكرم بالأسر عدة مرات فدخل سجن (بوكا) لأكثر من ثلاث سنين فتحولت هذه المحنة إلى منحة من الله فاستغل هذا السجن والبلاء ليتعلم العلوم الشرعية والعسكرية من فن التخطيط وأساليب القتال على يد إخوانه ممن رافقه في هذا البلاء، وقد جد في ذلك إلى أن فرج الله عنه فعاود الكرّة ولحق بإخوانه فكُلف أمنياً في أحد قواطع ولاية الأنبار فلم تثنه وحشة الزنازين ولا تعذيب السجان.

 

وبعد أن منّ الله على المجاهدين بفتح المناطق، كان أبو أكرم من المجتهدين في إقامة صرح الخلافة فشارك في معارك الفلوجة وملاحمها واقتحم معامعها لتطهير الولاية من رجس الطواغيت وأذنابهم وكان له دور بارز وفعال، فأصيب في معركة السجر وبترت ساقه اليمنى فصبر ولم يجزع واحتسبها عند الله، وبعد أن من الله عليه بالشفاء من إصابته عاد ليكمل طريقه في سبيل الله فكان كما نحسبه والله حسيبه ممن قال الله فيهم: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] فعاد مجالدا أعداء الله في مجال العمل الأمني للولاية فكان شوكة في عيون المأجورين وكذلك سببا بعد الله في كشف عدد من العملاء والجواسيس.

 

وعند بدء الحملة الرافضية المسعورة على مدينة الفلوجة مَنَّ الله على بطلنا بالحظ الأوفر لمقارعتهم فكان مسعر حرب، فرغم إعاقته أبى إلا أن يكون تحت بارقة السيوف يذيق أعداء الله أمر الحتوف متأسيا بعمرو بن الجموح (رضي الله عنه) راجيا أن يطأ بعرجته الجنة.

 

وكان من البلاء الذي أصابه في خضمِّ المعارك الدائرة أن سقط شقيقه قتيلا أمام ناظريه فدفنه بيديه في أرض المعركة كما تجندل شقيقه الثاني في معركة أخرى ليدفنه هو الآخر بصبر وتجلد ورضا بقضاء الله وقدره. فلم تثنه كثرة الجراح وشدة البلاء، فقد كان ذا همة وعزيمة عالية وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ونحسبه ممن كان بلاؤه على قدر دينه، عن سعد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة) [مسند أحمد].

 

انتقل رحمه الله بعد ذلك إلى صحراء الشامية وشارك المجاهدين بعدد من الصولات، قبل أن يعين نائبا لوالي الفلوجة، مجددا عزمه وشاهرا سيفه ليعيد الكرة على أعداء الله داخل الولاية فقد شهدت أرضها على يديه لهيب المفخخات وزمجرة العبوات كان ذلك نهاية المطاف له في طريق حافل بالمجد ومليء بالعزم مستيقنا بموعود الله بنصر أوليائه في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد حتى ارتقى شهيدا كما نحسبه بقصف صليبي استهدف سيارته، ليكون دمه مدادا لإبلاغ الكلمة والذود عن الأمة معذرة الى ربه ليبرئ ذمته ويقيم الحجة على من بقي من بعده

 

فدى دينهُ بالنفسِ شهمٌ طموح

إعاقتهُ لم تثنِ كابنِ الجموح

مضى أمةً للخير في فعلهِ

وصار بقتلٍ شهيداً يفوح

فيا رب أكرم بجنات خُلدٍ

بتلك الرياض ونعم الفُسوح

 

نسأل الله العظيم أن يتقبله عنده في عليين وأن يخلف إخوانه من بعده بخير منه والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

53- العدد 150 - الخميس 24 محرم 1440 هـ

أرعب المرتدين والكفار واشتهر بقطف رؤوسهم
"فرقد أبو بكر" من أعلام الجهاد في العراق -نحسبه والله حسيبه-

مُنذُ أن وَطِئت القوّاتُ الصليبية أرض العراق ودماء الصادقين تهراق في سبيل الله عز وجل، رجال بذلوا النفيس لإعلاء كلمة الله فجادوا بأرواحهم لتمضي عجلة الجهاد في بلاد الرافدين، غرباء لا يعرفهم كثير من الخلق، ولا ضير؛ لأن الله تعالى يعلمهم وحسبهم ذلك، ومن بين تلك الثلة الخيرة الأخ المجاهد فرقد أبو بكر، المكنى "بأبي صباح الوالي".

 

كانت البداية من جرف الصخر، معقل الأبطال، ومصنع الرجال، عمل الأخ في مفارز الاغتيالات وأبدع بجسارته في عمله، مكنه الله عز وجل من رقاب الكثير من الجواسيس والعملاء المرتدين حتى عرف عند أجهزة الأمن الرافضية، فإذا قطفت رأس أحد عناصرهم يتنادون بينهم: "قتله فرقد!".

 

استفراغ للجهد وإتقان للمهام

 

في كل يوم يمر يزداد فارسنا حنكة وخبرة، كان ذا بصيرة بمجريات الأمور ونظرة في المآلات قل نظيرها، مقبلا على الجهاد بشغف، إذا أسندت إليه مهمة استفرغ جهده وأعظم البذل في إتقانها، وهمه -رحمه الله- نصرة الحق وإظهار الدين ونصرة الأسرى والأسيرات، ومن كان هذا همه لن يشغله منصب أو مال.

 

أسر الأخ من قبل الأمريكان وبلطف الله تعالى ومعيته لم يتعرفوا على حقيقة هويته، وبعد مرور ما يقارب العام على سجنه تم الإفراج عنه، فخرج وقد كان خروجه في عام 2008 حين كانت الصحوات في أوج طغيانها وقمة انتفاخها.

 

"فأس الخليل"

 

استأنفَ مسيرته الجهادية بعزيمةٍ أشدّ، وبنفسٍ مُتّقِدة، فبعدَ مدّةٍ قليلة مِن فكاكِ أسرهِ التقى بوالي بغداد الأخ مناف الراوي -تقبله الله-، وعُيّنَ أميرًا عسكريًا لولايةِ الجنوب فأشعلَها بالمُفخخاتِ والعبوات وقامَ بالكثيرِ من الأعمالِ المشتركة مع والي بغداد من أبرزها حملة "فأس الخليل" التي أطلقَها الشيخ أبو عمرٍ البغداديّ -تقبله الله-، ثمّ عُيّنَ بعدَ ذلك واليًا لولايةِ الجنوب فضاعفَ العمل في تِلك المناطق وقطّعَ أوصال الرافضةِ وأعظمَ النكايةَ بهم.

 

بعدها تمَّ نقل الأخ إلى ولايةِ صلاح الدين لدواعٍ أمنيّة، وكتمَ خبرَ انتقالهِ حتّى عن جنودهِ، فأُثيرَت حوله أسئلة كثيرة وسرعانَ ما جاءَهم الجوابُ سريعًا عندما انفجرت سياراتٌ مُفخّخة في مناطق بَلد، وتكريت، والدجيل في توقيتٍ واحدٍ وقد عُرِف بهذا النوع في العمل.

 

رعب للرافضة والمرتدين

 

كانت سيرتهُ مُرعبة بينَ الروافض حتّى أنّه في أحد الأيام كانَ -تقبّلهُ الله- في بيتِ أحدِ الإخوة، وعندَ خروجهِ مع صاحبِه قامت القوات الرافضية بعملِ إنزالٍ جويّ على البيتِ كمحاولةٍ فاشلة لإلقاءِ القبضِ عليه، فكانوا يتكلّمُون فيما بينهم ويلومُ أحدُهم الآخر: "أما قُلتُ لَك بأنّ فرقد كان هنا؟!، انظر إلى هذا الفراش لا شكَّ كان هنا"، فيردُّ عليه صاحبه: "لا نستطيع الاقتراب منه! والله إنه يرتدي حزامًا ناسفًا"!!.

 

كانَ من أخطرِ المَطلُوبينَ في العراق للمرتدين والصليبييّن لكنَّ ذلكَ لم يمنعهُ من أداءِ أعمالهِ على أكملِ وجه.

 

وبالرغمِ مِن شدّتهِ وقَسوتِه على أعداءِ الله، كانَ عطوفًا على إخوانه، يحزنُ لمُصابِهم، ويفرحُ بِسرُورهم، قامَ بفديةِ الكثيرِ مِن الأسرى بالمال، فقد كانَ مخوّلًا من الإمارةِ بفعلِ ما يراهُ صوابًا في إنفاق المال وغير ذلك، وفي عام ٢٠١٢ ترجّلَ الفارسُ في صحراءِ بيجي أثناءَ مُطارَدتهِ لبعضِ آلياتِ المرتدين ساعيًا لأسرِهم.

 

رحيل بعد شفاء الغليل

 

رحلَ عن الدُّنيا بعد أن أشفى غليلَهُ من أعداءِ الله قتلًا وتنكيلًا، وقد أمضى حياته مجاهدًا زاهدًا، جافيًا بنفسهِ عن الملذّات فنسألُ اللهَ أن يجزيَه عنِ الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجَزاء، ويجعلَ مثواهُ في جنّاتٍ ونهر في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مُقتدِر.

 

اللهمّ إنّا نشهدُ أنَّ عبدكَ فرقد كانَ مِن خيرةِ الفُرسان الذينَ بذلُوا نفوسَهم من أجلِ رفعةِ دينك وقضى نحبَه على طريقِ أوليائكَ المُصطَفين، وعبادكَ المُتّقين -نحسبُه واللهُ حسيبُه-.

 

 

 

 

 


 

54- العدد 156 - الخميس 7 ربيع الأول 1440 هـ

أذاق المرتدين في الفلوجة ألوان العذاب وسقاهم كأس الحتوف
(أبو عبيدة) التحق بركب الخلافة ولمّا يبلغ 15 عاما ورحل إلى مولاه وهو ابن 20

بالرغم من صغر سنه إلا أنه أذاق المرتدين ألوان العذاب وسقاهم كأس الحتوف، التحق بصفوف المجاهدين وهو ابن 15 عاما ورحل إلى لقاء ربه ولم يكمل العشرين، أبصر نور الهداية وأنقذه الله تعالى من ظلمة الغواية رغم كثرة الضالين حوله.

 

إنه أحد أبطال مدينة الفلوجة ورجالاتها، نفر للذود عن حياض الدين والتحق بثغور المجاهدين في الفلوجة فور إعلان الخلافة وظهور الحق المبين ساطعا، وشارك في أكثر معاركها شراسة وفي أوج شدتها، عُرف خلالها بإقدامه وشجاعته فكان يتقدّم الصفوف رغبةً بالحتوف.

 

إنه أبو عبيدة (حسين حسن حسان) فتًى من فتيان عشيرة (البوعيسى)، تلك العشيرة التي ضل عدد ليس بالقليل من أبنائها -نسأل الله لهم الهداية- حيث دفعت بالكثير منهم لمحاربة الموحدين.

 

وُلدَ بطلنا اليافع عام (1420 هـ) في بيئة لا تعرف للجهاد قدرا أو طعما، فأرشده الله واستقام وثبُت حتى منَّ الله عليه بالالتحاق بركب المجاهدين في الفلوجة، وشهد ارتقاء شقيقيه شهيدين -نحسبهما والله حسيبهما- في خضم المعارك التي دارت في الولاية فما ضعفت عزيمته وما استكانت جوارحه.

 

وتوقاً لشقيقيه اللذين سبقوه بالطريق ذاتها، وسعياً لنيل ما نالا من عظيمِ الدرجات، سارع لركب المفخخات وقرر الالتحاق بموكب النور في معارك مدينة هيت، فامتطى جواده ليعقره في جموع المرتدين، وقدر الله تعالى ألا يتيسر له سبل التنفيذ فعاد لخطوط الرباط مرة أخرى.

 

ثمّ انحازَ مع المجاهدين إلى ولاية الشام فالتحق بأحد ألويتها وخاض المعارك إثر المعارك، والصولات تتبعها الصولات، وقدّر الله إصابته ثلاث مرات، لكنّه مع هذا كلّه ما ركنَ وما لان، بل واصل جهاده بصبر ويقين، يقين بموعود ربّه بنصر الدين ولو بعد حين.

 

ولمّا وطئ أعداء الله من الرافضة والمرتدين أرض الفلوجة وعاثوا فيها فساداً، ضربت الخيل بحوافرها الأرض غيظاً ممّا فعل المرتدون، فاستلزم الأمر رجالاً يُلبسونَ الخيل لجامها ويمتطونها ليذيقوا أعداء الله أمرَّ الحتوف بالعمليات الأمنية.

 

وثب فارسنا لهذا الأمر العظيم يُسابق لطعن الكلى وضرب الرقاب، غير مكترث بكثرة المتحزبين ولا بتساقط المنهزمين، فتوكّل على الله وانطلق بهمّة عالية وعزيمة متينة ليكون أحد رجال المفارز الأمنية في ولاية الفلوجة.

 

انطلق ولسان حاله يقول: (والله لن ندع السلاح حتى يحكم الله بيننا والله خير الحاكمين). فيسّر الله له الوصول لداخل الولاية واتّخذ من قاطع العامرية التي يقطنها العديد من أبناء عمومته سكناً ومنطلقاً لعملياته، وهناك جدَّ واجتهد فكان جيشاً بمفرده، شارك في عمليات عدة بالرصد والمتابعة والتنفيذ واستعمله اللهُ ليكون غصة تنغّص عيش المرتدين في عُقر دارهم.

 

وفي يوم ١٤ صفر من الشهر الماضي كُلّف فارسنا بزرع عبوة ناسفة، وركن دراجة مفخخة بمفرده لرتل للمرتدين في عامرية الفلوجة، فأعدَّ له العدة وتوكّل على الله وحاديه قوله تعالى: (فتربّصوا إنّا معكم مُتربِّصون) وعند اقترابهم من مكان العبوة فجّرها عليهم ثم اتبعها بتفجير الدرّاجة التي سبق وركنها بمكان توقع تجمع المرتدين فيه، وأثخنَ فيهم إثخانا عظيما، إلّا أنّه أحسّ من نفسه طول المقام، فابتدر الحِمام منغمساً بنفسه على ما تبقّى منهم وبين عينيه قوله تعالى: (وعجلتُ إليكَ ربّ لِتَرضى) فاستلَّ حزامه وفجّره في جموعهم حاصداً عدداً أكبر من الهلكى والمصابين الذين وقعوا في تفجير العبوتين، ولسان حاله يقول: لمّا نخاطب فالصوارم تنطقُ .. إنّ الصوارمَ للجماجمِ تفلقُ.

 

وهنا كانت نقطة التحول الجوهرية حيث انتقل من ساحات الوغى الى منزلة أسمى وأعلى من ذلك ألا وهي الشهادة! نحسبهُ نالها والله حسيبه.

 

 

 

 

 


 

55- العدد 159 - الخميس 28 ربيع الأول 1440 هـ

فضّلوا اللحاق بأرض التوحيد على البقاء في أرض يحكمها الطواغيت ولم يعبؤوا بجاه أو منصب أو مال
قصة نفير الضباط التائبين الثلاثة من مصر إلى سيناء

سلكوا سبيل الرشاد ضاربين بعرض الحائط سبل الضلال، مضوا غير آبهين بما سعى له دعاة الباطل من تزيين الكفر والردة التي وقع بها طواغيت مصر.

 

بحث الضباط التائبون من الجيش المصري المرتد عن طريق الحق فوفقهم الله عز وجل لخوض غمار المفاصلة مع المرتدين وإظهار البراءة منهم والولاء للمؤمنين.

 

فهجروا الجاهلية التي كانوا يسلكونها وهاجروا والتحقوا بإخوانهم ممن يذود ويدافع عن الإسلام، منتقلين من الظلمات إلى النور.

 

في مكان متواضع مفرغ من كل شواغل الدنيا وعلى ضوء خافت في فيافي سيناء كان الموعد مع رجال يتفجر الطُهر من جنباتهم ونور التوبة في وجوههم وأثر النعيم والترف بادٍ عليهم، يعلو محيّاهم حياء الرجال ووقارهم، وأما سعادتهم بالهجرة والنفير فهو أكثر ما يمكنك أن تلاحظه من تعبيراتهم وقسماتهم.

 

إنهم الإخوة أبو عمر (حنفي جمال محمود سلمان) والأخ أبو بكر (محمد جمال عبد الحميد) -تقبله الله- والأخ أبو علي (خيرت سامي عبد المجيد السبكي) تقبلهم الله.

 

ما إن رأوا إخوانهم حتى سارعوا إلى مصافحتهم وعناقهم عناق من يعرفهم لسنوات طوال، وبدأوا يسردون قصة هدايتهم ونجاتهم من دركات الشرك، وإليكم جانبا منها وما عاينه إخوانهم معهم على ثرى سيناء.

 

حياتهم قبل الهجرة

 

كانوا يعيشون في مدن مصر حياة الترف، يسكنون الشقق الفاخرة ويركبون المراكب الفارهة ويتبوؤون الرتب والمناصب المرموقة في النظام المرتد، حيث تخرجوا من كلية الشرطة المرتدة عام 1433، وكنتيجة لتفوقهم البدني والأكاديمي تم إلحاقهم للعمل كضباط في "إدارة العمليات الخاصة"، ينحدرون من أسر ثرية وطبقات عالية، الأخ (أبو علي) والده عميد بنظام الردة، و (أبو عمر) كان مدربا في معهد العمليات الخاصة ومرافقا لأحد أئمة الكفر، لما تميز به من تفوق بدني وأداء قوي.

 

باختصار لم يكن ينقصهم شيء من متاع الغرور فلقد جمعوا بين المنصب والجاه والمال، تلك الحياة التي يتمناها كل عبيد الدنيا! كان تحت أيديهم ما تشتهيه الأنفس الدنيئة من ملذات وشهوات. لكن فطرَهم السليمة وحبهم لدينهم أخرج حب الدنيا من قلوبهم فطلقوها ثلاثا! وقرروا طوعا واختيارا الهجرة إلى إخوانهم في دولة الإسلام بسيناء، طمعا فيما عند الله تعالى، فما عنده خير وأبقى، فآثروا الحياة الآخرة على الحياة الدنيا والباقية على الفانية، تركوا النعيم المنقطع واختاروا النعيم المقيم.

 

دورهم في اعتصام رابعة

 

كعادة أبواق الضلال والتي تسعى لتشويه حال أهل التوحيد، غاضين الطرف عن أرتالهم العسكرية والتي كان على رأسهم طاغوتهم المرتد (محمد مرسي) حينما شنوا حملة على سيناء لا تختلف كثيراً عما يقوم بها زبانية طاغوت مصر الآن، فادعوا أن الإخوة كانوا من ضمن المتواجدين مع القوات الأمنية فيما عرف (باعتصام رابعة) إلا أن الحقيقة أقوى من أن يغطيها هؤلاء وأبواقهم فلم يكن إلا الأخ أبو عمر "تقبله الله"، وبعكس ما ادعوه فقد قام بتهريب وإنقاذ الكثير من المتظاهرين ظنّاً منه أنه سبيل الحق، فتبين وعلم بعد توبته ردة الإخوان المجرمين، ودينهم السلمي الباطل. وكيف أثرت هذه المجزرة عليه وعلى إخوانه ودفعتهم للتفكير مليا بحقيقة النظام المصري.

 

نقطة تحول

 

اعتاد الضباط الأربعة أثناء فترة التزامهم الأولى على حضور دروس بعض من انخدعوا بهم من دعاة الضلال ممن مكنهم الطاغوت من المنابر والشاشات، حيث لم يكن منهج الحق والتوحيد واضحا بالنسبة إليهم في تلك المرحلة.

 

وشاء الله تعالى أن تأخذ حياتهم مساراً آخر بعد أن تم إيقافهم في أحد الأيام عند حاجز أمني للمرور أثناء ذهابهم مع أحد أصدقائهم الملتحين لحضور درس في أحد المساجد، وكان الطريق مغلقا نظرا لمرور موكب المرتد "عدلي منصور" وعند محاولتهم المرور حصلت مشادة كلامية بينهم وبين عقيد مرور نصراني كان في النقطة، وبمجرد أن رآهم برفقة صديقهم الملتحي قام بإبلاغ أمن الدولة ووزارة الداخلية، وهو دأب الطواغيت وأنصارهم في كل مكان، وعلى الفور تم اقتيادهم للتحقيق في قسم "الشرابية" ثم في قسم "إدارة العمليات الخاصة" حيث قام بالتحقيق معهم كل من: عقيد أمن العمليات الخاصة، عميد الشؤون الإدارية للعمليات الخاصة، قائد قطاع الأمن المركزي، مدير إدارة العمليات الخاصة اللواء المرتد "مدحت المنشاوي".

 

وكانت من ضمن الأسئلة التي وجِّهَت إليهم: عن صلاتهم وهل يلتزمون بها في الجماعة بالمسجد وخاصة الفجر، وتهدف هذه الأسئلة إلى تصنيفهم! فمجرد المحافظة على الصلوات بالنسبة لطواغيت مصر تعني دق نواقيس الخطر! وهو ما عبر عنه صراحة المرتد "مدحت المنشاوي" أثناء التحقيق معهم بقوله: "أنه يفضّل أن يضبط ضباطه متلبسين بالفاحشة على أن يحضروا دروس العلم في المساجد"! وكانت هذه نقطة التحول بالنسبة لهم، فرغم عملهم في نظام الردة إلا أن فطرهم السليمة لم تستوعب ما تفوه به هذا المرتد والذي يعبر صراحة عن واقع وحقيقة جميع أنظمة الردة في كل مكان وزمان.

 

بداية الملاحقة الأمنية

 

بعد أسبوعين من هذه الواقعة تم نقلهم جميعا من أماكن عملهم وإلحاقهم بالأمن العام بدلا من الأمن المركزي، وتفريقهم عن بعضهم في أماكن متباعدة؛ حيث تم نقل الأخ أبي عمر إلى الأمن العام بأسوان، والأخ أبي بكر إلى الأمن العام بسوهاج، والأخ أبي علي إلى الأمن العام بالوادي الجديد، في محاولة من الطواغيت لتفريقهم وإبعادهم عن بعضهم.

 

طلب العلم بحثا عن المنهج الصحيح

 

شكل التضييق الذي تعرض له الضباط نتيجة اكتشاف الطواغيت لمجرد حضورهم لمجلس علم عند شيخ قاعد ضال! نقطة تحول في إدراكهم لحجم العداوة والبغضاء التي يكنها النظام المصري المرتد لكل ما يمتّ للإسلام بصلة! فراحوا يتحرون الحق ويطلبون العلم بحثا عن المنهج الصحيح حتى قيّض الله لهم بعض الموحدين الذين دعوهم لعقيدة التوحيد ووجوب الجهاد وردة النظام الحاكم، ترتب على ذلك تفكيرهم بشكل جدي في ترك العمل والبراءة من الشرك طاعة لله وخوفا من عقابه، ورغبة في التوبة مما اقترفوه وسعياً للجهاد والنفير إلى أرض الإسلام والهجرة.

 

محاولات الهجرة والنفير

 

وقياما بواجب الأمة المضيع -الهجرة والجهاد- حاول الإخوة ابتداء النفير إلى إحدى ولايات الدولة الإسلامية في الشام متشوقين للّحاق بإخوانهم فيها حيث كانوا يتابعون أخبارهم وما يصدر عنهم، عبر السفر لها عام 1436 لكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح لحكمة شاءها الله تعالى.

 

الهجرة إلى ولاية سيناء

 

بحلول عام1437 كان التضييق الأمني قد بلغ ذروته، وأصبح الأسر خطرا محدقا بهم، مما حدا بهم إلى التفكير في أحد أمرين؛ الأول هو القيام بتنفيذ عملية انغماسيّة في مبنى أمن الدولة بالحي السادس بالقاهرة، والثاني هو الهجرة فورا لأرض سيناء دون تنسيق مع أحد فرارا بدينهم من فرعون وجنده! وهو ما هداهم الله إليه، فخرجوا وقد وكلوا أمرهم إلى الله تعالى وألسنتهم تلهج بالدعاء أن يُبلغهم أرض الهجرة وطريق النجاة.

 

وضجت مصر وأروقة الأجهزة الأمنية بقصتهم وكعادتهم أوعزوا لأبواقهم بشن حملة إعلامية عليهم ملؤها الكذب واختلاق القصص الواهية التي صاغوها من نسج الخيال.

 

لحظة دخولهم سيناء

 

وعن قصة نفيرهم أخبرونا أنهم لما قرروا الهجرة لإخوانهم لم يكن يحجبهم عن ذلك إلا ما كان يبثه في نفوسهم شياطين الإنس من "وسائل الإعلام ودعاة الضلال" أن الدولة الإسلامية تقتل العساكر حتى لو أتوها تائبين! وبعد تردد عزموا أمرهم أخيرا يبغون النجاة بدينهم في أرض يقام فيها شرعه.

 

وعند وصولهم إلى أرض سيناء نزلوا من السيارة التي كانوا يستقلّونها وعادت أدراجها والترقب والرهبة تسيطر على قلوبهم من المشهد، وفجأة سرعان ما تقدم إليهم أحد الإخوة مقبلا عليهم بوجه بشوش مُرحّبا بهم، فزال عنهم كل ما لاقوه في سبيل الوصول لديار الإسلام، نسوا كل ما مر بهم من صعاب وتحديات قبل ذلك، خرّوا لله سجدا، شكراً لله عز وجل أن يسر لهم مبتغاهم وفرحة بالوصول والنجاة من براثن الشرك والغواية.

 

وظلت هذه اللحظات الجميلة عالقة في أذهانهم وقلوبهم يحبونها ويذكرونها، بل حتى الأخ الذي كان في استقبالهم -تقبله الله- كانوا عندما يرونه يعانقونه وينفجرون بالبكاء، لأنه يذكرهم بأول يوم لهم في أرض الجهاد.

 

أي حب هذا الذي ملأ هذه القلوب للجهاد؟ إنه الحب الذي يوصل إلى صلاح الدين والدنيا ولا صلاح لها إلا بالتوحيد والجهاد.

 

وقد ذكر الإخوة بأنفسهم حفاوة اللقاء الأول وحسن الكرم والاستقبال الذي لاقوه من إخوانهم المجاهدين وهو الحال مع كل من أتى إلى ديار الإسلام في ولاية سيناء وغيرها من ولايات الخلافة.

 

التدرج بالعمل داخل الولاية

 

نظرا لمَا تمتع به الإخوة من مهارات وخبرات قتالية وعسكرية أوكلت إليهم مهام عدة (فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه)، وأي أمر أفضل من أن يكون المرء جنديا في صفوف المجاهدين ينصر دينه وتوحيده؟

 

حيث عمل الإخوة جميعهم في المفارز الأمنية المكلفة بضبط وملاحقة الجواسيس وأبدوا يقظة ومهارة عالية في ذلك، وعمل الأخ أبو عمر (تقبله الله) كأحد كوادر "إدارة التخطيط العسكري" وغرف العمليات، فشارك في غرفة عمليات غزوتي "القصر والكتيبة"، والإغارة على كميني (العُجرة وكرم القواديس)، كما كان مدرباً في إعداد القادة العسكريين، بينما عمل الأخ أبو علي (تقبله الله) في قطاع التدريب العسكري، وشارك في غزوة القصر، كما تولّى القيادة الميدانية للإغارة على كمين العُجرة.

 

تواضع جم

 

اتصف الإخوة بصفات طيبة كثيرة كان أبرزها التواضع الجم وخفض الجناح لإخوانهم المؤمنين يلحظ ذلك كل من عرفهم، فيروي من عاشرهم في المعسكرات أنهم كانوا كما قال الله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)، أهل بذل وعطاء وتضحية ووفاء بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل التوحيد، وديارهم التي تركوها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

 

كما كانوا شعلة من النشاط والهمة العالية يحرّضون إخوانهم ويرفعون هممهم ويسبقونهم إلى أي أمر يطلبونه منهم، ومن ذلك موقف حدث قبل الانطلاق لغزوة القواديس في إحدى معسكرات الولاية، حيث قام الأخ (أبو علي) يحرض الإخوة قبل الغزوة وقال لهم: "قوموا وتعانقوا"، وبدأ هو وأبو عمر بالعناق وفجأة انفجروا بالبكاء حتى ضجّ المعسكرُ كله باكيا!

 

وفي أبواب الطاعات كانوا أحرص ما يكونون على الصيام والقيام وسائر النوافل، فلم تشغلهم تكاليف الجهاد وأعباء المهام الموكلة إليهم عن عبادات التضرع والمناجاة وتزكية الأنفس، وقد ذكر الأخ أبو عثمان (حفظه الله) أن الأخ أبا علي (تقبله الله) كان قد كتب في مذكرة صغيرة خاصة به جميع العيوب التي ابتلي بها ليتعاهد نفسه بالتربية والتزكية منشغلا بعيوبه عن عيوب غيره، وأخبر -أبو عثمان- أنه قبل أن يقتل بفترة وجيزة كان قد تخلص منها كلها بفضل الله تعالى، ولا عجب فإن ميادين الجهاد أفضل الميادين لتزكية الأنفس وتربيتها وتنقيتها من الأمراض والآفات.

 

مثل يحتذى في الأخوّة الصادقة

 

لقد ضرب هؤلاء الإخوة أروع الأمثلة في الأخوّة الإيمانية الصادقة، لقد كانوا نموذجا يُحتذى في الاجتماع على طاعة الله تعالى، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى لم تكن صداقتهم سبيلا إلى اللهو ومضيعة الوقت، لقد كانت أخوّتهم إحدى أسباب انتقالهم من الظلمات إلى النور فكانوا عونا لبعضهم على طريق الحق يشد بعضهم أزر بعض وظلوا هكذا حتى آخر لحظة في هذه الحياة.

 

فحري بشباب الأمة اليوم أن يقتدوا بهذه النماذج ويسيروا على خطاها، فسيرة هؤلاء الإخوة تقبلهم الله مدرسة كاملة من التوبة والهداية إلى الولاء والبراء مرورا بالهجرة والجهاد والأخوّة الصادقة والصبر والثبات، وانتهاء بالقتل في سبيل الله، هذا هو سبيل الرشاد الذي ندعو شباب الجيل إليه بدلا من سبل الضلالة والهوى.

 

إصاباتهم ثم مقتلهم "تقبلهم الله"

 

في أواخر عام 1437 أدى قصف يهودي غادر إلى إصابة كل من أبي عمر وأبي عليّ بإصابات متفاوتة، ومقتل أبي بكر تقبله الله، فلم يفت ذلك في عضدهم ولم ينل من عزيمتهم فلا الجراح ولا فقد الخلّان يوقف المجاهد عن جهاده، فواصلوا جهادهم بين تحريض وتدريب وصبر وجلاد، حتى جاء القدر الذي لا مفر منه وحانت لحظة اللّحاق بمن سبقهم على ذات الدرب فقد أدى قصف بالطائرات المسيرة إلى مقتل أبي عمر وأبي علي وذلك خلال العام الحالي 1440، ليرتحل ثلاثة من الإخوة -تقبلهم الله- بعد أن حققوا التوحيد في حياتهم قولا وعملا وجاهدوا وبذلوا أموالهم وأنفسهم رخيصة في سبيل الله حتى أتاهم اليقين من ربهم، فنسأله تعالى أن يتقبلهم وأن يجمعنا بهم في مستقر رحمته على سرر متقابلين.

 

 

 

 

 


 

56- العدد 166 - الخميس 18 جمادى الأولى 1440 هـ

تخلى عن شهادات الدنيا رغبة بشهادة الآخرة
أبو صخر الردفاني نبذ علماء الضلال ولبى نداء إخوانه للصيال

حافظا لكتاب الله داعيا إليه، باحثا عن الحق طالبا أهله، نابذا علماء الضلال وشيوخ الطواغيت، نشأ في منطقة (ردفان) في الجزء الجنوبي من اليمن، المنطقة التي ساد فيها مذهب المرجئة (جهمية العصر)، وكثرت فيها جنود الردة من العسكر والشرط، عاش فارسنا في هذه البيئة البعيدة عن ولاء الإسلام، ولكنه لم يكن من الإمّعات الذين إن أحسن الناس أحسنوا وإن أساؤوا أساء، بل كان باحثا عن الحق بعيدا عن التقليد راغبا بما عند الله.

 

إنه الأخ المجاهد أبو صخر الردفاني -تقبله الله- فهمي راشد هيثم، أكمل تحصيله العلمي -الجامعي- في الدراسات الإسلامية واللغة العربية ثم عُيّن مدرسا في أحد مدارس المنطقة، قضى عمره داعيا إلى الله متنقلا في مساجد منطقته مرشدا للناس، وداعيا لهم إلى صراط الله المستقيم، يسرع الخطى للدعوة إلى الله الساعات الطويلة بنفسٍ راضيةٍ وهمة عالية، يقول أحد المقربين إليه: (لم أعرفه منذ عشرين سنة إلا خطيبا واعظا ومعلما ناصحا)، راوده المرجئة على سلوك نهج المداخلة فأبى عليهم، فهجروه وفصلوه من إمامة المسجد الذي كان موكلا فيه، بل وأغروا به السفهاء والمرتدين حتى أدخلوه السجن فمكث فيه بضعة أشهر.

 

عزم على مواصلة دراسته الأكاديمية فحصل على الدرجات العليا في اللغة العربية ثم شرع في دراسة الدكتوراه فأتم السنتين التحضيريتين ولما أراد كتابة الأطروحة استنفره إخوانه فهبّ إلى ميادين العز وساحات الوغى.

 

وفي فترة تحصيله العلمي أدار سكنا جامعيا للطّلاب يُعلّم القرآن ويساعد الشّباب في الوقاية من الضياع وتخطّف الشهوات، وفي تلك الفترة تعرّف على منهج المجاهدين فأحبّه ولامس شغاف قلبه. وكعادته بعيدا عن التقليد، بحث عن منهج المجاهدين وفتّش فيه واستمع منهم، وتابع أخبارهم ومحّص شبه المرجئة فيهم فوجدها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فوجد في أهل الجهاد بغيته، ورأى فيهم منهج الحق الذي كان في كتاب الله يقرأه.

 

وبعد إعلان الخلافة تعرّف إلى أحد طلبة العلم -تقبله الله- فوجده صلبًا في العقيدة متفننا في العلوم، معلّما ومربيا، زاهدا عابدا، صوّاما في النهار قوّاما بالليل، يُتْبِع العلم العمل، فقال يوما: (والله لقد جالست من شيوخ المرجئة الكثير فما وجدت كالمجاهدين في الزهد وكثرة العبادة، والحرص على الطاعة)، فاستمع إلى الشيخ وناقشه في منهج الجهاد، فعلت همّته ووجد ضالته، وراح يدعو إلى دين الله والجهاد في سبيله، وجدَّ في نشر منهج المجاهدين وناقش المرجئة وكشف زيف منهجهم وسوء تقليدهم، وبايع خليفة المسلمين وناصر دولة الإسلام وصدع بذلك في أيام نشوة المرتدين -أذناب دويلة الإمارات المرتدين-، فلم يبالِ بكلام النّاس وعداوتهم بل كان يقول: لقد وجدت في هذا الطريق معنى قول ورقة بن نوفل للنّبي صلى الله عليه وسلم (ما يأتِ أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي).

 

لما استنفره إخوانه أجاب داعي الجهاد، ولم يركن إلى زخرف الحياة، رغم المعوقات التي كانت في طريقه، إذ لم يكن لأسرته عائلا غيره، إضافة إلى وجود المرضى فيهم، ولكن من تدبر آيات القرآن لم يخلد إلى دنيا الراحة والهوان.

 

وصل إلى أرض الجهاد فاشتدّ ساعده ومضى كعادته خطيبا في إخوانه ناصحا ومُحرّضا، تميز في الدورة الشرعية بالنجابة وفي معسكر التدريب بالجَلَد والصبر، عرف عنه الفكاهة وإنشاد أشعار العرب وذكر أيامهم، فما أقام في رباط إلا أحبّه إخوانه وحرصوا على بقائه بينهم، مكث سنتين من جهاده مرابطا وحارسا ثغور المسلمين يصوم يوما ويفطر آخر، لم يرَ أهله وأولاده في تلك المدة بل عاش متنقلا بين مواقع الرباط مشاركا إخوانه في جهاد أعداء الله الرافضة الأنجاس، ولما نصر الله جنود الدولة الإسلامية في (حمة لقاح) وطردوا الرافضة منها صار خطيب القرية القريبة من موقع رباطه، دعا فيها إلى دين الله وحذّر من شرك الدستور والقانون فأحبّه أهل تلك القرية، ولامست قلوبهم صدق كلماته فنفر منهم عدد من الشباب ولما جاءهم خبر استشهاده حزنوا عليه وتحسّروا لفراقه.

 

وفي أثناء رباطه وإخوانه على الروافض فوجئوا بغدر المارقين الذين تركوا منهج الجهاد لسخافات المنظّرين ومصالح الإخوان المرتدين، ووالوا أعداء الملّة والدّين (عناصر قاعدة اليمن) وخلال صدّ هجوم الغادرين خاطب أبو صخر أحدَ إخوته قائلاً: (لا تخف على الدولة فإني رأيت في المنام أني طُعِنتُ من الخلف بطعنة لكنها لم تضرني وإني لأراها غدر هؤلاء فلا تخشوا على الدولة).

 

وخلال الاشتباكات، أراد التقدم في نحر العدو فمنعه إخوته لخطورة المكان، لكنّهم لم يفلحوا في منعه، فتقدم بقاذفه في نحر العدو لتصيبه رصاصة من أعداء الله (يهود الجهاد) ليلقى ربه مقبلاً غير مدبرٍ صادقا ما عاهد الله عليه -نحسبه والله حسيبه-.

 

ولما كان مقتله قريبا من العدو لم يستطع إخوانه إخراج جثته إلا بعد يومين من مقتله، فقال من رآه من الإخوة: (والله إن جسده رطبٌ كما هو ولَكَأنّه مات من ساعته)؛ فرحمه الله رحمة واسعة، وجعل روحه في جوف طير خضر تسرح من الجنة حيث تشاء.

 

 

 

 

 


 

57- العدد 169 - الخميس 9 جمادى الآخرة 1440 هـ

أسلم ثم سمع النداء فلبى
(عبد الملك الداغستاني) التحق بجند الخلافة في مصر فقاتل معهم وقتل

كثيرونَ همُ الذين كانت أعمارُهم في ساحات الجهادِ قصيرة، ولكنهم تركوا خلفهم أثرا كبيرا لا زال إخوانهم من بعدهم يعيشون على طيب شذاهم، يتنفسون عبيرهم الفوّاح، ويستأنسون به في دربهم المُعبّد بالمصاعب والدماء.

 

من بين هؤلاء.. الأخ (عبد الملك الداغستاني) أبو محمد -تقبله الله- من أرض داغستان الجريحة، منّ اللهُ تعالى عليه بنعمة الإسلام من بين عائلة ملحدة، وذلك قبل خمس سنوات من الآن، فيسّر اللهُ له سُبلَ الهداية إلى معتقد أهل السنة والجماعة (الفرقة الناجية)، فحسُن إسلامُه وعرِف فلزِم.

 

سمع النداء فلبى

 

سمع كغيره من المسلمين بإقامة الخلافة الإسلامية واشتعال جذوة الجهاد فيها، فمكث سنوات عدة يبحث عن طريق للهجرة إلى ولاية من ولاياتها، حتى أكرمه الله تعالى بالنفير والالتحاق بإحدى سرايا المجاهدين التابعة لجند الخلافة بمصر.

 

ورغم حداثة إسلامه، لم يجلس أبو محمد يتابع أخبار المجاهدين عن بعد، عبر وسائل الإعلام المتنوعة والمحطات الفضائية، وهو قاعد في بيته متفرجا عليهم! بل جدّ وأخلص في البحث عن طريق يوصله إلى أرض الجهاد حتى أكرمه الله بذلك، فظفر أبو محمد بما كان يُحدّثُ به نفسه قبل "الهجرة والجهاد"، فصدق عليه قول القائل:

 

أجل تلك أحلامه الغاليات

تعهدها في ظلال السيوف

وميراثه أبدا شاهد

على صدقه في عراك الحتوف

 

وبعد جهد وتدبير وتوكل على الله ولطف منه وصل أخيرا إلى ثغر من ثغور الإسلام يرابط فيه ويقاتل أعداء الإسلام، وكم كانت فرحتُه كبيرة يوم أن استلم عدة القتال لأول مرة، بعد انتهاء فترة التدريب والمعسكر، فكان -تقبّله الله- يهتمّ بعتاده وسلاحه أشد الاهتمام، وما ذلك إلا لتعلق قلبه الشديد بالقتال والجهاد، فعتاده بالنسبة إليه هو أقرب الطرق وأقصرها إلى جنات النعيم (بإذن الله).

 

عُرف أبو محمد بعلو الهمة والنشاط، مجتهدٌ دؤوبٌ يتربص بالمرتدين وقطعانهم، ويتحين الفرصَ لاستهدافهم في كل مكان، ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خير مَعاش الناس لهم رجلٌ ممسكٌ عنانَ فرسِه في سبيل الله يطيرُ على متنه، كلَّما سمع هَيْعَةً أو فَزَعَةً طار عليه يبتغي القتلَ والموتَ مظانَّه....) "صحيح مسلم"، فخرج ذات مرة مع إخوانه في إحدى العمليات الأمنية ضد المرتدين، فكان مثالا للشجاعة والإقدام، غير هيّاب يطارد الموت في كل محفل.

 

رحماء بينهم

 

كان أبو محمد -تقبله الله- يهتمّ كثيرا لحال إخوانه في القوقاز حريصا عليهم، وكان كثيرا ما يُلحُّ على أميره بأن يعلمه الفنون العسكرية وصناعة المتفجرات، لكي يعود إلى القوقاز ويقاتل الكفرة والمرتدين هناك.

 

وذات يوم شعر أبو محمد أنه أثقلَ على أميره، فذهب إليه -وكان ذلك قبل مقتله بيوم واحد- فخلا بأميره واعتذر منه وصارحه قائلا: (أخي أنا أعلم أني أثقلت عليك في طلب العودة للقتال في القوقاز، وأنا الآن أقول لك لن أرجع إلى القوقاز حتى نفتح مصر كاملة إن شاء الله).

 

مقتله أثناء صلاته

 

وفي ظهر اليوم التالي، جلس أخونا -تقبله الله- مع أميره وإخوانه يتذاكرون ويتحدثون حول مراتب الدين من إسلام وإيمان، ثم سأله الأخ (أبو محمد) كيف أصبحُ مؤمنا حقا؟ فأخذ الأخ الأمير يذكر له صفات الإيمان وخصاله، ويوصيه بتقوى الله تعالى في كل حركاته وسكناته، ليكون مستعدا للقاء الله في أي لحظة.

 

فجلس (أبو محمد) ما بين الظهر إلى العصر يستغفر ويسبّح ويذكر الله تعالى، وكأنه يستعد للقائه -سبحانه-، وبقي على حاله هذه حتى دخل وقت العصر، فقام أبو محمد وأذّن لصلاة العصر، وما هي إلا دقائق حتى قدمت قوة عسكرية لجيش الردة فدارت اشتباكات لساعات عدة بين المجاهدين والمرتدين، فما كان من المرتدين كعادتهم إلا أن استغاثوا بالطائرات لتخلّصهم من حصار المجاهدين لهم.

 

ومع قدوم الطائرات الحربية اضطر الإخوة ومعهم أبو محمد إلى الانحياز والانسحاب من المكان إلى حيث أراد الله لهم، حيث كان الأخ أبو محمد على موعد مع الشهادة هناك.

 

وأثناء سيرهم، سأل الأميرُ أبا محمد وقال له: (هل أنت جاهز الآن للشهادة؟)، فابتسم أبو محمد وقال: (نعم أخي منذ أن وعظتني وقت الظهر وأنا في توبة واستغفار وذكر لله تعالى)، ثم توقفوا لكي يصلّوا المغرب والعشاء، والطائرات فوقهم لم تفارق الأجواء، فبدأوا صلاتهم، وفجأة باغتهم صاروخ من طائرة وهم في صلاتهم، ليُقتل أبو محمد -تقبله الله- مع بعض إخوانه، ليكون آخر أعمالهم من الدنيا الصلاة لله تعالى، فرحم الله (أبا محمد الداغستاني)، ونعم الخاتمة التي نالها بالصدق والهمة، ليُقْتلَ مهاجرا مجاهدا مصليا، فلله دره وعلى الله أجره.

 

وإن في قصة أبي محمد -تقبله الله- عبرة لكثير ممن شغلوا أنفسهم بالعلم عن العمل! وأسَرُوا أنفسَهم في بطون الكتب ولم يتنسموا عبير الجهاد لحظة! فما عرف أبو محمد من دينه غير ما صحَ به توحيدُه وعبادته، فلزِم ما عرف وعمل بما علم، فجمع الله له بين الهجرة والجهاد والقتل في سبيل الله، -نحسبه والله حسيبه- إنها بركة الهجرة والاجتماع والاتباع.

 

 

 

 

 


 

58- العدد 173 - الخميس 7 رجب 1440 هـ

أبو أنس الفرنسي
ترك الدعوة إلى عبادة الصلبان وطلب القتل في سبيل الله تعالى

ولد أبو أنس الفرنسي تقبله الله تعالى في أسرة متمسّكة بدين النصرانيّة، وفتح عينيه على الدّنيا وهو يرى أمّه تدعو إلى هذا الدّين المحرّف، وتملأ منزلهم بصلبان النّصارى وأوثانهم، وتعلّمهم الدّعاء لغير الله تعالى، وعبادته على غير ما يريد سبحانه.

 

ومنذ أيّام مراهقته صار أبو أنس داعيا إلى هذا الدّين، يجادل أصدقاءه الملحدين ليعيدهم إلى دين آبائهم وأجدادهم، ويردّ على العلمانيين سخريتهم من هذا الدّين، ويعادي أهل الإسلام لمخالفتهم دينه، ولما كان يرى في بعض المنتسبين إليه من سوء أخلاق وتفلّت من كلّ دين.

 

وفي ظلّ تعمّقه أكثر في دراسة الدّين النّصراني على أيدي القساوسة الّذين يشرحون له بعض نصوص كتابهم المقدّس، بدأ يطّلع على نصوص من هذا الكتاب تخالف بوضوح ما تعلّمه في الكنيسة من شعائر الدّين الكاثوليكي.

 

فكان من أوّل ما صدمه قضية الوثنيّة في هذا الدّين، الّتي تناقض بوضوح ما ورد في كتابهم من نهي عن اتخاذ الصّور وتعظيمها، ومن تحذير صريح من هذا الشّرك العظيم، وقاده هذا إلى إخراج كلّ ما في منزله من صور وتماثيل، فلم يترك إلّا الصّليب معلّقا فيه، لينظر إليه ويدعو عنده الأنبياء والأولياء من دون الله تعالى، ليقوده تفكيره إلى التّخلي عنه أيضا بعد حين عندما تأكّد أنّ نبيّ الله عيسى عليه السّلام وحوارييه، لم يكونوا يحملون صلبانا على أبدانهم ولا يعلقونها في مساكنهم.

 

وعندما نظر إلى حاله وقومه وجد ما هم عليه من عبادات ومعاش مختلفَين عمّا ورد في كتابهم المقدّس من عبادات ومعاش الأنبياء والمرسلين، ووجدوا أنّ الأحبار والرّهبان قد أحلّوا لهم ما حرّم الله تعالى، وحرّموا عليهم ما أحل سبحانه، فالخلاف كبير بين دين الكاثوليكيّة الّذي كان عليه وبين الدّين الّذي يقرأ عنه في كتابهم الّذي يفترض أن يكون أصلا للدين يُعمل به، ولا يخالف بكلام أحد من البشر، فقرّر أن يترك هذا الدّين ويبحث عن الحقّ ويتخذ لنفسه دينا آخر يعتمد على ما يقرأه في كتابهم فقط دون أخذ بكلام القساوسة والكنيسة، وأراد أن يحيا حياة الأنبياء في تمسّكهم بكلام الله تعالى ودعوتهم إليه وجهادهم في سبيله سبحانه.

 

يروي أبو أنس تقبله الله تعالى في قصّة إسلامه: "أنا وأختي لم نترك قراءة الكتاب المقدّس، حتّى وجدتها يوما تقرأ فيه، فقالت: تعال وانظر! فستُفاجأ ممّا قرأت في الكتاب: (والخنزير، فإنه مشقوق الحافر، ولكنه لا يجتر، فهو نجس لكم، لا تأكلوا شيئا من لحمها، ولا تمسّوا جيفها، فإنها نجسة لكم)، فأعدت القراءة مرات كثيرة، وقرأت ما قبلها وما بعدها حتّى أفهم، وكنت أحبّ الحقّ، ولا أريد أن أفارقه، عندها أصبحت غاضبا على القسّيسين لأنّهم لم يخبرونا بهذا التّحريم، وتركونا نناقش المسلمين في موضوع الخنزير، وكنت أسفّه عقولهم وحجّتهم، لكنني تفاجأت كثيرا..

 

فذهبنا إلى القسّيس نسأله عن هذا النّص الوارد، واستغربت كثيرا من إجابته حين قال: هذا التّحريم غير موجود، فقلت في نفسي: إمّا أنّه جاهل أو كذّاب، فأتيته بالنّص، فقرأه، وكأنّه نسي أنّه قال سابقا: إن هذا الكلام غير موجود!، كنت أحترم هذا الشيخ الوقور كثيرا، فقد كان عمره بين الستين والسبعين، رأيت في إجابته غير الحقّ، إذ كان يعرفه، ويمنعه استكباره من قبوله، ويكذّب على النّاس، ويخفي الحقيقة عنهم، فسقط من نظري.

 

بعدها رجعنا من الدّرس، فاتفقت مع أختي ونحن في الطريق، بأن لا نأكل لحم الخنزير أبدا بعد اليوم، وسنكون "مسيحيين" حقيقيين.

 

لمّا وصلنا إلى البيت أخبرنا أمّنا بما هو موجود في "الكتاب المقدّس"، فقالت: أنا أيضا لن آكله أبدا، فاتفقت العائلة كلها على عدم أكله، وأخرجنا كل ما هو موجود في الثلاجة، وكان هذا أوّل ما تخالف فيه عائلتنا كلّها محيطنا من النّصارى الكاثوليك.

 

بعد ذلك صرت أقرأ "الكتاب المقدّس" لأعمل به، لأني فقدت الثّقة في القسّيسين، وبدأت تطرق بالي بين آونة وأخرى أفكار حول مصداقيتي تجاه نفسي، فلقد كنت من قبل متجرّدا للحقّ، فلماذا عندما تبيّن الحقّ عند المسلمين في مسألة حرمة لحم الخنزير لا أصارحهم وأقول بأنّهم على حقّ..." انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

 

المسلمون أولى النّاس باتباع الأنبياء

 

وهكذا وجد كثيرا مما يقرأه في كتابهم المقدّس على ألسنة الأنبياء والمرسلين يعمل به المسلمون في عباداتهم ومعاشهم، حتّى بات يشعر بنفسه أقرب إلى المسلمين من أتباع دينه الّذي يؤمن به ويدعو إليه.

 

ولكن كان هناك عائق كبير أمامه، يتمثّل بأنّ إقراره بدين الإسلام يلزم منه إنكار لدينه ودين آبائه وأصحابه، والحكم على هؤلاء جميعهم أنّهم على كفر وضلال وأنّهم خالدون مخلّدون في النّار، وكان يحبّ أن تشاركه أسرته كلّها في قراره، فيسلموا جميعا لله ربّ العالمين.

 

وقد أنعم الله عليهم بعد حين، وهداهم للإسلام فدخل هو وأختٌ له فيه معا، ثم أسلمت أسرته إلّا أمّهم الّتي كانوا يدعون الله تعالى أن يهديها إلى الدّين الحقّ بعد أن تأخّرت عنهم لما كانت تجده في نفسها من مشقّة ترك دين كانت تدعو النّاس إليه وتدخل النّاس فيه لمدة 30 عاما، وتقرّ بأنّ أبويها الّذين كانت تحبّهما غاية الحبّ وتدعو لهما بالرّحمة والمغفرة كانوا كفّارا مشركين وأنّهم ماتوا على ذلك فتتوقّف عن الاستغفار لهما.

 

وبعد إسلامهم وجدت النّساء مشقّة في الالتزام بالحجاب في منطقتهم (آلنصو) الّتي يسكنون، فلم يتأخّروا أن يقرّروا انتقالهم إلى منطقة أخرى في فرنسا، وهي (تولوز) حيث يكثر المسلمون، وتنتشر المساجد، ولا يعد التزام المرأة بالحجاب مشهدا غريبا هناك، بالإضافة إلى أنّهم أرادوا الخروج من المنطقة الّتي تذكّرهم بتاريخهم القديم بما فيه من إشراك بالله تعالى والدعوة إليه.

 

بحثٌ عن الحقّ ودعوة إليه

 

ولمّا أسلم أبو أنس أنعم الله الكريم عليه بأن يستعمله في الدّعوة إليه سبحانه، مثلما كان سابقا داعيا إلى الشّرك، فانطلق بهمّة كبيرة يدعو كلّ من يعرفه أو يصادفه للدّخول في دين الإسلام، ولا يترك فرصة لبيان حقيقة أو ردّ شبهة أو ترك أثر طيب عند إنسان يحبّب إليه الدّين وأهله إلّا اغتنمها، فنفع الله تعالى به عددًا كبيرًا من النّاس أسلموا لله ونبذوا ما كانوا عليه من شرك وجاهلية، أعانه على ذلك خلق رفيع، وأدب جم في مخاطبة النّاس، ومعرفة كبيرة في دين من يخاطبهم ويدعوهم إلى تركه.

 

ولم يتوقّف سعي أبي أنس للسير على خطى الأنبياء والمرسلين -سلام الله عليهم- بالدّخول في دينهم الّذي كانوا عليه، والانتساب إلى المسلمين، بل رأى في ذلك خطوة أولى نحو الارتقاء في هذا الدّين بالعلم والعمل، فكان تقبله الله تعالى يطوف على المنتسبين إلى الدّين ويسأل كلّ من يراه على علم به، ويجاور من يرى فيه معرفة به، ويعاون من يحسبهم من العاملين به والدّاعين إليه، فطاف في فترة إسلامه الأولى على كثير من الأحزاب والجماعات البدعيّة الّتي يزعم كلّ منها أنّهم وحدهم أهل الإسلام الّذين يفهمونه حقّ الفهم ويعملون به كما أنزل.

 

فكان يرى في كل طائفة من هذه الطوائف المبتدعة ما يذكّره بدينه القديم من عمل بغير ما هو مكتوب في القرآن واتّباع لغير ما هو مأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويرى في دعاتهم وزعمائهم ما يذكره بالقساوسة والأحبار والرّهبان من تحريف لكتاب الله تعالى، وتبديل لأحكام دينه وشريعته، فهداه الله تعالى إلى هجر التبليغيين والإخوان المرتدّين والتحريريين والمرجئة المدخليين، بعد أن عرف ما هم عليه من ضلال، وهيأ له من يدلّه على التّوحيد وأهله، ويحبّب إليه الهجرة والجهاد في سبيل الله تعالى.

 

وقرّر أن يهاجر إلى اليمن فلم يتيسر له الأمر، فسافر إلى مصر ليتعلّم العربيّة والقرآن، ومكث فيها سنتين، ولمّا عاد إلى فرنسا وجد السجن بانتظاره، إذ هاجر بعض إخوانه إلى العراق للجهاد في سبيل الله تعالى، وقدّر سبحانه اعتقال بعضهم على يد النّظام النصيري وسلّموا إلى فرنسا الّتي بدأت باعتقال كلّ من يعرفهم أو يرتبط بهم بعلاقة من الشّباب المسلمين المناصرين للجهاد والمجاهدين.

 

في السجن استمرّ بالدّعوة إلى الله تعالى، ومجادلة دعاة النّصرانيّة النّاشطين بين السّجناء، وهدى الله تعالى على يديه بعضهم إلى نطق الشّهادتين، وترك ملّة النّصرانيّة، وبقي على هذا طيلة فترة مكوثه في السّجن والّتي استمرت 5 سنين.

 

الهجرة إلى دار الإسلام

 

وبعد خروجه من السّجن استمرّ أبو أنس في دعوته إلى الله تعالى، كما التحق بكلّيّة جامعيّة أملا في توسيع معارفه في علوم الشّريعة من خلالها.

 

ولمّا أعلنت الدّولة الإسلاميّة في الشّام، سبقه شقيقه أبو عثمان تقبّله الله تعالى بالهجرة إليها هو وأسرته، فقرّر أبو أنس أن يوقف كلّ نشاطه في فرنسا ويهاجر في سبيل الله رافقه بعض من إخوانه الّذين أعانوه -بعد الله تعالى- في تأمين مستلزمات الرّحلة، وتشجيعه على المخاطرة لكونه ممنوعًا من الخروج من أوروبا من قبل السّلطات الفرنسيّة الصليبيّة.

 

ويروي أبو أنس رحمه الله عن أهمّ أحداث تلك المرحلة من حياته:

"في هذا الوقت كان أخي قد انضمّ للدّولة الإسلاميّة، فبدأت أحاورُه من هناك، وأسأله عن كلّ ما يُثار حول ذلك من الجدل في الإنترنت، وفي وسائل الإعلام، لكونه أصبحَ على أرض الواقع، فكان يجيبني أجوبة مقنعة، في الوقت الّذي كانت تتهاوى أمام نظري صورة هاني السّباعيّ وغيره من الّذين كنت أحسبُهم يوما من أهل العلم العاملين به، إذ بي أراه يتكلّم بكلام، ليس في مقامه، كلام بذيء يهاجمُ به مجاهدي الدّولة الإسلاميّة وعلماءها.

 

في هذه الأثناء، وبينما أطالع عن كثب كلّ ما يحدث، جاءتني أمّي لتقول لي: يا بنيّ متى نهاجر إلى الدّولة الإسلاميّة، فلا أريد الموت في أرض الكفر.

 

لقد فاجأتني رغبتها، فامرأة مثلها كبيرة في السّنّ، ومريضة تتوقُ نفسُها لكي تعيش ما بقي من عمرها في دار الإسلام، متحمّلة في سبيل تلك الغاية كلّ مخاطر الهجرة، بينما يهربُ شبابُ المسلمين من أرض الإسلام ليقدّموا أنفسَهم طعاماً للأسماك في أعماق البحار قبل أن يصلوا إلى بلادِ الكفّار...

 

قلتُ في نفسي: كيف يحدث هذا؟ فأمّي هذه المرأة، عاشت أكثر عمرها نصرانيّة تدعو إليها بعصبيّة، وتكره الإسلام وأهله، وما إِن أسلمت حتّى صار العيش بين المسلمين تحتَ ظلّ شريعةِ الإسلامِ أسمى غايتها.

 

لقد كانَ لها من العمر "63" سنة، وهي مصابة بمرض تشمّع الكبد، وكانت تشعرُ بالألم في رجليها، ومع أنّها كانت تسمعُ أنّ طريقَ الهجرةِ يتطلّب مشياً على الأقدام لمسافات طويلة، لم يُرهبها هذا، بل كانت تدعو الله تعالى، وتكثرُ البكاء، كلّ ذلكَ خوفا من أن يحول بينها وبينَ الهجرةِ إلى الدّولة الإسلاميّة حائل، فما إن سمعت بأنّ دولة قامت في العراق والشّام حتّى ما عاد يهدأ لها جفن من بكاء، حتّى صعب عليّ حال هذه المرأة المسكينة، فليسَ لها سؤال إلَّا عن طريقِ الهجرة، فإن سمعت أنّ الطّريق أغلق بكَت، وإن سمعت أنّ الطّريق ميسّر استبشرت" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

 

وهاجر تقبله الله هو وجميع أفراد أسرته، بما فيهم أمّه المريضة، الّتي كانت تتمنّى أن تختم حياتها في ديار الإسلام، وهو ما كان لها رحمها الله تعالى فيما بعد، وبعد صعوبات ومشاق كثيرة في الرّحلة مكّنه الله تعالى من دخول دار الإسلام والالتحاق بجنود الدّولة الإسلاميّة والجهاد في صفوفهم.

 

عمل أبو أنس تقبله الله تعالى أكثر فترة جهاده في إذاعة البيان مسؤولا عن تسجيل الدّروس والمحاضرات العلميّة، والعناية بالهندسة الصوتيّة، كما كان يقدّم النّصح والمساعدة لشقيقه أبي عثمان تقبله الله تعالى أحد كوادر مؤسسة أجناد، وعلى يديهما أنتجت الكثير من الأناشيد والمقاطع الصوتيّة التحريضيّة والدّعوية، مستفيدين من خبرتهما السّابقة في المجال والّتي استقياها من عملهما السّابق في مجال الموسيقى والمؤثّرات الصوتيّة، حيث كان أبو أنس مغنيا يرى نفسه يدعو من خلال أغانيه إلى الحقّ والعدالة، ويساعده أبو عثمان العامل معه في فرقته الموسيقيّة.

 

وخاض مع إخوانه الكثير من الغزوات دفاعاً عن ديار المسلمين وأصيب فيها مرّتين، كما فقد تقبله الله تعالى أفراداً من أسرته -نحسبهم من الشهداء والله تعالى حسيبهم- كان آخرهم في حياته ابنته الكبرى، الّتي قتلت في الباغوز، ولم يعش بعدها حياةً طويلة إذ استهدفته طائرة صليبيّة فقتل تقبله الله تعالى، ولحق به شقيقه أبو عثمان بعد أيّام قليلة بنفس الطريقة، نسأل الله الكريم أن يتقبّل هجرتهم وجهادهم في سبيله سبحانه، وأن يرزقهم الفردوس الأعلى من الجنّة.

 

 

 

 

 


 

59- العدد 175 - الخميس 21 رجب 1440 هـ

مكث في السجن بضع سنين فحفظ كتاب الله وتعلّم أحكامه وبعد أن حرّره إخوانه نفّذ ما هاجر له (أبو عمر الشامي)
لم تُضعف المحنة عزيمته أو تحوّل وجهته وثبت إلى أن لقي الله -تعالى-

تنقّل بين أربعة سجون وهو لم يُكمل العشرين من عمره، أُودع في "المحاجر السوداء" دون رفيق أو أنيس، حُكم عليه بالسجن 6 أعوام بتهمة الالتحاق بالمجاهدين، حافظ خلالها على صيامه وقيامه، وأتمّ حفظ كتاب الله تعالى، وبينما هو في سجنه الأخير إذ بأزيز الرصاص يصدح، وصوت التكبير يعلو فأدرك أن جنود الإسلام اقتحموا السجن لتحريره وإخوانه.

 

من (المحاجر السوداء) في مطار الموصل إلى (أبو غريب) ثم إلى (بوكا) ثم إلى (أبو غريب) مرة أخرى، وأخيرا استقرّ به الأمر في (بادوش).

 

أنار الله قلبه بالإيمان ووفقه لطرق الهداية وجعل له فرقانا يميز به بين الحق والباطل، ورغم صغر سنه ونشوئه في بيئة انتشرت فيها البعثية والقومية إلا أنّ الله أراد به خيرا ككثير من إخوانه، فانتفض للهجرة إلى بلاد الرافدين في عام 1425 عند نزول الصليبيين بأرض العراق وانتهاكهم لحرمات المسلمين ودينهم.

 

الامتحان

 

وبعد وصوله لإخوانه التحق بكتائب أمير الاستشهاديين أبي مصعب الزرقاوي -تقبله الله- وعلم أنهم بحاجة للانغماسيين والاستشهاديين فأقدم غير ملتفت للوراء رغم علمه أنه مُقدم على أمر عظيم، ولم يكن لديه خبرة في قيادة السيارات فطلب من إخوانه أن يعلموه القيادة رغبة بتنفيذ عملية استشهادية ليُثخن في أعداء الله، فبدأ بالتعلم رغم صعوبة التنقل والتضييق من قبل الصليبيين والمرتدين وكثر الحواجز وتقطيع المناطق والأحياء بالكتل الخرسانية.

 

وبعد تعلمه توجه إلى الموصل بانتظار ساعة التنفيذ وقبل الموعد بأيام عدة خرج برفقة أحد الإخوة للتأكد من مدى جاهزيته فاعترضهم حاجز للمرتدين وبدؤوا بتفتيش السيارة فشكّ المرتدون بأبي عمر بعدما انهالت عليهما الأسئلة فأخذوه لمركز التحقيق ثم علموا أثناء التحقيق معه أنه من بلاد الشام ولرحمة الله به لم يعلموا أنه من فرسان الاستشهاد، ثم نقلوه بعد ذلك إلى (المحاجر السوداء) في مطار الموصل، وهي زنازين انفرادية عرضها متر وطولها متر وسبعون سنتيمترا، وقد تم طلاؤها باللون الأسود الداكن، وهذا سبب تسميتها (المحاجر السوداء) وكان القائمون على حراستها من الشركات الأمنيّة الصليبية والمحققون من الصليبيين الأمريكيين، والقائمون على الترجمة من مرتدي العرب.

 

أولى مواطن البلاء

 

يبدأ المحقق الصليبي عادة تحقيقه بالصراخ على الأخ سعيا منه لتشتيت ذهنه وإخافته ويكمل المترجم المرتد الصراخ مع سيده، وكانت ساعات التحقيق مليئة بالتعذيب واليدان مقيدتان للخلف والعينان معصوبتان وكانت صرخات النساء تقطع الصمت ليلا وأنين الشيوخ يدوي في المكان، كما لم يكن مسموحا للمعتقلين بالوضوء أو بالصلاة أو الاغتسال وفوق ذلك يقف العلوج أمام بيوت الخلاء التي تفتقر للأبواب كي يهينوا الأخ ويكسروا نفسه حتى قرر الإخوة عدم تناول إلا القليل من الطعام تجنبا للإهانة.

 

وكان المحققون يحرصون على عدم السماح للأخ بالنوم ليفقدوه التركيز في الإجابة أثناء الاستجواب، كما أن الأغطية ورفع العصبة عن العينين وفك الأغلال من الأيدي يتوقف على مدى تجاوب الأخ مع المحقق قاتله الله.

 

وثبّت الله أخانا أبا عمر فنقلوه من سجن المطار إلى سجن (أبو غريب) فبقي فيه فترة وتنقل بين العديد من خيامه، وبادر منذ دخوله بالبدء بحفظ كتاب الله وطلب العلم فتحولت المحنة منحة -وهذا من توفيق الله له وعلى كثير ممن ثبتوا على هذا الطريق ولقوا الله وهم يحسنون به الظن سبحانه- وقد نقل أبو عمر خلال هذه الفترة إلى مُعتقل (بوكا) ثم أعيد مرة أخرى إلى سجن (أبو غريب).

 

محاكم الطواغيت

 

وفي أحد الأيام نادى الصليبيون عليه وعلى مجموعة من الأسرى فأخرجوهم خارج السجن وكبّلوا أرجلهم وأيديهم بالقيود وأحكموها إلى البطون فلم يكونوا يعلمون أين يراد بهم وأين هي المحطة التالية في امتحانهم، فأحضر الصليبيون شاحنة نصبوا سلما في آخرها، وأمروا السجناء بالصعود وسارت بهم لمكان لا يعلمون وجهته، وبعد مدة وقفت الشاحنة التي كانت ترافقها الهمرات والطائرات المروحية، فرفع الغطاء عن أعينهم ونُصب السلم مرة أخرى وأُمروا بالنزول وإذا بهم أمام محكمة بغداد محكمة الظلم والردة وأذناب الصليب، فدخلوا قاعة الانتظار مع حراسة مشددة من الصليبيين وأخرجوهم واحداً تلو الآخر، وأودعوهم في توقيف المحكمة، وكان كلما جاء أخ يخبر أخاه أنه حكم عليه بكذا من السنوات فكانوا يحمدون الله ويثبتون بعضهم البعض، وحكم على أخينا (أبي عمر) بست سنوات، فحمد الله تعالى، وكان كثير من المجاهدين يكفّر طواغيت المحكمة علانية ويخبرهم بردتهم في وسط قاعة المحكمة، فيقوم الحراس بضربهم ضربا شديدا ولا يوقفهم ذلك عن إذلال القضاة وإعلان حكم الله بهم.

 

صبر وتعلم واحتساب وفرج

 

فأعيد الإخوة لمحبسهم ومعهم أحكامهم الجائرة فبدأ الإخوة بتصبير بعضهم البعض وأن الفرج من الله وحده قريب، وأكمل أبو عمر في حفظه كتاب الله الكريم فتنقل بين السجون ترافقه نسخة المصحف التي كان يحفظ منها، حتى قدّر الله له النقل إلى سجن (بادوش) في الموصل، وهناك التقى بإخوانه المهاجرين والأنصار حيث أودعوه في قسم المهاجرين، وبدأ يتعلم من المجاهدين الذين التقاهم هناك علوم العقيدة وأحكام التجويد فزاده الله نورا فوق النور الذي كان يملأ وجهه وقلبه فحافظ على صيامه وقيامه وكان من أهل القرآن ولم يهمل عبادة الإعداد للجهاد، وأثناء ذلك كان الشيخ أبو مصعب الزرقاوي -تقبله الله- يسعى لإخراج أسارى المسلمين من سجون الكفرة الصليبيين وأذنابهم المرتدين بأي وسيلة فجهّز سرية من الاستشهادين والانغماسيين لاقتحام سجن (بادوش) وتحرير المجاهدين بعد التنسيق مع بعض المجاهدين داخل السجن، فاقترب الفرج الذي كان ينتظره الصابرون المحتسبون إلا أن الشهادة كانت أسبق للشيخ -تقبله الله- ومع عظيم المصاب الذي ابتلي المجاهدون به، لم يلينوا أو يهنوا فأكملوا المسير من بعده بقيادة الشيخ أبي حمزة المهاجر تقبله الله.

 

وفي إحدى ليالي شهر صفر من عام 1428هـ سمع (أبو عمر) زغردة الرصاص تصدح في أرجاء السجن، وإذ بالأسود المُلثّمين يقتحمون السجن ويفتحون الأبواب ويكسرون الأصفاد، فأمروا الكل بالخروج، وخلال دقائق منّ الله تعالى على عباده بالفرج.

 

حقق هدفه الذي هاجر له

 

وبعد خروجه -تقبله الله- تواصل مع إخوانه لاستكمال مشروعه فأعلمهم نيته في تنفيذ عملية استشهادية، وكان له ما أراد، حيث يسرها الله له خلال مدة يسيرة بعد إنعامه عليه بإكمال حفظ القرآن الكريم، وتعبده له تعالى بالصبر على البلاء، فكانت رفعة اختارها الله له -كما نحسبه-، وهذا حال كثير ممن منّ الله عليهم بحسن الخاتمة، ما ضرهم أن لم يعرف الناس قصصهم وأحوالهم إذا كان رب الناس يعلمها.

 

 

 

 

 


 

60- العدد 176 - الخميس 28 رجب 1440 هـ

يُعلّمون الناس نواقض الإسلام ثم لا يُكفّرون من تلبّس بها؟!
عبد المنان المهاجر سؤال دفعه للبحث عن الحقيقة... فهاجر وصبر وقاتل وقتل -نحسبه والله حسيبه-

(كيف يُعلّمون الناس نواقض الإسلام ثم لا يكفّرون من تلبّس بها؟! بل كيف يدرّسون الكفر بالطاغوت ثم يجعلونه وليّ أمر تجب طاعته؟!) سؤالان جعلاه في مواجهة مباشرة مع علماء الضلال وشيوخ الإرجاء، لكن أحدا منهم لم يُجب، فبحث ودرس وطلب العلم وأمعن، فأيقن أنهم ليسوا على شيء.

 

فجدّ في المسير وألزم نفسه قول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28)، إلى أن ارتقى مراتب الشرف وبلغ غاية المقصود، وقاتل وقتل في سبيل الله.

 

إنه الأخ المجاهد عبد المنان المهاجر (أحمد خالد) -تقبله الله- كان يعلم أن الدعوة إلى الله تعالى لا تتم إلا بمتلازمتين -اللسان والسنان- وأن ذلك طريق الرسل وسبيل الصالحين ودأب المتقين، والصادق من الدعاة هو من يدعو إلى سبيل الله بأفعاله قبل أقواله، ملتزما الحكمة في دعوته، ممتثلا أمره تعالى {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125).

 

أتبع العلم بالعمل

 

فلقد كان -تقبله الله- داعية بقوله وفعله، لم يكتفِ بحفظ القرآن الكريم كاملا وبإجازته برواية حفص عن عاصم رحمهما الله، وطلب العلم واكتفى بالقعود كما هو حال الكثير من طلبة العلم -والله المستعان-، بل أتبع العلم بالعمل فلم يشغله شاغل ولم يمنعه مانع، فألقى ما في كفّه من متاع وأبعد ما على قلبه من وَهَن، ولم يصدّه شيء عن طاعة ربه القائل: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41)، ولم يخدعه تلبيس الملبسين من علماء السوء المرجئة الذين كان يدرس عندهم مُحسنا الظن بهم، فما لبثت الفتن أن بيّنت حقائقهم وكشفت سوءاتِهم فهم ليسوا سوى جند للطواغيت، ولا فرق بينهم وبين العسكر إلا في الزي الذي يرتدونه، فأولئك يقاتلون بالسنان وهم يقاتلون باللسان.

 

 كان تقبله الله يتحرق كمدا وحزناً عندما يرى الناس معرضين عن شرع الله لاهية قلوبهم عنه، منغمسين في ملذات الدنيا الفانية وبهرجتها الزائفة.

 

بين الدعوة والتعليم والتحريض

 

وُلد هذا البطل في منطقة (المنصورة) في مدينة عدن، وكان تقبله الله متفوقا في دراسته، شديد الغيرة على دينه، طلب العلم الشرعي فرزقه الله منه بحظ وافر، وعرف ما عليه علماء السوء من تناقضات، الأمر الذي دفعه للبحث عن أهل الدين العاملين به، فتعرف إلى منهج الجهاد، ورأى فيه الحق الواضح، فلزمه ولم يلتفت إلى علماء الضلال وشيوخ الإرجاء الذين حاولوا ثنيه.

 

فلما أُعلنت الخلافة وتمددت لليمن، سارع في النفير والهجرة في سبيل الله مؤثرا ما عند الله، تاركا زوجته التي لم يمض على زواجه بها سوى أربعة أشهر، عَمِل مع إخوانه في المجال الطبي فكان مسعفا موَفّقا وجليسا مؤنِسا، اختير ليكون أحد أعضاء اللجنة الدعوية في الولاية، فاستعمل ما أعطاه الله من العلم في خدمة إخوانه وتعليمهم وتصبيرهم والتنفيس عن كربهم، وقد شارك في نشر الدعوة بشكل فعّال ولم يغفل عن طلب العلم، بل لم يكن يفارق حاسوبه الخاص في أي منزل ينزله، مقسّما وقته بين طلب العلم وزيارة نقاط الرباط، متفقدا إخوانه شادّا عزيمتهم، يعظهم وبالله يذكرهم، متحمّلا في ذلك مشاقّ الصعود والنزول من جبل إلى آخر ليروّح عن إخوته بمشاهدة إصدارات دولته المغيظة للكفرة والمرتدين في كل مكان.

 

وعُرف عنه شدة تمسكه بالسنة وإيثاره ما يرضي ربه، فكان غليظا على الكافرين والمرتدين، رحيما رفيقا بإخوانه الموحدين، متبعا هدي نبيه (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الأخيار (رضوان الله عليهم أجمعين) الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29).

 

لم يصدّه أي شيء عن جهاده في سبيل ربه واختار ما عنده، ولم يُفتن بأهله كما هو الحاصل لكثير من المتخلفين والمنتكسين الذين تركوا الجهاد بسبب أبنائهم وزوجاتهم -والله المستعان-.

 

لم تقنعه السفاسف ولم يرض بالدون نعم لقد صبر مع الموحدين المجاهدين المبتغين لمرضاة الله المقاتلين لأعدائه رغم صعوبة طريقهم ووعورته وقلة السالكين وضعف حال اليد من عدة وعتاد، ولم تُغرِه زينةُ الحياة الدنيا ولم يطعِ الغافلين الراكضين خلف ملذّاتها الفانية، فإن أصحاب الهمم العالية لا يعطون الدنية، ولا يقنعون بالسفاسف، ولا يرضون إلا بمعالي الأمور.

 

وكأن لسان حاله يقول:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

 

فإن الموت نهاية الجميع، لكن شتان بين من يموت وهو يحمل همّ الإسلام مجاهدا في سبيل ربه مقبلا غير مدبر، وبين من يموت وهو منغمس في شهوات الدنيا وملذّاتها مرتكب لكبيرة القعود.

 

ولقد كان تقبله الله يُلّح على أمرائه طالبا منهم تنفيذ عملية استشهادية ويُكثر الطلب ولكن لم يأته الإذن بها، وقد تأثر كثيرا بتنفيذ أخيه الإعلامي (أبو علي العدني) -تقبله الله- بحزامه الناسف على جند الطاغوت في عدن، فكان يقول: "سبقني أبو علي" وكان يتمنى اللحاق به في أقرب وقت.

 

كان تقبله الله حريصا على الشهادة ساعيا لها، حتى حان الوقت الذي تمناه والساعة التي سعى لها، فعند حصول الغدر من (تنظيم قاعدة اليمن) الذين لم يدّخروا وُسعا في تضليل الناس عن دينهم ولم يألوا جهداً في جمع كيدهم لمحاربة الموحدين والتحريض عليهم ونشر الأكاذيب عنهم، مستغلين بُعد الناس عن الحقيقة، غير أن الله سبحانه وتعالى بمنّه وفضله على المجاهدين الصادقين أوقع التنظيم بشر مكرهم، فبدؤوا بقتال المجاهدين صراحة، فأخزاهم الله تعالى، وعرف القاصي والداني كذبهم وسوء بضاعتهم ووقوعهم في نصرة المرتدين ومحاربة الموحدين والغدر بهم، وكان أخونا (عبد المنان المهاجر) -تقبله الله- ممن هبّ دفاعا عن عقيدته ودينه ناصرا لإخوانه، رادًا صيال عدوه ليكون على موعد مع ساعة لطالما تمنّاها واستبطأ الليالي والأيام في انتظارها، فنال الشهادة -نحسبه والله حسيبه-.

 

 

 

 

 


 

61- العدد 178 - الخميس 13 شعبان 1440 هـ

حاول الهرب من محبسه 3 مرات ولم ييأس وبعد 12 عاماً خرج كالأسد يترصد فريسته
أبو دجانة الحلبي "تقبله الله"
هاجر إلى الفلوجة وقاتل الصليبيين وفضّل الحور عن نساء الدنيا

لم يعرف اليأس سبيلا إلى قلبه، ولا القنوط طريقا إلى همته، ولا أثّر الفتور في عزيمته، ولم يهتدِ الخوف إليه، ما جعله شعلة حماس يشارك إخوانه الغزوة إثر الغزوة، كان يعلم أن بلوغ العراق والالتحاق بإخوانه المجاهدين غاية دونها قُطّاع الطرق والمثبطون والخونة والصحوات والعملاء، لكنه لم يلتفت أو يتردد إلى أن بلغ ما أراد ووصل إلى (الفلوجة) أرض الجهاد والمجاهدين وانضم إلى إخوانه في قتال الصليبيين.

 

وفي أحد الأيام أسره المرتدون، فحاول الهرب مرة واثنتين وثلاثا لم يُوفق في أي منها، فلم يهن أو يحزن حيث وجد ما يشغله عن ذلك بحفظ كتاب الله تعالى وتلقي علومه.

 

تنقّل بين سجن (أبو غريب) و (بوكا) و (كوبر) ثم استقر به الحال في أصعبها وهو سجن الـ (33) في كردستان، أمضى في هذه المعتقلات 12 سنة، وخرج بعدها كالأسد الذي يترصّد بفارغ الصبر فريسته، التقى أباه وأمه وعلم أن عددا من أفراد أسرته قتلوا خلال جهادهم مع إخوانهم في الدولة الإسلامية، فحمد الله على ذلك.

 

انضم فور خروجه لإخوانه جنود الخلافة وخاض معهم معارك عدة إلى أن جاء الأمر بالنفير إلى الأنبار فانبرى مسرعا يكاد يطير فرحا وعلم أن الفرصة ستواتيه لتحقيق رغبته وهو ما كان له.

 

إنه الأخ الشهيد -نحسبه والله حسيبه- (أبو دجانة الحلبي) من ريف مدينة حلب، شرح الله صدره لحبّ القرآن وسنة نبيه، ومع دخول مدينة الفلوجة معركتها الثانية مع الصليبيين والمرتدين قرر أخونا المضي إلى بلاد الرافدين لمقارعة أعداء الله والدين، فيسّر الله له الوصول لبلاد الرافدين، رغم المخاطر التي واجهته منذ انطلاقه من بلدته حتى وصوله.

 

مضى إلى هدفه دون تردد

 

مضى إلى هدفه دون تردد، وكغيره ممن نفر من إخوانه تنقّل أبو دجانة بين ساحات الجهاد في العراق، وعُرف بأنه مقدام وقاه الله خصال الجبن والخوف، وفي أحد الأيام قُدّر له الأسر، فاقتيد إلى مراكز التحقيق ومرّ بـ (المحاجر السود) وصولا لسجن (أبي غريب) ومع بداية دخوله في -الاستقبال- أُمر بخلع ملابسه فرفض فقوبل بالأذى من قبل الجنود المتواجدين هناك فكانت بداية دخول قاسية له تنمّ عن شخصية قوية غير قابلة للكسر.

 

ثم نُقل بعد أيام للمخيم (الثالث) فوجد فيه تسلية من محنته، حيث وجد فيه العديد من النّزاع من القبائل كلٌ قصد العراق للذّود عن حياض الإسلام والمسلمين الغارقين في بحر الخوف من الأسطورة الصليبية، وبفعل التخذيل الذي تبنى نشره علماء السوء من أولياء الطواغيت المبدّلين للدين تبعا لهواهم، أو الجبناء القاعدين الذين يودون لو قعد المسلمون كلهم مثلهم فيكونون في المذمة سواء، ولا يكن للمجاهدين فضل عليهم.

 

هروب لم يكتمل

 

ومنذ دخوله الأسر عقد (أبو دجانة) العزم على النجاة منه، وعرف لاحقا بذلك واشتهر لمحاولته الهرب أكثر من مرة، ومن تلك المحاولات وأثناء تواجده في سجن (أبي غريب) هبّت عاصفة رملية فغطّت السماء فحاول هو ومن معه وضع "البطانيات" على الأسلاك الشائكة كي يستطيعوا العبور رغم ارتفاعها، مستغلين عنصر المفاجأة وأثناء ذلك استنفر الصليبيون وتجمعوا بكثرة حول الخيم حاملين البنادق وهددوا كل من كان يتسلق الأسلاك الشائكة أو يقترب منها أنهم سيطلقون النار عليه، وأمروا كل الأسرى بالدخول إلى الخيم وبعد انتهاء العاصفة طلبوا من المسؤول عن الخيمة التي كان بها بإخراج كل من حاول الهرب وإلا فالعقوبة عامة فلم ينصع لأمرهم، فعوقب كل من كان في الخيمة وكانت أنفس الإخوة راضية بالعقوبة الجماعية على أن يعاقب من حاول الهرب وحده.

 

وبعد ذلك قرر الكفار بناء مخيم ثانٍ أكثر تشديدا ونقلوهم إليه وكانت خيمة أبي دجانة قريبة جدا من الجدار الرئيس للسجن، وبعد وصولهم مباشرة قرروا الهرب بالرغم من أن برج الحراسة كان لا يبعد عنهم إلا ستة أمتار وبينهم وبينه طريق تمر به مدرعات الهمر وسيارات الخدمات، فتشاور الإخوة فيما بينهم على الطريقة المثلى للهرب إلى أن اعتمدوا فكرة حفر نفق رغم صعوبة التنفيذ سواء في عدم توفر أدوات الحفر أو في كيفية التخلص من التراب فكان (أبو دجانة) فرحا بذلك واختاروا مكان تموضع طاولة جهاز التكييف لأنها متحركة فعند الحفر يرفعونها عن مكانها وبعده يرجعونها كي لا يلاحظه الحراس.

 

حفر النفق

 

وبدأوا مستعينين بالله، فوزّعت المهام من حفر وتفتيت وإخراج للتراب ومشاغلة للحرس فكانوا يخرجون التراب وينثرونه على الطريق الصغير الذي بين الخيمة والأسلاك الشائكة، وكان (أبو دجانة) ممن يحفر ويحمل التراب ويسهر في الليل لإكمال الحفر، ومع عمق الحفرة بدأوا بالبحث عن حل لنقص الهواء فوقع اختيارهم على قطعة من قماش كانت تلف كامل الخيمة من الداخل، فقصوها كاملة وجمعوها بالمخيط المصنوع يدويا من الأسلاك وجعلوها على شكل أنبوب ووضعوا بدايتها في فم جهاز (تبريد الهواء) والأخرى داخل النفق.

 

وبعد شهر ونصف تقريبا وقبل أيام قلائل من انتهائهم من الحفر لاحظوا أن هناك من يراقبهم من الخيمة المقابلة لهم، ثم نادى الصليبيون يوما السجناء للتفقد على غير الوقت المحدد فحار الإخوة ماذا يفعلون، وما هي إلا لحظات حتى فتح أحد ضباط الصليب باب الخيمة عليهم ومعه حرّاس فدخل الخيمة ثم خرج مسرعا وهو يصرخ عليهم بالخروج إلى الساحة وبدأت وفود الصليب تدخل الخيمة وتخرج يلف وجههم الدهشة.

 

أُخذ الإخوة بعد ضبطهم كعقوبة لهم إلى الزنازين المنفردة ووزعوا بعد العقوبة على كل الخيم، واقتيد عدد منهم إلى معتقل بوكا (المحاجر، الكم السادس) وكان منهم (أبو دجانة) وبعد انقضاء العقوبة وفي أحد الأيام حاول أبو دجانة الهروب في وضح النهار بعد أن نسي أحد الحراس إغلاق الباب فخرج أبو دجانة أمام الجميع ثم قبضوا عليه وعاقبوه.

 

لقاء الأهل والفراق

 

وكان أبو دجانة دائم الصراع مع المرتدين داخل محابسه سواء مع السجانين أو المسجونين فكان يدافع عن إخوانه المجاهدين إذا تعرضوا لاعتداء ما، وخلال فترة سجنه التي بلغت 12 عاما حفظ كتاب الله العزيز وتعلم أحكامه، وبعد انقضاء فترة الأسر أُفرج عنه عام 1437 للهجرة، وبعد خروجه التقى أباه وأمه الذين طالما اشتاق إليهما، وبعد عدة أيام أخبر والديه أنه عازم على تنفيذ عملية استشهادية فقالوا له تريث وتزوج لعل الله يرزقك بالولد فرفض ثم التحق بمعسكر الانغماسيين التابع لـ (لواء الصديق) وبعد الانتهاء من المعسكر شارك بغزوات عدة ثم استنفر ليشارك في معركة الأنبار، وكان المجاهدون بحاجة لأخ استشهادي فانبرى بطلنا (أبو دجانة) -تقبله الله- ولبى النداء وآثر المضي للقاء الله تعالى، وأثخن رحمه الله بالروافض المرتدين الخبثاء -تقبله الله تعالى- هو وإخوان له كثيرون لا نعلم قصصهم ممن أفضوا إلى الله غرباء، ولا يضرّهم أن لا يعرفهم أحد من البشر، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

 

 

 

 


 

62- العدد 186 - الخميس 10 شوال 1440 هـ

قاتل الأمريكيين والروس والروافض والمرتدين ولم يثنهِ السجن عن مواصلة جهاده.
(كامل محمود علوان) حياة مليئة بالبذل والعطاء

لم تقعده سنوات عمره الطويلة عن مقارعة الصليبيين، كما لم تثنه سنوات سجنه المريرة عن قتال المرتدين، فالخمسون وقد تجاوزها زادته حكمة بأهمية القيام بواجبه واستئناف جهاده مع إخوانه، وسنوات اعتقاله الإحدى عشرة زادته تبصرا بحقائق الأمور، فأصر على الثأر، وعزم على مواصلة الطريق.

 

قاتل الصليبيين والجيش الرافضي وميليشياته والصحوات في العراق، ثم انتقل لقتال الـ PKK المرتدين والنصيرية والروس والدروز في الشام، طاف مع إخوانه على معظم الجبهات، وشاركهم في الذب عن أعراض المسلمين في أرض الخلافة.

 

كان متقنا لعلوم الشريعة، حافظا لكتاب الله تعالى على القراءات العشر، فانتهج في بداية طريقه سبيل الدعوة إلى الله تعالى لتحكيم شرعه، وشارك في تعليم الشباب المسلم منهج السلف الصالح، وتحفيظهم كتاب الله عز وجل، جهر بنشر التوحيد وأعلن حكم الطواغيت، فنالت المطاردات الأمنيّة منه ما نالت، ولكنها لم تحل بينه وبين استكمال ما عزم.

 

اشتغل في بداية حياته المهنية بالخياطة في مدينة سامراء، وكان كثير التردد على مسجد الإمام أحمد ابن حنبل (رضوان الله عليه)، في حي الجبيرية حيث بدأ نشاطه الدعوي فيه، وركّز على كشف خطر البعث المرتد سعيا منه لإنقاذ الناس من الوقوع في الردة بموالاته ومظاهرته والوقوف معه أو الانضواء في صفوفه.

 

إنه الأخ الشيخ كامل محمود علوان (أبو عبد الله الأسودي) -تقبله الله- من مدينة سامراء، ساهم في تربية جيل من الشباب المسلم على التوحيد أثناء سيطرة النظام البعثي على العراق، فلوحق وضُيّق عليه، إلى أن نزل الصليبيون أرضه، فما كان منه إلا أن انبرى مع إخوانه لقتالهم وكسر حملتهم وصدّها عن بلاد المسلمين.

 

ومع نزول قوات الصليب أرض الرافدين أخرج ما في جعبته من علم وجهد وخطط، وبدأ بجمع تلامذته وإخوانه لقتال الصليبيين، وإعدادهم شرعيا وعسكريا وماديا بما استطاع، حيث عيّنه إخوانه ذلك الحين أميرا لسامراء وقائدا لها.

 

وخاض معهم العديد من المعارك التي أذاقتهم الموت ألوانا، فذاع صيته وانتشر خبره، حتى علم به الصليبيون فباتوا يخشونه، وبعد عام من العمل الدؤوب المتواصل وتحديدا سنة 1425هـ أسر على أيدي الصليبيين، وأطلق عليه الصليبيون لقب (أسامة 2) يقصدون بذلك الشيخ (أسامة ابن لادن) -تقبله الله تعالى ورحمه- حيث كان الشيخ كامل شبيها بالشيخ (أبي عبد الله أسامة) شكلا وسمتا وخلقا -تقبلهما الله-.

 

السجن والتفرغ للعلم

 

فكانت فترة أسره في (بوكا) فرصة له للتزود بالمزيد من العلم والتفرغ لطلبه، فضاعف جهوده وكرّس وقته للقراءة والتدارس، فحوّل بذلك السجن إلى مدرسة أمدته بعلوم ساعدته على نشر دعوته والتمسك بها على بصيرة، وظل على هذه الحال فترة بقاء الصليبيين على أرض العراق.

 

وقبل أن يخرج الصليبيون أذلة صاغرين من العراق، سلّموه للروافض المشركين، وأعلموهم بأنه من أخطر (الإرهابيين) في العراق، وأوصوهم أن يُبقوه في محبسه مدى الحياة.

 

فبدأت مرحلة أخرى من مراحل اعتقاله، حيث أودعه الرافضة في أحد سجون مدينة تكريت، وبدأت من جديد فصول التحقيق معه، والتي استمرت لفترة طويلة وبشكل شبه يومي، فعانى خلالها -تقبله الله- ما الله به أعلم، وكان شعاره فيها قول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فصبر واحتسب.

 

وفي عام 1433هـ نقله الرافضة إلى سجون بغداد للتحقيق معه من قبل قوات (سوات) الرافضية، وكانوا يُعرّضونه لأشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، والضغط عليه ليعترف على إخوانه المجاهدين والكشف عن أعمالهم التي كان مشاركا بها، فلم ينالوا -بفضل الله وتثبيته- منه شيئا، ثم نقلوه إلى سجن (تسفيرات تكريت) فناله كذلك التعذيب والضيق والمشقة وهو صابر ينتظر ويتشوق لقاء الله تعالى، ولا يزيد عن قول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، ليأتي الفرج من عند الله تعالى على يد أسود صلاح الدين الذين اقتحموا مدينة تكريت وحرروا أكثر من 400 أسير من سجن التسفيرات في الغزوة الشهيرة.

 

عود على بدء

 

خرج الشيخ كامل من السجن بعد 11 عاما دون أن يعطي الدنية في دينه أو يخضع لمطالب الرافضة المشركين، أو ينالوا من عزيمته ورباطة جأشه، وكان أول شيء فعله هو تواصله مع إخوانه في الدولة الإسلامية، فكلّفه إخوانه بخدمة المجاهدين في القاطع الشرقي في صلاح الدين، فشارك -تقبله الله- في معارك الضلوعية والجلام والدور والبوعجيل والعلم، وشارك في فتح ناحية المعتصم وأطراف مدينة سامراء، فكان خير أمير وناصح ومشفق، ثم انتقل إلى غرب صلاح الدين ليشارك إخوانه جهادهم، فعُين أمير الإسناد في جزيرة سامراء وتكريت والصينية حيث أذاق المرتدين فيها الأهوال.

 

مشاركاته في معارك الشام

 

بعد ذلك انتقل -رحمه الله تعالى- إلى الشام وكانت الهجمة الشديدة على ريف الرقة من جهة الغرب قد بدأت، فنزل في الطبقة بمنطقة (أبو هريرة) وشارك في كسر الحصار الذي حاول الصليبيون والـ PKK المرتدون فرضه عليها، فنكّل أشد التنكيل بهم مع إخوانه -بفضل الله تعالى- باستهدافهم بقذائف الهاون والمدفعية، إضافة إلى المشاركة في وضع الخطط العسكرية، وشارك كذلك في معارك (السويدية صغيرة وكبيرة، وجعبر، والمحمودلي) ثم شارك في معارك (الخير والشولا وكباجب وحقل التيم) ولم يكتف -تقبله الله- في سفك دم الأمريكيين والمرتدين من روافض وبعثيين وصحوات، ونصيريين وروس وملاحدة، فانتقل إلى قتال (الدروز) المرتدين في السويداء ودمشق، فقاتل مع إخوانه في تلول الصفا في ريف مدينة السويداء.

 

وظل على حاله مجاهدا مرابطا إلى أن قُتل -تقبله الله- بقصف طائرة في منطقة ببادية دمشق، فرحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.

 

 

 

 

 


 

63- العدد 189 - الخميس 1 ذو القعدة 1440 هـ

الشيخ المحدّث عبد الحسيب اللوجري -تقبله الله-
تفقّهَ قبل أن يسود وملك قلوب إخوانه بحسن أخلاقه

إن علماء الإسلام كالشمس للدنيا، من غيرها تظلم الأرض، وكالنور للعين، من دونه تعمى الأبصار، وكالعافية للأبدان، تفنى من دونها بالأدواء والأسقام، فهم الذين يبينون للناس مراد الله تعالى من وحيه ليطيعوه على بصيرة، وهم الذين يدلونهم على سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ليتّبعوه على هدى، وهم الذين يذودون عن حياض الدين كل مبتدع يُدخل في الدين ما ليس منه، وكل جاهل يُفسد من حيث أراد الإصلاح.

 

وما من خسارة للأمة أكبر من خسارتها لعلمائها، فبغيابهم عن ميادين جهادها يتخذ الناس رؤوساً جُهالاً يضلون الناس وهم يحسبون أنهم مهتدون، وما من نعمة ينعم الله بها على المجاهدين خير من العلماء العاملين الذين يعلمونهم إن جهلوا، ويصوّبونهم إن أخطأوا، ليحققوا لعملهم شرط الصحة والاتباع، بعد شرط التوحيد والإخلاص.

 

وقد منّ الله تعالى على الدولة الإسلامية في مختلف ولاياتها بطائفة من أهل العلم وطلابه، الذين نفع الله بهم أهل الإسلام، فكان منهم المُفتون والقضاة، وأهل الحسبة والدعاة، وقادة الحرب الكماة، وأمراء الدواوين والولاة، وكان منهم والي خراسان الأسبق، الشيخ المجاهد والعالم المحدّث "أبو عمير" عبد الحسيب اللوجري -تقبله الله تعالى-.

 

تولى أمر الولاية في فترة من أصعب الفترات، حين ظن الصليبيون أنهم قصموا ظهرها بقتل واليها الأول الشيخ "الحافظ سعيد خان" تقبله الله، فأحسن رعاية جندها وأهلها، ونشر التوحيد والمعروف في أنحائها، وحفظ مع إخوانه ثغورها، وحمى جماعة المسلمين أن يقدر على هدمها منافق، أو يتمكن من شقّها مارق، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، فجزاه الله تعالى عن أمة الإسلام خير الجزاء.

 

من طلب العلم بالسنة إلى الدعوة إليها

 

ولد الشيخ -واسمه- (حياة الله بن محمد شاه خان) مهاجراً غريباً في باكستان، بمنطقة (كرم أجنسي)، بعد أن شرّدهم الملاحدة الروس حين غزوا أفغانستان، وهناك صبا وشب، فدرس في مدارسها العامة وأتقن اللغات العربية والإنكليزية والفارسية، بالإضافة إلى معرفته بلغتي البشتو والأوردو.

 

ثم التحق -تقبله الله- بمعهد شرعي فيها لمدة 8 سنين أخذ فيها مفاتيح العلم ومبادئه العامة وفنونه المختلفة، قبل أن يقرر التخصص في علم الحديث، الذي أخذه عن بعض علمائه وأهله في مدينة (بيشاور) حيث استقر هناك لهذا الغرض 4 سنوات، درس خلالها الكتب الستة وغيرها من كتب الحديث والأثر.

 

بعد أن أنهى الشيخ مرحلة الطلب تلك، قرر أن يدخل إلى أفغانستان ليدعو إلى ما تعلمه في ساحة هي أحوج ما تكون للعلم في ظل فشو الشرك والتصوف فيها، وغلبة الجهل بالسنة على أهلها، فانتقل -رحمه الله- من باكستان مرباه ومرعاه، إلى مسقط رأسه في قرية (محمد أكبر خيل) التي تتبع لمديرية (أذرة) في (لوجر) حيث استقر فيها، لينذر عشيرته الأقربين، ويدعوهم للتمسك بالتوحيد، ويعلمهم القرآن والسنة، ويحرضهم على جهاد الصليبيين والمرتدين، ويبقى على هذا الحال عاماً كاملاً، دون أن يشغله ذلك كله عن القيام بالجهاد بنفسه، حيث كان يتعاون مع بعض المجاهدين في المنطقة ويعينهم بما يقدر عليه، وقد حاول المرتدون اعتقاله بعد كشفهم لحاله، فخرج من قريته خائفاً يترقب، لينتصر بالمجاهدين وينصرهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

 

من ضيق الأحزاب إلى سعة الخلافة

 

لما أيقن الشيخ عبد الحسيب أن جنود الطاغوت يأتمرون به ليُثبتوه أو يقتلوه أو يرجعوه عن دينه ويفتنوه، كان موقناً كذلك أن أرض الله تعالى واسعة، وأن من يهاجر في سبيل الله يجد فيها مراغماً كثيراً وسعة، فألقت به عصا الترحال في (كنر) والتحق بمجموعة من المجاهدين تقاتل تحت راية "طالبان" إذ كانوا -آنذاك- يحسنون الظن بالحركة وقادتها، فتولى تدريس علوم الشريعة في تلك البلاد مدة عامين، حتى ولّي إمارة "الدورات الشرعية" في (كنر) من قبل أمراء "طالبان" هناك.

 

وفي هذه الأثناء كان الشيخ المجاهد (حافظ سعيد خان) -تقبله الله- وبعض إخوانه يؤسسون لإقامة دين الله في المناطق الحدودية بعد أن أيسوا من قيام "طالبان" بذلك في المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم، وقد بان لهم انحرافات قادتها وتبعيتهم لحكومة باكستان المرتدة وارتباطاتهم بمخابراتها المنفذة لمخططات الصليبيين، وقد مكّنهم الله تعالى من تحكيم الشريعة في بعض الأنحاء من (أوركزاي) داخل باكستان، وبعض ما جاورها من مناطق في ننجرهار بأفغانستان، وهم يتشوقون لأن تكون ديار الإسلام التي أقاموها مهدا لإعادة الخلافة الإسلامية، أو ولاية من ولايات دولتها إن أذن الله تعالى بإقامتها في أي بقعة أخرى من الأرض.

 

فلما فتح الله على عباده الموحدين في العراق والشام، ومكّن لهم في الأرض، شكروه سبحانه على ما أنعم به عليهم، بأن أقاموا الدين، ولموا شمل جماعة المسلمين، وبايعوا الشيخ المجاهد أبا بكر البغدادي حفظه الله تعالى أميراً للمؤمنين، وكان الشيخ حافظ وإخوانه من أوائل المبايعين، فولاه الخليفة أمر خراسان وما جاورها من الأصقاع والبلدان، ليدعو الناس هناك إلى الاعتصام بالجماعة ونبذ الفرق والأحزاب، فيستجيب له المسلمون زرافات ووحدانا، وكان منهم الشيخ عبد الحسيب وعدد من طلبة العلم والمجاهدين الذين ظل يدعوهم ويتواصل معهم حتى بعد هجرته.

 

نائبا للشيخ الحافظ

 

لم تقتصر مهارات الشيخ عبد الحسيب على تدريس العلوم الشرعية التي انهمك فيها معلماً لجنود الخلافة فدرس على يديه المئات من المجاهدين، بل صار محطّ أنظار الإخوة بما برز فيه من مهارات إدارية وقيادية وحسن خلق وطيب معشر وزهد في الدنيا ومتاعها، وانهماك في حوائج المسلمين حتى ينشغل بها عن قضاء حوائجه، وإقدام في الحرب وثبات لدى الملمات قلّ له مثيل.

 

هذه الصفات وغيرها بوّأته لأن يُولّى -بالإضافة لعمله في التعليم- مسؤولية مركز الفيء والغنائم في الولاية، ويُختار عضواً في مجلس شوراها، ثم بجعله الوالي نائبا له في إدارة شؤونها في (14 محرم 1437 هـ)، فما زاده كل ذلك إلا تواضعا لإخوانه وبذلا في سبيل دينه، وهذا ما رفع قدره بينهم، ونشر محبته عند كل من التقاه، وكان في ذلك سببا -بإذن الله- لبيعة مجموعات من المجاهدين في مناطق أخرى من أفغانستان جاؤوا ليستقصوا عن أحوال جنود الخلافة ويتعرفوا على حقيقة دعوتهم ويسمعوا من أمرائهم وطلبة العلم فيهم، كما حدث مع إخوة من (كنر) ألحقوا المناطق التي يسيطرون عليها بديار الإسلام بعدما جلسوا إليه وسمعوا منه.

 

ولي أمر المسلمين في خراسان

 

قتل الشيخ الوالي (حافظ سعيد خان) -تقبله الله- بقصف صليبي في (21 شوال 1437 هـ)، فولى أمير المؤمنين الشيخ عبد الحسيب أمر ولاية خراسان بناء على توصية مجلس شوراها، فكان نعم الراعي لنعم الرعية، وسد مكان الشيخ السابق الذي ظن إخوانه أن لا أحد يسد مكانه في الإمارة ولا في قلوبهم.

 

كان تقبله الله تعالى -وهو يدرك تربص الصليبيين والمرتدين به- يكاد لا ينقطع عن زيارة المجاهدين في ثغورهم ويشاركهم في غزواتهم، وإن دهمهم خطب أو ألمّ بهم أمر وجدوه في مقدمة الصفوف يثبت جمعهم ويسد نقصهم، حتى تعرض في حاله ذاك إلى كثير من المخاطر التي أنجاه الله تعالى منها.

 

وكان من أخطرها، حين تقدم حشد كبير من مرتدي الجيش الأفغاني والصليبيين إلى مواقع للمجاهدين في مديرية "أشين" بننجرهار، وتمكنوا من تطويق بعض النقاط الأمامية التي كان والي خراسان نفسه مرابطاً فيها، وهم لا يعلمون، واستمر الاشتباك عدة ساعات، حتى قتل كثير من الإخوة في النقطة التي يقاتل فيها الشيخ، فظل صامداً فيها تقبله الله، يقاتل بأسلحة متنوعة ثابتا في نقطة رباطه، مدافعاً عن إخوانه المصابين معه، حتى رد الله عادية المرتدين وتمكن المجاهدون من كسر هجومهم.

 

كما سرّع -رحمه الله- من تأسيس الدواوين في ولاية خراسان، والذي تأخر قليلا بسبب انشغال سلفه -تقبله الله- في تجميع صف المجاهدين وقتال أعداء الدين، وفي الوقت نفسه لم ينشغل عن التنكيل بأعداء الله، فأمر بتنفيذ الهجمات الكبيرة ضد المرتدين في كابل، أشهرها العملية الانغماسية على المشفى العسكري، والتي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من المرتدين.

 

وفتح الله على يديه مناطق واسعة من مديرية (بجير) في ننجرهار، وكان همه الأول في كل منطقة يفتحها الله لجنود الخلافة أن ينشر التوحيد ويعلم الناس أمر دينهم، فحين أسر المجاهدون 70 من مقاتلي القبائل الذين وقفوا في وجه الدولة الإسلامية في (بجير) متأثرين بدعاية السوء التي يبثها مرتدو "طالبان" أمر بالإحسان إليهم واستتابتهم وأقام لهم دورات شرعية درّسهم فيها بنفسه التوحيد والولاء والبراء، ثم أطلق سراحهم ليدخل الإسلام من جديد إلى نفوسهم وقلوبهم بعد أن دخل أرضهم وديارهم، وكذلك امتدت الولاية إلى مناطق في (كنر) و (جوزجان) بانضمام مجاهديها إلى جماعة المسلمين، وتأسيس مراكز من دواوين الولاية فيها.

 

وكان -وهو أمير المجاهدين- لا يجد في نفسه حرجاً أن يخدمهم بنفسه حين يزورهم في نقاط رباطهم وأماكن إقامتهم وعملهم، وكان -وهو المتصرف في بيت مال المسلمين- ليس في بيته قوت يومه أحيانا، ولم يعلم بحاله هذا أحد إلا بعد مقتله.

 

ولم تشغله تكاليف الولاية عن مهمته الكبرى في تبليغ دين الله للعباد، وأداء الأمانة التي تحمّلها منذ سلك طريق العلم بتعليمه للناس، فكان يجد الوقت وسط انشغالاته لمتابعة تدريس بعض طلبة العلم المجاهدين، منهم الأخ "مسلم" -تقبله الله- الذي قتل معه في نفس الليلة، و"قاري نافذ" الذي قتلته طائرة مسيرة صليبية في وزيرستان، و "عبد الرحمن" الذي استشهد أثناء التصدي لهجوم صليبي في (جرجري)، و "صالح" الذي استشهد رفقة الأخ "سعد الإماراتي" أثناء التصدي لهجوم للمرتدين والصليبيين، ولا زال بعض تلاميذه بين مجاهدي ولاية خراسان نسأل الله تعالى لهم الثبات حتى يلقوا ما لقي شيخهم تقبله الله.

 

قتل عبد الحسيب وبقيت راية التوحيد عالية

 

تمكن الصليبيون من تحديد مكانه، وقرروا تنفيذ عمل كبير أملاً في اعتقاله، فقاموا بإنزال عدد كبير من القوات التي تحرسها الحوامات والمقاتلات لتداهم منزله في مديرية "أشين"، فلما شعر بتحركاتهم وسمع صوت طائراتهم حمل سلاحه رافضاً الاستسلام لهم، واشتبك معهم فقتل اثنين من الجنود الأمريكيين قبل أن يقتلوه، وانتقم الصليبيون بأن دكت طائراتهم المنطقة بالقذائف والصواريخ، مدمرة منازل المسلمين، وقتلت وأصابت أكثر من مائة منهم جلهم من النساء والأطفال، وكان ذلك في (30 رجب 1438 هـ).

 

لقد قتل الصليبيون الشيخ (عبد الحسيب اللوجري) كما قتلوا من قبل الشيخين الجليلين حافظ سعيد خان ومقبول الخراساني تقبلهما الله، وبقيت راية التوحيد مرفوعة في ذرى جبال خراسان يتعاقب على حملها سادة نجباء، كلما قتل منهم سيد قام مكانه قائم بما قام أخوه، ونحسب من ينتظر نحبه منهم ماضين على خطى من قضوا إلى أن يُسلّم آخرهم مع إخوانهم من جنود الخلافة الراية إلى المسيح عليه السلام، ويلقوا الله تعالى وهو راض عنهم.

 

 

 

 

 


 

64- العدد 190 - الخميس 8 ذو القعدة 1440 هـ

أبو عاصم السوداني (تقبله الله تعالى)
هجرتان.. ومحبسان.. وقِتلة في سبيل الله تعالى كما نحسبه

إنّ سلعة الله تعالى ثمينة غالية، يتطاول لنيلها العبّاد، ويصبرون على ما يلقونه في سبيل ذلك، وبمقدار ما يرتفع مطلب العبد من منازل الجنّة يبذل من الوسع والطاقة، لا كمن غرّتهم الأماني فطلبوا نيل المنازل العلى بأقل الأعمال وأبخس الأثمان.

 

ولا زال العبد مشمّرا في طلب مبتغاه، وربّه جلّ في علاه يزيد في ابتلائه، حتّى يرى منه الصدق والعزيمة في الطلب، والصبر على ما أصابه في طريقه إلى رضوان باريه سبحانه، وقد زال عنه ما علق به من أدران الدنيا وسيئات الذنوب بما أصابه به من النصب والوصب، وما أنعم به عليه من الطاعة والتوبة والاستغفار، وما مَنّ به عليه سبحانه من الرحمة والمغفرة، فلا يبقى بينه وبين الجنّة إلا أن يعبر من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، وخير المعابر إلى ذلك شهادة في سبيل الله تعالى، يغفر بها الذنب كلّه، وتهون بها بقية الرحلة إلى دار الخلود، فلا فتنة في القبر، ولا فزع عند البعث والنشور، ولا حساب في يوم الدينونة، ليجوز الصراط بعد كل ذلك في زمرة من حسن رفيقا من النبيين والصديقين والشهداء، ويحوز النعيم المقيم في دار السلام.

 

ومن قصص الطالبين للفردوس الأعلى من الجنّة، الصابرين في سبيل ذلك على ما أصابهم، قصة أخينا أبي عاصم السوداني تقبله الله، الذي تعلّم العلم ليعمل به، وحفظ كتاب الله سبحانه ليكون هاديه، ولم يزل بين هجرة وجهاد حتى توفاه الله تعالى، فلم تقعده الفتن، ولم تقيده السجون، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله سبحانه أحدا من عباده.

 

محمد بن أحمد بن علي بيلو أبو عاصم المهاجر تقبله الله من قبيلة الفلاتة، وهم نسل الأمير الصالح والفاتح الكرار عقبة بن نافع الأموي رحمه الله الذي فتح الشمال الإفريقي.

 

ولد في بلاد السودان (بلاد النيلين) عام 1410 هـ ونشأ في قراها، وانتقلت أسرته إلى بلاد الحرمين ليتعلّم أبناء تلك الأسرة القرآن ويكونوا من أهله، نشأ أبو عاصم في بيئة صالحة وصحبة صادقة يحفظ معهم القرآن والمتون ويتعلم الدروس ويتربى على حب الجهاد في سبيل الله، والتبصّر بحال المسلمين والشعور بمآسيهم في الشيشان والبوسنة وكوسوفا وأفغانستان.

 

لم يكن قلب أبي عاصم ميتًا حتى لا يشعر بأن تلك الآلام هي في جسده، ولم يكن قلبه غافلاً فيضع اللوم على غيره أو ينأى بنفسه وكأن الأمر لا يعنيه، أخذ يفكّر في المَخلص لأهل الإسلام في الشرق والغرب ولم يجد سبيلاً صوابا كسبيل المجاهدين فكان يتابع أخبار المجاهدين في كل مكان وخاصّة أيّام غزو أمريكا للعراق يشاهد ما يصدره المجاهدون من إصدارات مرئية تبيّن صدق أولئك القوم من الثأر لدماء المسلمين وأعراضهم، يتابعها رغم صعوبة الوضع في بلاد الحرمين -فقد أسَر آل سلول العديد من رفاقه وأساتذته-، عزم حينها أن يكون يومًا أحد هؤلاء الفرسان الأبطال في تلك الساحات الذين زعزعوا عروش الصليبيين والمرتدّين وأذاقوهم الويل والثبور.

 

ولم يكتب لأبي عاصم أن يجد طريقاً لساحات الجهاد فحاول أن يستغل وقته وتأمل في طريقة وصول أحوال المجاهدين إليهم وهي الإعلام، فعلم أنه ثغر عظيم في الجهاد ولن يدرك الناس ما عليه المجاهدون إلا من خلاله، وهو السلاح الذي أرّق الطواغيت واستخباراتهم.

 

أحب جانب الإعلام والتقنية فتزود منه أملا أن ينفع إخوانه إن أدركهم، وأخذ من الفنون الإعلامية والبرامج المسموعة منها والمرئية ما استطاع.

 

رزقه الله خلقا رفيعا وابتسامة دائمة وسماحة وكرما، فلم يُؤْثر عنه شِجارٌ مع أحد رافقه..

 

في أرض السودان

 

بعد إتمامه للدراسة الثانوية، سافرت عائلته إلى السودان فأكمل هناك دراسته الجامعية والتحق بجامعة "إفريقيا العالمية" وكان تخصّصه في كلية علوم الحاسوب، وأثناء دراسته الجامعية لم يخلُ قلبه من ذكر الجهاد، ووفقه الله للتعرف على إخوة صادقين في السودان فوجد عندهم بغيته وسعِد بهم.

 

وكان طواغيت السودان الإخوان المرتدون ينتهجون نهج التلبيس على الناس بأنهم حكومة إسلامية وأنهم مجاهدون يقاتلون نصارى جنوب السودان وأنهم آووا الشيخ أسامة بن لادن تقبله الله ومن هذا القبيل الذي يسترون به كفرهم وتحريفهم لدين الله العظيم وتشريعهم ما يغضبه سبحانه وتمكينهم الصوفية القبوريين من الشرك بالله، والتصريح لكل من أراد أن يجهر بكفر مهما عظم كفره أن يجهر به أو يناقش عليه سواءً على القنوات أو في الجامعات فيما يسمونه بكراسي النقاش يتكلّم فيها الملحدون والرافضة ومشركو الصوفية والقوميون ومن شاء باسم الأحزاب الفكرية أو السياسية، حتى حصلت اتفاقية (نيفاشا) بين طواغيت السودان ونصارى الجنوب، التي أظهرت حقيقة ما عليه الإخوان من عزمهم على تسليم جنوب السودان للنصارى ووضع دستور كفري أكثر صراحة من قبل، والإقرار بأنّ كلّ ما جرى من قتال بين الشمال (حكومة الإخوان) والجنوب (النصارى) طيلة هذه السنين لم يكن لأجل الدين إنما لأجل السلطة وأنهم ما اتخذوا شعارات الجهاد إلا لإغراء الشباب وتهييجهم، وغير هذا الكثير مما ظهر عقب هذه الاتفاقية، وما وصل إليه السودان اليوم إلّا نتاج هذه الاتفاقية التي باءت بشر حال في الدين والدنيا.

 

"محاولته الجهاد في السودان"

 

لم يكن لأبي عاصم بعد أن رأى الواقع أن يقف مكتوف الأيدي، وما أحد من رفاقه الغيارى إلا وكان يحدث نفسه أن يكون لهم عمل جهادي في السودان، فقامت مجموعات عدة بمحاولات للنهوض بعمل جهادي وعلى الرغم من عدم نجاحها إلا إن مجرد استفراغهم الوسع وتضحيتهم يدل على صدق أولئك الإخوة في سعيهم لإقامة الدولة الإسلامية، لأنه سبيل أمر الله عزّ وجلّ به {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وهو سبحانه أعلم بما يُصلح الناس كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

 

في السجن..

 

على إثر محاولة إقامة عمل جهادي لإحدى المجموعات والتي كان أبو عاصم تقبله الله أحد أفرادها، سجن هو وبعض إخوانه في سجن جهاز الأمن السوداني المرتد، مكث أحد عشر شهرا، منها ثمانية أشهر بزنزانة انفرادية، ثم خرج بعدها مع إخوانه، كانوا في زنازينهم أعزة يهابهم حتى سجانوهم، وفي هذا السجن استغل وقته فأتم حفظ كتاب الله تعالى وقرأ بعض الكتب العلمية.

 

وقد عرض عليه طواغيت السودان الخروج من السجن مقابل الطعن في المنهج الذي كان عليه والإقرار بأنه كان على ضلالة، فأبى عليهم هو ومن معه وقالوا مقالة تنبي عن حق رسخ في جذورهم واستمكن في قلوبهم: والله لا نطعن في هذا المنهج وهذا الدين الذي اعتنقناه أبدا وإنه للحق وإنا مستعدون للقتل دونه، فكيف نطعن فيه مقابل خروجنا من السجن والله لا نفعل، فأعادوهم إلى زنازينهم.

 

وكان في أبي عاصم عزة وغيظ شديد على أعداء الله الحكيم، فبعد ذلك أثناء الخروج من السجن حاول أحد ضباط جهاز الأمن إيذاءه وإذلاله فقام إليه وجذبه ثم خنقه خنقا شديدا، وجعل ذلك الضابط يصيح لكلابه خلصوني خلصوني.. فانتصروا له وخلصوه ثم قال لهم: قيّدوا يديه ورجليه، فما استطاعوا تقييده والضابط يردد: قيّدوه قيّدوه.. حتّى اجتمع ستّة من أشداء جهاز الأمن فقيدوا يديه ورجليه بعد جهد، وكان أبو عاصم يقول: والله ما كنت لأمد لهؤلاء المرتدّين يديّ وأسْلم لهم قدمي لأذل نفسي ويقيدوني. ثم قالوا: ردوه إلى الزنزانة.

 

إلى ساحات الجهاد من جديد

 

ثم خرج في رمضان عام 1435 هـ من السجن، خرج والمنتسبون إلى الجهاد طائفتان، الدولة الإسلامية -أعزها الله العظيم وأدامها التي أعلنت الخلافة- طائفة، وتنظيم القاعدة طائفة، وهذا حال كثير ممن خرج من السجن تلك الأيام يتفاجأ بهذا الانقسام، استمع للطرفين، فوجد الدّولة الإسلاميّة أصدق لهجة وأجدّ سبيلا لإعزاز المسلمين وجمع كلمتهم وأبعد عن الغشاوة والضباب في العقيدة والقتال، فاختار خندقها ومواصلة درب الجهاد معها حتى لا يضيع جهاده وبلاءه.

 

تعلّق قلبه بساحات الجهاد، ولم يُلفت وجهه للدنيا ولا زينتها، ولم يزدد بالسجن إلا بصيرة بوجوب الجهاد وضرورته وقد عاين حقيقة من يدّعون أنّهم ولاة أمور المسلمين وسجّانيهم ومحققيهم.

 

أصرّ عليه أهله أن يواصل دراسته الجامعية، فاستجاب لهم على مضض، وقام يبحث عن طريق يوصله لإخوانه وأحبابه المجاهدين الذين وجد عندهم حلاوة الإيمان والصدق.

 

تميز أبو عاصم -تقبله الله تعالى- بحفظه وكتمانه للسر خصوصا بعد أول عمل جهادي يمارسه، فلم يكن يفشي أسرار إخوانه ولو لأقرب الناس وأحبهم إليه، ولم يكن يعطي معلومة لشخص لا يستفيد منها أو لا تعنيه، كما كان لا يحرص على معلومة لا يستفيد منها ولا تعنيه، وهذا ما سهل عليه بعد الله ألا يجد منه العدو بُغيته وأن يكرر نفيره بسلاسة، وأن يخدم إخوانه على كل حال.

 

حرص في هذه الفترة على التزود من العلم الشرعي فكان يحضر مجالس العلم ويتردد عليها ما تيسر له ذلك، كما كان يدعو أهله وكل من يلقاه إلى الأخذ بسبيل الجهاد ومناصرة دولة الإسلام والنفير إليها.

 

وفي شهر محرم من العام 1436هـ أتاه البشير أن طريقك سالكة ووجهتك جاهزة، فانطلق للنفير مرة ثانية ليُرضي ربه ولو سخط الناس، مستجيبا لأمره سبحانه خوفا من عذاب القعود والفتنة وطمعا في أجر الجهاد والهجرة، انطلق إلى الإخوة في ولاية غرب إفريقية فأدرك معهم فرحتهم بيعة الخلافة وانتقالهم من ضيق الجماعات إلى سعة الدّولة الإسلاميّة والخلافة، وأمضى معهم فترة في الجهاد والرباط.

 

وأثناء ذلك وهم في طريقهم داخل أراضي تشاد إذ اعترضهم المرتدّون، فاشتبكوا معهم فقتل اثنان من إخوانه وأسر آخرون بينهم أبو عاصم تقبله الله، أُلقوا بعدها في سجون طواغيت تشاد فترة، ثم سلّموهم لطواغيت السودان ليرزح أبو عاصم فترة ثانية من السجن والابتلاء في سبيل الله، وكان ذلك في عام 1437 هـ، فلم يبدّل أبو عاصم في سجنه ولم يتراجع عن طريقه شبرًا وقد رأى فيه النور والهداية..

 

النفير الثالث

 

ثم مَنّ الله الحكيم عليه بالخروج من السجن، وقد كانت الحملة الصليبية على الدّولة الإسلاميّة آنذاك في أوجها، وقد بلغت الذروة من الضراوة، أحس أبو عاصم أن إخوانه في هذا الوقت هم أشدّ حاجة إليه لينصرهم ويشاركهم المعركة ضد التحالف الصليبي ولا يخذلهم، ولم يُحدّث نفسه بالركون أو الخنوع، أو الانتظار حتى يرى إلى أي شيء تؤول إليه المعركة كما يفعله أو يقوله الكثير، ما فعل ذلك ولا ينبغي له إذ هو ممن عاش لهذا الدين ورفع الذل عن أمته وما كان لمثله أن يُفقد في ذلك الوقت (نحسبه كذلك والله تعالى حسيبه).

 

جعل أبو عاصم يبحث عن طريق يوصله لإخوانه ليهاجر ويجاهد، جدّ في الأمر بصدق ولم يكن يرى لنفسه عذرا في التخلّف، حتى يسر الله له النفير، فانطلق نافرا للمرة الثالثة مهاجرا طالبا الموت مظانه مبرهنا على حرصه في طلب الشهادة.

 

انطلق إلى ثغور ولاية ليبيا، هناك حيث الصحراء والجهاد الشديد، فصابر وثابر مع إخوانه، وسدّ معهم ثغر الإعلام، وواصل جهاده حتى انطلق مرة مع إخوانه للصولة على مركز شرطة لمرتدّي قوات الطاغوت حفتر في بلدة (قنان)، وأثناء انسحابهم رمى أعداء الله تعالى طلقات كُتب أن تكون إحداها سببا لشهادة أبي عاصم فاخترقت جسده ثم ارتقى على إثرها شهيدا كما نحسبه والله حسيبه مخضبا بدماه، ارتقى لجنات الخلود بجوار ربه الكريم سبحانه.

 

مضى يذكّرنا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تنقّلوا بين الثغور حرصا على الشهادة فلقيها بعضهم في ثغور خراسان وبعضهم في ثغور القسطنطينية وبعضهم في أقصى المغرب.

 

مضى أبو عاصم مجددا عزيمة ورثها عن جدّه الفاتح عقبة بن نافع حين وقف بخيله على ضفاف ساحل المحيط الأطلسي فقال: "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك".

 

 

 

 

 


 

65- العدد 193 - الخميس 29 ذو القعدة 1440 هـ

أبو المثنى الحسيني (تقبله الله)
أذاق الله على يديه وإخوانه مرتدي الـ
PKK الويلات

في أسرة عرفت التوحيدَ مبكراً وسط منطقة فشا فيها الجهل بالدين، وسيطر الصوفيةُ المشركون على منابر الدعوة فيها، ولد (راغب محمد المغير) سنة 1412 هـ في قرية (السعدة الشرقية) القريبة من بلدة (ميسرة) جنوبي ولاية البركة، حيث كان والده تقبله الله من الداعين إلى نبذ البدع والخرافات، محاربا للمشركين من أتباع الطرق الصوفية الرفاعية والخزنوية، كما كان له ولمن معه من الإخوة في المنطقة مشاركة في جهاد العراق، يعينون المجاهدين هناك بإدخال المهاجرين عبر الحدود، وتسهيل دخولهم إلى الشام عند الحاجة.

 

ومن أجل ذلك كله نال الأسرة كلها الملاحقة من مخابرات الطاغوت، فسُجن أبو راغب تقبله الله وابن أخته عبد الرحمن الحجاب سنين لدعوتهم إلى التوحيد وإعانتهم لمجاهدي العراق، وقتل عبد الرحمن تقبله الله في أحداث سجن "صيدنايا" إثر مشاركته في العصيان الذي قاده المجاهدون، حيث تمكنوا -بفضل الله- من السيطرة على السجن لقرابة 9 أشهر.

 

ولمّا شبّ أبو المثنى تقبله الله تعالى، وفي مرحلة دراسته الجامعية على وجه الخصوص، حيث درس الرياضيات في جامعة الفرات بمدينة الخير، بدأ يبحث عن الشباب الداعين إلى التوحيد والسنة في الوسط الجامعي وخارجه ويتعرف عليهم، فارتبط بمجموعة تعمل في تهريب المجاهدين إلى العراق، كانت هي إحدى المجموعات التي ابتدأت لاحقا نشاط الدولة الإسلامية في "المنطقة الشرقية" من الشام.

 

من نصرة المجاهدين إلى صفوفهم

 

حين بدأت المظاهرات ضد طاغوت الشام بدأ الإخوة بتجميع صفوفهم كلٌ في منطقته، وهم يعلمون أن لا فائدة من هذه المظاهرات سوى إشغال أجهزة المخابرات، وخلق الفوضى في البلاد، وأن عليهم الاستفادة من هذه المرحلة في بناء أنفسهم وإطلاق عمل جهادي يمكنه -بإذن الله تعالى- إزالة حكم الطاغوت وإقامة حكم الله تعالى في هذه الأرض، وبدأت الدولة الإسلامية بإدخال المجاهدين ليبدأوا بتأسيس العمل، وإعلان الجهاد في الشام، بالاستعانة بالإخوة الموجودين سابقا فيها، وتحويل مجموعات التنسيق والتهريب إلى خلايا مقاتلة.

 

وتأسست أولى المجموعات الجهادية المرتبطة بالدولة الإسلامية في قريتي (السعدة الشرقية) و (غريبة الشرقية) بالإضافة إلى مجموعة أخرى في قرية (الظاهرية) شرق القامشلي، ومفارز أمنية صغيرة بدأت بالتشكل في مدينتي القامشلي والحسكة، ولم يتأخر النظام النصيري كثيرا في العمل على القضاء عليها، فوجّه قوات كبيرة إلى قرية الظاهرية لاعتقال المجاهدين فيها، حيث قتل أكثرهم -تقبلهم الله تعالى- في الاشتباك مع الجيش النصيري الذي استعمل الأسلحة الثقيلة في هجومه بعد أن رفضوا تسليم أنفسهم، وأما المجاهدون في (السعدة) فقد وجّه النظام إليهم قوتين في آن واحد، الأولى انطلقت من الحسكة والقامشلي شمالا، والثانية من مدينة الخير جنوبا، حيث قامتا بتطويق القرية والبدء بتمشيطها بحثا عن المطلوبين من شبابها وهم بالعشرات، وتحصّن بعض الإخوة في تل بقريتهم واشتبكوا مع جنود الجيش النصيري وعناصر الأمن العسكري عدة ساعات حتى قتلوا تقبلهم الله تعالى بعد نفاد ذخيرتهم، واعتقل المرتدون أبا المثنى تقبله الله مع عشرات من الشباب في القرية بشكل جماعي، ولبث في سجون "الأمن العسكري" في مدينة الخير بضعة شهور.

 

وعند خروجه من السجن كان عودُ المجاهدين في المنطقة قد اشتدّ أكثر، وقد جاءت حملة الجيش النصيري بنتيجة عكسية، فالقاعدون في المنطقة تأثروا كثيرا بثبات المجاهدين وقتالهم حتى الموت بعد أن نكلوا في النصيرية، والمعتقلون الذين كان أكثرهم لا نشاط لهم يذكر خرجوا من السجون وهم يتشوقون لقتال النصيرية، وهكذا صار عديدُ المجاهدين في قرية (السعدة) وما جاورها في منطقة (ميسرة) يبلغ العشرات، بعد أن كانوا لا يتجاوزون أصابع اليدين تقريبا، وأصبحت المنطقة هي مركز قيادة جنود الدولة الإسلامية في المنطقة الشرقية، بعد أن استقر فيها (الشيخ غانم الشمري) تقبله الله تعالى، وكان حينها أميرا للمنطقة ومسؤولا إداريا لجبهة النصرة آنذاك، يرتبط بها مجموعات أخرى في كل من (الشحيل) و (جديد العكيدات)، وزاد في هذه المرحلة ارتباط أبي المثنى بالجماعة، خاصة وأن الشيخ غانمًا كان يقيم في مضافة عمّه أبي حامد تقبله الله تعالى.

 

الثبات مع الجماعة

 

وصل الخبيثُ "أبو مارية الهراري" مبعوثا من "الجولاني" ليبدأ مشروعه التخريبي في المنطقة، والذي سعى لتكراره في كل المناطق التي حلّ فيها، بالطعن في الأمراء الموجودين، وتأليب المجاهدين عليهم، ثم العمل على شق صف المجاهدين أنفسهم على أسس عشائرية ومناطقية، ليربطهم به دون غيره، فبدأ أولا يطعن بالشيخ غانم ويراسل الجولاني طالباً منه أن يولّيه المنطقة الشرقية، الأمر الذي لاقى هوى عند الجولاني الذي بدأ يخطط لإبعاد الأوفياء للدولة الإسلامية عن المناصب في جبهة النصرة تمهيدا لنقض البيعة والاستقلال بقيادة من تحت يده من العناصر، خاصة وأن الجولاني كان جنديا تحت إمرة الشيخ غانم في العمل الإداري بولاية نينوى التي عمل فيها الجولاني بعد خروجه من السجن، ثم بدأ الجولاني بتقسيم المجاهدين على أسس عشائرية بعد أن كانوا إخوة في الإسلام، وصار يقرب منهم ويبعد بمقدار الولاء له، وفي الوقت نفسه يتخلص من كل مجاهدي العراق الموجودين في المنطقة أو الذين يرسلهم أمير المؤمنين لتقوية الجهاد في الشام، بإدخالهم إلى المناطق المحاصرة في مدينة الخير، كما فعل مع الشيخ أبي ياسر، أو إرسالهم إلى عمليات ذات خطورة عالية على أمل التخلص منهم فيها، وكادت المشكلات -التي سببها الأساسي الفتنة العشائرية التي أحدثها عدو الله- أن تشق صف المجاهدين في الشرقية، حيث لم يبقَ حلٌ آنذاك إلا بعزله عن إمارتها رغم رفض الجولاني، وتولية (الشيخ أبي أسامة العراقي) تقبله الله ليصلح ما أفسده، ويطور العمل العسكري في المنطقة.

 

وشارك أبو المثنى رحمه الله في أكثر الغزوات التي حدثت في المنطقة الشرقية، وكان أهمها غزوة فتح الشدادي التي قادها الشيخ أبو أسامة العراقي، وما تلاها من فتوح في شرق وشمال ولاية البركة، التي فُصلت آنذاك هي وولاية الرقة عن ولاية "دير الزور"، والتي غير اسمها فيما بعد إلى ولاية الخير.

 

حين نقَضَ الغادرُ الجولاني عهده، مستعينا بالظواهري، كان يتوقع أن تكون المنطقة الشرقية كلها معه في قراره الآثم، فحضر إليها ليلتقي مع الأمراء ويقنعهم بالبقاء معه، وعقد اجتماعا في بلدة (الشحيل) التي كانت مركز أتباع "الهراري" والموالين له في المنطقة، وكانت المفاجأة أن يسمع بصراحة من أحد الأمراء من يعلن رفضه نقض البيعة، ويصر على البقاء في صفوف الدولة الإسلامية، حين جامل الكثيرون وداهنوا عاجزين عن مصارحة الغادر بموقفهم منه، وكان ذاك الصادع بالحق هو أبو المثنى تقبله الله الذي كان حينها أميرا لمفصل الأمن في ولاية البركة.

 

وثبت تقبله الله على موقفه هو وبعض الإخوة معه منهم ابن عمه أبو عزام الحسيني (صالح المغير)، وأبو أسامة الأنصاري (أبو حمزة الرفدان)، وأبو المثنى المشهداني، تقبلهم الله جميعا، وكان في ذلك سبب لتثبيت المجاهدين في ولاية البركة على بيعة أمير المؤمنين، والتي تولى أمرها الشيخ أبو أسامة العراقي بعد ذلك، وثبت أبا المثنى في إمارته للمفصل الأمني الذي بقي فيه حتى نهاية حياته.

 

مع الجهاز الأمني للدولة الإسلامية

 

مع وصول بعض الكوادر الأمنية من العراق، نشطَ العملُ الأمني في المنطقة الشرقية عموما، فبدأ أبو أنس وأبو أحمد العراقيان -تقبلهما الله- بسلسلة من العمليات الأمنية في الرقة -قبل فتحها- ضد النظام النصيري وعملائه، ثم أكملوا تحت إمرة الشيخ (أبي لقمان الرقي) العمل على رؤوس الردة من علمانيين وقادة الصحوات، في الوقت الذي نشط (أبو عمر قرداش) تقبله الله في ولاية الخير ضد عملاء النظام ورؤوس الجيش الحر المرتدين، فتمكن مع مجموعة من المجاهدين من قطف رؤوس بعضهم، ودفع آخرين إلى الفرار من المنطقة خوفا من القتل، وكانت تلك العمليات تتم بسرية ودون إعلان وهذا كله قبل حادثة غدر الجولاني ومن معه، كما نفذ أبو المثنى تقبله الله تعالى والإخوة معه عدة عمليات استهدفت عملاء للصليبيين وللنظام في منطقة الشدادي ومحيطها.

 

وفي ذلك الوقت بدأ المفصل الأمني في الدولة الإسلامية عموما يتحضّر لخروج الصحوات التي أيقن أمراءُ الدولة الإسلامية بخروجها بعد حين، وذلك بجمع المعلومات عن قادة الفصائل وتحركاتهم ومخططاتهم وما يجرونه من لقاءات في رحلاتهم إلى تركيا على وجه الخصوص، وقد تمكن الإخوة بفضل الله من اصطياد الكثير منهم أثناء عودتهم من تلك الرحلات محمّلين بالأوامر والأموال والأسلحة.

 

ومع خروج الصحوات بدأت المفارز الأمنية بالعمل ضد الصحوات في ولايتي الخير والبركة بعد تطهير ولاية الرقة من المرتدين، حيث كان المجاهدون يتسللون إلى عمق مناطق الصحوات وينفذون الكمائن والإغارات ويفجرون المفخخات والعبوات على الحواجز والمقرات ويغتالون رؤوس الردة من قادة الصحوات، وكان أبو المثنى ومن معه من مجاهدي المفصل الأمني في الولاية يدخلون إلى قرية (غريبة الشرقية) التي جعلها مرتدو "جبهة الجولاني" آنذاك مركزا لقيادة عملياتهم في جبهة (ميسرة) فيرصدون التحركات ويجمعون المعلومات التي يستفيد منها الأمراء العسكريون في تخطيط معاركهم، وكاد أن يعتقل في إحدى المرات بعد أن دخل -تقبله الله- مقرا للمرتدين وهو مقنع لا يعرفونه! ليستطلعه من الداخل ويحاول الحصول على معلومات من المتواجدين فيه، فسلّمه الله منهم بأن أسرع بالخروج وأفلت منهم حين شكوا بأمره وهمّوا بأسره.

 

العمل الأمني ضد مرتدي الـ PKK

 

وبعد أن فتح الله على المجاهدين في العراق فأخذوا المناطق وكسروا الحدود، وعلى المجاهدين في الشام فدحروا الصحوات وأخرجوهم من كل المنطقة الشرقية، وبدأت دواوين الدولة ومفاصلها بالتشكل من جديد، انتقل أبو المثنى رحمه الله للعمل في الأمن الخارجي، تحت إمرة الشيخ (أبي اليمان الأردني) تقبله الله والي دمشق الأسبق، الذي أمّره الشيخُ (أبو أسامة العراقي) على مدينة البركة، حيث بدأ الإخوة يعدون العدة للهجوم عليها، وكان المخطط بأن ينشط العمل الأمني داخلها أولا من أجل زعزعة قوة المرتدين فيها، وجمع المعلومات الوافية عنها، وتقوية وجود المفارز الأمنية داخلها لتكون سندا وعونا للمجاهدين المقتحمين لها من خارجها.

 

وهكذا بدأ عمل أبي المثنى مع مجموعة من المجاهدين في التخطيط وتنفيذ عمليات كثيرة في مختلف مناطق ولاية البركة الواقعة تحت حكم المرتدين، وتمكن المجاهدون من توجيه ضربات كثيرة للنصيرية ومرتدي الـ PKK، والتي مهّدت للهجوم الكبير لفتح مدينة البركة في رمضان 1436، حيث فتح اللهُ على المجاهدين مناطق كبيرة من المدينة، وكادت تسقط كلها بأيديهم، لولا تدخل طائرات التحالف الصليبي الذي شنّ مئات الغارات الجوية على مواقع المجاهدين وخطوط الاشتباك بينهم وبين المرتدين، وانتقل أبو المثنى تقبله الله تعالى إثر هذا إلى العمل في مجموعة أمنية لاستهداف مرتدي الـ PKK وقوات التحالف الصليبي في مختلف المناطق، وهيأ الله تعالى لها النجاح في تنفيذ العديد من الهجمات ضدهم والتي حصدت المئات من المرتدين بين قتيل وجريح.

 

شهادة في سبيل الله نحسبه

 

في السنة الأخيرة من حياته طلب أبو المثنى تقبله الله تفريغه لطلب العلم، والتحق بدورة شرعية في معهد (الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله) في مدينة الميادين، درس فيها علوم الآلة وفقه الإمام أحمد من كتاب (شرح عمدة الفقه) وحفظ الحديث من كتاب (عمدة الأحكام) وأجزاء من القرآن الكريم، قبل أن يعود مجددا للعمل في المفصل الأمني في الفترة التي بدأ العمل فيها على إخراج عدد من الإخوة العاملين في هذا المفصل لإنشاء مفارز أمنية فاعلة في دار الكفر يقع على عاتقها تنشيط العمل الجهادي ضد المرتدين في المراحل اللاحقة.

 

فعاد رحمه الله تعالى للعمل الأمني في ولاية البركة، ونشط في مناطق الشدادي وميسرة والصور التي يعرفها جيدا مع بعض الإخوة، وتمكن معهم بفضل الله تعالى من إيقاع الكثير من الخسائر في صفوف مرتدي الـ PKK الذين باتوا يشعرون بوجوده في المنطقة، وهم يعرفونه سابقا من أثر العمليات الكثيرة التي أشرف عليها طوال سنتين من الصراع معهم، وبات البحث عنه مستمراً في المنطقة، وطلب اعتقاله ملحّاً لديهم ولدى أسيادهم الصليبيين، وكان هو حذرا حريصا على أن لا يمكّنهم من نفسه وإخوانه، فيكثر التنقل بين المناطق للعمل أو الإقامة، ويأخذ بأسباب الأمن في اتصالاته ولقاءاته بالإخوة، ولكن قدر الله تعالى أسرع ولا يجدي معه الحذر.

 

وهكذا تفاجأ تقبله الله تعالى بحاجز "طيار" للمرتدين جنوبي الشدادي أثناء انتقاله بين القرى بدراجة نارية، فاستلّ سلاحه واشتبك معهم فورا موقعا فيهم قتلى وجرحى، وتمكنوا هم من إصابته بجروح قاتلة، مات على إثرها تقبله الله تعالى.

 

ولا زال إخوان أبي المثنى الحسيني -تقبله الله تعالى- في البركة والخير والرقة وحلب ينكلون بمرتدي الـ PKK وأسيادهم الصليبيين، وتزداد وطأة ضرباتهم عليهم، وتنالهم وهم في عقر دارهم، ولن يوقف الجهاد في سبيل الله تعالى مقتل جندي ولا أمير، ولا انحياز من قرية أو مدينة، فهو قائم بحمد الله حتى قيام الساعة، يرفع الراية فيه أقوام من بعد أقوام حتى يرث اللهُ الأرض ومن عليها.

 

 

 

 

 


 

66- العدد 203 - الخميس 11 صفر 1441 هـ

ذليلٌ على المؤمنين عزيزٌ على الكافرين -كما نحسبه-
الشيخ أبو أسامة العراقي "تقبله الله"

من أهم الصفات التي امتدح الله تعالى بها أولياءه المؤمنين، وبيّن حبه لمن يحملها، أنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، وأنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، والجمع بين هذه الصفات التي تبدو متناقضة أمر عزيز للغاية، وإن كان هناك الكثير من المجاهدين قد حملها وتحلى بها، ومنهم الشيخ المجاهد أبو أسامة العراقي تقبله الله.

 

وقلّ أن نجد قائدا عسكريا وأميرا فاتحا إن ذكر اسمه في محضر كان أول ما يُذكر عنه حسن خلقه ولينه مع المسلمين وتذللـه إليهم، قبل أن تُذكر شدته على الكفار ونكايته فيهم، حتى غلب صيتُ تواضعه وأخلاقه التي زينه الله تعالى بها صيتَ صولاته وفتوحاته التي أكرمه ربه بها على مدى عقد من الزمان أو يزيد، وتُذكر رقة قلبه وبساطة نفسه قبل أن تُذكر قوة بدنه وجسارته في المعارك، مثلما كان أبو أسامة.

 

وقلّ أن نجد أميرا من أمراء المجاهدين جعل الله له قَبولا ومحبة في قلوب عامة المسلمين وضعفائهم بقدر ما في قلوب إخوانه المجاهدين أو يزيد، مثلما كان لأبي أسامة، ونحسب أن ذلك له كان من عاجل البشرى وحسن السيرة، ونسأل الله أن يكون ذلك كله ذخرا في آخرته يوم يلقى ربه، والناس شهود له عنده، إن ربنا كريم رحيم.

 

من مجاهدي العراق الأوائل

 

عراقي المنشأ، ولد وتربَّى في منطقة "بزايز بهرز" بديالى وسط أسرة فقيرة الحال عرفت بحميد الصفات من شجاعة وكرم ونجدة، حسيني النسب من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأ جهاده في الأربعين من عمره عندما دخل الصليبيون أرض العراق، فما ألقى سيف الجهاد من يده إلا قتيلا في سبيل الله -نحسبه- على أرض الشام، إنه الشيخ المجاهد (ليث علي مطلق المجمعي) الذي عرفه مجاهدو العراق والصليبيون والروافض والصحوات بكنية (أبي شبل) وعرفه مجاهدو الشام وصحواتها وملاحدتها ونصيريوها بكنية (أبي أسامة العراقي) تقبله الله رب العالمين.

 

لم ينتظر أن يستنفره أمير للجهاد، أو تدعوه جماعة مقاتلة للانضمام إليها، بل بادر لتشكيل سرية مجاهدة من أقاربه وأصدقائه بعد الغزو الأمريكي الصليبي، وبدأ قتالهم مستفيدا من خبرته العسكرية السابقة في الجيش العراقي الذي تاب من كفر الانتساب إليه والقتال في صفوفه ضد روافض إيران، ليستقر به المقام مع إخوانه بعد فترة قصيرة في جماعة (التوحيد والجهاد) تحت إمرة الشيخ المجاهد (أبي مصعب الزرقاوي) تقبله الله، أميرا لقاطع (أنس بن النضر) الممتد في مناطق جنوب ديالى ومركزه في (بزايز بهرز) مسقط رأسه، فأبلى البلاء الحسن في جهاد الصليبيين وعملائهم من الرافضة، واستمر في إمارته مع إعلان تنظيم (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين).

 

ولا زال رافضة ديالى يذكرون إلى اليوم ما حل بهم على أيدي المجاهدين في قاطع (أنس بن النضر)، وأشهر تلك الأحداث قصة إبادة رتل لميليشيات (جيش المهدي) الرافضية حين حاولت اقتحام منطقة (بزايز بهرز) برتل كبير مكون من أكثر من 40 آلية ومئات المقاتلين، فأعان الله تعالى الشيخ (أبا شبل) وإخوانه على تطويق الرتل ومحاصرة المرتدين، ومكنهم من تدمير جميع آليته، وإبادة كل عناصره إلا أفرادا قلائل تمكنوا من الفرار، ليرووا لمن وراءهم مصيبة ما حل بهم على أيدي المجاهدين.

 

كما مكن الله تعالى الشيخ وإخوانه من فتح الكثير من القرى في (بزايز كنعان) وأطراف (بلدروز) وطرد الروافض منها جيشا وميليشيات، وكذلك التصدي لكثير من حملات الرافضة القادمة من بغداد باتجاه ديالى، حيث كان طريقها يمر بقاطع عملهم في جنوب ديالى.

 

ولشدة نكايته في الرافضة فقد حاولوا قتله أو أسره بكل وسيلة، حتى هاجموا مرة قريته وأسروا زوجته وأقارب له طالبين منهم أن يسلم نفسه إليهم، فما كان منه تقبله الله إلا أن هاجم مع إخوانه قرية للرافضة وأسر عددا كبيرا منهم، وأجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين رغما عنهم.

 

وعند إعلان دولة العراق الإسلامية كان قاطع (أنس بن النضر) من مناطق التمكين في الدولة الإسلامية التي يحكم فيها بشرع الله تعالى، ويأمن المسلمون فيها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، حتى قدر الله على المجاهدين الانحياز من المنطقة تحت ضغط الحملة الصليبية وإثر ظهور الصحوات العشائرية ودخول أكثر الفصائل المسلحة في الردة، فاستمر عمل الشيخ (أبي شبل) وإخوانه على مرتدي الصحوات، ومكنهم الله تعالى من النكاية فيهم، وقطف رؤوسهم، كما فعلو مع آلـ (ياس خضير الرفيعي) المتزعمين للصحوات في المنطقة إذ قتل المجاهدون أكثر من 20 من قادتهم وكبرائهم، وكسروا شوكتهم بفضل الله تعالى، كما ساهم تقبله الله تعالى في قمع فتنة الغلاة الخوارج الذين ظهروا في مناطق كثيرة من العراق، واستباحوا دماء المسلمين بدعوى تأصيل كفر عموم المقيمين في ديار الكفر، وشقوا صف المجاهدين، وأعلنوا الحرابة لأمير المؤمنين الشيخ المجاهد (أبي عمر البغدادي) تقبله الله.

 

وفي أواخر العام 1428 هـ اقتحم تقبله الله مع إخوانه مقرا مشتركا للقوات الرافضية والصليبية قرب مقر إذاعة وتلفزيون ديالى، ومكنهم الله تعالى من الإثخان في الكفار، فتدخلت الطائرات الصليبية، واستهدفته طائرة أباتشي برشاشها الثقيل فأصابته إصابات خطيرة في يده وكتفه، وفقد جزءاً من فكه وإحدى عينيه، ولكن قدر الله تعالى له النجاة بعد أشهر من العلاج.

 

ثم انتدب الشيخ للعمل الأمني في بغداد وجنوبها، في أوج عمل المفارز الأمنية هناك، حيث كان له دور كبير في تنشيط عملها، كما قاد الكثير من الغزوات ذات الأهداف الاقتصادية التي عرفت حينها بغزوات (أسواق الذهب) واستهدفت اغتنام أموال المرتدين، وساعدت برفد ميزانية المجاهدين في تلك المرحلة الحرجة، بعد نجاح الكثير من هجماتهم في بغداد والنجف وكربلاء وواسط وديالى وكركوك وغيرها من المناطق.

 

ومما مَنّ الله به على الشيخ أبي أسامة أنه لم يؤسر لدى الصليبيين أو الروافض قط طوال فترة جهاده التي لم تنقطع، بخلاف بقية المجاهدين الذين لا يكاد يوجد فيهم من لم يقضِ سنوات في الأسر، وقد سلمه الله تعالى منه رغم محاولات الصليبيين وعملائهم الكثيرة لأسره، ومداهماتهم لمنازله المتعددة التي كان يغيرها كل فترة، متنقلا بين مناطق العراق المختلفة، فكانت فترة جهاده الأولى في العراق، كلها قتالا للكفار والمرتدين ونكاية فيهم، إلا فترة تعافيه من إصابته التي استمرت شهورا.

 

من فتنة الجولاني إلى فتح (الشدادي)

 

ولا يعلم كثير من الناس أن انتداب الشيخ (أبي شبل) للعمل في الشام كان من أسباب تسريع المرتد الجولاني وزمرته بمشروعهم للغدر بالدولة الإسلامية، ونكث بيعة أمير المؤمنين (حفظه الله تعالى)، وذلك أنه لما بدأت الشكاوى تصل إلى أمير المؤمنين الشيخ المجاهد (أبي بكر البغدادي) عما وصل به الحال في (جبهة النصرة) من انحرافات وبعد عن منهج الدولة الإسلامية، بدأ مخطط الإصلاح داخلها بإرسال المجاهدين القدامى من العراق، وخاصة من لهم خبرات عسكرية وتحمل لمسؤولية الإمارة، وكان منهم الشيخ (أبو شبل) الذي نقل من عمله في بغداد ليتولى إمارة المنطقة الشرقية في الشام، وإبعاد الكذاب المرتد الغادر (ميسر الهراري) الذي عينه الجولاني أميرا عليها، الأمر الذي حاول الغادرون منعه، بتأخير تسليم إمارة المنطقة للشيخ (أبي أسامة العراقي) -وهي الكنية التي اتخذها الشيخ بعد وصوله إلى الشام- عدة أسابيع، ثم تحريض المجاهدين في المنطقة على عدم السمع والطاعة له، وإعطاء الجولاني الأوامر بخصوص المنطقة لبعض أتباع الهراري من دون الشيخ أبي أسامة كتعبير عن عدم قبول الجولاني لإمارته على المنطقة، وذلك كله تمهيدا من الهراري وأميره لشق الصف بمن تبعهم.

 

ورغم ذلك فقد فتح الله تعالى على الشيخ أبي أسامة في مواقف عديدة، إذ قاد الغزوة على مدينة (الشدادي)، في جمادى الأولى 1434 هـ، ومكن الله تعالى المجاهدين من فتحها وطرد الجيش النصيري حتى مداخل مدينة (الحسكة) ثم الاستمرار في التقدم شرقا، وصولا إلى بلدة (اليعربية)، وكانت هذه الفتوحات بالإضافة لفتح الرقة أهم فتوحات الدولة الإسلامية قبل إعلان تمددها إلى الشام، بعد أن بان أمر تحضير الجولاني وزمرته للانشقاق، وهم يعلنون أنهم لم يعودوا بحاجة إلى دعم الدولة الإسلامية بعد السيطرة على آبار النفط في (الشدادي) و (الرميلان) ومناطق واسعة في الرقة والحسكة ودير الزور.

 

كما كانت حادثة (المسرب) الشهيرة في الشهر نفسه، حين أقدم بعض المرتدين من مؤيدي النظام النصيري على اختطاف المجاهد (قسورة الجزراوي) تقبله الله، ومن ثم قتله والتمثيل بجثته، وتصوير ذلك ونشره على الإعلام، وقد اعتادوا من (جبهة النصرة) تحت إمرة الهراري الخنوع والتخاذل، فأعان الله عليهم الشيخ أبا أسامة ومن أطاعه من المجاهدين، فغزوا ديارهم، وقتلوا كثيرا ممن غدروا بالأخ، وهدموا دورهم، ثم تتبعت المفارز الأمنية فيما بعد من هرب منهم لتقتلهم وتثأر للموحدين منهم.

 

قائد معارك الصحوات في الشرقية

 

ومثلما كان غدر الجولاني وزمرته متوقعا، كان انضمامهم إلى الصحوات التي سيشكلها الصليبيون لقتال الدولة الإسلامية أمرا متوقعا أيضا عند بعض مَن فتح الله بصيرتهم على مدى الانحراف الذي وصل إليه أولئك المجرمون واستعدادهم لركوب كل موبقة لتحقيق المنافع، ومنهم الشيخ أبو أسامة الذي كان يحذر إخوانه منذ بداية فتنة الجولاني أن صحوات الشام ستكون بقيادة تنظيم القاعدة، وكان المجاهدون يستغربون منه هذه التوقعات حتى رأوها واقعا بعد أقل من عام.

 

وقد كانت البركة إحدى المناطق التي كان الجولاني والهراري يعملون على خروج الصحوات فيها، من خلال التحرش المستمر بمجاهدي الدولة الإسلامية وإطلاق النار عليهم في أكثر من حادثة، وتحريض مرتدي "الجيش الحر" على قتالهم كما حدث في قصة حقل "كبيبة" النفطي، إذ وعدوا مرتدي "جيش الثوار" التابع للمرتد "جمال معروف" وغيرهم أنهم سيعينونهم على قتال الدولة الإسلامية إن فعلوا، ثم نكثوا عهدهم معهم عندما أخرجهم المجاهدون من المنطقة ومنعوهم من البقاء فيها، وكذلك حرضوا عشيرة أحد المرتدين الذي قتله مجاهدو الدولة الإسلامية على قتالها، ولم تفلح كل تلك المحاولات بحمد الله، وكان من أسباب ذلك حل الشيخ أبي أسامة لتلك المشكلات بهدوء ومنعه وصولها إلى درجة الصِدام الذي كانت الدولة الإسلامية حريصة على تأجيله آنذاك.

 

فلما خرجت الصحوات في إدلب وحلب، في ربيع الأول 1435 هـ، حاولت الدولة الإسلامية تحييد المنطقة الشرقية عنها، ولكن كان المرتد الهراري قد اتفق مع مرتدي "ثوار الرقة" و "أحرار الشام" وغيرهم من فصائل الصحوات على الغدر بالدولة الإسلامية مستغلين انشغالها بفك الحصار عن جنودها في المناطق الأخرى، ولكن الله تعالى رد كيدهم في نحورهم، فتمكن جنود الدولة الإسلامية من طردهم من الرقة، وقاد الشيخ أبو أسامة العراقي حملة المسلمين لإخراجهم من البركة حتى مكنهم الله تعالى من ذلك بعد حرب استمرت شهورا عديدة وخاصة في منطقة (ميسرة) وصولا إلى (الصور) حيث تبدأ ولاية الخير التي تمكن المجاهدون من تطهيرها بعد شهور قليلة، وتزامن ذلك مع فتوح العراق وكسر الحدود وإعلان إعادة الخلافة الإسلامية، في رمضان 1435 هـ.

 

وكان الشيخ أبو أسامة رحمه الله لا يتأخر عن اقتحام ولا يبتعد عن جبهات القتال حتى في أشد الأوقات، ويعتبر ذلك من نقائص الرجال وخوارم المروءة، وإزراء بالأمراء، ويعيّر قادة الصحوات بأنهم يرسلون أتباعهم إلى الموت وهم مرابطون على شاشات هواتفهم الجوالة يبرقون ويرعدون في الشبكات، ولا يجرؤ أحدهم أن يزور جبهات القتال حتى ولو لتفقد أتباعه إلا لالتقاط صور يباهي بها على مواقع التواصل، وفي أوقات الهدوء لا وقت الاشتباكات، ولذلك نجد أن مرتدي الصحوات في الشرقية ما كرهوا أحدا من المجاهدين ولا سعوا في تشويه سمعته بقدر ما فعلوه مع أبي أسامة، وذلك لشدة نكايته فيهم، ولمشاركته المباشرة في المعارك ضدهم، وقد كانوا يعلمون ذلك بحكم تنصتهم على اتصالات المجاهدين وسماعهم صوته دائما أثناء الغزوات وهو في الصفوف الأوَل يوجه إخوانه ويثبتهم -بعد الله تعالى- في قتال المرتدين.

 

وأثناء المعارك في ولاية الخير كان أميرا على الجبهة الممتدة بين مدينة (الخير) وبلدة (البصيرة)، حيث عرض (الظواهري) هدنته الشهيرة على الدولة الإسلامية، ولدى سماع الشيخ بها أمر بوقف القتال والتقدم بانتظار معرفة رد أمير المؤمنين عليها، وأعلن قادة الصحوات وقف القتال مؤقتا بالمثل، وهم يبطنون غدرا جديدا أظهروه صبيحة اليوم التالي مع بعض الكتائب التي كانت قد أعلنت توبتها من قبل وأعطى الشيخ مقاتليها الأمان إن لزموا بيوتهم، فخرجوا صبيحة اليوم التالي للهدنة مستغلين هجوما للصحوات من جهة البصيرة وعبر نهر الفرات، ونصبوا الكمائن للإخوة، وحاولوا اغتيال الشيخ أبي أسامة فقتلوا مرافقيه تقبلهما الله وأصيب هو إصابة شديدة في رأسه، شفي منها بعد شهور طويلة، دخل خلالها في غيبوبة، وفقد ذاكرته وقدرته على الكلام، ولكن الله عافاه واستعاد صحته وقدرته على العمل والجهاد، إنه كريم معين، وكانت إصابته تلك في جمادى الأولى عام 1435 هـ.

 

مقتله رحمه الله

 

بعد أن استعاد عافيته، انتدبه أمير المؤمنين ليكون عضوا لهيئة الحرب في ولايات العراق، فاستقر في الموصل عدة شهور قضاها متنقلا بين مختلف جبهات القتال، يبحث في احتياجاتها، ويساعد في وضع الخطط للمعارك ضد الرافضة، ويشارك في تنظيم المجاهدين، حتى كلفه أمير المؤمنين من جديد بولاية البركة، فعاد إليها والحملة الصليبية على جنود الخلافة فيها على أشدها، فأعاد ترتيب صفوف المجاهدين مستفيدا من حبهم الكبير له، وثقتهم العظيمة به، وهم يجدونه بينهم في أشد الأحوال وفي أخطر المواقف، ويرون منه التواضع لصغيرهم قبل كبيرهم، والحرص الشديد على قضاء حوائجهم وتأمين لوازم جهادهم.

 

وقد ابتلي في تلك الفترة بمقتل ولده (أحمد)، في رجب 1436 هـ، الذي انغمس مع مجموعة من الإخوة في موقع لمرتدي الـ PKK قرب بلدة (تل تمر) ومكنهم الله من قتل المرتدين والسيطرة على الموقع قبل أن تقصفهم طائرة صليبية، وكان هذا ثاني أبنائه الذين يفقدهم في حياته بعد ولده الأكبر (شبل) الذي مات في بدايات جهاده في العراق، كما فقد في فترة إصابته الأخيرة ابن أخيه (أبي هالة العراقي) الأمير العسكري لولاية البركة بقصف طائرة صليبية أثناء اقتحامه مع مجموعة من المجاهدين نقطة لمرتدي الـ PKK قرب جبل (سنجار)، والذي كان بمثابة ولده فقد نشأ تحت رعايته، وشاركه كل مراحل جهاده في العراق والشام، وقد أثر مقتل كل منهما بالإضافة إلى صديقه (أبي سجاد العراقي) تقبله الله في نفسه كثيرا، ولكنه كان صابرا محتسبا، وفي نفس الفترة استهدف الطيران النصيري منزله في مدينة (الشدادي) بغارة جوية، وقدر الله أن يسلم أهله إذ كانوا قد انتقلوا من المنزل قبل فترة، وقتل في القصف بعض جيرانه من عوائل المجاهدين رحمهم الله.

 

وفي فترة ولايته تلك كانت غزوة فتح مدينة البركة، حيث تمكن جنود الخلافة من كسر شوكة الجيش النصيري، والسيطرة على أجزاء واسعة من المدينة بفضل الله، قبل أن يتدخل الطيران الصليبي ويشن مئات الغارات الجوية على مواقع المجاهدين فيها، مما أجبرهم على الانحياز منها بعد أن كبدوا المرتدين فيها خسائر كبيرة.

 

وبعد أسابيع قليلة من ذلك كان رحمه الله في زيارة لمدينة الرقة، بصحبة الشيخ أبي عامر الرفدان والي الخير الأسبق، فاستهدفتهما طائرة مسيرة صليبية بصاروخ، ما أسفر عن مقتلهما سوية بعد أن ترافقا في طريق الجهاد لمدة عامين، وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان عام 1437 هـ.

 

 

 

 

 


 

67- العدد 216 - الخميس 14 جمادى الأولى 1441 هـ

ثلاثة عقود من الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله
الشيخ عبد الحكيم الصومالي تقبله الله

المسلمون يتفاضلون بحسناتهم، ويتمايزون بصفاتهم، فكل منهم يهبه الله تعالى قوة في جانب من الجوانب، يبرع فيه، وينفع المسلمين به، ومنهم من يمنّ الله تعالى عليه بصفات حميدة كثيرة، ويعينه على النجاح في أي جانب يعمل فيه، لما عنده من همّة عالية، وصبر وجلد، وحسن توكل على ربه سبحانه، وشجاعة عند اشتداد الخطوب.

 

وقد لا يكون هؤلاء من أصحاب الشهادات الجامعية، ولا الألقاب العلمية، ولا أي شيء مما يجعله الناس في زماننا مقياسا لنجاحهم وخبراتهم، وإنما هم أبناء الحياة عركوها وجربوا عسرها ويسرها، وجربوا ما فيها من مخاطر وأهوال، فهان عليهم ما يصعب على غيرهم، ولان بأيديهم الناس وقد شق التعامل معهم على غيرهم.

 

ومن هؤلاء الأفذاذ الذين نفع الله بهم المسلمين في كثير من أوقات الشدة، وخدموا الإسلام في كثير من ميادين الدعوة والجهاد، الشيخ عبد الحكيم أحمد إبراهيم (طُقُب) رحمه الله.

 

في ميادين الدعوة

 

نشأ وعاش في البادية شرق الصومال عام 1390 هـ، وفيها حفظ كتاب ربه، وما إن شب وقوي عوده حتى حبب إليه طلب العلم الشريف، فلزم مساجد (بوصاصو) يتعلم فيها، ويدعو إلى التوحيد والسنة، وكان له فيها صولات وجولات مع أهل البدع من الصوفية وغيرهم، ينكر عليهم بدعهم، ويناظرهم في باطلهم، ويأمرهم بأعظم المعروف وهو توحيد الله سبحانه، ثم بدأ يخرج للدعوة إلى القرى والبوادي في شرق الصومال، وخاصة بين عشيرته الأقربين الذين هدى الله كثيرا من شبابهم على يديه، ثم امتد نشاطه مع إخوان له إلى مناطق شمال الصومال وغربه في (أوجادين) التي يسيطر عليها النصارى الأحباش.

 

وعندما تأسست "المحاكم الإسلامية" في مناطق وسط وجنوب الصومال ناصرها ودعا الناس لنصرتها، رغم أن سلطانها لم يمتد آنذاك لمكان إقامته، وحاول المرتدون مرة منعه من متابعة نشاطه الدعوي بسبب ذلك، وأحاطوا مسجده بالمسلحين لمنعه من الدخول إليه، فما كان منه تقبله الله تعالى إلا أن حمل سلاحه ودخل المسجد غير مبال بجموعهم، وهو مستعد لقتالهم إن منعوه، فخطب الناس ودعاهم إلى ما كان يدعوهم إليه من قبل من لزوم التوحيد والسنة، ويحرضهم على الجهاد والعمل لإقامة الدين، تحت أسماع وأبصار المرتدين.

 

وكانت "المحاكم الإسلامية" آنذاك أمل المسلمين في الصومال لإقامة الشريعة في البلاد، ولكن الأساس الذي قامت عليه وهو اختلاط عمل أهل الصلاح من الموحدين بعمل أهل الفساد من الصوفية والإخوان المرتدين جعل أصول هذا البناء واهنة ضعيفة، وسرعان ما انهار مع أول هجمة عليه تولى كبرها نصارى أثيوبيا ومن أعانهم من المرتدين في الصومال، وكانت النتيجة المعروفة بانضمام الصوفية والإخوان المرتدين وغيرهم من أهل الضلال إلى الصليبيين والمرتدين طمعا في المكاسب والمناصب، كما هو دأبهم في كل مكان وزمان.

 

وبعد انهيار مشروع "المحاكم" وسيطرة الصليبيين والمرتدين على البلاد، وظهور الفتن العظيمة التي كان وراءها من ارتد من قادة "المحاكم"، وحين ضاقت الأرض على كثير من المجاهدين في الصومال، بدأت مجموعات منهم تسعى للانتقال إلى ساحات جهاد أخرى، منها اليمن، كان الشيخ عبد الحكيم ممن يعين الشباب على ذلك، بحكم مرور طريق الهجرة عبر منطقته في شرق الصومال، ولعلاقاته القوية مع الناس، وشجاعته في التصدي للمرتدين.

 

وحدث أن كشف الصليبيون أمر مجموعة من المجاهدين كانت في طريقها للهجرة إلى اليمن في منطقة "بارجال"، تعدادها 11 مجاهدا، وهاجموهم بمعونة المرتدين وقصفتهم الطائرات، فقتل نصفهم، وتمكن الباقون من الهرب إلى الجبال، حيث حاصرهم المرتدون، ولحق بهم الشيخ عبد الحكيم وتمكن من إخراجهم من حصارهم، ثم أمّنهم قبل أن يرسلهم مرة أخرى إلى اليمن بطريق البحر.

 

في ساحات الجهاد

 

وانضم تقبله الله إلى حركة "الشباب" حين كانت أفضل الفصائل المقاتلة الموجودة في الصومال آنذاك، ويقوم عليها رجال عرفوا بصلابة دينهم، وتمسكهم بالتوحيد والسنة، ولم تكن قد اخترقتها النزعات المناطقية ولا العصبيات القبلية الجاهلية، فأرسله قادة الحركة للعمل في الشرق، ضمن المفارز الأمنية العاملة هناك ضد المرتدين.

 

ومن الأعمال التي نفذها آنذاك محاولة اغتيال مرتد من أكبر عملاء الصليبيين، يدعى "ديانو"، فنفر إليه مع مجموعة من إخوانه، واشتبك مع المرتدين وقتل اثنين منهم، أحدهم ضابط، وأصاب آخرين، رغم إصابته رحمه الله في أول الاشتباك، وتمكن من الانحياز دون أن يجرؤ المرتدون على اللحاق به، لشدة ما أثخن فيهم.

 

وكان حريصا على تقوية الجهاد في منطقة شرق الصومال، إذ كان تأثير الحركة مركّزا على مناطق الجنوب، حتى أنه طلب لقاء أمراء "الشباب" وقدم لهم شرحا وافيا عن إمكانات إقامة مركز للمجاهدين في الجبال بمناطق شرق الصومال لتكون جبهة قتال قوية ضد المرتدين والصليبيين.

 

وبعد أن أمضى فترة عامين تقريبا مجاهدا في الجنوب، عاد -تقبله الله- إلى الشرق لجهاد مرتدي حكومة "بونت لاند" العميلة للصليبيين، فأبلى في قتالهم بلاء حسنا، ثم جرى تفريغه للعمل على تأمين السلاح والذخيرة للمجاهدين، لما تكوّن لديه من خبرة في هذا الباب، فنفع الله به المجاهدين كثيرا، وأمضى في عمله هذا سنيناً.

 

الانضمام إلى جماعة المسلمين

 

وفي تلك الأثناء كان المسلمون في كل مكان يراقبون الأحداث والفتن التي عصفت بالشام، والتي تولى كبر قسم كبير منها تنظيم القاعدة وزعيمه الظواهري وأعانه عليها إخوانه من السرورية والإخوان المرتدين، وكذلك الفتن التي كان وراءها الصليبيون لإنشاء الصحوات التي هدفها حرف القتال من جبهات الجيش النصيري إلى ظهور مجاهدي الدولة الإسلامية، وقد أنار الله تعالى بصائر كثير من مجاهدي الصومال فعرفوا الحق وعرفوا أهله، ولم يلتفتوا لدعايات المرتدين وإعلام الطواغيت في تشويه سمعة الدولة الإسلامية وجنودها، فكانوا يدعون لهم بالنصر على أعدائهم، وبالتمكين لهم في الأرض، ويرون أنفسهم إخوانا لهم وإن بعدت المسافات وكثرت الحدود.

 

وقد نصر الله سبحانه جنود الدولة الإسلامية على المرتدين في العراق والشام، ومكّن لهم في الأرض، فأقاموا الدين، وحكموا شرع رب العالمين، ونصبوا الإمام ليوحد جماعة المسلمين، ودعوا المسلمين في كل مكان للانضمام إليها والبيعة لأميرها، ونبذ الفرق والأحزاب التي شتتت المسلمين، وإنهاء الفصائل التي مزقت شمل المجاهدين، فهدى الله كثيرا من المجاهدين للانضمام إلى جماعة المسلمين، وتنازلت كثير من التنظيمات والفصائل عن مسمياتها ودخلت في جماعة المسلمين، وتنازل كثير من الأمراء عن مناصبهم طاعة لرب العالمين.

 

وفي الصومال هدى الله كثيرا من المجاهدين إلى السعي للالتحاق بجماعة المسلمين، وبيعة أميرها الشيخ المجاهد أبي بكر البغدادي رحمه الله، ولكن قادة حركة "الشباب" ضنوا بمسمّى فصيلهم الذي صار عندهم مقدسا، وشحوا بمناصبهم البالية أن يصبحوا تبعا لإمام واحد، وقد اعتادوا لسنين أن تكون تبعيتهم لتنظيم "القاعدة" إسمية شكلية لا يترتب عليها أمر ولا نهي، وفتنهم عن دينهم اختلاطهم بأهل البدع وتلوثهم بأفكارهم وطلبهم لرضا الناس دون رضا رب العالمين، وخشيتهم أن تنقطع عنهم أيادي بعض الداعمين من أهل الضلال المنتسبين إلى الإسلام من دول الخليج خاصة، فلم يعلنوا بداية عن أي موقف تجاه الدولة الإسلامية وإمامها، في الوقت الذي كان جواسيسهم يراقبون الجنود والأمراء ويتابعون حركاتهم وخاصة من يعرفون عنه ميلا إلى ما يخالف أهواءهم ومن كان ينكر عليهم ظلمهم وأخطاءهم.

 

وبمجرد أن أعلنت طائفة من مجاهدي الصومال البيعة لإمام الدولة الإسلامية تحرك المجرمون في قيادة حركة "الشباب" ليعتقلوهم ويقتلوهم ويصدوهم عن دينهم بأي وسيلة كانت، وفي الوقت الذي كانوا ينكرون فيه على الدولة الإسلامية أخذها بأحكام الإمامة الشرعية، صاروا يطبقون تلك الأحكام على الناس فيقتلون من بايع الإمام بدعوى شقه صفهم، ويحاربون من انضم إلى جماعة المسلمين بزعم أنه فرق جماعتهم، ومن ورائهم أسيادهم في تنظيم القاعدة، يثنون على فعالهم، يؤزُّونهم على ذلك أزا، قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون.

 

وهكذا لاحقوا -قاتلهم الله- جنود الدولة الإسلامية في مناطق قوتهم جنوب الصومال، بل صاروا يعتقلون كل من يشتبهون بمحبته للدولة الإسلامية، ويعاقبون حتى من يشاهد إصدارا أو نشيدا نشره ديوان إعلامها، وقتلوا عددا من خيار المهاجرين والأنصار في الصومال، متأسين في ذلك بإخوانهم من صحوات الشام أتباع قاعدة الظواهري المرتدين، أخزاهم الله وكبهم في جهنم أجمعين.

 

وكان الشيخ عبد الحكيم من أوائل المنضمين إلى الدولة الإسلامية ووقاه الله من شر مجرمي حركة "الشباب" أن كان في شرق الصومال بعيدا عنهم، فدعا -تقبله الله- إخوانه في المناطق الأخرى للهجرة بدينهم إلى منطقته، ليؤويهم في دياره، ويحميهم بين عشيرته، حين أرسلت الحركة من يطاردهم ويلاحقهم ويمنعهم من الوصول إلى الشرق، وتمكن بفضل الله من توجيههم إلى طريق الهجرة، حتى وصلوا بسلام، بعد أن حاصرهم المجرمون، وكادوا يأسرونهم أو يقتلونهم، فبقي المجاهدون في دياره شهورا وهو قائم -رحمه الله- على حمايتهم وخدمتهم، ويسعى لتأمين احتياجاتهم من سلاح وذخيرة ومعدات حتى يشتد عودهم، ويتمكنوا من بدء جهادهم من جديد، فكان بحق نعم النصير لإخوانه المهاجرين.

 

جندي من جنود الخلافة

 

وقويت شوكة المجاهدين في شرق الصومال، ومكنهم الله سبحانه من النكاية في المرتدين، في الوقت الذي كان الشيخ عبد الحكيم يتولى مسؤولية العلاقة مع العشائر ودعوة أبنائها، لما حباه الله به من خلق حسن وقبول لدى الناس ولكونه وجيها معروفا في المنطقة، ثم ازدادت مسؤولياته -تقبله الله- بعد سيطرة الدولة الإسلامية على بلدة "قندلا" والمعارك الشديدة بينهم وبين الصليبيين وأوليائهم المرتدين، فكان الشيخ يشارك في المعارك بنفسه، استطلاعا وتخطيطا وإعدادا وتنفيذا، وأبلى في الحرب بلاء حسنا، مثلما ترك في علاقته مع الناس في المنطقة الأثر الحسن.

 

وقدر الله تعالى أن يكون بعيدا عن إخوانه حين أرسلت حركة "الشباب" المرتدة المئات من أتباعها إلى شرق الصومال لا لقتال الحكومة المرتدة وأذنابها، وإنما طلبا للقضاء على جنود الدولة الإسلامية في ولاية الصومال، بعد أن آذاهم نبأ اشتداد عودهم، وإقبال الناس عليهم وعلاقتهم الحسنة بهم، فكان الشيخ يعين المجاهدين من بعيد فيمدهم بالسلاح والذخائر وكل ما يحتاجون، ويجمع لهم المعلومات عن تحركات المرتدين في المنطقة عن طريق علاقاته الواسعة ويرسلها لإخوانه، واستمر في ذلك حتى نصر الله جنود الخلافة على جنود الظواهري المرتدين وأخزاهم وردهم على أعقابهم خاسرين، فكان دور الشيخ عبد الحكيم في تلك المرحلة بدور ألف من المقاتلين كما كان يقول إخوانه عنه، رحمه الله.

 

شهيدا في سبيل الله تعالى نحسبه

 

وبما حازه من شهرة في المنطقة، وبما أبلاه في قتال الصليبيين والمرتدين، صار تقبله الله هدفا مرصودا لأعداء الله، يتتبعون آثاره ويسعون إلى النيل منه بأسره أو قتله، وكان رحمه الله يتنقل بين المناطق للقيام بشؤون إخوانه، فاصطدم بكمين للصليبيين أعدوه لأسره، فاشتبك معهم ورفض الاستئسار لهم، وعندما يئسوا من تحقيق غرضهم الأول، قصفوه بصاروخ من طائرة مسيرة، فقتل تقبله الله تعالى، مقبلا غير مدبر، وكان ذلك في شهر رجب من العام الفائت 1440 هـ.

 

وفرح الصليبيون والمرتدون بذلك فرحا شديدا، وعدوا مقتله نصرا عظيما لهم على المجاهدين، وأذاعوا الخبر في وسائل إعلامهم المختلفة، وأما أعداؤه من مرتدي القاعدة فإنهم سعوا لتشويه سمعته، وتزوير حقيقة مقتله، فأشاعوا بين الناس أنه قتل في اشتباك مع المهربين إثر خلاف معهم على الأموال، بل واتهموه بالعمالة للصليبيين والردة عن الدين، فلم يفارقوا بذلك سنّة إخوانهم المرتدين في كل مكان، من رمي للمسلمين بالتهم الباطلة، واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لا لشيء إلا أنهم خرجوا عن فصائلهم وتنظيماتهم مزّقها الله، وما سعيهم إلا في ضلال.

 

وما زال جنود الدولة الإسلامية في ولاية الصومال، ثابتين على جهادهم، صابرين على البلاء وكثرة الأعداء، لا يجزعون لمصيبة، ولا ينكسرون لمقتل أخ لهم مهما كان أثره فيهم كبيرا، وقدره بينهم رفيعا، وهم على ذلك ماضون حتى يحكم الله تعالى بينهم وبين القوم الظالمين.

 

 

 

 

 


 

68- العدد 221 - الخميس 19 جمادى الآخرة 1441 هـ

أبو رواحة الحمداني (تقبله الله)
فتىً نشأ في طاعة الله وقتل في سبيله، نحسبه

الشجرة الطيبة تثمر في كل أرض طيبة، وكذلك المسلم الصالح يفيض خيرا في أي ميدان من ميادين العمل لدين الله يوكل إليه، ويجاهد نفسه للتغلب على ما يتعرض له من صعوبات ومشاق في سبيل تحقيق مراد الله تعالى، وأداء ما اؤتمن عليه من الواجبات، وينشر الخير والتفاؤل أينما حل، ويعين إخوانه على الصبر، ويحرضهم على البذل، ويعينهم على الأداء.

 

أبو رواحة الحمداني تقبله الله تعالى، واحد من مجاهدي الدولة الإسلامية الذين عملوا في الجانب الإعلامي فترة طويلة، وأبلوا فيه البلاء الحسن، فلم يهمهم أن يذكرهم الناس في الإعلام وغيره، تعلم التوحيد وأُشرب حب الجهاد فتياً، وتشوقت نفسه إلى نصرة إخوانه فعزم أن يلحق بهم، وكان خير معين لأهله أن ينشطوا معه لذلك، وتنقل بين مفاصل عديدة في عمله الجهادي، وخاض الحروب مع أعداء الله في مواطن كثيرة، وثبت وقت الشدة والبلاء، كما كان عهده وقت الفتح والتمكين، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً.

 

من حبّ الجهاد إلى القيام به

 

عبد الحميد عجاج مسلم الحمداني، ولد قبل عشرين عاماً في (الحمدونيّة) وهي من قرى منطقة (الحويجة) في كركوك، وأنعم اللهُ تعالى عليه بأن كان خاله من المجاهدين في سبيل الله، وهو (أبو عمر العراقي) رحمه الله من قدامى المجاهدين في العراق، فعلّمه توحيد الله تعالى والتمسك بسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأشربه حب الجهاد في سبيله سبحانه منذ نعومة أظفاره، حتى تعلق قلبه بالجهاد وأهله وهو صغير لا يقوى عليه ولا يهتدي لبلوغ ساحاته، فكان يتتبع إصدارات المجاهدين بشغف، ويستمع لكلمات أمرائهم ليحفظها ويقتطع لنفسه منها عبارات تعجبه يرددها ويأنس بها، حتى بلغ به الأمر أن نسخ رثاء الشيخ أبي مصعب الزرقاوي لأخيه الشيخ أبي أنس الشامي -رحمهما الله- موضوع إنشاء وقدّمه لمعلم اللغة العربية في المدرسة، فكتم أمره، ونصحه أن يحذر من أعداء الله الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولو كان طفلاً صغيراً.

 

وكانت حال المجاهدين قبل الفتح والتمكين صعبة لا يقوى عليها إلا الرجال الأشداء وأولو العزم من أتباع المرسلين، سواء منهم المنتشرون في الصحاري والبوادي، أو المتربصون بأعداء الله في المدن والأرياف، لقلة عددهم، وضعف إمكاناتهم، وشدة الهجمة عليهم من الصليبيين والمرتدين، وكان أبو رواحة آنذاك ما يزال فتياً، ورغم ما يصله من وصف أحوال المجاهدين إلا أنه كان يتحرق للالتحاق بهم ونصرتهم في ساعة الشدة، فلم يتيسر له الأمر آنذاك.

 

ولم تمض فترة طويلة على طلبه الجهاد في سبيل الله تعالى حتى فتح سبحانه على المجاهدين مناطق واسعة من أرض العراق ومنها منطقة (الحويجة) مسقط رأسه ومربع شبابه ومسكن أهله، فسارع بالانضمام إلى جيش الدولة الإسلامية جندياً من جنودها ومجاهداً تحت رايتها، فانتفع بذلك ونفع الله به الإسلام وأهله أينما حل وارتحل، جعل الله مقامه في عليين.

 

وكان مما ابتلاه الله تعالى به أن كان وحيد أبويه، يحبانه حباً عظيماً، ويشق عليهما كثيراً فراقه وابتعاده عنهم، فسعى والده جهده أن يثنيه عن مقصده، ويرده عن طريقه، ويدعوه للقعود عن جهاده، فلم يكن يطيعه في ذلك، فيفوّت على نفسه نعمة الجهاد في سبيل الله التي كان يطلبها ولو في أقاصي الأرض فإذا بها تحل في أرضه وبلده، ولم يقطع علاقته بأهله رغم إصرارهم وإلحاحهم عليه، بل استمر يبرّهم ويدعو لهم بالخير، ويصرّ على دعوة والده وتحريضه على الجهاد حتى هداه الله لذلك، فكان مورد خير عليه، وكان برّه به في ذلك من أعظم ما يبرّ به الولد والده، رحمهما الله، وجمعهما في جناته.

 

جراحات في سبيل الله

 

ومضى أبو رواحة رحمه الله في رحلة جهاده مع جنود الخلافة يصاول أعداء الله تعالى وينصر أولياءه في أي مكان يستنفر إليه، فقاتل في الأنبار والفلوجة وصلاح الدين ودجلة، فضلا عن جبهات ولاية كركوك التي بدأ منها.

 

ولم يبعده عن مواطن النزال إلا الإصابات المتعددة التي أصيب بها في حروبه، يستغل فترات الاستطباب منها في تحصيل العلم النافع والإعداد لنفع الجهاد والمجاهدين عندما تتحسن حالته، فكانت إصابته الأولى في (بيجي) خلال إحدى الغزوات، فأقعدته شهوراً انتفع فيها بطلب العلم الشرعي بالتحاقه بأحد المعاهد العلمية التابعة لديوان الدعوة والمساجد، ثم أصيب ثانية إصابة خطيرة في رأسه في قصف صليبي قرب (القيارة) وأنجاه الله تعالى من الموت، ليزداد في كل مرة إصراراً على جهاد المشركين، حيث عاد بعد شفائه للقتال على جبهات ولاية كركوك ضمن كتيبة (أبي بكر الصديق) رضي الله عنه، أميراً لإحدى سرايا الاقتحامات التي أقضت مضاجع مرتدي البيشمركة ونكلت بهما أيما تنكيل.

 

في ديوان الإعلام

 

ولما عُلم عنه من شجاعة وإقدام، اختاره إخوانه ليكون ضمن مجاهدي (الإعلام العسكري) الذين ينغمسون مع المجاهدين في أشد مواطن الخطر، ويوثّقون بطولاتهم، وينقلون للناس من ورائهم أخبار فتوحاتهم، ويبينون لهم حقيقة المعركة بين أولياء الله وأولياء الطاغوت، وتنقل أبو رواحة -رحمه الله- في عمله هذا بين مختلف أرجاء ولاية كركوك، وفي معارك (الطاقة الحرارية) قرب جبل (حمرين) وفي (إمام غربي) جنوبي الموصل، وفي الوقت نفسه كان يشارك المجاهدين في القتال والعمل الأمني ويقدم ما يستطيع نصرة لدين الله.

 

ثم انتدب للعمل في صحراء (الجلام) بصلاح الدين، فساهم بإنشاء المكتب الإعلامي الجديد فيها، وسعى لتأمين احتياجاته، وتدريب بعض الإخوة للعمل معه، وكان شديد الاهتمام بنقل كل أخبار العمل في المنطقة وتوثيقه بالصوت والصورة ونشْرِ كل ذلك، بشارة لأولياء الله وإغاظة لأعدائه، وفي الوقت نفسه يزور المجاهدين ليوزع عليهم المنشورات والإصدارات ويبشرهم بأخبار إخوانهم في ساحات الجهاد الأخرى التي تغيب عنهم بسبب انقطاعهم الطويل أحياناً عن الاطلاع على الإعلام، فكان الإخوة ينتظرون تلك الزيارات لما فيها من إدخال السرور على أنفسهم، ولما يجدونه من أبي رواحة من حسن خلق وطيب معشر، ولما كان يُسمعهم من الكلام الطيب الذي يعينهم على الصبر والثبات في جهاد أعداء الله تعالى، ويحرضهم على بذل المزيد من الوقت والجهد لنصرة الإسلام والمسلمين.

 

وفي إحدى الليالي التي ذهب فيها ليرسل أخبار المجاهدين لإخوانه كي ينشروها رفقة أخ ضرير، تعقبهما الصليبيون، وكانا في منطقة نائية، وقاموا بعملية إنزال طلباً لاعتقاله، وحاصره جنودهم طالبين منه الاستسلام لهم، فأبى ذلك واشتبك معهم بسلاحه الخفيف أكثر من ساعة، حتى كتب الله تعالى له ولأخيه القتل في سبيله نحسبهم، بعد أن رفضا الاستئسار للمشركين وقاتلا حتى النهاية، تقبلهما الله تعالى في الشهداء.

 

وصيته لإخوانه

 

وكان من وصية أبي رواحة -رحمه الله- التي تركها لإخوانه من بعده: "أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والثبات على هذا الطريق، بالله عليكم.. جاهدوا الكفار بكل ما تستطيعون، من خلال النصرة الإعلامية، فوالله إني وجدتها أشد على أعداء الله من حمم القذائف، فبتوثيقكم العمليات تغيظون أعداء الدين.

 

تفكر أخي أن لك أجراً بكل لقطة تظهرها، يفرح بها كل مسلم موحد يراها، ويغتاظ منها كل كافر منافق.

 

لله دركم.. اصبروا، فوالله إن النصر قاب قوسين أو أدنى.

 

وهذه بعض الوصايا خذوها مني.. عليكم بتقوى الله عز وجل، والطاعة، وقيام الليل، والدعاء الدعاء، ولزوم الجماعة، والثبات، والصدق والإخلاص، وذكر الله، وتلاوة القرآن، والمحبة، وحسن المعاملة، والسمع والطاعة.

 

وموعدنا عند الله تعالى، هنالك الحياة الأبدية، خلود فلا موت، لا حزن ولا هم ولا تعب ولا مصاعب ولا أي شيء من ذلك.

 

هذا فما كان خطأ فمني ومن الشيطان، وما كان صواباً فمن الله وحده.

 

سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".

 

 

 

 

 


 

69- العدد 227 - الخميس 2 شعبان 1441 هـ

"ترك نعيم الدنيا طالباً نعيم الآخرة"
الطبيب أبو حسن السوداني -تقبله الله-

يحرص طواغيتُ الأرض على أن يُبعدوا أصحاب "العلوم الدنيوية" عن الدين، وأن يحشُوا أذهانهم بالأفكار الكفرية والشبهات خلال مراحل دراستهم المختلفة، ويجعلوا من تقليد كفار الغرب في كل شؤون حياتهم غاية لهم، وأن تكون الإقامة بين ظهرانيهم وخدمتهم حلماً يسعون لتحقيقه، وأن يكون الانشغال عن نصرة دينهم بل ومعاداة الإسلام وأهله صفة ملازمة لهم، وبهذا الفكر المنحرف يكونون خير عون للطواغيت في السيطرة على بلاد المسلمين، وشرّ قدوة يدعون الشباب للتأسي بها، كنموذج للنجاح في الحياة، ولو كانوا من أخسر الخاسرين في الآخرة.

 

ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، فيهدي إليه بفضله شباباً ينصر بهم دينه، ويجعل همّهم تسخير ما تعلموه لحرب الكفر وأهله، ويجعل منهم حجةً على أمثالهم ممن يحملون علوماً وخبرات تمسّ الحاجة إليها في كل شؤون المسلمين، وخاصة المجاهدين منهم الذين يدعون ربهم أن يشدّ عضُدَهم بإخوانهم، وينصرهم بهم على القوم الكافرين.

 

أبو حسن السوداني -تقبله الله- من أرض النيلين، السودان، طبيبٌ جرَّاح، آثر تضميد جراح أمته المكلومة وخدمة إخوانه المجاهدين في سبيل الله تعالى لقاء الأجر منه -سبحانه- على الوظيفة المريحة والمكانة الاجتماعية في بلاد الكفر، ثم ختم حياته بشهادة في سبيل الله تعالى، بعد أن زهد في الشهادات الجامعية والألقاب العلمية، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

نشأة عادية وحياة رغيدة

 

ترعرع أبو حسن في بلاد الصليبيين في بريطانيا، ثم انتقل مع والديه إلى بلاد الحرمين، قبل أن يسافر إلى السودان ليكمل دراسة الطب فيها، وقد عُرف بتفوّقه في دراسته الجامعية حيث كان الأول على دفعته خلال فترة دراسته.

 

لم يُعرف عنه أي ميول لنصرة الدين خلال نشأته وفترة دراسته، إنما كان كغيره من الشباب الذي قضى فترة دراسته وهو يترقب الوظيفة والراتب الذي ينتظره في آخر الطريق، كما أنه كان من عائلة ثرية، فتحت له جميع أبواب الدنيا في بلد عانى -وما زال يعاني- من الفقر والمصائب ما لا يخفى على أحد.

 

أثر الصُحبة والنُصرة

 

وشاء الله تعالى له الهداية إلى الحق، نحسبه، والاستعمال في نصرة الدين، في موطن هو أبعد ما يكون عن ذلك، في بلاد الكفر بريطانيا التي عاد إليها بعد إكمال دراسته في السودان، فيسَّر الله تعالى له صحبة خيرٍ من شباب الإسلام المناصرين للمجاهدين، الذين يتحرَّقون شوقاً لنصرة الدين، وإن كان كثيرٌ منهم يسوّف في ذلك ويتأخر، حتى يجعل الله له سبباً ليلقي عن كاهله كل الأعذار ويطرح من ذهنه كل التبريرات، ويمضي عاجلاً إلى ربه ليرضى، فيجد أنه قد جاء على قدر وموعد من الله سبحانه، وأن ما فاته من عمل صالح يُعوّضه بإذن الله بمزيد من الجهد والبذل لهذا الدين، حتى يأتيه اليقين وهو على ذلك.

 

وكان من أسباب هداية الكثير من المسلمين في العالم إقامة مجاهدي الدولة الإسلامية الدين في الأرض، وتحكيمهم لشرع ربهم، وإعلانهم ما تحت أيديهم دار إسلام، وأن عصبتهم جماعة للمسلمين تقوم على كتاب هادٍ وسيف ناصر وإمام يسوسهم بما يُرضي الله، ودعوتهم المسلمين في كل مكان للهجرة إليهم، والجهاد معهم، فنظر الناسُ وإذا بدولة الإسلام قد عادت للحياة من جديد، لتشتعل في نفوسهم جذوة السعي لنصرته، ويطلبوا الهجرة إليها للعيش تحت حكم الله فيها، وطلب الموت تحت رايتها.

 

استيقظت فطرتُه فمضى مهاجراً إلى الله

 

إن أكثر ما يميّز قصة أبي حسن هي سرعة التزامه الحق في زمن قلَّ من يلتزم الحقَّ فيه، وقد كانت هدايته بعد تخرجه من (كلّية الطب) وعودته لبريطانيا (التي كان يحمل جنسيتها) منتظراً وظيفته شبه المضمونة، وحينها كان بعض زملائه يخططون سراً للهجرة إلى أرض الخلافة، ولاحظ أبو حسن كثرة لقاءاتهم واستفسر منهم عن سبب لقاءاتهم المتكررة المتأخرة، فتوسَّم أحدهم الخيرَ فيه، وأخبره بأنهم يريدون الهجرة.

 

فلمّا سأله: "ما هي الهجرة؟"، بيَّن له أنها فريضةٌ على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه في بلاده، للخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، كما كان حال الصحابة رضي الله عنهم في أول الأمر، ودار بينهما نقاش يسأل فيه أبو حسن والآخر يجيبه، ختمه بإعطائه بعض إصدارات الدولة الإسلامية ثم افترقا.

 

وفي اليوم التالي مباشرة، تعجّب إخوانه من حضور أبي حسن إليهم معلناً لهم قرار الهجرة معهم! وقد فرح الإخوة برفقة أبي حسن فرحاً عظيماً، ويسَّر الله لهم الهجرة بعد بذل الجهد في التخطيط بسرية والوصول إلى دولة الإسلام.

 

والفطرة السليمة والتواضع للحق مؤشران على الهداية التوفيقية من الله للعبد... فلم يتحجج -رحمه الله- بالأعذار ولم يغتر بكثرة المخالفين وعلماء الطواغيت، ولم يتكبر عن الحق بشهادته ومكانته في المجتمع، نحسبه.

 

والكبر من موانع الهداية! وسبب في عدم وصول الحق إلى القلب، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

 

في ديوان الصحة في الرقة

 

وفور وصوله إلى دولة الإسلام عارضه والداه وأقاربه، وكان الإخوة يخشون عليه من أن يتبدل وينتكس، كونه حديث عهد بالاستقامة في طريق الجهاد، ولكن تعجبوا من ثباته، فلم تأخذه في الله لومة لائم، وكان متلهفاً للتفقه في الدين، وشهد من كان معه أنه كان صوّاماً قوّاماً.

 

وكلّف بالعمل في مشافي الشام، فعمل فترة في مشفى الرقة يعالج المرضى والجرحى من المجاهدين وضحايا غارات القصف الجوي من الرعية، فنال محبة الناس ودعاءهم له بالخير بسبب حسن خلقه وخبرته الجراحية التي اكتسبها بسرعة من زملائه، كما كانت له يد خير في التدريب والتعليم من خلال الدورات الطبية المتنوعة في المعهد الطبي للمجاهدين.

 

من الرقة إلى ثغور دمشق

 

ثم انتقل بعدها إلى ريف دمشق، وكان خير معين لرفيق دربه الدكتور أبي عمر السوداني (أحمد سامي خضر) تقبله الله، الذي كان أميراً للشؤون الطبية في ثغور دمشق، وكانا تقبلهما الله يُلحّان في طلب المشاركة المباشرة في الغزوات والمعارك، ولكن كان أمراؤهما يذكّرونهما بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ) [رواه البخاري]، وأن دورهما خلف إخوانهم في الثغور لا يقلُّ أهمية عن دور المجاهدين في الصف الأول، فأهمية ما يقدمانه للمجاهدين في ثغر الطِّبابة في المعارك والغزوات لا تخفى على أحد، فاستمرا في جهدهم وجهادهم في هذا الثغر حتى حان موعدهم المرتقب مع الشهادة.

 

في ملاحم الموصل

 

طوَّقت أحزابُ الكفر مدينة الموصل قبيل اشتعال الملاحم فيها، واستُنفر جنود الخلافة لكسر الحصار عنها، فاكتتب أبو حسن وأبو عمر مع كتائب الاقتحام المتوجهة من الرقة إلى منطقة (البعاج) الواقعة جنوبي (تلعفر)، للانطلاق منها لقتال حشود الرافضة الذين حاصروا الموصل، وهناك أبليا بلاءً حسناً في القتال مع إخوانهم، حيث شاركا في اقتحام الساتر على الرافضة المشركين، وبعد اقتحام المجاهدين لإحدى ثكناتهم، قُتل (أبو عمر) -تقبله الله- بقنبلة يدوية ألقاها نحوه أحد المرتدين المختبئين داخل الثكنة، وفي طريق عودة المجاهدين إلى مواقعهم اعترضتهُم طائرةٌ مروحية للعدو، فاشتبك المجاهدون معها ليُقتل أثناء ذلك الطبيب (أبو حسن) ويلحق برفيقه (أبي عمر) تقبلهما الله تعالى في الشهداء.

 

وما يزال المجاهدون في كل الجبهات بأمس الحاجة إلى إخوان أبي الحسن السوداني تقبله الله من الأطباء المهرة، الذين يداوون جرحى المجاهدين، ويعينونهم في جهادهم، فيكون لهم بكل نفْس مسلمة يحيونها الخيرَ العظيم، وبكل مشهد يشهدونه مع المجاهدين مشاركة لهم في أجر قتالهم للمشركين، وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حَظٍّ عظيم، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

70- العدد 228 - الخميس 9 شعبان 1441 هـ

دعوة وجهاد.. علم وعمل
أبو مختار الأنصاري -تقبله الله-

هذا كان داعيةً يحرِّض على الجهاد نصرةً للدين وأهله المستضعفين، أصبح اليوم مع علماء السلاطين يطعن في المجاهدين، وذاك كان مجاهداً أفنى سنين من عمره يقارع الكفار والمرتدين، ألقى سلاحه اليوم والتحق بخندق الصليبيين موقعاً على مسالمة عنهم وعن الطواغيت المجرمين، وآخر خرج عن الجماعة فضلَّ وأضلَّ أتباعَه فصاروا من المارقين…! ما أكثر المنتكسين في وقت الشدائد والمحن، فعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان، والناس كالإبلِ المائةِ لا تكاد تجد فيها راحلة!

 

ولكن للهِ تعالى في كل حال وزمان رجالاً يختارهم من بين كثير من عباده، فيهديهم، ويجعل في قلوبهم حبَّ الدين ونصرته، يسترخصون في ذلك أغلى ما يملكون من نفس ومال، يجاهدون في سبيل الله، لا يضرُّهم من خذلَهم ولا من خالَفهم حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك.

 

فأمة الإسلام ما تزال تلد رجالاً أنجاداً أبطالاً يذودون عن دينها، ويصونون عرضها، ويحمون بيضتها، من علماء ربانيين، وشبابٍ غيورين، مجاهدين مقاتلين أشداء على الكفار رحماء بينهم، من أمثال (أبي المختار الأنصاري) رحمه الله، إنها أمة ولود.

 

مولده والبيئة التي نشأ فيها

 

وُلد أبو المختار الأنصاري واسمه (محمد بن مالم فو)، عام 1406 هـ في بلدة (مالم فتوري) بمنطقة (برنو) قرب الحدود المصطنعة مع النيجر، حيث نشأ وترعرع فيها، وكان منذ صغره -رحمه الله- يرِد الكتاتيب كعادة أولاد المنطقة، وهي المدارس القرآنية الأسبق والمنتشرة خاصة في القرى، والتي تُولي جانب التربية اهتماماً أكبر، وتراعي القيمَ والأخلاقَ الإسلامية، فكان رحمه الله من الذين منَّ الله عليهم بمجانبة المدارس الحكومية وما شابهها، فسلِمت فطرته من كيدها، فلم تكدِّر أدرانُها أفكارَه، ولم تلفت زخارفُها أنظارَه، ليهيئه اللهُ تعالى بحكمته وتوفيقه فيما بعد لنصرة دينه وخدمة سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

 

تعرفه على عقيدة أهل السنة والجماعة

 

وظلَّ أبو المختار رحمه الله يدرس في تلك الكتاتيب حتى وفَّقه اللهُ تعالى لاستظهار كتابه الحكيم وهو في عنفوان شبابه، ثم شرع في طلب الفقه الإسلامي في حلقات العلم في (مالم فتوري)، ففي تلك المرحلة مع أحد العلماء المشهورين في بلده، كان يدعو إلى التوحيد ويحرض على الجهاد. فتتلمذ عليه أبو المختار فترة من الزمن حتى فهم عقيدة السلف ومنهج أهل السنة والجماعة، وحبب إليه الجهاد.

 

وما إن شرح اللهُ صدره لملة محطِّم الأصنام وباني البيت الحرام، حتى طفق يواجه بها من لقي من أهل العلم. ووقعت له مناقشات أثناء رحلاته إلى بحيرة (تشاد) قبل سيطرة المجاهدين عليها (حيث كانت لهم مزارع فيها) مع بعض علماء المنطقة حول عقيدة أهل السنة الصافية التي بات أغلب مدَّعيها عنها بمعزل!

 

وقد حاول النفير إلى أرض الجهاد مرات، ولكن لم يتمكن من ذلك بسبب شدة مراقبة الجواسيس والميليشيات الموالية للجيش النيجيري المرتد آنذاك، الذين قعدوا لكل من آنسوا منه الانتماء إلى المجاهدين أو الرغبة في اللحاق بهم كل مرصد، فانشغل بالعلم والتعليم إلى أن وفقه الله للنفير.

 

التحاقه بأرض الجهاد

 

ارتحل رحمه الله إلى بلدة (بوسو) في النيجر فراراً بدينه لما رأى انضواء شباب بلده إلى الميليشيات المرتدة الذين أخذوا في التنكيل بأهل التوحيد هناك، فمكث في (بوسو) إلى أن فتح اللهُ على عباده المجاهدين بلدته ومسقط رأسه (مالم فتوري) سنة 1435 هـ، فوجد في ذلك فرصة متاحة لنفيره، فبادر إلى انتهازها، وقرر الالتحاق بركب الطائفة المنصورة طالباً مرضاة الله تعالى، غير عابئٍ بمن فرَّ من الأهل والخلان إلى ديار الكفر، ولا بمن يحذّره وعورة الطريق، ولا بمن يتسوف بعسى ولعل وبمعاذير واهية.

 

دعوته في دار الإسلام

 

ولما منَّ اللهُ عليه باللحاق بدار الإسلام، استأنف التدريس فور اجتماعه بإخوانه المجاهدين، باذلاً جهده فيه بما وهبه الله من علم شرعي وخبرة وفصاحة في الدعوة والتعليم، لا سيّما وأن غالب من أوتوا نصيباً من العلم في هذا الزمان قعدوا عن الهجرة، بحجة أن الناس يحتاجون إليهم في دار الكفر! ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم.

 

وكان رحمه الله قبل انضمامه إلى المكتب الدعوي، قد عمل خطيباً ومدرِّساً في مركز (كايوا) وهو أول مركز في (البحيرة)، والذي صار أميره فيما بعد ليُكسبه اسم (مركز مد ولي) نسبة إليه.

 

غزوه وجهاده

 

وإلى جانب جهاده في الدعوة، فقد خاض رحمه الله معارك وغزوات عديدة، أبلى فيها بلاءً حسناً، وأصيب في إحدى هذه المعارك بجراح في ساقه عرج بسببها، ولم تمنعه من مواصلة الجهاد إلا فترة يسيرة.

 

من إمارة السرية إلى إمارة الكتيبة مروراً بالعمل الأمني تجلَّى حسنُ تدبيره في القيادة ودهاؤه وذكاؤه وسلامة وعيه وسداد رأيه وبصيرته، فهو منذر جيش، ومسعر حرب، مخطط للغزوات، مقدام في المعارك.

 

ومن أشهر الغزوات التي خطط لها: معركة (دماترو)، ومعركة (مالم فتوري)، ومعركة (غيدم)، ومن أبرز معاركه التي خطط لها وقادها بنفسه معركة (غرندا)، حيث سقى فيها وإخوانه الكفارَ والمرتدين علقم الخسائر في تلك البلدة التي تتمركز فيها أقوى قوات التحالف الإفريقي الصليبي بسيطرة المجاهدين على ثكناتهم وإحراقها بالكامل بعد اغتنام ما فيها.

 

كما كانت له صولات وجولات ضد الخوارج المارقين، وخطباً ودروسًا في كشف باطلهم ليجمع بين الدعوة والجهاد في هذا المجال، حيث كان يبيّن حقيقة منهجهم ويرد شبهاتهم منذ بداية أمرهم، ويثبِّت الناسَ ويحثهم على لزوم الجماعة ومنهاج النبوة.

 

في العمل الأمني

 

وعندما عُيّن أميراً على كتيبة العمل الأمني، شرع في التنقيب عن الجواسيس والمتسببين بفتنة المسلمين عن دينهم، وتمكن من القبض على المتورطين بذلك، حتى خفَّف اللهُ به فتنتهم.

 

وقد كان أبو المختار ليّن العريكة متواضعاً سمحاً رفيقاً بإخوانه المجاهدين، لا يزدري أحداً من المسلمين، ما جعله مألوفاً محبوباً حيثما حلَّ وأينما ارتحل، ومع هذا كان شديداً في ذات الله، غُصَّة في حلوق الطواغيت وأعوانهم المرتدين، حنظلة للمرجفين والمخذلين، ولا غرابة أن تكون كذلك صفات من تجسدت فيه ملة إبراهيم عليه السلام.

 

قِتلةٌ في غزوة الثأر

 

وبعد تعيينه أميرا للكتيبة بأربعة أشهر تقريباً، جاء وقت غزوة الثأر للشيخين الجليلين (أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي والمتحدث الرسمي أبي الحسن المهاجر) تقبلهما الله، فكان قائد إحدى معاركها، فدبَّر سيرها وجهَّز جيشها وسار لها بعزم وهمة، وكان مما قاله يومها لإخوانه ممازحاً لهم: "صوِّروني لعلي لا أعود"!

 

فاقتحم رحمه الله بجيش المسلمين إلى عقر دار العدو في بلدة (دماترو) بمنطقة (يوبي) ليهاجم به الجيش النيجيري المرتد، ولما حمي وطيس المعركة، وزُلزل عرشُ المرتدين، وضعفت عزماتهم، احتموا بمدرعاتهم، فأخذ الشيخُ الباسلُ سلاح (آر بي جي) وخاض به غَمْر الوغى، وتوغل قرب العدو، وانبرى لإحدى دباباته في أحرج موقف ليستهدفها، ثم عاد ليحاول مرة أخرى، فانتبه له أحد الأمراء، وكأنَّه لم يأمن عليه وقوفه في ذلك المكان، فجاء إليه ليستأخره، وأثناء ذلك استهدفته دبابةٌ بقذيفة غادرة لتنفجر أمامه فتصيبه شظاياها هو ومرافقيه رحمهم الله، هنالك تجندَل الليثُ ومضى شهيداً لترتوي بدمائه شجرة الإسلام، فقتل مقبلاً إلى ربه غير مدبر، نحسبه كذلك والله حسيبه.

 

 

 

 

 


 

71- العدد 239 - الخميس 26 شوال 1441 هـ

أبو خالد الهندي تقبله الله
طلب النكاية في المشركين في الهند فنوّله ربُّه ذلك في خراسان

إنَّ الشجاعةَ والإقدامَ من الصفات العزيزة في البشر، فإن اتَّصف بهما المجاهدُ؛ بلغ بهما في طاعة الله تعالى ورضوانه، ما لا يبلغه من لم يُرزقهما من المسلمين، ثم يكون الإيمان بقضاء الله وحسن الظنّ به سبحانه، دافعاً يدفع المسلمَ إلى مزيد من الثبات، حين تهتزُّ القلوب وتُقتحم الخطوب وتشتدُّ الأهوال.

 

أبو خالد الهندي تقبله الله تعالى، واحد من شباب الإسلام اشتعلت في قلبه الغيرة على الدين وأهله، والحرص على الانتصار له من المشركين، وزيَّنه بشجاعة وثبات وإقدام قلَّ أن يوجد له فيها نظير، فتعلق قلبه بالجهاد في سبيل الله، وتاقت نفسه إلى أن يطلب الموت مظانَّه بعد شديد نكاية في الكافرين، فكانت خاتمته ملحمةً ونصراً لأهل الإسلام، وذكرى مؤلمةً لأعدائه لن ينسوها مدى الدهر، فجزاه الله تعالى على صنيعه هذا خير الجزاء.

 

نشأته وأسفاره

 

في منطقة (كيرالا) جنوبي الهند، كان مولده ونشأته، يرى بعينيه حقد المشركين من الهندوس والسيخ على المسلمين وعدوانهم عليهم في الهند وكشمير، فلا يجد حولاً ولا طولاً لنصرة إخوانه والثأر لهم، ولا يجد من الجماعات التي تدَّعي الإسلام والجهاد في تلك الأرض من يصْدق في دعواه أو تصلح عقيدته ومنهجه، فيدَعُها سائلاً المولى أن يهديه إلى الصواب، ويقرِّبه من المتمسكين بالسنة والكتاب.

 

تعلَّم القرآن صغيراً وحفظ قدراً كبيراً منه في بلده (كسارا كود)، ولما شبَّ وقدر على كسب الرزق، طوّف في الأرض سائلاً الله تعالى من فضله، فأقام في البلد الحرام مكَّة حيناً من الزمن، يعتاش من عمله بالتجارة ويداوم الحضور إلى المسجد الحرام للاعتكاف وتعلُّم القرآن، وأكرمه الله تعالى بأداء فريضة الحج أثناء مكوثه هناك، كما كانت له أسفار من قبل إلى ماليزيا ودبي، ما عوَّده على تحمُّل مشاق الحياة، وساعده على إتقان اللغات "الماليزية" و "الإنكليزية" إلى جانب اللغتين "الهندية" و"الماليالامية" المنتشرتين في بلاده.

 

طلبه الجهاد في سبيل الله تعالى

 

انضم في بداية الأمر إلى "جماعة محلية" في موطنه، تدَّعي السعي لتحصيل حقوق المسلمين في الهند، فحصل فيها على بعض التدريب البدني والعسكري، وشارك معهم في بعض الهجمات ضد الكفار، ولكنه سرعان ما تركهم عندما وجدهم بعيدين عن التوحيد والسنة، أصحاب دعوات وطنية وقومية مبتدعة.

 

فلما مكَّن اللهُ تعالى لمجاهدي الدولة الإسلامية في الأرض، وأعيدت الخلافة الإسلامية، أعلن مناصرته لها، وقام يدعو الناس إلى اللحاق بها والقتال في صفها، وهذا ما سبب له مشكلات كبيرة مع من يحيطون به، ومع أقاربه الذين سعوا إلى صده عن هذا السبيل، فثبَّته الله تعالى ولم يلتفت إليهم، بل سعى إلى دعوتهم وإزالة الشبهات التي ألقاها عليهم أهلُ الزيغ والضلال من المعادين للدولة الإسلامية.

 

وكان يسعى جاهداً للهجرة إلى دار الإسلام، فحاول ابتداءً أن يجد طريقاً إلى ولايات العراق أو الشام فلم يتيسَّر له ذلك، ثم تواصل مع إخوة له سبقوه إلى ولاية خراسان فأعانوه على مبتغاه، وساعدوه في اجتياز حواجز الكفار والمرتدين التي نصبوها لمنع المسلمين من الوصول إلى أرض الإسلام.

 

وفور وصوله إلى ولاية خراسان التحق بمعسكرات التدريب، وأثناء ذلك كانت الحرب مضطرمة في مناطق (وزير) و (إبراهيم خيل) و (تورا بورا) وغيرها، وكان المجاهدون ينطلقون أفواجاً لصد عادية المرتدين في تلك الجبهات الساخنة، فطلب الخروج معهم إليها حتى قبل أن يُتم تدريبه التأسيسي في المعسكر، فكانت ساحات القتال هي معسكره الأول الذي تعلم فيه استخدام مختلف الأسلحة، واستفاد فيها من خبرات إخوانه المجاهدين السابقين.

 

إقدامه وثباته

 

انضم بعد ذلك إلى "كتيبة الفتح" التي كان مجاهدوها يرابطون في الخطوط الأولى أمام العدو، وخاض معها الكثير من المعارك، وأصيب في اشتباك مع المرتدين في (زاوة) بننجرهار بعد أن سقطت بجواره قذيفة (هاون) اخترقت إحدى شظاياها جسده، فأصرَّ على إخوانه أن يبقى في النقطة رغم إصابته الشديدة، طالباً منهم أن يستمر في القتال حتى يموت وهو مرابط في ثغره! فأبوا عليه إلا الرجوع للاستطباب والعلاج.

 

ولم يسترح في منزله إلا فترة قصيرة، حتى عاد يطلب المشاركة في القتال رغم أن جراحه لم تُشف بعد، فأقنعه أمراؤه بالعودة للاستشفاء من الإصابة، ليكون أقوى على الجهاد والقتال، وأثناء بعده عن خطوط القتال، بقي في خدمة المجاهدين في الخطوط الخلفية حتى تأخر برؤه من جروحه، فألزمه إخوانه المكوث في منزله ومنعوه من الخروج منه إلى حين تُشفى جراحه.

 

كما أصيب مرة ثانية في اشتباك مع مرتدي "طالبان"، ولم تنلْ منه شظية قذيفة (الهاون) هذه المرة ما نالته أختها من قبل، فشفاه الله في فترة وجيزة وعاد سريعاً إلى جبهة القتال.

 

ومن قصص ثباته أيضاً، أنه وقع مع مجموعة من المجاهدين في حصار للمرتدين، وكان مكانهم في منطقة شديدة الارتفاع يصعب النزول منها بسهولة، فرفضوا الاستئسار لأعدائهم واستمروا في الاشتباك معهم ومدافعتهم حتى هيأ الله تعالى لهم سحاباً كثيفاً غطّى المنطقة حجب الرؤية عن عدوهم، فتمكنوا بذلك من الخروج من الحصار، والعودة إلى إخوانهم سالمين.

 

كما تصدى يوماً مع مجموعة صغيرة من المجاهدين لهجوم كبير قام به مرتدو "طالبان" بمنطقة (زاوا سنجر) بعد أن اختارهم الأمير العسكري لذلك، فمكَّنهم الله تعالى من دحر أعدائهم وصدّ هجومهم رغم عددهم الكبير وكثافة نيرانهم، فقتلوا منهم وأصابوا وردُّوهم على أعقابهم خائبين، بفضل الله رب العالمين.

 

تمسكه بالسنة والطاعة في المعروف

 

وكان -رحمه الله تعالى- حريصاً على دينه وعباداته أشدَّ الحرص، يحافظ على وضوئه، ويداوم على صلاة الجماعة في المسجد ولو في أوقات القصف والشدة، فيؤذِّن في المسجد، ويقيم الصلاة، ويدعو المسلمين والمجاهدين إلى عدم التأخر عن الجماعة، كما كان حريصاً على تعلُّم العلم الشرعي وطلبه من العلماء، مسارعاً في القيام بما تعلمه ولو كان نافلة من النوافل، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويزيل المنكر بيده إن رآه، ومن قصص مسارعته في الخير أنه سمع من أحد إخوانه، قصة أبي الدحداح رضي الله عنه؛ عندما تصدَّق ببستانه لما سمع قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، فقام وأهدى زجاجة عطر عزيزة عليه لأحد إخوانه المجاهدين قائلاً: "اللهم ليس عندي ما هو أحب إليَّ منها من مالي".

 

كما كان -تقبله الله- يحرص على السمع والطاعة لأمرائه في المنشط والمكره، يذكّر إخوانه بذلك ويحثُّهم عليه، وقد عاد مرة إلى منزله ومعه أغراض للمجاهدين، فلما بلَغه أمر أميره بإيصالها إلى المجاهدين لحاجتهم إليها، عاد إلى إخوانه لينفِّذ أمر أميره، برغم صعوبة الأحوال الجوية واشتداد الثلوج في ذلك الوقت.

 

حرصه على الشهادة

 

حرِص أبو خالد -تقبله الله- حرصاً شديداً على نيل الشهادة، فكان كثير الدعاء لله تعالى أن يرزقه إيَّاها، حيث سجّل اسمه مبكراً في قوائم الاستشهاديين، وكان يُلِّح على أمرائه بتنفيذ عملية استشهادية على الكفار والمرتدين.

 

وكلما طُلب استشهادي إلى جبهة القتال، يبادر أبو خالد بالذهاب إليها، قاطعاً مسافات طويلة في طرق جبلية وعرة رغم إصابته، ثم يعاود قطع المسافة ذاتها مرة أخرى إلى مضافة الاستشهاديين، عندما يؤجِّل الأمراءُ العمل، مكرراً هذه الرحلة التي تستغرق منه أحياناً يومين، سيراً على الأقدام عدة مرات! فلم يقدِّر اللهُ تعالى له تنفيذ عمليته الموعودة في تلك الفترة.

 

ثم جاءت البشرى، فقد وقع الاختيار على أبي خالد لتنفيذ الهجوم الانغماسي على المعبد الهندوسي في (كابل)، يوم الأربعاء (1/ شعبان) الماضي، حيث انغمس وسط حشد من الهندوس والسيخ في معبدهم، وقتل العشرات منهم، ثم اشتبك مع قوات الأمن الأفغانية التي هرعت لنجدة المشركين وفجَّر عليهم عبوتين ناسفتين، فقتل وأصاب عدداً من المرتدين، ليُسفر هجومه المبارك عن مقتل وإصابة نحو 60 من الكفار والمرتدين، ولله الحمد.

 

ومن شدة نكايته وتنكيله بأعداء الله تعالى، وضراوته وبأسه في القتال والتي برزت خلال الاشتباك مع قوات الأمن التي حاولت اقتحام المعبد؛ أعلنوا في البداية أنهم يواجهون مجموعة من الانغماسيين! حتى قُتل -تقبله الله- فتبيَّن للمرتدين أن حشودهم الكبيرة كانت تخوض تلك المعركة الطاحنة مع أسد واحد من أسود دولة الإسلام، تقبله الله في الصالحين.

 

وهكذا يسّر الله تعالى لأبي خالد الهندي، الثأر من الهندوس المشركين في أرض بعيدة عن الهند التي كان يأمل أن يكون قتاله لهم فيها، وشفى الله تعالى صدره منهم، وأذهب بعض غيظ قلوب المسلمين عليهم، لما يفعلونه بالمسلمين في الهند وكشمير من جرائم، فنسأل الله تعالى أن يتقبل من أبي خالد صنيعه، وأن يستجيب دعاءه فيدخله جناته، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

72- العدد 242 - الخميس 18 ذو القعدة 1441 هـ

أبو أسامة المهاجر -تقبله الله-
نجّاه الله من سجون القاعدة وقتل بنيران الصليب

في قصةٍ لم تعد مستغرَبة بعد الآن، بطلٌ من أبطال الإسلام وُلد في باكستان وحاول الجهاد في أفغانستان فلم يتسنَّ له ذلك، فيمَّمَ وجهه نحو الصومال وهناك التحق بتنظيم (القاعدة) قبل إعلان الخلافة وعمِل معهم لفترةٍ عرف خلالها انحراف منهجهم وكذب قادتهم، فما أنْ أُعلنت الخلافة حتى كان من أوائل المبايعين، وحاولَ الهجرة إليها فلبث في سجون (القاعدة) قريباً من سنتين! حتى يسَّر الله له الخروجَ واللحاق بإخوانه المجاهدينَ شرقي الصومال، فجنَّ جنون مرتدي (القاعدة) لتعاني عائلته بعد هجرته فصولاً من التضييق والأذى على أيديهم! ثم اجتهدوا بعد هجرته في أذيَّته والطعن فيه عن بعد! غيظاً وحسداً وصداً عن سبيل الحق، ولكنْ خيَّب اللهُ سعيَهم فصبَر واحتسب وثبت مع إخوانه المجاهدين مرابطاً على جبهتي المرتدين والصليبيين حتى قضى شهيداً -كما نحسبه- بقصف أمريكي على موقع للمجاهدين، لتبقى سيرته عبرة وقصته عظة لكل باحث عن الحق.

 

حمَل القرآن في الثامنة

 

إنه الأخ أبو أسامة المهاجر، خالد جامع محمد عثمان، ولد في مدينة (كويتا) في باكستان في غرة (صفَر) من عام 1413 هـ، ونشأ في أسرة محافِظة متعلمة، زرع والداه في قلبه حبَّ العلمِ منذ نعومة أظفاره، فبدأ مشواره العلمي وهو ابن خمسة أعوام متنقلاً بين المعاهد الدينية وغيرها، حتى أتمَّ حفظ القرآن الكريم كاملاً وهو في الثامنة من عمره، وقد كان متفوقاً في دراسته، عُرف بشدة ذكائه وقوة حفظه عند معلميه.

 

انعكست آيات القرآن الكريم الذي حمَله أبو أسامة على أخلاقه وخصاله الحميدة، فكان باراً بوالديه مطيعاً لهما، كثير الصمت صدوق اللسان إن تحدث، غيوراً على المحارم، شجاعاً في الحقِّ لا يخشى في الله لومة لائم، كما كان متوقد الذهن واسع الاطلاع والقراءة وهو ما أهَّله ليكون بعد ذلك مجاهداً في ميدان الإعلام الجهادي.

 

تعلقه بالجهاد مبكراً

 

بعد اشتداد الحملة الصليبية على المسلمين في العراق وخراسان، لم يكن أبو أسامة بعيداً عن هذه الأحداث رغم صغر سنه آنذاك، فاطِّلاعه الواسع وسعيه لمعرفة كل جديد مِن حوله؛ عرّفه على ما يتعرض له المسلمون على أيدي الصليبيين والمرتدين، فأدركَ مبكراً أنه لا حلَّ لمواجهة ذلك إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى ومدافعة الباطل بقوة الحق، وما سوى ذلك فضرْب من ضروب السراب.

 

في عام 1428هـ، ما أن اشتدَّ عوده وبلغ الخامسة عشرة من عمره، حتى توجَّه إلى مناطق الحدود مع أفغانستان للالتحاق بساحات القتال هناك، ذهب برغم حداثة سنِّه وحيداً بلا دليل ولا زاد، فأمسك به حرس الحدود المرتدون ومنعوه من مواصلة طريقه، فعاد مكرهاً وهو عازم على أن يواصل المسير، لم يستسلم الفتى لواقعه المحيط، ولم يترك سعيه وبحثه عن أي سبيل للجهاد، ومن ذلك أنه كان يقوم برشق قوات (مكافحة الإرهاب) الباكستانية، التي كانت متمركزة قريباً من بيته، فكان يرشقهم بالحجارة من سطح البناية على حين غفلةٍ من أمرهم، حتى اكتشفوا أمره فأمسكوه وضربوه ضرباً مبرحاً، فتشفع له الجيرانُ وخلَّصوه من بين أيديهم.

 

معلِّقاً في "مؤسسة الكتائب"!

 

وفي عام 1431هـ، يسّر الله له الهجرة إلى الصومال، وتوجه سريعاً نحو مناطق الجنوب، والتحق بمعسكر صلاح الدين في (مقديشو)، ثم انتقل إلى منطقة (باي وبكول) وأكمل تدريبه العسكري هناك، وكان من ضمن المتخرِّجين من المعسكر الذي اشتُهر بـ "سرِية القدس"، ثم رجع إلى (مقديشو) ليشارك في المعارك ضد الصليبيين الأفارقة وأعوانهم المرتدين، وهناك جُرح أبو أسامة بجرْح أقعده عن المعارك، وبعد استشفاءه انتقل للعمل مع "مكتب الإعلام" هناك، ونظراً لإتقانه اللغة العربية أصبح أبو أسامة المعلَّق الأول باللغة العربية لـ "مؤسسة الكتائب" آنذاك، حيث علّق على كثير من إصدارات المؤسسة الصادرة بعد العام 1433هـ.

 

من أوائل المبايعين لخليفة المسلمين

 

وبعد إعلان الخلافة الإسلامية وتنصيب الإمام، كان الأخ أبو أسامة من أوائل المبادرين إلى بيعة خليفة المسلمين ونصرة الدولة الإسلامية، وبعد تشديد الرقابة والملاحقة من قبل مرتدي القاعدة على كل من يفكر بالهجرة واللحاق بركب الدولة الإسلامية، عزم أبو أسامة مع سبعة من إخوانه على الهجرة إلى مناطق جنود الخلافة شرق الصومال، وذلك بالإبحار في قارب عبر البحر، ولكن وشى بهم أحد جواسيس القاعدة، فغدر بهم وانكشف أمرهم، حيث كانوا قد اتفقوا معه على أن يوصلهم بالقارب إلى المناطق الشرقية مقابل مبلغ من المال، ولكن في ليلةِ الإبحار صدر أمر مفاجئ من تنظيم القاعدة بحظر التجوال ليلاً في المدينة التي كانوا يتواجدون فيها، إلا أن أبا أسامة ومن معه تمكنوا من التسلل والخروج من المدينة سيراً على الأقدام، وبعد مشي طويل استمرَّ أكثر من عشر ساعات متواصلة وصلوا إلى الشاطئ قبيل الفجر، لكنهم وقعوا في كمين غادر أعدَّه لهم عناصر القاعدة مسبقاً بعد وشاية جاسوسهم، فأسَروهم جميعاً، واقتادوا أبا أسامة لوحده إلى جهة مجهولة، ليجدَ نفسه بعد ذلك في غرفة سجنه التي سيقضي فيها قرابة السنتين!

 

في سجون قاعدة الردة!

 

وُضع أبو أسامة تقبله الله، في زنزانة انفرادية مكبلَّ اليدين والقدمين، وقد منعه جلاوزةُ القاعدة من كل شيء، حتى أنهم كانوا يرفضون أن يأتوا إليه بالمصحف، فلم يُدخِلوا إليه المصحف إلا بعد قرابة سنة من أسره بتهمة محاولة النفير إلى الدولة الإسلامية!

 

لكنَّ الله تعالى ثبته فلم يداهنهم ولم يلن لهم بعد أن تبيَّن له حقيقة هذا التنظيم المرتد، وقد كانوا يحاولون إخضاعه عبر الترغيب والترهيب، فيأتي إليه بعض سجانيهم بين الفينة والأخرى ليجسّوا نبضه ويتحققوا ما إذا كان أبو أسامة قد تراجع عن أفكاره أم لا؟! وكل ذلك أملاً في أن يعيدوه إلى حظيرتهم! ولكن دون جدوى.

 

مناورة للخروج من الأسر

 

وأخيراً خطرت على باله فكرة لعلها تساعده على التخلص من الأسر، حيث طلب النقاش مع كبار شرعييِّهم حول انحراف طالبان والموقف منها، ففرحوا بذلك أملاً في أن يقنعوه بالعودة إلى صفوفهم، وجاء إليه عدد من شرعيي التنظيم وبدأوا يتحدثون معه، وقالوا له: إن الأشخاص الذين يديرون المفاوضات مع أمريكا في (الدوحة) لا يمثِّلون طالبان التي تقاتل على الأرض!! وأن الموقع الرسمي -موقع الإمارة- الذي وردت فيه الانحرافات والكفريات لا يتبع لطالبان!! وأن كُتَّابَه مرتدون زنادقة!! وقالوا إنهم سيعطونه فرصة للبحث والتأكد بنفسه، عندها سألهم أبو أسامة: إذًا أخبروني المصدر الذي يمثّل طالبان وتؤخذ منه أخبارُهم؟ لكي أتابعه بنفسي. فأجابوه: أنها "مجلة الصمود" التي تمثل المنبر الأول لمكتبهم السياسي الذي يزعمون أنه لا يمثل طالبان على الأرض!.

 

خروجه من السجن

 

وبعد هذه المناورة تم إطلاق سراحه بعد أن قضى سنة وثمانية أشهر في الزنزانة الانفرادية، وقد أخبره "الأمنيون" أنهم في المرة القادمة سيقتلون كل من يحاول اللحاق بدولة الإسلام! وبعد خروجه بدأ يراجع "مجلة الصمود" التي دلَّه عليها شرعيو قاعدة الصومال، فوجدَ أنها لا تختلف نهجاً عن "الموقع" المنسوب لطالبان، وتأكَّد كذلك أن كلاً من "المجلة" و "الموقع" تمثلان طالبان، فتوجه أبو أسامة إلى شرعيي التنظيم وأخبرهم بأنه جاهز للمناقشة بعد أن أكمل بحثه حول الأمر، فجمعوا له كبار منظريهم والتقى الفريقان، فضرب بالحق باطلَهم وألجمهم وفنّد أكاذيبهم واستخفافهم بعقول عناصرهم، وخرجوا من مجلسهم وقد خيب الله ظنونهم وكشف سحرهم وتزويرهم.

 

وبعد هذه الجلسة زاد قلقهم من أن يلتحق بدولة الإسلام، فطلبوا منه أن يتجهز للعودة إلى عمله السابق في مجال الإعلام، لكنه رفض ذلك بعد أن زادته هذه المناظرة يقيناً ببطلان منهجهم وبدأ يخطط سراً للنفير قبل أن يغدروا به كما فعلوا بغيره من قبل.

 

تضييق القاعدة على أسرته!

 

وأخذ أبو أسامة يبحث سراً عن طريق للهجرة واللحاق بإخوانه الذين سبقوه بالوصول إلى معسكرات الدولة الإسلامية، وقد يسر الله له الخروج من مناطق القاعدة رغم صعوبة الطريق وكثرة الجواسيس المتربصين، خصوصاً أنه لا يجيد اللغة الصومالية، إلا أنَّه صَدقَ اللهَ تعالى في تحري الحقِّ فأوصله الله إليه رغم أنوف المرتدين، فلم يكتشف التنظيم أمر خروجه من مناطقهم إلا بعد وصوله إلى المجاهدين في شرق الصومال.

 

وكغيرهم من المرتدين قاموا على إثر ذلك بمداهمة بيته وسرقة محتوياته كسلاحه وحاسوبه، وهدَّدوا أسرته بأنهم سيبحثون عنه ويقتلونه! وقد تعرضت أسرته بعد هجرته إلى محنٍ كثيرة من اعتقالات وتضييق على أيدي مرتدي القاعدة الذين حذوا حذوَ أجهزة أمن الطواغيت حذو النعل بالنعل! وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

في المكتب الإعلامي للصومال

 

وصل أبو أسامة بعد رحلة طويلة إلى إخوانه شرقي الصومال وهو بالكاد يقدر على المشي، بسبب طول فتره سجنه، وفور وصوله التحق بـ (معسكر الشيخ أبي محمد العدناني) تقبله الله تعالى، وبعد تخرّجه منه بدأ يعمل مع المكتب الإعلامي لولاية الصومال، باذلاً قصارى جهده في تنشيط ميدان الإعلام، فكان لا ينام إلا قليلاً.

 

وقد حاول مرتدو القاعدة أن ينالوا من عِرض أبي أسامة تقبله الله فأشاعوا عنه تهماً كثيرة، وكتب أشقاهم أنه ارتدَّ وبدأ يعمل مع أحد إذاعات الحكومات المرتدّة!، لكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، فخرج أبو أسامة معلِّقاً على أحد إصدارات ولاية الصومال بنبرته الصادقة وصوته العذب، فبُهت الذين كفروا والله لا يهدي القوم الظالمين.

 

كان أبو أسامة يحرض إخوانه المجاهدين ويثبتهم أيام المعارك مع مرتدي القاعدة، وكان يخبرهم أن هؤلاء يزدادون كفراً وعناداً وإعراضاً عن الحق يوماً بعد يوم، وأن قادتهم يعرفون تمام المعرفة ما هم عليه من ضلال وتحت أي راية جاهلية يقاتلون.

 

القاعدة أرضاً وأمريكا جوّاً!

 

وبينما كان المجاهدون يتصدون لحملة كبيرة من قبل تنظيم القاعدة، ويعدون عدتهم ويبذلون جهدهم لرد عاديتهم، كانت أمريكا هي الأخرى تبحث بطائراتها من الجو عن جنود الخلافة لاستهدافهم، فصار جنود الخلافة بين قصف الأمريكان من الجو وحملة القاعدة على الأرض، تفرّق شملهم إلا علينا فحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

وأمام هذه المحن المتتالية، كان أبو أسامة تقبله الله آية في الصبر على لأواء الطريق، يحثّ إخوانه على الثبات ضد أعدائهم الصليبيين والمرتدين، وأن ما يرونه اليوم من هذه المحن وتقاطع أهداف الصليبيين والمرتدين في حربهم ضد الدولة الإسلامية، هو شاهد أنها على الحق، وأن مصير هذه الحملات إلى الانكفاء والزوال بإذن الله تعالى، وأن الدائرة ستدور عليهم، وأن الأرض لله يورثها عباده الصالحين.

 

غارة صليبية في رمضان

 

وفي ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1440هـ أغارت طائرات أمريكية بدون طيار على أحد مواقع المجاهدين، فاستقرت شظية من صاروخها في قلب أبي أسامة فآذنت برحيله، مودّعا ثقل الدنيا ومتاعبها.

 

ففاضت روحه وسالت نفسه تحت راية الإسلام ودولة المسلمين التي طالما تمناها وركب لأجلها المتاعب والمصاعب والأخطار، قُتل وقد ضحى بنفسه وأهله وماله نصرة لدين الله تعالى، قُتل وقد ترك الشهرة والمكانة التي تُغري الكثيرين عن اللحاق بسبيل الرشاد.

 

قُتل وقد أصبح مثلاً وقدوة لكل الباحثين عن طريق الحق بعد أن أقام الحجة على مرتدي القاعدة الذين عاش بينهم وخبِر حقيقَتهم وتبرأ منهم بعد أن فضح باطلهم، قُتل بعد حياة ابتدأها بالجهاد والبحث عن الحق وختمها بالقتل في سبيل الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، فنسأل الله تعالى أن يتقبله في الصالحين وأن يخلفنا فيه خيراً، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

73- العدد 244 - الخميس 2 ذو الحجة 1441 هـ

أبو خالد البرناوي الأنصاري
مقتحم الأخطار وخواض الحروب

يختار اللهُ تعالى من خلْقه نَسَمَات يصطفيها لعبادته ونصرة دينه، يختصّها برحمته فيُوْدع في أجوافها قلوباً أصفى ونفوساً أزكى، ويغدق عليها مِن مِنَحه وبركاته؛ فلا يتمثّل على أجسادها من الأخلاق إلا أطيبها ومن الخِلال إلا ألطفها، فقد وشَّحهم الخالقُ سبحانه بأسمى السجايا وأرقى الشيم، ومن عظيم مِنّته عليهم أن هداهم ووفّقهم للاعتراف بنعمه وبذْل أقصى جهدهم لأداء شكرها؛ فلم يجدوا أغلى من حياتهم وأرواحهم فوهبوها لله وحده ابتغاء وجهه وشكراً له على نعمه، معترفين مع ذلك كله بالتقصير، معتقدين أنهم مهما فعلوا فلن يُوفوه حقّ الشكر، فكانوا بذلك أحرى أن يعقد معهم المولى الصفقة الأغلى، فابتاع منهم تلك الحياة التي أرخصوها بأنفس الأثمان، الجنة والرضوان والنظر إلى وجهه تعالى، فأعظِم به من فوز وأنعِم به من فلاح.

 

صفاته وأخلاقه

 

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. إنه الأخ أبو خالد الأنصاري البرناوي من منطقة (برنو) الشهيرة شمال شرق نيجيريا، حيث ملاحم الأبطال وفرسان النزال.

 

هنيئاً لأم ضمّك رحمُها وأب رعاك ورباك، هنيئاً لهم ما سطّرتَ من صفحات عزٍّ وبطولات مجدٍ لا تندرس آثارها، بل ستبقى خالدة ماثلة للعيان، تقتفيها الأجيال الناشئة من بعدك، السائرة على خطاك.

 

شاب يافع صادق صدوق، عامل خفي كثير السكوت قليل الكلام لا يُحدّث عن نفسه، منذ وقت ولم ترَ العين مثله، سلِسٌ منقاد، سهلُ العريكةِ ليّنُ الجانب، رحب الصدر منشرح البال، فسيح القلب رزين العقل صحيح الفكر متبصر متوسم، حسن الخلق تخاله بين إخوانه من تواضعه ولينه وتحببه إليهم رقيقاً، وتخاله في سوح الوغى من إقدامه وكره وفره مجنوناً!

 

فارس الفرسان

 

أذهلَ بفرط شجاعته عقولَ الشجعان، وأقرَّ له بالإقدام قدامى الفرسان، حتى قال عنه بعد مقتله أحد إخوانه ممن لا يتأخرون عن الصف الأول مهما كانت شراسة المعركة: "ما رأيت أحداً تقدمني وسط قعاقع الهيجاء قطّ إلا "أبا خالد" تقبله الله.

 

لقد تفوّق على أقرانه بِشَوسٍ ومِراسٍ أشدّ، فهو مسعّر حرب وحاديها وموقِد نارها ومضرمها ومزند لظاها وموريها، فارس مغوار وضيغم كرار، كانت حياته مترعة بالعجائب مفعمة بالغرائب ذو همة تناطح السحاب، وعزيمة تحاكي في اعتلائها الغمام.

 

نفيره ومهامه الجهادية

 

نفر أبو خالد تقبله الله إلى ساحات الجهاد وهو في ريعان شبابه وبواكير صباه في وقت يختار أمثاله اللعب واللهو الآيب مآله إلى خسارة الدنيا وضياع الآخرة، بينما اختار هو الاستظلال بالآجام وافتراش الرمضاء ابتغاء ما عند الله تعالى.

 

وبعد نفيره إلى أرض الجهاد أصبح جندياً يقاتل ويجاهد مع إخوانه إلى أن أظهر اللهُ دهاءه ومِراسه في الحرب لحكمة يعلمها، فعيّنه إخوانه أميراً على مجموعة من المجاهدين، وقد كان آنذاك يذهب مع صاحبه (مصطفى) تقبله الله، لاستطلاع مواقع المرتدين ورصد تحركاتهم، وبعد ذلك يتقدم السرِيّة بنفسه كدليل إلى ثكنات العدو، وبعد فترة تم تعيينه أميراً على فصيل عسكري للمجاهدين.

 

ثم ترقى في سلم العمل الجهادي حتى عيّنه إخوانه قبل استشهاده أميراً على (سريّة ابن رواحة) في (كتيبة القعقاع) وهناك بزغ نجم حنكته الحربية وتجلّى بدر خبرته وتكتيكه في القتال، فقد كان يتمتع بفراسة وحكمة كبيرة في المواقف.

 

ومنذ تعيينه أميراً على السرية، تفرغ بالكامل للجهاد والرباط والغزو، حتى يذكر أنه كان يمضي عليه أسبوعان أو أكثر دون أن يرى أهله، وهذا في غير ما نوبة حراسته! بل وكان من أهله من لم يبت عندهم حتى مقتله تقبله الله.

 

غيض من فيض شجاعته!

 

لقد ثبت للعدو قبل الصديق أن هذا العبد الصالح الخفي نحسبه والله حسيبه، منَّ الله عليه بشجاعة مذهلة نادرة فلم يُروَ أنه شوهد يوماً محجِماً أو متقهقراً في الوغى، وإليكم غيضاً من فيض وصورة من صور شجاعته، فقد شنّ التحالف الإفريقي في العام المنصرم هجوماً واسعاً بهدف استعادة المناطق التي خسرها وتشديد الحصار على المجاهدين، فابتلي هنالك المؤمنون وكانت المواجهة آنذاك أصعب ما تكون، ففي إحدى غزوات فكّ الحصار توجه الأخ أبو خالد مع إخوانه نحو إحدى قواعد المرتدين وقبل الانطلاق تم تكليف مجموعة من الإخوة بمهمة الانغماس وتم تعيين أبي خالد تقبله الله أميراً عليهم، فكان مما قال لهم: "أما نحن فمجموعة خاصة ومهمتنا الانغماس في العدو والتنكيل بهم حتى نتسلق دباباتهم، فخوضوا معي حيث خضت، والذي ستتبعون نفْس كسائر الخلق، ولا موت إلا بالأجل".

 

شهد المشاهد كلها

 

لقد أفنى هذا الفارس عمره دفاعاً عن دين الله وذوداً عن شريعة الإسلام وذباً عن أعراض المسلمين، فالحديث عن الدين لا يفارق خلجات قلبه، وقد لاقى من أجل الدين ما لاقى من المشاق، فكلما هبّت عواصف اللأواء أدركتْ فارسنا وتركته شامخاً كالطود غير متزحزح، وظلّ أبو خالد بين إخوانه قائداً ومربياً وخادماً ومرشداً، وقد شارك في معارك غفيرة جلت عن الحصر، فما إن يخرج من معركة حتى يدخل في أخرى، فقد أشعل جبهات المنطقة الجنوبية وسعّرها على المرتدين.

 

قصة مقتله

 

لم تمض عليه سنة بعد تعيينه أميراً على (سرية ابن رواحة) التي وفقه الله في قيادتها برغم قصر فترة توليه عليها، وذات يوم قال له أحد الأمراء: "أنت ستلحق بأهلك وتستريح" وكان ذلك بعد أن أمضى أسبوعين بدون أن يرجع إلى أهله، فعندها استمع أبو خالد إلى كلمة صوتية عن فضل الشهادة، فأثارت غرامه إلى دار السلام، فرفض الرجوع إلى أهله، وقام بعدها برص الصفوف المؤمنة للإغارة على أمنع ثكنة للتحالف الإفريقي الصليبي، فودَّع إخوانه وأمرائه قائلاً: "أما خروجنا اليوم فأسميناه: وعجلت إليك ربي لترضى". حينها شعر إخوانه أن صاحبهم قد اقترب وقت فراقه.

 

وقبل أن يمضي مع جيشه نحو الهدف قام فيهم محرضاً قائلا: "لنباشرنّ اليوم معهم القتال وجهاً لوجه في أقرب مسافة تكون بيننا، فإما أن يهربوا أو ينازلونا، أو يقضي الله بيننا أمرا".

 

وهكذا صدق أبو خالد أقواله بأفعاله، فما أن اندلعت المعركة حتى سارع كعادته متقدماً الصفوف منَكِّلا بالعدو ولم يلتفت حتى تجندل واقف الرأس فقتل شهيدا مع رفقة من رجاله الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، نحسبهم والله حسيبهم.

 

 

 

 

 


 

74- العدد 251 - الخميس 22 محرم 1442 هـ

أبو الدرداء.. أبو يحيى.. حسين
قصة ثلاثة من جنود الخلافة في الهند

في التاسع والعشرين من شهر شوال لعام 1441هـ، كانت الهند على موعد مع قصة من قصص البطولة والإباء، حين حاصرت القوات الهندية المشركة بأعداد كبيرة، مكاناً يتحصن فيه ثلاثة من جنود الخلافة، عرضوا عليهم الاستسلام مرات عديدة بعد أن أطبقوا الحصار عليهم من كل جانب، ولكن أنّى لمن أُشربت قلوبهم عزة الإسلام وحب الشهادة أن يسلّموا أنفسهم لعدوهم الكافر الوضيع؟ ولم يتأخر جواب الأبطال بفوّهات مسدساتهم، فاشتبك ثلاثتهم مع القوات المدججة بالأسلحة والعتاد، وأبوا الاستسلام أو الاستئسار وقاتلوا حتى فاضت أرواحهم إلى بارئها، لتخطّ دماؤهم قصة جديدة من قصص الثبات على هذا الدين العظيم الذي لا يحمل همّه إلا العظماء.

 

إنهم المجاهدون الأبطال: (أبو الدرداء) و (أبو يحيى) و (حسين ساني) -تقبلهم الله- من جنود الخلافة في الهند، أبوا الدنية في دينهم وامتثلوا أمر ربهم بالإعداد والجهاد على قلة إمكانياتهم، فلم يتصنعوا الأعذار ولم يترخّصوا لأنفسهم بل أرخصوها في سبيل نصرة دينهم، وهل هناك أغلى من الروح يبذلها المسلم لإرضاء مولاه تعالى؟!

 

الأخ أبو الدرداء -تقبله الله-

 

ولد أبو الدرداء تقبله الله سنة 1422 هـ في مدينة (سريناغار) في الهند، في عائلة متوسطة الحال، والتحق بالمجاهدين مبكراً وهو في الصف الثاني عشر، كان يتمنى الشهادة ويدعو الله أن يرزقه إيّاها، فاستجاب الله دعاءه، نحسبه.

 

تعرّف أبو الدرداء على منهج الدولة الإسلامية بعد استشهاد الأمير خطاب الكشميري -تقبله الله- القادم من نفس حيِّ أبي الدرداء، وبعد بحث متعمّق حول الدولة الإسلامية ومنهجها، وقارنه بجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، توصل أبو الدرداء إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد في الهند راية على منهاج النبوة في العقيدة والجهاد غير راية الدولة الإسلامية، وبناء على ذلك قرر الانضمام إلى جنود الخلافة في الهند.

 

في العام 1440 هـ تواصل مع بعض إخوانه المجاهدين وارتبط معهم، ومن حينها ظلّ يعمل في ميدان المدد والنصرة، بكل إخلاص وتفانٍ، وكل صدق وشجاعة -نحسبه-.

 

وبعد فترة علمت المخابرات الهندية بشأن علاقته بالمجاهدين ومساعدته لهم، فحاولوا إلقاء القبض عليه، لكنّ الله تعالى حفظه وأنجاه من بين أيديهم.

 

قصة التحاقه بالدولة الإسلامية

 

روى أبو الدرداء -تقبله الله- قصة التحاقه بالدولة الإسلامية في الهند، قائلاً: "كنت أرجو الانضمام إلى صفوف دولة الإسلام في الهند، لكني فقدت كل اتصال لدي مع أي أحد داخل صفوفها غير أني لم أفقد الأمل في الله تعالى، وقررت أن أدعوه سبحانه كما لم أدعه من قبل قط! بقلب صادق موقن بالإجابة، وبالفعل بعد 6 أيام فقط من دعائي؛ يسّر الله لي الالتقاء بالأخ أبي حذيفة الباكستاني -تقبله الله- والذي ساعدني في الانضمام لصفوف الدولة الإسلامية، والحمد لله".

 

وبعد انضمامه إلى صفوف الدولة الإسلامية، ظل يدعو إلى التوحيد ويحرض كل من يلقاه على الجهاد في سبيل الله.

 

مواجهة مع القوات الهندوسية

 

روى أحد الإخوة المقربين من أبي الدرداء قصة إحدى المواجهات التي شاركوا فيها قائلاً: "كان ذلك في آخر فصل الشتاء، وكنا قد وصلنا للتو لإحدى البلدات بهدف مهاجمة نقطة أمنية للقوات الهندوسية، لكنهم علموا بوجودنا وبدؤوا تمشيط المنطقة بحثاً عنا، فقررنا مغادرة المنطقة المحاصرة، وأخذوا يطلقون النار علينا بكثافة وأصبح الرصاص ينهمر علينا كالمطر، لكنّ الله تعالى أعمى أبصارهم عن رؤيتنا وتمكنا من الانسحاب من المنطقة، برغم أنه لم يفصلنا عنهم سوى بضعة أقدام".

 

يواصل الأخ حديثه: "ابتعدنا قليلاً فقط عن مكان المواجهة الأولى حتى تفاجأنا بكمين أعده الكفار لنا، ولم يكن قد بقي في سلاحي سوى 3 طلقات، فأطلقت طلقتين اتجاه عناصر الكمين، ففرّ الكافرون بسرعة وتركوا الكمين، كل هذا حصل خلال دقائق".

 

وفي ذلك درس اعتقادي يجب أن لا يغيب عن ذهن أي مجاهد وهو أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

 

كما أظهر الإخوة شجاعة وصبراً حين نصبوا كميناً للقوات الهندية ليومين متتاليين، فكافأهم الله تعالى بأن مكّنهم من قتل 3 جنود هندوس واغتنام أسلحتهم وذخيرتهم.

 

أبو يحيى الكشميري وحسين ساني -تقبلهما الله-

 

على ذات الدرب، كان الأخوان أبو يحيى الكشميري وحسين ساني -تقبلهما الله- يجتهدان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقارعان المنكرات التي تملأ المجتمع من حولهما، كانا لا يداهنان أحداً في الدعوة إلى التوحيد والجهاد في سبيل الله، وهو ما عرّضهم للعديد من العقبات التي لم تزدهم إلا ثباتاً على طريق الحق.

 

أبو يحيى يصدع بالحق

 

نشأ الأخ أبو يحيى في منطقة (أنشار) بمدينة (سريناغار)، ومنذ بداية حياته كان مهتماً بتعلم دين الإسلام، ولم يُعر الدنيا وشواغلها أي اهتمام.

 

كانت عقيدته سليمة برغم أنه نشأ في منطقة يؤمن أغلبها بالديموقراطية والعلمانية، فلم يقبل هو بهذا المنهج الكفري، بل كان يناظرهم ويبيِّن لهم أخطاءهم وانحرافاتهم، وكان يذهب إلى مساجدهم ويدعوهم إلى التوحيد، وهو ما جعله يتعرض للضرب عدة مرات! كما تعرض للأسر في سجون الكفار بسبب دعوته وصدعه بالحق، ومع ذلك بقي ثابتاً لا يداهن في عقيدته.

 

بدأ في نصرة جنود الخلافة ومساعدتهم عبر طرق شتى، وكان يدهم اليمنى خلال هجوم (بانداش) الذي قتل فيه كافران واغتنم المجاهدون أسلحتهما، وبعد ذلك التحق بصفوف الدولة الإسلامية، وتم إرساله إلى جنوب كشمير.

 

كان حريصاً على الجهاد ونيل الشهادة، وهو ما دفعه أن يطلب من أميره أن يعيده إلى مدينة (سريناغار) حيث كان يعلم بوجود عدد من الأهداف التي لا يريد تضييعها.

 

هذا المجاهد الشاب الشجاع كان مسلحاً بمسدّس فقط خلال رحلة جهاده القصيرة التي بلغت 26 يوماً بعد التحاقه بصفوف الدولة الإسلامية في الهند، إلا أنها كانت مليئة بالهمة والصدق والبذل، حتى قضى شهيداً كما تمنى نحسبه والله حسيبه.

 

حسين بين الدعوة والجهاد

 

أما الأخ حسين ساني -تقبله الله- فقد نشأ في منطقة (سيمثان) في (بيجيبهارا) جنوبي كشمير.

 

وفقه الله تعالى لاتباع منهج السلف مبكراً وكان يدعو الناس إلى التوحيد ولا يخاف في الله لومة لائم، وبسبب دعوته مكث في سجون الكافرين 6 أشهر، لكن ذلك لم يرده عن مواصلة طريق الحق المليء بالعقبات، بل جعله ذلك أكثر إقداماً وتصميماً.

 

وبعد خروجه من الأسر التحق بجنود الخلافة في الهند، وأمضى مدة تعادل مدة أسره في ميدان الجهاد في صفوف الدولة الإسلامية، كان زاهداً معرضاً عن الحياة الدنيا وزخرفها، متواضعاً مطيعاً لأميره، منذ عرف الحقَّ لزمه حتى قُتل عليه -نحسبه-.

 

لقد بادر هؤلاء الإخوة إلى نصرة سبيل الحق برغم قلة عددهم وعتادهم، وقدّموا صحة الطريق وسلامة المنهج على طريق الصحة ومنهج السلامة، ولم يرضوا بغير الجهاد سبيلاً، لقد سقى هؤلاء الأبطال شجرة التوحيد الفتية في الهند من دمائهم، وكانوا من السباقين إلى دعم ومؤازرة مشروع الدولة الإسلامية هناك، وليس السابق كاللاحق، وليس من آمن قبل الفتح كمن آمن بعده، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

 

 

 

 

 


 

75- العدد 255 - الخميس 21 صفر 1442 هـ

أبو رواحة الهندي وشقيقه أبو أسامة تقبلهم الله تعالى
بين "أم القنابل" و "هدم الأسوار"

هذه قصة شقيقين من الهند هاجروا إلى أرض الدولة الإسلامية فراراً بدينهم، ولم يكن قد مضى على إسلامهم سوى عام واحد، خاضوا جميعاً فصولاً متواصلة من الرباط والقتال ومراغمة الصليبيين والمرتدين في وديان وجبال خراسان فكانوا بحق جبالاً فوق الجبال، بضعة أعوام قضوها في ظلال الشريعة أنستهم عذوبتُها ما لاقوه من محن وشدائد لا بدّ منها في هذا الطريق، ثم أكرمهم الله تعالى بخير خاتمة يتمناها كل مجاهد؛ فقتل أصغرهم في جبهات القتال ثابتاً في خندقه لم يبرحه برغم حمم القذائف وأم القنابل وسلاحه إلى جواره! بينما قتل شقيقه الآخر مهدِّماً أسوار سجن (جلال آباد) في عملية مباركة سطّرها التاريخ، بإذن الله تعالى.

 

من الهند إلى ولاية خراسان

 

كانت البداية في صيف عام 1437هـ، عندما وصل ثلاثة إخوة مع عائلاتهم قادمين من الهند إلى ولاية خراسان، طلباً للجهاد في سبيل الله تعالى وسعياً للعيش في ظلال حكم الشريعة الذي غاب عن البشرية لقرون طويلة، وكان اثنان منهم قد أسلما حديثاً قبل عام فقط من وصولهما إلى أرض الجهاد، بعد أن هداهما الله تعالى فآمنا بالإسلام ديناً وتركا الديانة النصرانية إيماناً وإذعاناً لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وأتم الله نعمته عليهما بأن وفقهما لأداء فريضة الهجرة والجهاد بعد أن هداهما إلى الإسلام؛ إنهما الأخوان: (أبو رواحة الهندي) وشقيقه الأصغر (أبو أسامة الهندي) تقبلهما الله تعالى.

 

بين ظلال الشريعة وقمم الجبال

 

لم ينس إخوانهم تلك الابتسامة العريضة التي ارتسمت على محيّاهم، وهم ينخرطون في نمط الحياة الجديدة والعيش في الوديان وعلى قمم الجبال الشاهقة، حين كانوا يقيمون في بيوت طينية متواضعة في وادي (مامند) بمنطقة (أتشين) في (ننجرهار).

 

ومع أن ظروف العيش كانت قاسية في تلك المنطقة الوعرة، إلا أن صبرهم وشكرهم لله تعالى، كان يُدمع عيون من رآهم، يقول أحد الإخوة.

 

فقد كانوا دوماً على أتم الاستعداد لقضاء المزيد من الوقت في الخطوط الأمامية للقتال زيادة عن الوقت المحدد لكل مجاهد، وكانوا باستمرار يسألون أميرهم إن كان بإمكانهم قضاء فترة أطول في مقارعة القوات الخاصة الأمريكية برغم القصف الجوي العنيف!

 

وحتى خلال وجودهم في الخطوط الأمامية كانوا يشاركون إخوانهم في مهام حفر الخنادق ويساعدونهم في طهي الطعام للمقاتلين، أما أوقات الراحة عندهم، فكانت عبارة عن قراءة القرآن مع التفسير بالإنجليزية وأداء الصلوات والعبادات، فكان شغلهم جهادًا وراحتهم طاعة، وكانوا يدعون الله تعالى ويلحون عليه أن يرزقهم الشهادة في سبيله وأن تسيل دماؤهم وهم يقاتلون أعداءه.

 

يقول إخوانهم: رؤيتهم كانت أمراً لا يصدق، كيف أنه لم يمض على إسلامهم سوى عام واحد، وهم الآن يتقدمون صفوف المجاهدين بل ويتفوقون على بعض من سبقهم إلى هذا الطريق في كثير من المزايا والخصال، وتلك أعظم نعمة ينعمها الله تعالى على عباده أن يوفقهم إلى الإيمان به ويعينهم على ذلك.

 

ثبات وصمود برغم "أم القنابل"

 

مرت الأيام والشهور والإخوة في جهادهم ماضون، ومع اقتراب ربيع عام 1438هـ شنت القوات الأمريكية والجيش الأفغاني حملة كبيرة على مناطق الدولة الإسلامية شرقي أفغانستان تحديداً وادي (مامند) الذي حكمه المجاهدون بشريعة الإسلام طوال عامين ونصف، حيث تصدى لهم المجاهدون بكل ما أوتوا من قوة وألحقوا في صفوفهم خسائر عديدة، عندها لم يكن أمام الأمريكان إلا استخدام ترسانتهم العسكرية المتطورة في قصف المنطقة التي استعصت عليهم، حيث قامت الطائرات الأمريكية في منتصف رجب عام 1438هـ بقصف الوادي بـ "أم القنابل" التي تزن 10 أطنان، واستمر القصف الأمريكي على مدار شهرين بكل أنواع القنابل والصواريخ الأمريكية من صواريخ "كروز" إلى الصواريخ الموجهة بالليزر، وعبر طائرات الأباتشي وطائرات "إم-سي-130"، ناهيك عن قصف الهاون والمدفعية التي كانت تتساقط يومياً بالمئات، كل ذلك والمجاهدون وبينهم (أبو رواحة) وشقيقه (أبو أسامة) صامدون ثابتون.

 

الصبر على فراق الشقيق الأصغر

 

وفي أحد أيام القصف العنيف، وبعد الظهر تحديداً، قصفت الطائرات الأمريكية موقعاً للمجاهدين بأكثر من 10 صواريخ دفعة واحدة، وبعد أن انقشع الغبار ذهب المجاهدون لتفقد الموقع المستهدف وانتشال جثث إخوانهم، وإذا بهم يجدون جثة أبي أسامة الهندي الشقيق الأصغر لأبي رواحة، وهو مستلقٍ في خندقه وبجانبه سلاحه وقد تمزق جسده جراء شظايا الصواريخ التي انهالت عليه مع إخوانه الذين ثبتوا في خنادق القتال ولم يلفتوا وجوههم.

 

وفي عصر اليوم نفسه وصل خبر مقتله إلى شقيقه الأكبر (أبي رواحة)، يقول أحد الإخوة: كنت معه حين جاءه الخبر، لم أرَ شخصاً صبوراً وشاكراً لربه مثله، لقد استقبل الخبر بترديد: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

 

لقد كان شريكه في الهجرة والجهاد، وشقيقه الأصغر الذي اعتنق الإسلام معه وهاجر معه، والآن يفارقه دون سابق إنذار، بل لم يحزن في ذلك اليوم إلا على أنه لم يُقتل إلى جانبه شهيداً في سبيل الله تعالى. فأي صبر هذا وأي ثبات يسطره هذا الرجل الذي ما زال حديث عهد بإسلام؟!

 

فشل الأمريكان في إحداث تقدم

 

واستمر أبو رواحة مع إخوانه يقارعون القوات الأمريكية والأفغانية المرتدة، في تلك الوديان والجبال التي كانت شاهدة على أشد المعارك وأعنفها والتي لم يعرف العالم عن تفاصيلها إلا القليل، والتي استنزفت الصليبيين والمرتدين على مدار عامين أو يزيد -بين عام 1438هـ وحتى أوائل عام 1441هـ-.

 

وطوال تلك الفترة كنت لا ترى (أبا رواحة) إلا متقدماً الخطوط الأمامية في الصف الأول للقتال، في أول المقتحمين لمواقع وثكنات المرتدين، أو في أول المدافعين والمنافحين عن ثغور المسلمين وأعراضهم.

 

وبعد أن شعرت القوات الأمريكية باليأس من مواصلة القتال ضد مجاهدي الدولة الإسلامية على الرغم من قصف مناطقها بأكثر من 2000 غارة جوية، إلى جانب عدد لا يحصى من قذائف الهاون والمدفعية الثقيلة؛ لم يكن أمام أمريكا إلا أن تلقي عبء الاستنزاف عن كاهلها وتشرك به أطرافاً أخرى أقل ثمناً وأكثر خسة.

 

تحالف طالبان مع عبدة الصلبان

 

وبينما كان المجاهدون يصدون عادية الصليبيين ويسطرون أروع ملاحم البطولة ضدهم، جاء دور ميليشيا طالبان بعد أن سرّعت أمريكا خطوات السلام معها ليتسنى لطالبان اللحاق بحلف الشيطان، حيث كونوا حلفاً كفرياً شاركت فيه القوات الباكستانية والميليشيات المحلية من الشرق، والقوات الأمريكية والجيش الأفغاني من الغرب، وطالبان وميليشيات محلية أخرى من الشمال والجنوب.

 

اتحدوا جميعا في حلف واحد لمهاجمة مناطق الدولة الإسلامية وبتغطية وتمهيد جوي مباشر من الطيران الأمريكي، وتم قطع جميع طرق الإمداد الغذائي عن مناطق المجاهدين وعوائلهم، وبدأ القصف العشوائي الذي لم يسلم منه النساء ولا الأطفال الصغار ولا حتى البهائم فأحرقت طائراتهم كل ما يتحرك على الأرض.

 

ومع ذلك استمر المجاهدون في قتال هؤلاء الأعداء كافة لأكثر من 3 أشهر حتى آخر نفس، وسط شح الطعام ونقص الذخيرة بسبب الحصار الذي تشارك المرتدون في إطباقه على مناطق المجاهدين، حتى تمكنوا من الانحياز مع عوائلهم من المنطقة إلى مناطق أخرى في أفغانستان، بعد أن كان الصليبيون والمرتدون يؤمّلون بأن يبيدوا القوة البشرية للموحدين بالكامل في تلك المنطقة، إلا أن الله تعالى خيّب ظنهم.

 

من الجبال إلى حروب المدن!

 

وبعد الانحياز من تلك المناطق الجبلية، بدأت مرحلة أخرى من مراحل الجهاد، تمثلت بانطلاق العمليات داخل مدن العدو، حيث نفذ المجاهدون سلسلة من العمليات الجريئة والنوعية في وسط المدن التي كان يتبجح المرتدون بأنها آمنة، وعلى رأسها العاصمة (كابل) حيث كان لها أوفر الحظ والنصيب من هذه الهجمات التي بددت أوهامهم وأحلامهم بالنصر المزعوم الذي سرعان ما انقلب عليهم وبالاً ونكالاً وهم يتعرضون لعمليات استنزاف متواصل تمنوا لو أنه بقي مقتصراً على المناطق الجبلية والوديان النائية. وكان من أبرز هذه العمليات، الضربة الموجعة التي تلقاها المرتدون في مدينة (جلال آباد) بالهجوم على السجن المركزي في المدينة، وإمطار القاعدة الأمريكية بعشرات قذائف الهاون، في معركة استمرت لنحو يوم كامل وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى في صفوهم وهدم أسوار السجن المحصّن وتحرير نحو 300 أسير من المجاهدين.

 

فاضت روحه في هدم الأسوار

 

كان الأخ أبو رواحة الهندي تقبله الله هو من حاز شرف بدء الهجوم مفجّراً سيارته المفخخة على بوابة السجن فاتحاً الطريق لمفارز الاقتحام من خلفه، معلناً انطلاق مرحلة جديدة من مراحل النكاية والإثخان في المرتدين.

 

انطلق أبو رواحة تقبله الله والسرور حاديه ولم تمنعه صورة طفليه المبتسمين من أن يقدم على العملية الاستشهادية ويجود بنفسه ويقدّمها قرباناً في سبيل الله تعالى نصرة للإسلام الذي آمن به قبل سنوات فقط بينما يقضي كثير من المنتسبين للإسلام عشرات السنين ولم يفعلوا عشر معشار صنيع أبي رواحة.

 

عاش أبو رواحة خمس سنوات فقط في الإسلام! قضى أربعة منها في أرض الجهاد، لكنه حفر ذكراه العطرة في قلوب جميع إخوانه المجاهدين السائرين على دربه من بعده، وستبقى ذكراه وذكرى شقيقه الأصغر تواسي المجاهدين وتسليهم في طريقهم نحو إحدى الحسنيين، وتذكرهم أن الحياة في سبيل الله تعالى مهما قصرت فهي عظيمة، ولا يلقاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

 

 

 

 

 


 

76- العدد 256 - الخميس 28 صفر 1442 هـ

أبو طارق النعيمي تقبله الله تعالى
من خيرة المجاهدين حسبا ونسبا

إن الأصل في المجاهد في سبيل الله تعالى أن يكون مشتملا على كل الشمائل الحميدة، لأن النفوس الرديئة قلما تقود صاحبها إلى طريق كثيرة أشواكه ومصاعبه قليل فيه الناصر والمعين مثل طريق الجهاد لتكون راية الله تعالى هي العليا، لا لأجل المال والمنصب والجاه والصيت، فإن لم يكن حائزا لتلك الشمائل وجب عليه أن يربي نفسه على تحملها والقيام بها، كما يربِّي نفسه على الصبر على الطاعات والبعد عن المعاصي، لأن تلك الشمائل الطيبة مما يحبه الله تعالى، ومما يحبه الناس، ومما يساعده كثيرا على القيام بواجب الدعوة إلى دين الله جل جلاله، ومن غيرها يكون منبوذا بين الناس لا يقبلون منه صرفا ولا عدلا.

 

ولو نظرنا في صنوف من انتشرت محبتهم وقبولهم بين الناس عموما والمجاهدين خصوصا لوجدنا بالإضافة إلى دينهم وتقواهم، خلقا حسنا ومواقف رجولية مشهودة لهم يعرفها الناس ولو استخفوْا بها عنهم، يذكرونها لهم أبد الدهر كنموذج حي لما يحبون ويطلبون.

 

ومن أولئك المجاهدين الذين شهد لهم إخوانهم وكل من عرفهم بأنهم جمعوا بالإضافة إلى النسب الحسيني المبارك، حسبا كريما صاغوه بحسن فعالهم وطيب معشرهم وندرة معادنهم، الشيخ المجاهد أبو طارق الفضلي النعيمي الحسيني القرشي تقبله الله تعالى، والي كركوك الأسبق.

 

عندما دخل الصليبيون أرض الرافدين، كان أبو طارق النعيمي -تقبله الله تعالى- قد بلغ الأربعين من عمره، يحمل همّ أسرته، وهو مقدّم بين عشيرته وفي منطقته، وفي وسط سادته حينها بدع الصوفية وضلالاتهم التي انتشرت كثيرا بين المنتسبين لآل البيت أكثر من غيرهم، فلم يمنعه كل ذلك أن يسلك سبيل الجهاد في سبيل الله مهاجرا من منطقة إلى أخرى حتى كتب الله تعالى له القتل مقبلا غير مدبر، بعد مسيرة حافلة من النكاية في أعداء الله تعالى.

 

بدايات جهاده

 

تعرف على المجاهدين وتعلم منهم التوحيد والحرص على السنة، فنبذ ما كان عليه قومه من البدع، وهاجر من مسقط رأسه في منطقة "مخمور" جنوب شرقي الموصل إلى مدينة نينوى، ملتحقا بالمفارز الأمنية التي كان يقود أشرسها آنذاك الشيخان "أبو طلحة الحمداني" و "الملا مهدي" تقبلهما الله تعالى، والتي حققت نكاية كبيرة في الصليبيين والمرتدين في الموصل وما حولها.

 

وقد شارك رحمه الله في الكثير من المعارك والغزوات بمدينة الموصل، منها كمين كبير للقوات الصليبية على طريق المطار، تكبد فيه الجيش الأمريكي خسائر كبيرة في الأرواح والآليات، حتى ذاع صيته في الموصل وبات مطلوبا للصليبيين، فلم يجد بدا من الهجرة مجددا إلى منطقة كركوك، ليتابع جهاده وهو يجوب مختلف قواطع المجاهدين من جنوب الموصل إلى شمال بغداد، ومن أطراف كركوك إلى بادية الثرثار، مقاتلا تحت لواء الشيخ المجاهد أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله.

 

شمائل حميدة رفعت صاحبها

 

وفي بدايات جهاده اعتقله مرتدو البيشمركة وأودعوه سجن قاعدة (K1) سيء الصيت، بناء على اشتباههم بكونه من أمراء المجاهدين، وتعرض حينها لتعذيب شديد، لكنه تحمل وصبر وأبى أن يعترف لهم على نفسه أو أي من إخوانه، فلبث في سجنهم قرابة شهر برفقة بعض المجاهدين.

 

وبعد خروجه من السجن حكى للإخوة بعض أحداث سجنه، واستغرب من قصة جرت مع أحد الإخوة وكان من أمراء المجاهدين، كان المرتدون يأخذونه كل يوم إلى التحقيق فلا يعيدونه إلا والدماء تسيل من جسده كله، فيضمد إخوانه جراحه ويهونون عليه حتى يغلبه التعب فينام، وكان يحدثهم حديث الموقن بفكاك أسره بعد أيام، ومن يسمعونه يشفقون على حاله ويحسبون أنه قد أصابه أمر من شدة التعذيب الذي تعرض له، ثم كانت المفاجأة للجميع بعد يومين أن فتح باب الزنزانة ودعي الأخ لإطلاق سراحه، والإخوة غير مصدقين لما يحدث حتى رأوه من نوافذ السجن وهو يغادر أبوابه.

 

من قصص شجاعته

 

وبالإضافة لصبره وجلده، فقد كان رحمه الله تعالى من شجعان الرجال لا يرهبه شيء إلا الله تعالى، مقدما روحه على أرواح إخوانه، ومفضلا القتل على الاستئسار للكافرين.

 

وروى إخوة أنهم خرجوا مع أبي طارق في مهمة بقاطع (الرياض) لأسر مرتد، وبعد تنفيذ الهدف وانسحابهم من المكان لحق بهم أقارب الأسير يطلبون تخليصه من أيديهم، فلما شعر الإخوة بهم، أعطى أميرهم (أبو طارق) لإخوانه ما معه من سلاح، وطلب منهم الانسحاب بالأسير إلى مكان آمن، وبقي خلفهم ينتظر من يلاحقونه، فلما بلغوه أشهر عليهم سلاحه وهددهم بالقتل فألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب وعادوا أدراجهم، ولحق أبو طارق بإخوانه في وقت لاحق بعد أن أمّن عليهم.

 

وزيادة على شجاعته وإقدامه، رزق الله تعالى الشيخ أبا طارق حسن خلق وهيبة غشاه بهما، وكرما وإحسانا على كل من حوله، ينفق من ماله الخاص على إخوانه وعلى ما يحتاجه الجهاد بقدر استطاعته، فدخلت محبته قلوب كل الناس الذين قابلهم، وصار له قبول في أوساط عشائر المناطق التي كان يجاهد فيها، بالإضافة للمحبة والاحترام الكبير له لدى إخوانه المجاهدين.

 

وساعده ذلك كله على أن يكون داعيا مقبولا لدى الناس، فهدى الله تعالى على يديه الكثير من الشباب الذين التحقوا بساحات الجهاد، كما تاب بدعوته كثير من المرتدين عادوا إلى دين الإسلام وثبتوا عليه، ومنهم من صار مقاتلا في سبيل الله تعالى بعد أن كان مقاتلا في سبيل الطاغوت، وقتلوا تحت راية التوحيد وكانوا على شفا حفرة من النار لو قتلوا تحت رايات الشرك والتنديد.

 

وبعد إعلان دولة العراق الإسلامية كان من أوائل المبايعين لأميرها الشيخ المجاهد أبي عمر البغدادي تقبله الله تعالى، وتابع جهاده في صفوف جنودها، متنقلا من عمل إلى عمل ومقاتلا في مختلف قواطع كركوك، فأذاق الله تعالى على يديه الصليبيين والمرتدين الأهوال، وفي الوقت نفسه كان لا يدخر جهدا في إعانة إخوانه في بقية القواطع إن كان من ناحية الدعم وتأمين الاحتياجات وإن كان من حيث المشورة وتقديم النصح.

 

استشهاده تقبله الله

 

واستمر على حاله تلك حتى ولاه إخوانه ولاية كركوك عام 1429 هـ، فمكث على أمرها شهرا، وفي إحدى الليالي كان يخطط مع اثنين من إخوانه لعمل عسكري، فمكث في المزارع قرب قرية (المحمودية) التابعة لقاطع (الحويجة)، فلما تسرب خبر وجودهم إلى الصليبيين طوّقوا المكان بالمدرعات، ونفذوا إنزالا جويا عليهم بالطائرات، فلم يسلم المجاهدون لهم أنفسهم، وأخذوا بالعزيمة في دينهم، فجابهوهم بالنار، واشتبكوا معهم بما معهم من سلاح خفيف لثلاث ساعات، وأوقعوا في صفوفهم الخسائر، فلما أيس الصليبيون من أسرهم أمروا طائراتهم لتقصف مكان تحصنهم، فقتلوا ثلاثتهم تقبلهم الله تعالى.

 

قتل أبو طارق تقبله الله تعالى بعد مسيرة طيبة من الجهاد وحسن البلاء، ولحق بأشقائه وأبنائهم الذين قدمهم أمامه من قبل في جهاد الصليبيين، فقتلوا تباعا في معارك الموصل، ثم لحقه على دربه المبارك ابنه الأكبر طارق الذي صار فيما بعد من أمراء المجاهدين يقاتل في صفوف الدولة الإسلامية، حتى قتل تقبله الله تعالى في معارك صد الهجوم الرافضي على منطقة (العوجة) بولاية صلاح الدين، نسأل الله تعالى أن يتقبلهم أجمعين، أسرة طيبة وربٌ غفور.

 

 

 

 

 


 

77- العدد 265 - الخميس 2 جمادى الأولى 1442 هـ

علقمة التميمي -تقبله الله- أسد بين عرائن الشام والعراق

كان كغيره من شباب جيله في جزيرة العرب يعيش حياة هانئة رغيدة لا ينقصه فيها من حطام الدنيا شيء، في مرحلته الجامعية التحق بكلية الطب وكان ينوي التخصص في "طب الأعصاب" إلا أنّ الله تعالى أراد له ما هو خيرٌ وأبقى، فلم يمض سوى عامين على دراسته العليا في الطب حتى تركها وهاجر إلى الدولة الإسلامية، قبيل إعلان الخلافة بوقت قليل، لينال فيها أسمى المنازل وأرقى الدرجات بل في الذروة على الإطلاق، ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله، نحسبه كذلك.

 

ترك الحياة ونعيمها الزائل والتحق بساحات الجهاد في البوادي والصحاري والوديان، طمعاً في النعيم المقيم، فرفع الله قدره بين المجاهدين واستعمله عليهم فأصبح أميراً عليهم خادماً لهم رحيماً بهم، علقماً وغِسليناً على الكافرين وأوليائهم، إلى أن اصطفاه الله شهيداً -نحسبه- بعد حياة قضاها كالأسود متنقلاً من عرين إلى عرين، بين ثغور الشام والعراق، طوافاً سائحاً في ديار الإسلام ومحاضن الرجال، من ملاحم الرمادي مروراً بمعارك الباب وحماة والرقة والخير، وأخيراً في بوادي حمص الملتهبة.

 

علقمة في ملاحم الرمادي

 

إنه الأخ علقمة النجدي التميمي، تقبله الله تعالى، من مواليد عام 1412هـ، في مدينة (بريدة) بمنطقة (القصيم) بجزيرة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

برغم منعه من السفر بقرار من طواغيت بلده، إلا أنّ الله تعالى المتصرّف في ملكه، وفّقه -سبحانه- للهجرة إلى ديار الإسلام، وذلك قبيل إعلان الخلافة بوقت قليل، وكانت أول محطة له هي ولاية حلب -أعادها الله إلى حظيرة الإسلام-، حيث عمل جندياً في صفوف الكتيبة التي كان يقودها الأخ (أبو نصار) تقبله الله، ثم انتقل منها إلى ولاية حمص ومكث فترة مع الشيخ (أبي عتيق الرحمن) تقبله الله، ثم كلّفه إخوانه بإمارة "الأمن الداخلي" في الولاية، وهو أحد مفاصل ديوان الأمن العام في الدولة الإسلامية.

 

ولاحقاً يمَّم علقمة بوجهه شطْر أرض العراق حيث كان يريد ويتمنى أن يذهب، ودخل إلى ولاية الأنبار في مرحلة مهمة من تاريخ دولة الإسلام، كان المجاهدون يتهيأون فيها لغزو المدن، وقد شارك في معارك اقتحام "اللواء الثامن" و "جامعة الأنبار" وتمكن من الدخول إلى مدينة الرمادي، وهناك عاش فصول الحصار الذي فرضه المرتدون على الفئة القليلة من المجاهدين داخل الرمادي، واستمر القتال غير المتكافئ حتى وصل الحال ببعض المجاهدين للاشتباك مع المرتدين بالأيدي!! بعد نفاذ ذخيرتهم، وظلّ المجاهدون صامدين في هذا الوضع العصيب مع فقْد الأمراء وشُحّ السلاح والعلاج إلا أنهم لم يبرحوا مواقعهم وواصلوا القتال حتى جاءت (غزوة أبي تراب الأنصاري) التي فتح المجاهدون فيها منطقتي "الصوفية" و "البوفراج"، لتأتي بعدها (غزوة الشيخ أبي مهند السويداوي) والتي انطلقت في يوم (26/ رجب) من عام 1436هـ وانتهت بعد أيام بفتح مدينة الرمادي، وكل ذلك وعلقمة يتقلب مع إخوانه بين المحن والمنح، يشاركهم أجرهم وصبرهم وأيضاً خبراتهم.

 

العودة مجدداً إلى ساحة الشام

 

انتهت معركة الرمادي الصعبة بسيطرة المجاهدين على المدينة، ليعود علقمة مرة أخرى إلى الشام وتحديداً إلى ولاية حمص، وهناك التحق بكتيبة (أبي معتز القرشي) وعمل فيها رامياً على مدفع 23 ملم، واستمر في جهاده ضمن صفوف الكتيبة حتى أصيب أثناء مشاركته في معارك فتح (مهين) ومستودعاتها، ثم انتدبه أمراؤه لاحقاً للعمل في ولاية حماة وتحديداً في مكتب الوالي، وعندما بدأت معركة (الباب) الشهيرة في حلب، واستنفر الخليفة أبو بكر البغدادي -تقبله الله- جنوده للقتال في تلك الجبهة المهمة؛ طلب الأخ علقمة من أمرائه التوجه لمؤازرة إخوانه المجاهدين هناك فأذنوا له.

 

مشاركاً في ملاحم الباب وريفها

 

وظلّ علقمة تقبله الله يقاتل مع المجاهدين في معارك الباب التي استعصت على المرتدين لأكثر من شهر دون أن يتمكنوا من إحداث أيّ تقدم ميداني، وذاق فيها الجيش التركي وأذنابه من الصحوات ألوان العذاب على أيدي جنود دولة الإسلام، ومنها معركة (جبل الشيخ عقيل)، ووصل الحال بالمرتدين إلى حدٍّ جعَل قادتهم يتلاومون فيما بينهم! فبعضهم حمّل "الجيش الحر" مسؤولية الفشل الميداني، بينما قال آخرون إن "حسابات الجيش التركي بشأن معركة الباب لم تكن دقيقة، وإن عليه مراجعة خططه بهذا الشأن" واتهموا فيها أداء الجيش التركي بالضعف!

 

ولكي يغطي على ضعفه، كثّف الجيش التركي قصفه الجوي والمدفعي الهمجي الذي طال كل شيء في المدينة وريفها متبعاً سياسة "الأرض المحروقة" التي أحرقوا فيها أجساد المسلمين ومنازلهم بقصف متعمد مباشر، بل وشاركهم في ذلك الطيران الروسي، ليضطر المجاهدون إلى الانحياز من المنطقة بعد أن أذاقوا المرتدين ويلات الحروب وأظهروا الوجه الحقيقي للجيش التركي وطاغوته المرتد الذي يحاول أنصاره اليوم تحسين صورته الملطخة بدماء المسلمين.

 

واستمر الأخ علقمة مشاركاً في الاستنفار العام في ولاية حلب مع باقي إخوانه حتى قبيل سقوط مدينة (مسلمة) بوقت قليل، ليعود بعدها إلى ولاية حماة مرة أخرى بطلب من إخوانه، واستمر فيها حتى جاءت معركة الرقة.

 

إصابته بقصف في معارك الرقة

 

وكعادته لبّى علقمة النداء متوجهاً من ولاية حماة إلى ولاية الرقة حيث شارك في معركة الرقة في ظل الحصار الخانق الذي فرضه الصليبيون والمرتدون عليها، وعيّنه إخوانه فيها أميراً على قاطع (اليرموك)، وقبيل الانحياز من الرقة بأسبوعين أصيب تقبله الله بقصف من طائرة مسيّرة إلا أن ذلك لم يوقفه عن مواصلة طريقه، وبرغم القصف الكثيف نجح المجاهدون ومعهم علقمة في الانحياز من الرقة نحو ولاية الخير التي خاض فيها المجاهدون معارك استنزاف عنيفة ما زالت تتصاعد إلى يومنا هذا.

 

وفي الخير، عمل علقمة برفقة الأخ (كرار العراقي أبي سليمان) تقبله الله، في ديوان (الركاز)، وعندما تشكلت (كتيبة الأنفال) عُيِّن علقمة أميراً على إحدى السرايا فيها أثناء معارك (غرانيج)، كما عمل لاحقاً في مفارز "الاستخبارات العسكرية"، لينهل من أبواب الخير وثغور الجهاد المختلفة.

 

من ملاحم الخير إلى البادية

 

قبيل ملاحم الباغوز الكبيرة بنحو عشرة أشهر، تمكن علقمة من الانحياز نحو صحراء البادية التي أصبحت مقبرة للجيش النصيري وميليشياته وحلفائه الروس، وقد شارك علقمة هناك في مقارعة الجيش النصيري في كثير من الهجمات والغزوات، وأصيب خلالها في إحدى المواجهات إصابة أقعدته نحو عام كامل! لكنها لم تنل من عزيمته وأنّى لمن امتلأ قلبه بحب الله تعالى وحب رسوله أن يتوقف أو يتراجع، بل طلب لاحقاً من أميره (أبي أيوب العراقي)، أن يسمح له بتنفيذ عملية استشهادية، لكنه -تقبله الله- لم يأذن له بذلك، بل عيّنه نائباً له لِما رأى فيه من صفات طيبة كثيرة تؤهله لذلك.

 

أميراً للمجاهدين في بادية حمص

 

وعندما قتل (أبو أيوب العراقي) تقبله الله، وقع الاختيار على علقمة ليكون خلفاً له، وأصبح علقمة أمير المجاهدين في بادية حمص، فكان نِعْم الأمير كما كان نِعْم الجندي من قبل، رحيماً بإخوانه صبوراً عطوفاً عليهم، شديداً علقماً على المرتدين، حيياً شهماً كريماً لا يبخل على إخوانه بشيء يقدر عليه، صاحب حياء وتقوى وهمة عالية، تلك شهادة جنوده فيه، نحسبه كذلك والله حسيبه.

 

وخلال فترة إمارته في بادية حمص، بذل علقمة كلّ ما يستطيع من ماله وجهده في خدمة ورعاية شؤون الجهاد في تلك البوادي المقفرة، حتى تحسّنت كثير مِن أحوال الجهاد والمجاهدين هناك، فلم يدّخر جهداً في ذلك واستمر في بذله وعطائه وجهاده حتى أتاه اليقين من ربه، بعد حياة شغَلها بطاعة الله تعالى والجهاد في سبيله، حياة مليئة بالصعاب والمخاطر قضاها متنقلاً بين ثغور الشام والعراق.

 

لِيُقتل بعد ذلك القتلة الكريمة التي يتمناها الكثيرون ولكن لا يُلقّاها إلا الذين صبروا ولا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم، رحل علقمة في الخامس من رجب 1441هـ، ثابتاً على دينه وعقيدته في وقت يحتاج فيه المجاهدون إلى مثله، غير أنه ترك خلفه مِن جنوده مَن يُشعل البادية ناراً على النصيرية والروس، فباتوا يذوقون في كل يوم علقماً ويرون في كل معركة علقمة.

 

 

 

 

 


 

78- العدد 273 - الخميس 29 جمادى الآخرة 1442 هـ

أبو الحسن العدني -تقبله الله-
عنوان التواضع ورجل المواقف

التحق بالدولة الإسلامية في اليمن وجاهد ضمن صفوفها الحوثة المشركين، وقاد جنودها في ولاية البيضاء في أحلك الظروف وقت اشتداد حملة القاعدة وحلفائها المرتدين، تفانى في نصرة المجاهدين وبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيع، أصبح قائداً عسكرياً لإخوانه في (قيفة) فغمرهم بحبه وتواضعه الجمّ الذي ليس له شبيه إلا في قصص السلف الأوائل عليه وعليهم شآبيب رحمات الله تترى.

 

إنه الأخ المجاهد علي الدياني، أبو الحسن العدني تقبله الله، من سكان حي (خور مكسر) في مدينة عدن، ولد عام 1409هـ، حصل على درجة "البكالوريوس" من كلية "العلوم الإدارية" في عدن وعمل بعدها في السوق ليكسب مِن عمل يده، ومع ذلك فقد كان مهتماً بمتابعة أخبار الجهاد والمجاهدين ومنها إصدارات الدولة الإسلامية في العراق والشام آنذاك، وكانت تلك بداياته في السعي للنفير إلى أرض الجهاد.

 

نفيره والتحاقه بجنود الخلافة في اليمن

 

بعد دخول الحوثة المشركين إلى عدن، اتصل به أحد إخوانه طالباً منه الانضمام إلى جنود الخلافة في اليمن، فلم يتردد أبو الحسن واستجاب مباشرة لداعي الجهاد، وبعد وصوله إلى أماكن وجود الدولة الإسلامية مكث في إحدى مضافاتها فترة من الزمن يهيئ نفسه إيمانياً يتعلم أمور دينه ويشغل أوقاته بالطاعات صوّاماً في النهار قوّاماً في الليل، كما كان يعدّ جسده بدنياً من خلال ممارسة التمارين الرياضية واللياقة البدنية، وقد كلّفه إخوانه بأن يكون أميراً لإحدى المضافات فكان محبّاً لإخوانه نصوحاً لهم، ثم التحق بدورة عسكرية في أحد معسكرات المجاهدين، ولتميُّزه أثناء الدورة رشّحه إخوانه للانضمام إلى دورة العبوات لينتقل بعدها إلى ولاية البيضاء في منطقة (آل حميقان) برفقة مجموعة من إخوانه، وهناك شارك في بعض العمليات والاشتباكات ضد الحوثة المشركين.

 

قائداً لإحدى الكتائب غاسلاً لملابس أفرادها!

 

عندما جاء الأمر من قيادة المجاهدين بالنفير إلى (حضرموت) أسرع أبو الحسن تقبله الله ملتحقاً بإخوانه هناك، ثم طُلب منه العمل في (مأرب) فلبّى وذهب برفقة مجموعة من إخوانه، ثم عاد إلى (حضرموت) مرة أخرى وهناك كلّفه أمراؤه بمهمة تدريب إحدى الكتائب العسكرية فقام بذلك على أتم وجه، ولمّا رأى إخوانه كفاءته ونشاطه كلّفوه بقيادة الكتيبة، وخلال هذه الفترة تمكّن بفضل الله مِن تنفيذ العديد من العمليات ضد المرتدين فأكسبه ذلك مزيداً من الخبرة العسكرية والميدانية.

 

ومن المواقف التي لا تُنسى خلال فترة قيادته للكتيبة يقول أحد إخوانه: كنّا جالسين في الخيمة بعد تناول طعام الغداء وكان الجو يومها حاراً جداً، وعند نهوضنا للوضوء لصلاة العصر؛ تفاجأنا بأنّ ملابس جميع الإخوة -نحو30 مجاهداً- قد تم غسلها وتعريضها للشمس لكي تجف، وقد تساءلنا عمّن فعل ذلك! وعرفنا لاحقاً أنه كان من صنيع أبي الحسن تقبله الله تعالى، هذا ناهيك عن قيامه المتكرر بالطبخ لإخوانه.

 

قائداً لكتيبة الفاروق العسكرية في (قيفة)

 

استُدعي أبو الحسن لاحقاً للعمل في مفرزة العبوات في (حضرموت) حيث عمل فيها لفترة قصيرة ثم أتى أمر بالخروج إلى (مأرب) لأخذ دورة شرعية مطولة، وبعد ثلاثة أشهر عاد تقبله الله إلى ولاية البيضاء (قيفة)، وهناك تم تقسيم المجاهدين إلى كتائب.

 

في (قيفة) اشتعلت أول معركة بين جنود الخلافة والحوثة المشركين في منطقة (الظهرة) وكان أبو الحسن يومها أميراً على أحد المواقع هناك وقد ثبت مع إخوانه في موقعهم حتى ردّ الله كيد الروافض، وبعد هذه المعركة تم تعيينه قائداً لـ (كتيبة الفاروق) فأبلى بلاء حسناً في قيادته لجنوده وخدمته لإخوانه، وذات مرة حوصر بعض المجاهدين في (الظهرة) فانطلق أبو الحسن مع مجموعة من إخوانه وتمكنوا من فكّ الحصار عنهم.

 

نائباً ثم أميراً عسكرياً لولاية البيضاء

 

ومع هذه التجارب والمواقف المتلاحقة ازداد أبو الحسن خبرة عسكرية حتى أصبح ذا رأي عند الأمير العسكري للبيضاء، وبعد غزوة (حمة لقاح الثانية) وسيطرة جنود الخلافة عليها، قُتل نائب الأمير العسكري في البيضاء الأخ أبو صالح العولقي تقبله الله، فتم تعيين أبي الحسن نائباً للأمير العسكري خلفاً لأبي صالح، فكان خير خلف لخير سلف، وقد أوكل إليه الأمير العسكري العديد من المهام بعد أن رأى منه حسن الإدارة والتصرف ومنها مهام التخطيط للعديد من العمليات العسكرية، فوفّقه الله تعالى للتنكيل بالحوثة المشركين في كثير من المعارك والمواجهات، وكثيراً ما كان أبو الحسن يرصد مواقع العدو بنفسه، فما مِن صولة أو سرية تخرج إلا تجده في مقدمتها، ولاحقاً جرى تعيين أبي الحسن أميراً عسكرياً على ولاية البيضاء (قيفة)، فما زاده ذلك إلا بأساً وغلظةً على الكافرين ورحمةً وتواضعاً لإخوانه المجاهدين.

 

خادماً لجنوده خافضاً جناحه للمؤمنين

 

حيث كان يتفقد جنوده وإخوانه في مواقع الرباط بشكل متواصل، وكان يُحسن صيد الأرانب والوبر وطائر الحجل، وفي كل مرة يصطاد فيها شيئاً كان يختار موقعاً من مواقع الرباط ويذهب لإخوانه بصيده ويطبخ لهم بنفسه ويتناول طعام العشاء معهم ويجلس يمازحهم قليلاً ليدخل السرور عليهم، ثم ينصرف إلى أداء مهامه.

 

يقول إخوانه: إنه كان يساعدهم في كل ما يستطيع برغم مهامه العسكرية، فإن وجد مجاهداً يطبخ ساعده، وإن وجد مجاهداً يصلّح دراجته ساعده، وإن وجد مجاهداً يطبّب أخاه ساعده، كالخير أينما وقع نفع، وقد بلغ به التواضع وخفض الجناح للمؤمنين أنه كان يخيط أحذية إخوانه وملابسهم بنفسه وهو أميرهم! أسوة بقادة السلف الأوائل رضوان الله عليهم، وعلى إثرهم كان وما زال قادة وجنود دولة الإسلام وما قصة أبي الحسن تقبله الله إلا غيض من فيض ونقطة في بحر جودهم.

 

وإضافة إلى تخطيطه وقيادته للعديد من الغزوات ضد الحوثة المشركين، سارع إلى تسجيل اسمه في قائمة الاستشهاديين والانغماسيين حرصاً على أجر الشهادة التي يتمناها كل مجاهد أيقن بعِظَم ثوابها يوم العرض على الله تعالى.

 

ثبات في وجه حملات القاعدة وحلفائها

 

وعندما تعرض المجاهدون للهجمة الغادرة من قبل تنظيم القاعدة بالتحالف مع عناصر من الجيش اليمني المرتد؛ كان أبو الحسن هو القائد العسكري في تلك المحنة التي تمثلت بالغدر بالمجاهدين والتآمر عليهم وحصارهم وقطع طرق إمدادهم، وبرغم ذلك كله وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ بقي أبو الحسن متفانياً في جهاده، صابراً محتسباً مستبشراً بموعود الله تعالى لعباده بإحدى الحسنيين.

 

في بداية المعارك مع التنظيم، كان أبو الحسن ينظّم مواقع المجاهدين بنفسه ويحرص على جعلها صفاً واحداً بحيث يحمي كل موقع الموقع الآخر، وبعد اشتداد المواجهات مع التنظيم وحلفائه، أصبح أبو الحسن مشغولاً في البحث عن سبيل لإخراج المصابين من خطوط القتال إلى النقطة الطبية، ورغم الرصد والرماية المستمرة من قبل المرتدين على الطريق، إلا أن الله تعالى يسّر لأبي الحسن مهمته واستطاع إخلاء الجرحى رغم شدة الموقف وخطورة الطريق، ومِن حرصه واهتمامه بحال إخوانه في تلك المحنة، كان يتكفل بأمور الإعاشة الداخلية والإمداد بالذخيرة والعتاد وتأمين الطريق بنفسه دون الاقتصار على توكيل هذه المهام لغيره من إخوانه.

 

قصص ومواقف الأبطال في أرض النزال

 

في إحدى المعارك مع تنظيم القاعدة -والذي كان يحضّرها بالتنسيق مع جنود من الجيش اليمني!!- سقط جبل (حمّة عواجة) في أيديهم؛ فانطلق أبو الحسن برفقة مجاهد آخر متوكلين على الله تعالى وقاموا بالهجوم على الموقع وتمكنوا من قتل بعض المرتدين واسترداد الموقع بفضل الله تعالى، وفي مواجهة أخرى شنّ التنظيم هجوماً قوياً على نقاط المجاهدين، وكان أبو الحسن قد اتخذ كل الأسباب المادية لصدّ الهجوم، ثم خرّ ساجداً لله تعالى، فرآه أحد إخوانه فسأله: ماذا فعلت؟ فقال له: علينا أن لا نتّكل على العدة والإعداد والأسباب، بل على ربّ الأرباب سبحانه، ولم يمض سوى وقت قليل حتى جاء خبر انكسار العدو وفرارهم مولين الأدبار.

 

وفي ذات مرة كلّف أبو الحسن أحد الإخوة بترتيب الذخيرة وكانت كثيرة ومبعثرة، فبدأ الأخ بترتيبها لكنه نام من شدة التعب والإرهاق جراء المعارك المتواصلة! يقول الأخ: لمّا استيقظت وجدت الذخيرة كلها مرتبة، ووجدت نفسي مغطىً ببطانية! فسألت مَن فعل هذا لي؟ فعلمت لاحقاً أنه أبو الحسن تقبله الله تعالى.

 

ويروي أحد الأنصار موقفاً آخر من مواقف أبي الحسن البطولية، وقع خلال صدّ هجوم لمرتدي القاعدة، حيث أصيب الأخ خلال الاشتباك في موقعه وكان أبو الحسن في موقع آخر بعيد عنه، فتراسل الأخ المصاب مع أبي الحسن وأخبره بأنه أصيب، فما كان من أبي الحسن إلا أن توجّه نحو موقع الأخ وسحبه إلى موقع آمن.

 

مقتل أبي الحسن مقتحماً غمار الحتوف

 

قام تنظيم القاعدة بحشد جميع عناصره في (قيفة) وتحالف مع خونة القبائل اللاهثين خلف سراب الدنيا بغية شنّ هجوم واسع على مواقع المجاهدين في يكلا (قيفة السفلى)، وقتها كان أبو الحسن قد بلغ به الأمر مبلغاً شديداً مِن همه على إخوانه لكنه لم ييأس ولم يقف مكتوف الأيدي بل قام مع بعض المجاهدين بتنفيذ عدة هجمات معاكسة لتخفيف الضغط على إخوانه، فكانت عملية (عَنَه)، وبعدها عملية مقتل القيادي المرتد "أبي وافي الصريمي" وبعدها بثلاثة أيام كانت غزوة (الحميضة الأولى)، وقد كان لأبي الحسن تقبله الله دور مهم في تخطيط وترتيب هذه الهجمات الموفقة.

 

وبعد غزوة (الحميضة الأولى) والتي تكللت بسيطرة المجاهدين على مواقع التنظيم، تفاجأ الإخوة بغدر قرية (ذي كالب) من الجهة الخلفية رغم تعهدهم سابقاً بعدم مساندة التنظيم إلا أنه دأب الغادرين في كل مكان، فتحالفوا مع التنظيم ما تسبب بضغط كبير على المجاهدين من هذه الجهة، فجاء الخبر لأبي الحسن بسقوط موقع (خوجان)، فقال أبو الحسن: لم يسقط خوجان، وانطلق كالأسد مع بعض إخوانه ليصدّوا الغادرين، واندلعت معارك شديدة بلغت نحو ستّ هجمات في يوم واحد، وأثناء هذه المعارك الضارية كان أبو الحسن على موعد مع الرحيل ومفارقة هذه الدنيا ليستريح من عنائها ونصبها إلى حيث الراحة الأبدية والنعيم المقيم في دار الخلود بإذن الله.

 

كان أبو الحسن العدني موضع ثناء أمرائه وإخوانه حياً وميتاً تقبله الله وتلك عاجل بشرى المؤمن، وبرغم حزن إخوانه على فراقه إلا أنهم عقدوا العزم على مواصلة طريقه الوضّاء ودربه الميمون حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

 

 

 

 

 


 

79- العدد 285 - الخميس 24 رمضان 1442 هـ

الشيخ المجاهد أبو محمد الفرقان (تقبله الله تعالى)
قائد معركة الإعلام والمرابط على ثغور العقيدة الجزء الأول

إن حرب العقائد والأفكار لا تقل أهمية ولا شراسة عن حروب الحديد والنار التي تتصارع من خلالها الجيوش، فتُسحق فيها الجماجم، وتُسكب الدماء، ويُباد البشر، بل لا مبالغة في القول إن حرب الأفكار هي الأساس الذي تقوم عليه أكثر حروب الحديد والنار.

 

ولذلك يخصص المشركون جزءا كبيرا من مواردهم المالية والمادية والبشرية لهذه الحرب، لتقوية صفوفهم، وتحشيد أنصارهم، وتغيير عقائد المسلمين، وزرع الوهن والعجز في نفوسهم، ودفعهم إلى الاستسلام والقبول بالتبعية لأعداء الملة والدين.

 

وفي الوقت نفسه يرابط على هذا الثغر العظيم رجال من أهل التوحيد، يعرفون من أين يُؤتى الإيمان، فيدفعون عن المسلمين الشبهات، ويدركون مقاتل العدو، فيُتبعون الغارة الغارة على عقول أتباعه وقلوبهم، ويوقنون أن النصر من الله تعالى، فيستعينون عليه بطاعته سبحانه، والتوكل عليه حق التوكل.

 

ومن هؤلاء الدعاة إلى الله، الذائدين عن حياض الإيمان، الذين وطئوا مرارا مواطئ تغيظ الكفار، حتى اعترفوا مرغمين بخبرته في هذا الميدان من الصراع، وشدة بأسه وصبره على هذه الساحة من ساحات النزال؛ الشيخ المجاهد أبو محمد الفرقان، تقبله الله تعالى، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

هو الدكتور وائل الطائي، من الرعيل الأول من المجاهدين في العراق، وتلاميذ مدرسة التوحيد في بغداد التي وضع أسسها الشيخ فائز تقبّله الله، ودفع ثمنا لذلك قتلة في سبيل الله على يد طاغوت البعث الهالك صدام حسين، ومن المؤسسين لقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين آنذاك، ومن القادة الأفاضل لدولة العراق الإسلاميّة، وأحد من أرسى الله بهم دعائم الدولة الإسلامية في الشام، وجدّد بهم معالم الدين وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

نشأ يتيما فلم يمنعه ذلك من التفوق على أقرانه، ودرس الطبّ فلم يشغله ذلك عن طلب العلم الشرعي والدعوة إلى دين الله تعالى، فكان ينشط بين زملائه في جامعة بغداد يدعوهم إلى التوحيد، ويوزع عليهم رسائل أئمة الدين من علماء الدعوة النجدية رحمهم الله، ويرتبط بعُصب الموحدين في بغداد وحزامها، ويطلب العلم على يد بعض من عُرفوا به في تلك الفترة.

 

لم يكد ينهي دراسته للطب وتخصصه في طب الأطفال ويعمل به لسنوات قليلة حتى دهمه وإخوانه الغزو الصليبي الأمريكي لأرض العراق، وسقوط نظام البعث الكافر، وانطلاق الجهاد المبارك في بلاد الرافدين، فكان من العصبة التي تأسست على يديها جماعة (أنصار السنة) في العراق، وذلك بعد وصول من نجا من جماعة (أنصار الإسلام) في كردستان إليهم، فكانوا النواة المؤسسة لهذه الجماعة المقاتلة، والمحرك الفعلي لأغلب مفاصلها.

 

مع الأمير الذباح.. أبي مصعب الزرقاوي

 

فلما أظهر الله -تعالى- دعوة الشيخ أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله، وأبان للناس صحة منهجه، وأعظم نكايته وإخوانه في الصليبيين، كان خيار الأفاضل من جماعة (أنصار السنة) الانضمام إليه، وعقد البيعة له، حرصا على الجماعة، ونبذا للاختلاف والفرقة، وكان على رأس هؤلاء الأفاضل الشيخ (أبو علي الأنباري) تقبّله الله، الذي فوضه إخوانه بمبايعة الشيخ الزرقاوي بالنيابة عنهم بعد أن وجدوا تسويفا ومماطلة من قيادة (أنصار السنة) في هذا الأمر، وحرصا على الزعامة والإمارة.

 

وهكذا دخل الشيخ أبو محمد إلى صفوف قاعدة الجهاد، ملازما لأخيه وأميره الشيخ خالد المشهداني (أبي شهد) تقبّله الله، الذي كان أميرا للقسم الإعلامي في التنظيم، فلما زادت الأحمال والتكاليف التي ألقاها الشيخ الزرقاوي على عاتق (أبي شهد)، عهد إلى أبي محمد بإدارة ملف الإعلام بالنيابة عنه، فأبلى في ذلك أحسن البلاء، حتى اعتقل الشيخ المشهداني، فصار أبو محمد أميرا للإعلام في التنظيم وكان يعمل حينها بكنية (أبي سَجَّاد).

 

وفي تلك الفترة كان الشيخ كثير اللقاء بالشيخ الزرقاوي يناقش معه أمور الإعلام والرسائل التي ينبغي أن تصل إلى كل من المسلمين والصليبيين، فتزيد من تأييد أهل الإسلام للجهاد في العراق، وتدفعهم إلى الهجرة والانضمام إلى المجاهدين، وتوهن من عزائم الصليبيين، وتشككهم في جدوى حربهم المهلكة في العراق، وتدفعهم إلى الانسحاب منه مخذولين مدحورين، وكان -رحمه الله- يبين لإخوانه في تلك المرحلة أن أهم واجبات الإعلام فيها إظهار الغلظة والشدة من المسلمين على الصليبيين، لإعادة الثقة والعزة لدى أهل الإيمان بعد قرون من الذل والخضوع، ولزرع الرعب من المجاهدين في قلوب المشركين عامة، وهذا ما كان بفضل من الله وحده.

 

ولما استوى الجهاد على سوقه، وقويت شوكة المجاهدين بعد معركة الفلوجة الثانية، وبدأ الشيخ الزرقاوي -تقبّله الله تعالى- يعد العدة لمسك الأرض، وتحقيق التمكين، وإقامة الشريعة والدين، وإعلان الدولة الإسلامية، وعزم أن يسبق ذلك بالخروج على الإعلام بوجهه مطمئنا للموحدين وإغاظة للمشركين.

 

كان الشيخ أبو محمد على موعد مع الشيخ الزرقاوي ليكون معه في تصوير المشاهد الضرورية للإصدار، فخرج إليه مع عدد من إخوانه أمراء التنظيم، كالشيخ أبي علي الأنباري والشيخ أبي محمد العراقي والشيخ أبي المعتز القرشي تقبّلهم الله جميعا، فقدر الله أن يعثر الصليبيون على المضافة التي كانوا فيها ينتظرون من يقلهم إلى مكان الشيخ الزرقاوي، وذلك إثر عملية إنزال أمريكية على موقع للمجاهدين قريب من المضافة، فالتقطت مكان المضافة عدسات طائرة استطلاع للصليبيين كانت تحوم في الأجواء لحظة اشتباكهم مع المجاهدين، وبعد أن انتهى الاشتباك بمقتل جميع المجاهدين في الموقع المجاور حيث فجَّروا أحزمتهم على القوات المهاجِمة ورفضوا الاستئسار لهم، حاصروا المضافة وفيها الشيخ أبو محمد ومن معه، وهم عزّل من السلاح تقريبا، لكون طريقهم من بغداد إلى مكان الشيخ الزرقاوي ملغما بالعديد من سيطرات الصليبيين، فقدر الله للشيخ أبي محمد أن يؤسر، ويبقى في السجن سنوات، وأن لا يودع أميره الوداع الأخير، فقتل الشيخ الزرقاوي تقبّله الله، وهو في سجنه، أسيرا عند الصليبيين، متنقلا بين سجونهم ومحاجرهم.

 

داع إلى الله في سجون الصليبيين

 

في سجنه، لم يكن الشيخ أبو محمد لينسحب من ثغره ولا أن يترك أفكار أهل الضلال بمختلف أنواعهم أن تلوّث منهج أهل التوحيد أو تفسد عقائدهم، فكان يتصدى لأي انحراف يجده داخل السجن، ويقف في وجه كل من يسعى لإضلال المجاهدين مستغلا الضيق النفسي الذي يشعرون به في محابسهم، من خلال جرهم إلى الإرجاء إن وجد فيهم ضعفا وعجزا، أو دفعهم إلى الغلو إن وجد فيهم غضبا وسفاهة، وما زال جنود الدولة الإسلامية يذكرون موقفه في وجه الغلاة داخل السجن بعد خروج نابتة الخوارج في إحدى المناطق، وتسرب أفكارها الغالية إلى داخل السجن، معتمدين على شبهات باطلة أخذوها من بعض الكتب التي لم يحسنوا قراءتها، وأقوال نقلوها عن بعض علماء السوء لم يفهموها.

 

ولما وجد الإخوة الذين كانوا يسيِّرون شؤون جنود الدولة الإسلامية داخل السجن عظم فتنة الغلاة وخطرهم فوّضوا الشيخ أبا محمد الفرقان للتصدي لهم، وقد برزت حكمته وحسن سياسته في إدارته لذلك الملف الشائك، فلم يصطدم برؤوس الغلاة، ولم يلق لهم بالا لكيلا يمنحهم قيمة لا يستحقونها أو زعامة لا يملكونها، بل أسس للرد عليهم بسلسلة مبسطة من المحاضرات الشرعية، في باب أحكام الديار، وبات يدرس هذا المنهاج المبسط لمن يثق بهم من الإخوة، ويختبرهم فيه، فمن ضبط المنهاج أجازه بتدريسه لغيره من الإخوة.

 

وبات هذا المنهاج الذي استنسخ منه المجاهدون مئات النسخ، كتبوها على أوراق ينزعونها من علب العصير الذي يُقدّم لهم مع وجبات الطعام، ويحفظونه عن ظهر قلب؛ ينتقل من غرفة إلى غرفة داخل السجن الواحد، ويتعلمه الإخوة، فيردون على شبهات الغلاة الذين كان معظمهم جاهلا في الدين سطحيا في التفكير، وهكذا منّ الله تعالى على الإخوة داخل السجن بعزل أولئك الغلاة، وحماية المجاهدين من شبهاتهم، في الوقت الذي بدأ فيه جنود الدولة الإسلامية بحصد رؤوسهم في مختلف مناطق العراق لتنطفئ فتنتهم ويزول شرهم، بفضل الله وحده.

 

كان في سجنه مثالا للولاء والبراء، ونموذجا لإظهار العزة على الكافرين حتى وهو أسير عندهم، فبقي يظهر لهم العداء، ويغلظ لهم في القول، ويقف في وجههم مجادلا عن إخوانه، ولم يلن معهم رغم احتكاكه الإجباري الكبير معهم، فقد ألزمته معرفته باللغة الإنكليزية بالعمل مترجما لإخوانه داخل الأسر، حتى كان مصدر إزعاج للسجّانين، ومصدر تعزيز لنفوس الأسرى والمعتقلين.

 

إعادة تأسيس جهاز الإعلام في الدولة الإسلامية

 

منَّ الله تعالى على الشّيخ بخروجه من سجن الرافضة المشركين، وما هي إلا أيام وقد التقى بإخوانه وعاد للعمل معهم، فقد كانوا يرقبون هذا اليوم منذ سنين، وكانوا ينتظرون أمثاله ليقيم صرح الإعلام من جديد بعد تعاقب الضربات التي تلقاها الجهاز الإعلامي للدولة الإسلامية، من قتل للكوادر، ومداهمة للمكاتب والمقرات، وكثرة تغير المسؤولين عنه، فما يكلف به أحد من المجاهدين حتى يبتليه الله بالأسر، أو يمن عليه بالقتل، في فترة من أصعب الفترات التي مرت بها الدولة الإسلامية عموما، فولاه أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي -تقبّله الله تعالى- وزارة الإعلام في دولة العراق الإسلامية، وظهر في التشكيلة الوزارية الثانية للدولة تحت اسم (الأستاذ أحمد الطائي).

 

بعد فضل الله وحده، كان في حرصه الكبير على الإجراءات الأمنية، وما عرف عنه من كتمان شديد، وحسن اختيار للغطاء الذي يتحرك به، وكثرة تنقله؛ دور كبير في نجاته من أيدي المرتدين الذين عمموا اسمه وصوره من جديد على سيطراتهم طالبين اعتقاله، وكانت هذه السمات قديمة فيه لم يفارقها منذ أيام جهاده الأولى، فكل من عرفه كان يعرف عنه كرهه الشديد لأي سؤال يخص شخصه أو يكشف معلومات خاصة عنه، وكان يعقد أكثر اجتماعاته مع الإخوة ولقاءاته بهم في أماكن عامة، يغيرها في كل مرة، وأكثر تنقلاته في المدن سيرا على الأقدام تجنبا للحواجز والسيطرات، وكان غطاؤه الذي يتحرك به كطبيب قريبا جدا من شخصيته ومهنته الأصلية مما ساهم -بفضل الله تعالى- في إبعاد الشبهات عنه، وقلل من متابعة المرتدين له.

 

وفي هذه الفترة الصعبة كان واجب الشيخ أبي محمد أن يعيد بناء الجهاز الإعلامي للدولة الإسلامية، فيقوي مركزه المتمثل آنذاك بمؤسسة الفرقان، ويعيد الارتباط بالأطراف المتمثلة بمكاتب الولايات، بل ويؤمّن الاتصال من جديد بفروع القاعدة في العالم من أجل الرد على مطاعنهم في الدولة الإسلامية ومنهجها، وتوضيح ما أشكل عليهم من مسائل بهذا الخصوص، وقد تولى هذه المهمة معه الشيخ أبو علي الأنباري تقبّله الله.

 

ولما كانت الضربات الأمنية السمة الكبرى لتلك المرحلة، ولضعف بنية الجهاز الإعلامي للدولة الإسلامية آنذاك؛ كاد هذا الجهاز أن ينهار تماما بضربة واحدة وخصوصا بعد اكتشاف الروافض وأوليائهم الصليبيين لمقر سري لمؤسسة الفرقان داخل مدينة بغداد، ومداهمتهم للمقر، حيث كانت الملحمة التي استبسل فيها اثنان من المجاهدين هما أبو فيصل العراقي وناصر الجزراوي في التصدي للقوات المهاجمة، والإثخان في المرتدين، حتى قتلا تقبلهما الله تعالى، لتنتهي معهم مؤسسة الفرقان لولا لطف الله، فقد كان البطلان هما نواة هذه المؤسسة المنتجان لإصداراتها، المشرفان -مع بعض من كان حولهم من إخوانهم- على كل نشاطاتها.

 

ولما وصل الخبر للشيخ أبي محمد سارع بسحب من سلم من الإخوة إلى مدينة الموصل ليبدأ بهم تأسيس العمل الإعلامي من جديد، رغم أن الثقل الأكبر من العمل وقع على عاتقه هو لا على غيره.

 

ربيع المجاهدين

 

ففي تلك الفترة التي قل فيها دخول المهاجرين، وصعب فيها تحصيل الكوادر الإعلامية المدربة، وجد أنه ينبغي تأسيس العمل من جديد، وابتدأ بنفسه، فراح يقرأ عن فنون التصميم والمونتاج والإخراج، ويتعلم من شبكة الإنترنت ما يعينه على ذلك، حتى وجد في نفسه القدرة على العمل، فشرع في العمل على إنتاج سلسلة من الإصدارات لمؤسسة الفرقان، بارك الله فيها، وصارت محط أنظار الناس في مشارق الأرض ومغاربها، فكان (ربيع الأنبار)، وكان (صليل الصوارم) بإصداراته الثلاثة الأولى، والتي كان سرّها خافيا حتى على أقرب الإخوة من الشيخ والعاملين معه، فكان يعطيهم الإصدار قبل نشره ليستشيرهم في أمره ويأخذ ملاحظاتهم عليه، وقد أوهمهم أن فريقا من الإخوة قد أنجزه، وما ذلك إلا من إخلاصه، تقبله الله، نحسبه كذلك، والله حسيبه.

 

وقد تزامنت فترة إعادة تأسيس إعلام الدولة الإسلامية تلك مع أحداث كثيرة هامة، أهمها خروج القوات الصليبية الأمريكية من العراق مذلولة مدحورة، وعودة الزخم للعمليات العسكرية لجنود الدولة الإسلامية في مختلف ولايات العراق، وكذلك انطلاق المظاهرات في مختلف البلدان، التي سمّاها الإعلام بمظاهرات "الربيع العربي"، التي امتدت أصداؤها إلى داخل العراق، ورغم افتتان أكثر الناس بهذه الأحداث، وتسويق الضالين لها أنها خير من منهج المجاهدين في سبيل الله؛ كان قادة دولة العراق الإسلامية يدركون أن لا جدوى من المظاهرات السلمية، ولا صحة للدعوات الجاهلية حتى لو أفضت إلى إسقاط الطواغيت، ويوقنون أن لا بديل عن الجهاد في سبيل الله لإقامة الدين وتحكيم شريعة رب العالمين، ويعلمون أن أكبر فائدة تقدمها هذه المظاهرات والفوضى المرافقة لها أن تشغل الطواغيت وجنودهم، مما يسهل على المجاهدين توجيه الضربات القاضية لهم، وإقامة الدولة الإسلامية على ركام عروشهم المتهاوية، فكان إصدار (ربيع الأنبار) رسالة واضحة بهذا الخصوص، للتأكيد على أن لا تراجع عن منهج الجهاد، وأن ربيع المسلمين الحقيقي هو بإقامتهم للدين، وسيرهم على سنة خير المرسلين عليه الصلاة والسلام.

 

أما التأكيد الميداني على هذه الحقائق فتمثل بإرسال المجاهدين من العراق إلى الشام، ليؤسسوا لمشروع الجهاد ضد طاغية الشام بشار، مستفيدين من حالة الفوضى التي ضربت الشام إثر المظاهرات التي لم تتوقف منذ شهور، وباتت تتحول إلى العمل المسلح مع شدة بطش جنود الطاغوت في المناطق التي خرجت تنادي بإسقاط النظام النصيري، كما بدأ مجاهدو دولة العراق الإسلامية يصعدون من عملياتهم في مختلف ولايات العراق ويعظمون النكاية في الروافض والصحوات المرتدين، ويعدون العدة للنزول من الصحراء للسيطرة على المدن.

 

هذه الأحداث مهدت -بفضل الله وحده- لتحقيق التمكين للدولة الإسلامية، وتجديد الخلافة على منهاج النبوة، ثم الحملة الصليبية الكبرى والأخيرة -بإذن الله تعالى- على الدولة الإسلامية.

 

وكان للشيخ أبي محمد الفرقان -تقبّله الله- دور كبير في هذه الأحداث الكبرى بعد هجرته إلى الشام، وتوليه مهاما جديدة في الدولة الإسلامية، وهذا ما سنكشف عنه -بإذن الله- في الحلقة القادمة من هذه السيرة العطرة، نسأل الله أن يعيننا ويسددنا، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

80- العدد 287 - الخميس 8 شوال 1442 هـ

الشيخ المجاهد أبو محمد الفرقان (تقبله الله تعالى)
قائد معركة الإعلام والمرابط على ثغور العقيدة الجزء الثاني

في الوقت الذي كان فيه الشيخ أبو محمد الفرقان يعدّ العدة لنشر آخر الإصدارات التي أبدعتها يمناه في العراق وهو (صليل الصوارم-3) بنسختيه الأولى والثانية، كانت الأحداث في الشام تتسارع كثيرا وتأخذ منحا معقدا مع تكشّف آخر خيوط مؤامرة الجولاني والظواهري! واستعجال أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي -تقبّله الله تعالى- لقطع الطريق عليهم بإعلان تبعية جبهة النصرة لدولة العراق الإسلامية.

 

فاستُدعي الشيخ أبو محمد إلى الشام على عجل، وودّع أهله وهم يتوقعون أن يكون غيابه أياما معدودة فحسب، ومضى عابرا الحدود بصحبة الشيخ أبي عبد الرحمن البيلاوي -تقبّله الله تعالى-، ليلحق ببقية أعضاء مجلس شورى الدولة الإسلامية الذي كان منعقدا بشكل شبه دائم للبحث في مسألة إعلان وجود مفارز الدولة الإسلامية في الشام، وإلغاء مسمّى جبهة النصرة الذي اتخذوه غطاء لعملهم لأكثر من عام، فكان خطاب الشيخ أبي بكر البغدادي والذي كان بداية لمرحلة جديدة من مراحل عمر الدولة الإسلامية، حيث أُعلِنت الدولة الإسلامية في العراق والشام، ودُعي المجاهدون إلى تجديد البيعة لأمير المؤمنين، وبدأت معركة الإعلام تأخذ بُعدا جديدا بما فتح الله على عباده من فضل في الشام، وما منّ عليهم من إمكانيات، وما استجد من أحداث ونوازل.

 

سياسة إعلامية تواكب التمدد إلى الشام

 

فكان إصدار (صليل الصوارم-4) -الذي استبطأ نشره المتابعون كثيرا- أول تغيّرات السياسة الإعلامية الجديدة للدولة الإسلامية؛ إذ لم يعد ممكنا الاقتصار على العمليات العسكرية في العراق، وجنود الدولة الإسلامية يقاتلون في مختلف ربوع الشام، ولم يعد مقبولا أن تقتصر الإصدارات على إظهار صولات المجاهدين وجولاتهم فقط، في ظل سعي الدولة الإسلامية إلى نشر التوحيد وتحريض المهاجرين على الهجرة والقتال.

 

كانت الشهور الأولى من عمر الدولة الإسلامية في العراق والشام حافلة بالجهد والأحداث، وبينما طاف الشيخان أبو علي الأنباري وأبو معتز القرشي ربوع الشام، أكثرها في جولة دعوية ناجحة مكّنهما الله تعالى من خلالها من تثبيت أكثر جنود الدولة الإسلاميّة على البيعة لأمير المؤمنين؛ كان الشيخ أبو محمد الفرقان منهمكا في تأسيس بنية جديدة لإعلام الدولة الإسلامية على أرض الشام، بعد أن ترك إخوانه السابقين خلفه في العراق، فبدأ باستقطاب الكوادر الإعلامية، والتنقيب عنهم في المعسكرات وخطوط الرباط، وجمع المعدّات اللازمة للعمل الإعلامي، وكما عادته لم يبال بقلة العاملين، ولم يؤخر العمل لحين تأمينهم، بل بدأ بنفسه مجددا، ولا يصدّه كونه عضوا في مجلس شورى الدولة الإسلامية واللجنة المفوضة عن أمير المؤمنين، أن يخرج بنفسه حاملا (كاميرته) ليلتقط الصور، ثم يعود ليقطّع الأفلام، ويخرج الإصدارات التي بدأت تنمو وتتحسن أكثر مع ضم المزيد من الإخوة إلى فريق العمل، وحملهم عن عاتقه بعض الأحمال.

 

وظهرت سلاسل مرئية جديدة من الإصدارات تُحقق الأهداف الإعلامية الجديدة، فكانت (نوافذ على أرض الملاحم)، و (رسائل من أرض الملاحم)، و (صور من أرض الملاحم)، وكان التكرار المتواصل لعبارة: (كتاب يهدي وسيف ينصر)، إشارة إلى التلازم بين الدعوة إلى التوحيد مع الجهاد في سبيل الله تعالى، وكان الترديد الدائم لمقولة الشيخ أبي مصعب الزرقاوي تقبّله الله: "وها هي الشرارة قد انقدحت في العراق، وسيتعاظم أوارها بإذن الله، حتى تحرق جيوش الصليب في دابق"، تأكيدا على استمرار المشروع الذي بدأه المجاهدون الأوائل في العراق، وامتداده إلى الشام، والحرص على استمراره حتى وقوع الملحمة الكبرى مع الصليبيين على ثراها.

 

بيان مشروع الدولة الإسلامية

 

كان التركيز الأكبر للشيخ أبي محمد على توضيح حقيقة الدولة الإسلامية للناس، وبيان أنها ليست مجرّد جماعة مقاتلة همّها النكاية في الأعداء والثأر منهم على جرائمهم بحق المسلمين وحسب، وإنما هي النواة الحقيقية لإقامة الخلافة، وكذلك الرد على الشبهات الكثيرة التي أثارها علماء السوء، وأحزاب الضلالة والردة، وتحريض المسلمين على الهجرة إلى أرض الشام لتقوية صفوف الدولة الإسلامية، وتهيئة الأوضاع لتحقيق التمكين وإقامة الدين.

 

كان الشيخ يصل الليل بالنهار جهدا وعملا، فمع تحمله لمسؤولية إمارة ديوان الإعلام، كان الشيخ عضوا في مجلس شورى الدولة الإسلامية، وأحد الذين فوّض إليهم أمير المؤمنين الإشراف على مفاصل الدولة الإسلامية وولاياتها في الشام، مع الشيخ أبي علي الأنباري، والشيخ أبي بكر العراقي، والشيخ أبي محمد العدناني تقبلهم الله جميعا، وآخرين نسأل الله أن يحفظهم ويثبتهم وينفع بهم.

 

وفي غمرة هذا الجهد الكبير وتزاحم الأحداث، انشغل الشيخ حتى عن أهله الذين تركهم في الموصل فلم يزرهم حتى كُسرت الحدود بين العراق والشام بعد قرابة 14 شهرا من وداعه لهم، بل كان لشدة انشغاله لا يكلمهم للاطمئنان عليهم إلا في شهور متباعدة، دون أن يعرفوا مكانه بالطبع، أو يسألوا عن ذلك.

 

التصدي لفتنة صحوات الردة

 

خرجت الصحوات في ريف حلب الغربي، وبدأت بوادرها تظهر في مناطق أخرى من الولاية، فبادر الشيخ أبو محمد بسحب كل الإخوة العاملين معه وعوائلهم خارج هذه المناطق، وبمجرد أن اطمأن عليهم عاد ليدخل إلى المناطق التي تحاصرها الصحوات متسللا بين حواجزهم، ليلتقي بالشيخ أبي محمد العدناني -تقبّله الله- في منطقة (حريتان)، وتبدأ الحرب الإعلامية على الصحوات بإصدار كلمة صوتية للشيخ العدناني، فضح فيها صحوات الردة وأفعالهم، وهددهم بالعقاب الشديد على غدرهم إن لم يكفوا عن المجاهدين، وثبّت من خلالها جنود الدولة الإسلامية، تلتها كلمة أخرى لأمير المؤمنين، عرض فيها التوبة على جنود الصحوات، وخوّفهم بالله العظيم من طريق الردة الذي يسيرون عليه، فما زادهم ذلك إلا استكبارا وجحودا وغدرا بالمجاهدين، وإصرارا على تنفيذ المخطط الأمريكي المرسوم لهم.

 

فلما وجد المجاهدون أن سكاكين الغدر قد كثرت عليهم، وما عاد لهم في مناطق سيطرة الصحوات مأمن، وفّق الله الإخوة في مجلس شورى الدولة الإسلامية إلى قرار ملزم لجميع الجنود بالانحياز من إدلب والساحل وريف حلب الغربي باتجاه المناطق التي أحكمت الدولة الإسلامية سيطرتها عليها في ولايات حلب والرقة والبركة، وكانت تلك أولى مراحل التمكين الحقيقي، وكان هذا القرار منحة ربانيّة اختفت في طيات محنة الصحوات التي ظنّ المرتدون والمنافقون أنها ستكسر ظهر الدولة الإسلامية إلى الأبد.

 

الانتصار في الحرب الإعلامية

 

لم تكن معارك الصحوات قد حُسمت بعد، ولكنها أفرزت نعمة جديدة بانكشاف موالاة مرتدي تنظيم القاعدة في الشام لإخوانهم من صحوات أمريكا، فبعد أن حاولوا الظهور بمظهر الناصحين المصلحين في حلب وإدلب، ليتمكنوا بذلك من تشويه سمعة الدولة الإسلامية وتخذيل جنودها عن قتال الصحوات؛ لم يجدوا بُدّا من مشاركة المرتدين في قتالهم ضد الدولة الإسلامية، بعد فشل مشروع الصحوات في المنطقة الشرقية، وكان الشيخ أبو محمد في هذه المرحلة المهمة يقود حملة لا تقل أهمية عن الحملات العسكرية التي قادها أبو عمر الشيشاني وأبو يحيى العراقي وأبو الأثير الشامي وأبو أيمن العراقي -تقبّلهم الله تعالى- على معاقل الصحوات في ولايات الخير وحلب والبادية؛ وهي الحملة الإعلامية التي نجحت بفضل الله في كسر الهجوم الإعلامي الكبير الذي شنه الصحوات المرتدون على الدولة الإسلامية للطعن في عقيدتها ومنهجها، وتلطيخ سمعتها بدنس الخوارج، وتنفير المسلمين عن بيعتها والهجرة إليها والجهاد تحت لوائها، يؤازرهم في ذلك جيش كبير من دعاة الضلالة وعلماء الطواغيت، الذين رفُعت لهم المنابر، وفُتحت لهم القنوات، وجُهِّزت لهم المواقع والصفحات، فتمكن إعلام الدولة الإسلامية من هزيمتهم جميعا بفضل الله وحده، ففضح أكاذيبهم، وسَفَّه أحلام قادتهم وزعماءهم، ووصلت رسائله رغم أنوف الطواغيت والصليبيين إلى المسلمين حول العالم فتوافدوا زرافات ووحدانا ليعيشوا تحت راية التوحيد التي رأوها عبر إعلام الدولة الإسلامية عالية ترفرف في سماء الرقة وحلب وغيرها من ولايات الشام.

 

نشر التوحيد بين الناس

 

أدرك الشيخ أن التمكين نعمة ينبغي شكر الله تعالى عليها، بطاعته والتزام أوامره، فكان يحث جنوده في المكاتب الإعلامية كثيرا على أن يستغلوا كل ما في أيديهم من إمكانات لنشر التوحيد بين الناس، وذلك بطباعة الكتب والمطويات وتعليق اللوحات والجداريات، وتوزيع التسجيلات والإصدارات، كما عمل على استغلال هذه النعمة بأقصى ما يمكن فبدأ العمل على فتح إذاعة دعوية كبديل للإذاعات الجاهلية التي مُنعت في مناطق الدولة الإسلامية، وجرى العمل لتنشيط عمل المكاتب الإعلامية في الولايات لتقوم بدور كبير تحت إدارة وإشراف الجهاز الإعلامي المركزي، بالإضافة إلى تنشيط فرق اللغات الأعجمية لمخاطبة المسلمين بلغاتهم المختلفة، فظهرت مؤسسة (الحياة) المتخصصة بهذا الغرض، ونشأ في إطارها مشروع المجلات الناطقة باللغات الأعجمية وعلى رأسها مجلة (دابق) المباركة، التي كان فارسها الشيخ أبو سليمان الشامي تقبّله الله.

 

كان الشيخ أبو محمد حينها قد تسلم إمارة ديوان الإعلام، بالإضافة لعضويته في مجلس الشورى، واللجنة المفوضة عن أمير المؤمنين، في إطار النظام الإداري الجديد للدولة الإسلامية، وكان عماد سياسته الإعلامية في تلك المرحلة فضح ردة الصحوات، وكشف ضلال تنظيم القاعدة، وإظهار واقع الدولة الإِسلامية في ظل التمكين، ودعوة المسلمين للهجرة إلى الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى الهدف القديم وهو إدخال الرعب في قلوب المشركين، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) [متفق عليه]، وفي الوقت الذي كان جنود الدولة الإسلاميّة في الشام مستمرين في تطهير المناطق من الصحوات، كان الشيخ أبو عبد الرحمن البيلاوي -تقبّله الله- وإخوانه في العراق يعدّون العدة للفتوح الكبرى، باقتحام المدن، فكان الشيخ البيلاوي يستعجل الشيخ أبا محمد في إتمام حلقة جديدة من سلسلة (صليل الصوارم) كنشاط إعلامي مؤازر للحملة العسكرية على الأرض، وهو ما كان بنشر الجزء الرابع من الإصدار، لتُملأ أفئدة المسلمين فرحا بانتصارات إخوانهم في ولايات العراق، وتُخلع قلوب الروافض والصحوات خوفا من لقاء جنود التوحيد، ولم يطل الأمر بالمجاهدين حتى فتح الله عليهم أكثر مناطق العراق، وكسروا الحدود بين الشام والعراق، لتبدأ صفحة جديدة من صفحات العز في سفْر الدولة الإسلاميّة، وهي إعلان عودة الخلافة وتجديد ما اندثر من معالمها، ونصب خليفة للمسلمين هو الشيخ المجاهد أبو بكر البغدادي -تقبّله الله تعالى-.

 

تكاليف ما بعد إعلان الخلافة

 

بعد إعلان الخلافة صارت الأحمال أكبر، والواجبات أعظم، وزادت التكاليف الموضوعة على عاتق الشيخ أبي محمد، فبالإضافة لمسؤولياته في ديوان الإعلام صار مفوضا من أمير المؤمنين بما يتعلق بشؤون المناطق خارج ولايات العراق والشام، وحرّض عامة المسلمين إلى الهجرة والجهاد، ودعا الفصائل والتنظيمات المنتسبة للإسلام إلى الاعتصام بجماعة المسلمين، وتلقى الرسائل من أمراء المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها، وأخذ منهم البيعة لأمير المؤمنين، وأشرف على تأسيس وإدارة الولايات خارج العراق والشام، فكان يراسل الولاة، ويصدر لهم الأوامر والنصائح، ويوجه عملهم باسم: (أبي عبيدة عبد الحكيم)، وفي الوقت نفسه يخاطب الصليبيين ويهددهم بالحرب والتنكيل عبر إصدارات (الحياة) و (الفرقان)، وصفحات (دابق) وغيرها، وفي الوقت نفسه يدير عمل المفارز الأمنية العاملة في بلاد المشركين بعد أن تولى الأمر من يد الشيخ العدناني والذي أصبح أميرا للجنة المفوضة بإدارة ولايات الشام بعد مقتل الشيخ أبي الحارث الأنصاري تقبّله الله، فأتبع القول بالفعل، وأتبع الوعيد بالتنفيذ، فصال جنود الخلافة في عواصم أوروبا الصليبية ومدن تركيا العلمانية ومناطق الصحوات، تُمزّق أجساد الصليبيين، وتقطف رؤوس المرتدين، وتخلع قلوب المشركين، وتشفي صدور قوم مؤمنين.

 

إعلام ناطق بتسع لغات أعجمية

 

وفي هذه الفترة بلغ إنتاج ديوان الإعلام كمّا ونوعا مبلغا أثار إعجاب العدو قبل الصديق بفضل الله تعالى، فلا ينقضي يوم إلا ويخرج فيه إصدار مرئي أو أكثر، بخلاف مئات الصور والتقارير الإخبارية، وبث على مدار الساعة للمواد الحصرية لإذاعة البيان، بالإضافة إلى ملايين المطويات والكتب الدعوية التي عَمَّ خيرها أرض الخلافة بفضل الله تعالى.

 

وزاد حجم الإنتاج المرئي والسمعي والمقروء باللغات الأعجمية والترجمة إليها، حتى لم يبق شيء من أخبار الدولة الإسلامية، ومنتجات ديوان الإعلام المختلفة إلا وقد بلغ الآفاق باللغات المختلفة، وظهرت المجلات الناطقة بهذه اللغات، فبالإضافة إلى (دابق) الناطقة بالإنكليزية، ظهرت (دار الإسلام) بالفرنسية، و (القسطنطينية) بالتركية، و (المنبع) بالروسية، وبدأ العمل على مشاريع إصدار مجلات بلغات أخرى قبل أن يقرر الشيخ أبو محمد لاحقا توحيد المشاريع كلها في مجلة واحدة هي مجلة (رومية)، تصدر في وقت واحد باللغات الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية والتركستانية والبوسنية والإندونيسية والبشتونية.

 

كما ظهرت صحيفة (النبأ) الأسبوعية، التي يطبع منها عشرات الألوف من النسخ، وتوزع مجانا في مختلف ولايات الدولة الإسلامية، إلى جانب النشر الإلكتروني على شبكة الإنترنت.

 

بالإضافة إلى العديد من النشاطات والمشاريع الإعلامية المباركة التي ما زالت تثمر بعد مقتل الشيخ رحمه الله.

 

الراحة الأبدية

 

كان الشيخ أبو محمد -تقبّله الله- يصل ليله بنهاره، ويقوم بنفسه على عمل معظم الفرق الإعلامية، ويفوّض بعض إخوانه بالإشراف على عمل المكاتب الإعلامية، وفي الوقت نفسه ينشغل بهموم الدولة الإسلاميّة، وحل المشكلات التي تعترض الدواوين والولايات المختلفة، فلا تجده إلا في اجتماعات مستمرة من الصباح حتى المساء، بل كان أحيانا يجتمع ببعض الإخوة في ديوان ما، وفي الغرفة المجاورة إخوة آخرون ينتظرون أن يجتمع بهم ليسمع منهم مشاكلهم، ويسمعوا منه نصحه وإرشاده لهم، فلا يقطع تلك الاجتماعات المستمرة إلا مواعيد الصلاة.

 

كان لمقتل الشيخ أبي محمد العدناني وقع خاص في نفس الشيخ أبي محمد الفرقان تقبّلهما الله، ففضلا عن أخوة الدين، والتلازم في العمل لسنوات، كان بين الشيخين مودة ومحبة خاصة، وتقاسم للهموم والمسؤوليات التي حملها من بعده، فتولى عنه إمارة اللجنة المفوضة عن أمير المؤمنين، وبعض الملفات التي كان يديرها، فحمل على عاتقه تلك الأحمال التي تنوء منها الجبال، فلم يذق طعم الراحة والنوم حتى كتب الله تعالى له القتل بغارة جوية صليبية استهدفته في مدينة الرقة، في أول (ذي الحجة) من العام 1436، وسالت دماؤه في سبيل الله تعالى كما تمنّى، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

 

 

 


 

81- العدد 297 - الخميس 19 ذي الحجة 1442 هـ

قصة أربعة نفر من فرسان الإعلام في خراسان

إن الجهاد الإعلامي بالكلمة واللسان مرحلة تسبق الجهاد المسلح بالسنان، وأغلب المجاهدين مروا بهذه المرحلة قبل أن ينتقلوا إلى ميادين المواجهة العسكرية المباشرة.

 

فالمجاهد الإعلامي هو الداعي إلى الجهاد والمحرّض عليه والمدافع بلسانه ويراعه عنه، وقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحرّض على القتال والجهاد فقال تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: ٨٤]، وقَالَ أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: ٦٥].

 

ولقد استجاب إعلاميو الدولة الإسلامية لأمر ربهم تعالى بالتحريض والحثّ على الجهاد، واتبعوا في ذلك كل الوسائل الإعلامية المتاحة حتى أرهقوا أمم الكفر بذلك، فلم يجدوا غير القنابل والصواريخ ليقصفوا بها النقاط والمراكز الإعلامية التي أقامها المجاهدون في مناطق سيطرتهم، ولا عجب أن يقابل الصليبيون الشريط المصور بالصاروخ المطور فهم قد أدركوا خطره عليهم والقصف على قدر الخطر!

 

ولعل كثيرا من المسلمين لا يعلمون أن الإصدار المرئي الذي يشاهدونه أو الخبر القصير الذي يقرأونه؛ يصلهم عبر سلاسل من المجاهدين الإعلاميين يتقحّمون مخاطر إعداده وإرساله من الميدان إلى ثغور الإعلام وسط حرب شرسة تشنّها عليهم جيوش الكافرين وأجهزة مخابراتهم رصدا وملاحقة وتتبعا على مدار الساعة، وكم من إصدار مرئي شاهده المسلمون بينما صانعوه تحت الثرى! وكم من مركز إعلامي لم يبق منه سوى إنتاج أبطاله وطيب الذكرى، وكم من مجاهد إعلامي مزقت أشلاءه الطائرات لكنها عجزت أن تنال من رسالته التي سطّرها بدمائه فأزهرت بين الركام دعوة حقٍ يهتدي بسببها أجيال من المسلمين إلى طريق الأنبياء إلى قيام الساعة.

 

وهذه قصة واحدة من قصص كثيرة لأربعة نفر من أبطال المكتب الإعلامي لولاية خراسان قضوا نحبهم وهم مرابطون على ثغور الإعلام أثناء أدائهم لإحدى المهام.

 

حرب مشتركة ضد المجاهدين

 

كان هجوما مشتركا تشنّه میلیشیا طالبان والقوات الأفغانية والميليشيات الرافضية على جنود الخلافة في خراسان، تزامنا في الوقت والهدف مع قصف عنيف تشنّه الطائرات الأمريكية على مناطق المجاهدين بشكل متواصل، حتى استطاعت طالبان وأحلافها أن تسيطر على جبال (أبيض)، في الوقت الذي كانت القوات الباكستانية والميليشيات الرافضية المرتدة تشنّ هجوما متزامنا هي الأخرى على منطقة جبل (جيران)، في حين كان المجاهدون في الأودية والبوادي لا يستطيعون التنقل بسبب كثافة القصف الأمريكي الذي لم يتوقف عليهم، فكان يستهدف حتى الأطفال الذين يحملون الطعام والماء على ظهور الدواب!، وكل ذلك بهدف إسقاط حكم الشريعة الذي أقامته الدولة الإسلامية، وإبداله بحكم آخر يضمن أمن أمريكا ومصالحها في المنطقة، ويتعهد بمكافحة الجهاد!.

 

مواصلة العمل في أحلك الظروف

 

وبرغم هذه الظروف الصعبة، وكغيرهم من فرسان الدواوين المختلفة؛ كان فرسان ديوان الإعلام في ولاية خراسان يبذلون وسعهم لمواصلة نشاطهم وجهادهم غير آبهين بالقصف الجوي، متوكلين على الله تعالى بعد اتخاذ الأسباب والتكتيكات المتاحة للتخفي عن الطائرات.

 

حيث كان المجاهدون بمنطقة (وزير تنكي) عاكفين على إنتاج مرئي جديد، بينما كان المسؤول الإعلامي الأخ (یاسر) ونائبه الأخ (عبد الرحمن بدري) والأخ المترجم (أبو عبد الله)، كانوا جميعا في منطقة جبال (تورا بورا)، وكان لا بد من قدومهم لمباشرة العمل في الإصدار.

 

فاستغل الإخوة الثلاثة تلبّد السماء بالغيوم ورأوا في ذلك فرصة للتحرك باتجاه (وزير تنكي)، إلا أن الطائرات الأمريكية رصدتهم في الطريق واستهدفتهم بعدة صواريخ قُتل على إثرها الأخ (یاسر) والأخ المترجم (أبو عبد الله) تقبلهما الله تعالى، بينما سلّم الله تعالى الأخ (عبد الرحمن) واستطاع الوصول إلى إخوانه في المنطقة الثانية، لتبدأ رحلة أخرى من العمل والتنقل الخطر بين الغابات وتحت الطائرات.

 

١٢ صاروخ (كروز)!

 

في هذا الوقت كان فرسان الإعلام يعملون في بيت أحد المجاهدين، ولكن بسبب طول فترة الحصار نفد الطعام من البيت، ونظرا للقصف العشوائي المستمر وعدم القدرة على الخروج لتوفير الطعام، قرر الإخوة مغادرة البيت -تخفيفا على أخيهم- نحو بيت آخر يسكن فيه الأخ الإعلامي (أنس)، وذلك بهدف مواصلة العمل من هناك، وبعد ساعة نزل المطر بغزارة فاستغل الإخوة الفرصة ومعهم (عبد الرحمن) وخرجوا من البيت سالكين طريقا وعرا بين الغابات الكثيفة للتخفي عن الطائرات، وبعد سير مسافة ثلاث ساعات سمعوا أصوات الانفجارات تدوي في المنطقة، وإذا بالبيت الذي كانوا فيه قبل ساعات قد تم قصفه بـ ۱۲ صاروخ (کروز) وصاروخين من طائرة مسيرة!! فقال الأخ (عبد الرحمن) حينها، هذه هي المرة الثانية خلال الأسبوع التي ينجّينا الله تعالى فيها من القصف، وتلا قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: ٣٤].

 

درس مونتاج في المغارة!

 

ثم واصل الإخوة سيرهم بين الغابات مسافة أربع ساعات أخرى حتى وصلوا إلى منطقة مكشوفة، فقال لهم الأخ (عبد الرحمن): أكثروا من ذكر الله تعالى في طريقكم، وليبتعد كل واحد منا عن الآخر، لكي لا يُقصف ثلاثتنا بصاروخ واحد! فإن قصفونا فليكن بثلاثة صواريخ حتى يخسروا أموالا أكثر، فتبسّم إخوانه وتفرق ثلاثتهم أثناء المسير، ولكن نظرا لحركة الطائرات الكثيفة قرروا التوقف والمبيت عند أحد الإخوة على مقربة من بیت الإعلامي (أنس) والذي يقصدونه لمواصلة العمل، وطوال ساعات الليل لم يتوقف القصف حيث آوی الإخوة إلى مغارة موحشة داخل البيت حتى جاء صباح اليوم التالي، فأرسلوا إلى الأخ (أنس) عبر بريد بشري وأخبروه بأنهم على مقربة منه، وطلبوا منه القيام ببعض المهام الإعلامية إلى أن يصلوا إليه.

 

وكان الطريق بينهم وبين بيت (أنس) يستغرق عشر دقائق فقط! لكن الطائرات كانت تملأ الأجواء، فلم يستطع الإخوة مجددا أن يصلوا إلى وجهتهم، فمكثوا ليلة أخرى في المغارة، قضاها الأخ (عبد الرحمن) في تعليم أحد إخوانه درسا في المونتاج! مستغلا كل لحظة في تعليم إخوانه وإعدادهم لمواصلة هذا الطريق وحمل أمانة البلاغ.

 

ومضى عبد الرحمن وأنس!

 

وعند صلاة الفجر، تقدم الأخ (عبد الرحمن بدري) للإمامة وقرأ آيات من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} فبكى بكاء شديدا، وبعد انتهاء الصلاة توجه إلى إخوانه قائلا: علينا أن نبذل جهدنا ونواصل جهادنا فلا نكل ولا نمل، ولا نخشى الطائرات ونواصل العمل على كل حال، ثم طلب من إخوانه أن يبقوا في المكان، وقرر التوجه بمفرده إلى بيت (أنس)، بعد أن قلت حركة الطائرات في الجو، وأخبر إخوانه بأنه سينجز العمل ويعود قريبا إن شاء الله.

 

فقال له إخوانه ولكن الطائرات ما زالت تحلق في الأجواء فهلا انتظرت قليلا، فتبسم الأخ (عبد الرحمن) وقال: إن كتب الله الموت عليّ فسيأتيني الموت حيث كنت، ولم يمض سوى نصف ساعة على كلمته هذه، حتى سمع الإخوة صوت قصف شديد، وإذا بالطائرات الأمريكية قد قصفت بیت الأخ (أنس) ليُقتل برفقة الأخ (عبد الرحمن) وليلتحقوا بإخوانهم (ياسر) و (أبي عبد الله) -تقبلهم الله تعالى-.

 

هذا جانب يسير من البطولات والتضحيات التي يبذلها فرسان الإعلام في ولايات الدولة الإسلامية ليوصلوا إلى المسلمين رسائل النور والهدى، ليعلم مَن جهِل ويتذكر من نسي، أهمية هذا الثغر المبارك الذي يلاقي فيه أبطاله ما يلاقيه سائر إخوانهم في الثغور الأخرى، فليلزم كل مجاهد ثغره وليحتسب أجره.

 

 

 

 

 


 

82- العدد 301 - الخميس 17 محرم 1443 هـ

أبو خطاب الكشميري -تقبله الله-
قتل مقبلاً غير مدبر كما كان يتمنى

ما يزال جنود الخلافة في كل مكان يبذلون أرواحهم وتسيل دماؤهم رخيصة في سبيل نصرة الإسلام وإعادته حكَماً بين الناس كما كان عليه الحال في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، ولأجل هذه الغاية السامية فإنهم لا يبالون على أي جنب وفي أي أرض يُقتلون، طالما أنهم يجاهدون في سبيل الله تعالى وعلى منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم، طمعاً في إحدى الحسنيين الظفر أو الشهادة.

 

وكان من هؤلاء السائرين على هذا الدرب الأخ أبو خطاب الكشميري المعروف أيضاً بـ "زاهد داس" تقبله الله، انضم إلى صفوف جنود الخلافة في الهند بعد انضمام ابن عمه إليها تقبله الله، ومنذ بداية جهاده كان أبو خطاب ثابت العقيدة والمنهج، يدعو إلى التوحيد بلا كلل أو ملل، حتى أصبح لاحقاً قائداً لإحدى مجموعات المجاهدين، فكان يهتم بإخوانه ويؤثرهم على نفسه مهما كانت الظروف.

 

يخطط وينفذ العمليات بنفسه

 

رزقه الله إقداما وشجاعة يعرفها العدو قبل الصديق، يقول إخوانه: في إحدى المرات انقض أبو خطاب على أحد المشركين وضربه واغتنم سلاحه وانسحب من المنطقة، متّبعا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي).

 

كما كان حريصاً على تخطيط وتنفيذ العمليات بنفسه ضد قوات المشركين، ومن ذلك قام برفقة أحد إخوانه بصولة على القوات الهندوسية في (بيجبهارا) بكشمير، قتلوا ثلاثة عناصر منهم وزرعوا الرعب في قلوبهم وانسحبوا من المنطقة سالمين.

 

شجاعة في كسر الحصار

 

في ذات مرة توجه أبو خطاب برفقة اثنين من المجاهدين إلى منزل يتحصنون به فعلمت القوات الكافرة بذلك، فقاموا بمحاصرة المنزل بأعداد كبيرة، لكن أبو خطاب رحمه الله خرج من المنزل زائراً كالأسد وبدأ بإطلاق النار باتجاههم بشكل مباغت، ورغم تفوقهم العددي إلا أن الكفار ولوا هاربين، وتمكن هو وإخوانه من الخروج من الحصار سالمين بفضل الله تعالى.

 

كان يقول دوماً لإخوانه إنه يريد أن يُقتل مهاجماً للكفار لا مدافعاً أو صاداً لهجومهم، وذلك كان شأنه في أغلب المواجهات مبادراً بالقتال لأعدائه مباغتاً لهم.

 

 

ملاحقته من أجهزة الأمن

 

بعد العمليات التي نفذها أبو خطاب أصبح مطلوباً لأجهزة الأمن في المنطقة، ولثنيه عن طريقه قامت القوات الكافرة بالتضييق على عائلته للضغط عليه لتسليم نفسه، لكن ذلك لم يضعف عزيمته ولم يمنعه من مواصلة فريضة الجهاد.

 

وبعد أن اشتدت الملاحقة لأبي خطاب من قبل الكافرين اضطر إلى الخروج من (بيجبهارا) إلى مدينة (سريناغار) في كشمير، وهناك بدأ العمل مجدداً بكل جهده ليؤسس قاعدة انطلاق لمجاهدي الدولة الإسلامية، ولمهاراته ومعرفته بحرب العصابات، كان يعلم إخوانه مختلف خطط وتكتيكات العمل العسكري والأمني، ولم تتوقف مهمته عند ذلك بل كان أيضاً يرتب لهم المأوى والطعام والذخيرة وكل ما يحتاجون إليه، وقد ترك لإخوانه ميراثاً كبيراً من التضحية والبذل.

 

قُتل كما كان يتمنى

 

بعد رحلة من الجلد والمطاردة والصبر على الجهاد، استطاعت القوات الكافرة تحديد أحد المنازل التي كان يتحصن بها أبو خطاب فأتوا بحدهم وحديدهم وحاصروا المنزل والمنطقة بأعداد كبيرة من القوات، وكان ذلك في الثاني عشر من شهر (ذي الحجة) عام 1441 ورغم ذلك وكعادته لم ينتظر أن يهاجمه الكفار بل بادر هو بمهاجمتهم بشكل أقوى من المرة الأخيرة وخرج مكبّراً وتمكن خلال الاشتباك من قتل عدد من عناصرهم وإصابة آخرين، إلى أن حانت اللحظة التي كان يتمناها، وكما كان يدعو الله تعالى من قبل أن يرزقه الشهادة مقبلاً مهاجماً لأعدائه استجاب الله دعاءه ورزقه ما تمناه، فقتل تقبله الله تعالى كما كان يتمنى، نحسبه والله حسيبه.

 

 

 

 

 


 

83- العدد 304 - الخميس 9 صفر 1443 هـ

أبو عمر الخليفاوي -تقبله الله-
الأمير العسكري لولاية الفلوجة

أنزل الله لأمة الإسلام كتابا هاديا، وكتب لمن اتبعه وعمل به الرفعة والعزة، قرآنا يصنع الرجال جيلا بعد جيل، ومِن سنة الله أن يُهيئ رجالا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا تندرس آثارهم، ولا تُنسى تضحياتهم، لا يغيبون حيث أمرهم ربهم، يستعملهم حين يستبدل بهم غيرهم ويرفعهم حين يضع سواهم، ويصنعهم على عينه ليكونوا للجهاد رُوّادا وللملاحم قُوّادا، وكان من هؤلاء الصناديد الأبطال أخو الرجولة والصبر والشجاعة كما نحسبه والله حسيبه الأخ (أبو عمر الخليفاوي) -تقبله الله تعالى- من السابقين الأولين إلى الجهاد، وممن شهد المغازي في العراق والشام.

 

التحق مبكرا بصفوف المجاهدين

 

وُلد أبو عمر تقبله الله في أسرة طيبة محافِظة عام 1405 هـ، في منطقة (أم نجم) في (التاجي) شمال بغداد، وعاش في كنف والدين صالحين قاما بتعليمه أمر دينه مُنذ نعومة أظفاره، ما جعله ينشأ منذ شبابه نشأة إيمانية على طاعة الله تعالى، متّبعا طريق الهداية والنجاة، دفاعا عن دينه وعرضه، طالبا رضا مولاه، وراجيا جنات الخلود.

 

ففي عام 1425 هـ التحق أبو عمر في صفوف المجاهدين إبّان الغزو الصليبي لأرض الرافدين، فحمل سلاحه مجاهدا مقاتلا ضد القوات الأمريكية في مناطق شمال بغداد، حيث كان قائدا لإحدى المفارز التي كانت تنشط فيها آنذاك، فبرز معدنه منذ البداية، ثم كان من أوائل المجاهدين المسارعين إلى مبايعة الشيخ أبي مصعب الزرقاوي تقبّله الله والانضواء تحت لوائه، واستمر مجاهدا منكّلا بالصليبيين يذيقهم الويلات ويسعّر عليهم المعمعات في مناطق شمال بغداد، والكرمة، والفلوجة وغيرها من المناطق.

 

ومضى أبو عمر على هذا الدرب حتى منّ الله على المجاهدين بإعلان دولة العراق الإسلامية، فسارع إلى مبايعة أميرها الشيخ أبي عمر البغدادي تقبله الله، وقد تم تعيينه قائدا لإحدى المفارز العاملة في منطقة (الشيخ عامر)، فكان عارفا بالحروب بصيرا بدروبها، وقد أذاق الله تعالى على يديه الجيش الرافضي والقوات الصليبية كؤوس الحتوف، خاصة بعد أن أعمل فيهم سلاح العبوات فقطّع أوصالهم ودمّر آلياتهم.

 

قائدا لإحدى كتائب شمال بغداد

 

وعندما ظهرت صحوات الردة والخيانة في العراق تعرّض أبو عمر للملاحقة والمتابعة من قِبلهم، فأنجاه الله تعالى منهم حتى قرر الخروج من منطقته التي كان فيها، فواصل المسير ولم يساوم على دينه بل تكيّف مع تلك المرحلة فأخذ يطاولهم بعملياته الأمنية، حتى قدّر الله تعالى أن يؤسر في عام 1429 هـ خلال عملية إنزال جوي للقوات الأمريكية على بيته، فلبث في سجن (بوكا) ثلاث سنوات ونصف، اشتدّ فيها ساعدُه وقويَ عزمه، إلى أن يسّر الله له الخروج من السجن في عام 1432 هـ، ليواصل طريقه وجهاده، وقد أسرع مجددا بالاتصال والالتحاق بإخوانه المجاهدين في الدولة الإسلامية وبقي معهم حتى مرحلة إعلان الخلافة الإسلامية، حيث كلّفه إخوانه بقيادة إحدى الكتائب في ولاية شمال بغداد، فظلّ قائدا رائدا للمجاهدين طيلة فترة التمكين، حتى قدّر الله أن تستهدفه طائرة قاصفة بصاروخ، فأصيب في إحدى يديه، و قرر الأطباء بترها لكنه رفض، وبقي يعالج يده حتى منّ الله عليه بالشفاء.

 

في ملاحم ولاية الفلوجة

 

وبعد الانحياز من ولاية شمال بغداد، توجه أبو عمر مع كتيبته إلى ولاية الفلوجة ليستلموا إحدى ثغورها، فقام مع إخوانه بالمهمة على أتمّ وجه، وكان إخوانه معجبين بحسن فعاله وشجاعته، وبقي في الفلوجة حتى قام الرافضة والمرتدون بحصار المدينة، فقطعوا عنها طرق الإمداد وكثفوا القصف العشوائي بالمدافع والطائرات، واشتد الحال على المسلمين في الفلوجة قرابة سنة كاملة، صبر فيها المسلمون على الجوع والقصف العنيف محتسبين ما يصيبهم عند ربهم، ثم بدأ العدو يتقدم نحو مناطق الفلوجة، وراح المجاهدون يتصدون لهم بكل بسالة موقعين في صفوفهم خسائر كبيرة.

 

وأثناء إحدى المواجهات التي كان يخوضها برفقة إخوانه في مناطق (الزغاريد) و (البوعزيز) و (الشيحة)، قدّر الله تعالى أن يُصاب أبو عمر مرة أخرى بقذيفة هاون، فقدَ بسببها بصره مدة خمسة أشهر، حتى أعاد الله له إحدى عينيه.

 

أبو عمر مجاهدا في الباغوز

 

وفي هذه الفترة، انحاز أبو عمر مع إخوانه المجاهدين من الفلوجة إلى ولاية الفرات ليواصلوا جهادهم ويرصوا صفوفهم من جديد، ولمّا شفاه الله تعالى انتقل إلى العمل في مجال الإدارة، واستمر فيه سبعة أشهر صان خلالها مصالح المسلمين وحقوقهم.

 

لكنّ الشوق ظلّ يحدوه إلى ميادين القتال والرباط وصحبة الفرسان، تلك المواطن التي اعتادها فلم يعد يُطيق فراقها، وبعد إلحاح شديد وافق إخوانه على نقله إلى مواقع الرباط، وكُلف بقيادة إحدى الكتائب في ثغور ولاية الفرات وتحديدا في البوكمال، وعلى إثر اشتداد القصف الهمجي، قرر المجاهدون الانحياز من مدينة البوكمال إلى منطقة الباغوز، وهناك كُلف أبو عمر بقيادة ثغور الباغوز، حتى أثخن في الجيش والميليشيات النصيرية والرافضية أيّما إثخان، وكان مما وفقه الله إليه إعمال سلاح القنص في العمليات، فقام بنشر القناصين على طول نهر الفرات من جهة البوكمال لاصطياد المرتدين، فكان لا يمر يوم إلا ويسقط فيه ثلاثة أو أربعة قتلى من عناصر الميليشيات الإيرانية والرافضية.

 

العودة إلى العراق سيرا على الأقدام!

 

ولاحقا، قرر قادة المجاهدين أن يعود أبو عمر تقبله الله إلى ولاية العراق، حيث تم تكليفه بأن يكون نائبا للأمير العسكري لولاية الفلوجة، فيسّر الله له الدخول إلى (جزيرة الكرمة) في عام 1439 هـ، بعد مسيرة شهر سيرا على الأقدام!، كان يرافقه فيها مجاهد واحد فقط، لكن الواحد من أمثال هؤلاء الأبطال بألف رجل، فقد فتح الله عليهم ونجحوا في المهمة التي كُلفوا بها، وهي إعادة تأسيس العمل العسكري في قاطع (جزيرة الكرمة)، ومع غربتهم عن تلك المنطقة إلا أن الله كتب على أيديهم الخير الكثير، فكان لهما -بعد الله تعالى- الفضل الأكبر في إعادة نشاط ولاية الفلوجة، وصار أبو عمر تقبله الله حجر الأساس فيها.

 

أميرا عسكريا على ولاية الفلوجة

 

ثم صار أبو عمر وإخوانه يصولون ويجولون خلف خطوط المرتدين غُزاة منكّلين، ومن ضمن الغزوات التي غزاها أبو عمر، غزوة (الضابطية) التي هزت عروش الرافضة والمرتدين وأدخلت الرعب في صدورهم، حتى ترك المرتدون ديارهم خشية أن تصلهم أسياف المجاهدين وامتلأت قلوبهم غيظا ورعبا، فجنّدوا ضده الكثير من الجواسيس واستهدفوه أكثر من مرة، فحفظه الله من مكرهم وكيدهم، وفتح الله عليه فراح يستطلع القواطع وينشر فيها المجاهدين حتى وصل إلى مناطق جنوبي بغداد مثل (زوبع، والعناز، والمعامير) وغيرها، ثم كُلف أميرا عسكريا عاما لولاية الفلوجة لجودة فعاله وحسن قيادته، فكان أبا حنونا وأخا نصوحا شفوقا، كالظل لا يفارقهم.

 

آخر روحة له في سبيل الله

 

وكغيره من قيادة دولة الإسلام يتقدمون الصفوف، انطلق أبو عمر في أحد الأيام برفقة مفرزة من إخوانه لشن هجوم على إحدى ثكنات الجيش الرافضي في منطقة (العناز)، حيث تمكنوا من إسقاطها وقتل من فيها، وفي طريق عودتهم كانت تلك آخر رَوحة له في سبيل الله، فقد ترجّل البطل الهمام إثر كمين نصبه لهم المرتدون في الطريق، ليُقتل تقبّله الله تعالى، تاركا خلفه جيشا من المؤمنين ربّاهم على الصبر والثبات والإقدام.

 

إن مثَل أبي عمر الخليفاوي ليعيد إلى هذه الأمة ذكرى الفاتحين الأوائل كخالد والقعقاع رضي الله عنهما، الذين تنقّلوا بين ساحات وثغور العراق والشام ذهابا وإيابا، جهادا في سبيل الله تعالى، وكرّا على أعدائه، نصرة للإسلام الذي لا ينتصر بغير الجهاد.

 

 

 

 

 


 

84- العدد 305 - الخميس 16 صفر 1443 هـ

أبو البراء الرحنويني -تقبله الله-
ربّ همّة أحيا الله تعالى بها أمّة

إنّ مِن عباد الله تعالى رجالا يُحيي بهم أمما من الناس، ويجعلهم مفاتيح خير أينما حلّوا فتحوا طرقا لنصرة الدين كان غيرهم يراها مغلقة، حتى إذا ما عالجوها مخلصين نياتهم مستعينين ببارئهم وجدوها سهلة يسيرة، فنالوا بذلك فضل السبق إضافة إلى فضل المجاهدة والصبر، وفضل العمل، ثم يكون لهم أجر جميع إخوانهم الذين اتبعوهم على هذا الطريق بعد أن فتحوه لهم، إن الله جواد كريم.

 

فكم رأينا ماجدا من الأفذاذ حيثما حلّ نشط العمل لدين الله تعالى، بما يقوم به بنفسه، وبما يكون له من أثر في غيره، فيكون كالغمام ساقه الله تعالى إلى أرض ميتة فأمطرت ليخرج ما فيها من خير وبركة، وذلك لأن الناس يرون ما فيهم من خير فيتبعونهم عليه، فهم يبدؤون بأنفسهم مستعينين بالله تعالى على قضاء ما أوجبه عليه، فيعينهم الله تعالى بما شاء، ومنهم الإخوة الناصحون الذين يرفعون جانبا من الحمل عنهم، ثم يُكملون السير على الطريق من بعدهم.

 

وكان من هؤلاء الرجال الذين فاضوا بركة وعطاء حيثما حلوا؛ الأخ الهمام والبطل المقدام (أبو البراء الأمني) تقبله الله تعالى، الذي كان تمرة للموحدين حنظلة للمرتدين في الصومال، أينما حل وارتحل، حتى توفاه الله تعالى إليه، تقبله الله في الشهداء.

 

الطريق إلى جماعة المسلمين

 

انضمّ الأخ أبو البراء واسمه عبد الرحمن مرسل، إلى كتائب المجاهدين في فترة سيطرة ما عرف آنذاك بـ "المحاكم الإسلامية"، وشاركهم التصدي للصليبيين الأفارقة من الإثيوبيين والأوغنديين والبورنديين وأذنابهم من المرتدين لستة أعوام، حتى كتب الله عليه الأسر، فمكث في سجنهم بضع سنين.

 

لم يُثنِ السجن عزمه أو يغيّر هدفه، فكان طيلة حبسه يتابع أخبار المسلمين في الصومال وخارجها، ويستبشر بفتوحات المجاهدين، التي بدأت تزداد وتيرتها خصوصا بعد انفتاح ساحات جديدة للجهاد في الشام وليبيا وغيرها من البلدان، وبالتالي فلم يكن حضوره بعيدا عن ساحات الجهاد وما يعتريها من أحداث، فقد عصفت به كما عصفت بالكثير من الناس رياح الفتنة الهوجاء التي أثارها سفيه القاعدة وإخوانه من الصحوات في الشام ضد الدولة الإسلامية، فكان يسعى لاستبيان الحق، رغم بعد المسافة وصعوبة الحصول على الخبر اليقين لمن كان في مثل حاله سجينا، ورغم الضبابية التي كانت حركة الشباب تثيرها بداية حول موقفها من تلك الفتنة، ثم تجلية موقفها بإعلان الولاء لفسطاط المرتدين، والحرب على دولة المسلمين، هداه الله تعالى إلى الحق، وبصّره بضلال من انتصروا للباطل وأهله، فعقد العزم أن يفارقهم وأن ينضم إلى جماعة المسلمين، فيكثّر سوادها وينصر جنودها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

وما إن منّ الله تعالى عليه بالفرج بعد خمس سنين قضاها أسيرا في سجون المرتدين حتى بادر إلى اللحاق بإخوانه المجاهدين، معلنا بيعته لخليفة المسلمين، وذلك في العام 1437 هـ، حيث كان المجاهدون بأمسّ الحاجة إلى أمثاله من أهل السابقة والخبرة في الجهاد، فكان دخوله إليهم مبعث سرور لهم، وما النصر إلا من عند الله العزيز العليم.

 

ودخل -رحمه الله تعالى- في معسكر للإعداد، ليجدد نشاطه ومعارفه، ويقوّي بدنه، ويزداد علما بأمر الدين، وتبصّرا بأحوال المسلمين، وبرز بين أقرانه بصفات القيادة والشجاعة، والتي زادت بروزا أثناء مشاركته في المعارك ضد المرتدين، ومن أبرزها غزوة فتح بلدة (قندلا)، ثم معارك الثبات فيها، وما تلاها من فتن عصيبة مرت بالموحدين بعد معاونة الصليبيين لأوليائهم بالقصف الجوي والرصد الاستخباري، فثبت في تلك المحنة مع مَن ثبته الله تعالى، حين أزاغ قلوب كثير من العباد.

 

تأسيس العمل الأمني في (بوصاصو)

 

وتقدم أبو البراء -تقبله الله- بطلب إلى أمرائه لتنفيذ عملية استشهادية على المرتدين، وبعد انتظار وصبر حصل على ما يريد، هدف كبير لعساكر الردة في مدينة (بوصاصو) سيقوم باستهدافه برفقة الأخ (أبي قدامة المريحاني) -تقبله الله- تباعا، فمكّن الله تعالى أخاه من نسف الحاجز الأول بسترة متفجرة، وقتل من المرتدين عددا كبيرا، وكان الدور على أبي البراء أن يتقدم لضرب الهدف الذي يليه، فمضى إليه بإقدام وثبات، لكن قبيل الوصول إليه اتصل به إخوانه طالبين منه الرجوع، وإيقاف العملية عند هذا الحد، فرجع -تقبله الله- آسفا حزينا على ما فاته، ولعله كان له في بقائه الخير العظيم.

 

فلئن فاته قتل بضعة مرتدين في عمليته الاستشهادية المؤجلة، فلقد منّ الله تعالى عليه بقتل العشرات منهم والتشريد بمن خلفهم وزرع الرعب في قلوبهم على طول البلاد وعرضها بعد نزوله إلى ساحة العمل الأمني، صحبة مسدسه الذي فلق به رؤوس الكافرين، وعبواته الناسفة التي مزقت أجسادهم وشوت أكبادهم، وقد منّ الله عليه بقتل أكثر من مئة مرتد بيده خلال فترة عمله في الأمن تقبله الله، ومن يرد الله به خيرا أطال عمره واستعمله في نصرة الدين.

 

أُرسل أبو البراء -تقبله الله- مجددا إلى مدينة (بوصاصو) ليؤسس مفرزة مهمتها الأساسية التنكيل بالمرتدين، فأدوا ما عليهم ونشروا الرعب في قلوب المرتدين داخل المدينة التي يعتبرونها عاصمتهم الاقتصادية، فكان مسدسه لا يفارق جنبه، متى ما وجد فرصة سانحة لقتل مرتد بادره بطلقة قاتلة، كما نشط في تفجير العبوات الناسفة التي يصنعها بنفسه، ثم يختار لها الأهداف بعناية، ويزرعها في المكان الذي يحقق النكاية، مخاطرا بنفسه أحيانا لتحقيق ذلك، وكان من أهم تلك العمليات، زرعه لعبوتين داخل حاجز للمرتدين وإلى جواره، وتفجيرها عليهم ليدمر الحاجز ويفتك بمن فيه، فيقتل 14 من جنودهم ويجرح آخرين، وحينها أعلن مرتدو الحكومة أن المجاهدين استهدفوا الحاجز بسيارة مفخخة، نظرا لشدة الدمار وتمزق أشلاء الهالكين.

 

الانتقال إلى العاصمة (مقديشو)

 

وبعد أن استقر العمل الأمني في (بوصاصو) ونشطت المفارز الأمنية التي أسسها في المدينة، جاء الأمر إلى أبي البراء بالانتقال إلى جنوب الصومال، للعمل في مقديشو وما حولها من المناطق، وكان العمل في هذه الناحية صعبا للغاية محاطا بالمخاطر، وذلك لكون المدينة تعد عاصمة الحكومة المرتدة، ومركز ثقلها هي والجيوش الصليبية الحامية لها والميليشيات العاملة تحت إمرتها، وبالتالي فإن الانتشار الأمني والعسكري الكثيف فيها يجعل الحركة بحد ذاتها خطيرة على المجاهدين، فكيف بهم وهم يتحركون مسلحين وينفذون العمليات ضد المرتدين.

 

كذلك فإن المدينة كانت تشهد نشاطا كبيرا للمفارز الأمنية التابعة لقاعدة الصومال المرتدة والذين كانوا حريصين جدا على منع وصول مجاهدي الدولة الإسلامية إليها، وعملهم ضد المرتدين فيها، فكانوا يتعقبونهم بالقتل والاعتقال ولو سافروا إليها للعلاج أو لزيارة الأهل!!، كما فعلوا مع الشيخ المسن عالم الفرائض (الشيخ مهد معلم عانو جيل) -رحمه الله- حين كان في زيارة إلى مقديشو للعلاج، واستغل وقته هناك بإقامة دورة في (الفرائض) بأحد المساجد القريبة من مكان إقامته، فلما علم مجرمو حركة (الشباب) بوجوده، قاموا باغتياله، أخزاهم الله تعالى.

 

وكل هذا لم يُثن الأخ أبا البراء وإخوانه عن الدخول إلى المدينة وبدء الجهاد فيها ضد مرتدي الحكومة الصومالية، فنشطوا في اغتيال عناصرهم وزرع العبوات الناسفة لهم، في كل من (مقديشو) و (أفجوي) المجاورة لها، وكانت أخبار عملياتهم تتصاعد، ويبارك الله تعالى في أثرها لتنشر الرعب في قلوب المرتدين، الذين أعلنوا أن أكثر من 200 من جنود الخلافة باتوا يتحركون داخل منطقة مقديشو وينفذون العمليات فيها، ليغطوا على فشلهم في الوصول إلى مفرزة المجاهدين قليلة العدد ضعيفة التسليح، والله خير ناصر ومعين.

 

فتنة حركة (الشباب) مطاردته وقتل اثنين من أشقائه!

 

ومع ازدياد عمليات جنود الخلافة في تلك المنطقة، كثّف مرتدو حركة (الشباب) من بحثهم عن المجاهدين لقتلهم حسدا من عند أنفسهم، ولكن صعب عليهم الوصول إلى معلومات يقينية تدلهم عليهم، حتى قدّر الله تعالى وقوع مجاهد من إحدى المفارز في أيدي الحكومة المرتدة، وقد توصل المرتدون بعد التحقيق معه إلى أوصاف أبي البراء والتي عرفها مرتدو حركة (الشباب)، فبات -تقبله الله- هدفا للطرفين في المدينة.

 

ولما لم يتمكن مرتدو حركة (الشباب) من الوصول إلى الأخ رغم بحثهم المستميت عنه، ونشرهم العشرات من "أمنييهم" في مقديشو وجوارها ممن يعرفون أبا البراء للتعرف عليه، بدأوا بالتضييق على أفراد أسرته المقيمين قرب (أفجوي) بغية دفعه لتسليم نفسه إليهم، ثم زادوا إجراما بأن اختطفوا شقيقا له يعمل مزارعا في المنطقة، وعذبوه عذابا شديدا ليدلهم عليه، ووصل بهم الإجرام إلى قطع لسانه فقء عينيه، فلما لم يحصلوا منه على غايتهم جعلوه في كيس وألقوا به في النهر ليموت غريقا!!، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ثم أتبعوا جريمتهم تلك بقتل الشقيق الآخر لأبي البراء -تقبلهم الله- وذلك في إطار سياسة بدأها المجرمون آنذاك باستهداف عوائل المجاهدين الذين يعجزون عن الوصول إلى أبنائهم المطلوبين لديهم، وما تلك بأفعال المتقين.

 

وبعد قتل مرتدي القاعدة الشيخ (مهد معلم عانو جيل) وعدوانهم المستمر على عوائل المجاهدين وأنصارهم، وجد جنود الدولة الإسلامية أنه قد وجب عليهم تأديب تلك العصابة المجرمة ودفع عدوانها عن المسلمين، رغم انشغالهم بقتال مرتدي الحكومة والتنكيل بها، بدأت المفارز الأمنية للمجاهدين تتعقب عناصر حركة (الشباب) وقادتهم في المنطقة، وقد حصدوا رؤوس الكثيرين منهم -بفضل الله تعالى- بعد طغيانهم وتجبرهم وقد كانوا يظنون أنه لن يردعهم شيء بعد أن نزعوا مخافة الله من قلوبهم، حتى اضطروا إلى إخراج كثير من عناصرهم المعروفين من منطقة (مقديشو) واستبدالهم بآخرين مجهولين أملا أن يساعدهم ذلك في تجنب طلقات الموحدين.

 

وخلال تلك الفترة كاد أبو البراء أن يقع أسيرا في أيدي مرتدي حركة الشباب، عندما كان يدرب مجموعة من المجاهدين على أطراف مدينة مقديشو فتفاجأوا بقوة من حركة (الشباب) تصل المكان، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، فبادروا بالاشتباك معها، وأمر أبو البراء إخوانه بالانسحاب بينما يقوم هو بالتغطية عليهم بمسدس كان معه في مشهد للتضحية والفداء للإخوة قلّ نظيره، فاستمر في الاشتباك حتى نفدت ذخيرته ووصلوا إليه، فثبته الله تعالى وربط على قلبه، وأظهر لهم أنه من عناصر حركتهم وقد أتى من مدينة (مقديشو) ولذلك فإنه لم يتعرف إليهم وقاتلهم مخافة أن يكونوا من عناصر الحكومة فيأسروه حيا، فاطمأنوا إليه، وبقي معهم حتى الليل فيسّر الله تعالى له الهرب من بين أيديهم، ونالهم ما نالهم من الخيبة والغضب بعدما اكتشفوا خديعته لهم، كما نالهم منه قبل ذلك القتل والهلاك.

 

وبعد مسيرة فريدة في العمل الأمني على ثرى جبهات الصومال لمجندِل العدا وقاطف الرؤوس أبي البراء تقبله الله، قدّر الله تعالى عليه بعد ذلك بفترة أن يفارق الدنيا شهيدا -كما نحسبه-، في شهر رجب من العام 1440 هـ، أثناء تنفيذه لإحدى العمليات مع إخوانه المجاهدين ضد الجيش الصومالي المرتد، فنال ما كان يرجوه طويلا وسعى وراءه في مختلف مناطق الصومال، مجالدا لأعداء الله تعالى منكّلا فيهم، وقد مكث قرابة 15 عاما من الجهد والجهاد، والأسر والبلاء، وهجران الأهل ثم فقدهم في سبيل الله، فتقبله الله تعالى في عليين، ورزقه أعلى درجات الشهداء والمجاهدين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

85- العدد 309 - الخميس 14 ربيع الأول 1443 هـ

أبو الزبير المهاجر -تقبله الله تعالى-
دعوة.. وإعلام.. وجهاد..

عندما يدخل القرآنُ أعماق النفوس ويخالط بشاشة القلوب يصنع رجالا لا يشبههم الرجال، إذْ يقودهم القرآن فينقادون ويأمرهم فيأتمرون، فيكونون منارات هدى وأشرعة رشاد، تلوح أعلامهم ويرتفع شأنهم، يدلون السالكين ويهدون التائهين، ويضعون اللبنات الصلبة لصرح متين، يُرفع المجد على أكتافهم ويُرسم العز بدمائهم، ذكّارين شكّارين، أوّاهين خاشعين، رؤياهم ترفع الهمم وذكراهم تزيل الوَهَن، وقَفْوُ آثارِهم يوصل القمم.

 

ومن أمثال هؤلاء -نحسبهم والله حسيبهم- الفارس الهزبر أبو الزبير المهاجر تقبله الله الذي سما بخلقه حين تخلّق بأخلاق القرآن، ممتثلا أمره، وقّافا عند نهيه لا يتعدى حده، الصوّام القوّام، القارئ لكتاب الله القانت بآياته، العفيف الحيي، الصابر الحليم ذو القلب السليم والخلق العظيم، المجتهد العابد والبار المجاهد.

 

عبد صالح أغدق الله سبحانه وتعالى عليه صفاتٍ قلّ اجتماعها في أحد وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد شهد له بهذه الصفات وعهده عليها الثقات من إخوانه وأمرائه حتى غدت فيه طبائعَ وسجايا ملازمة له كالظل لا تفارقه، فهو الصادق في قوله المتقن لعمله الموفي بوعده، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.

 

نشأته وأخلاقه

 

أبو الزبير محمد بن علي السكتاوي الغدوي أصلا ونسبا، الكدوناوي مولدا وطلبا للعلم وسكنا، وُلد الأخ أبو الزبير في بلدة (كدونا) الواقعة في شمال وسط نيجيريا ذات الأكثرية المسلمة، في بيئة طيبة ذات خلق رفيع وصلاح في الدين، سنة ١٤١٥ هـ في حيّ (تُدُنْ وادا) وترعرع فيه حتى بلغ السابعة من عمره فسجله والداه في أحد "المعاهد الإسلامية" المنحرفة التي كانت تشرف عليها آنذاك ما يسمى بجماعة "إزالة البدعة وإقامة السنة" وهي في الحقيقة إزالة السنة وإخماد الجهاد وإقامة الديمقراطية وعلمنة المسلمين وتلويث عقائدهم، والله المستعان.

 

وبعد سنوات انتقلت أسرته بما فيها أبو الزبير -تقبله الله- من حيِّ (تُدُنْ وادا) إلى بلدة (رِغاسا) فواصل فيها دراسته حتى تخرّج من الدراسة الابتدائية وانتقل بعدها إلى المتوسطة والثانوية وقد كان الأخ أبو الزبير -تقبله الله- خلال نشأته متميزا بين أقرانه بسجايا حميدة وأخلاق نبيلة، كبِرّه البالغ لوالديه حيث كانت والدته تثني عليه بذلك وتدعو له بالبركة في حياته، إذ كان لا يتعدى حدها ولا يعصي أمرها في منشطه ومكرهه، وكان بشوشا رحب الصدر لمن أحسن إليه أو أساء، كثير التبسم في وجه إخوانه المسلمين لا يفرّق بين أحد منهم متواضعا لهم يوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم حتى ألفه القريب والبعيد والكبير والصغير، وكان أبو الزبير مع هذا مترفعا عن سفاسف الأمور فلا تجده إلا في مجالس الذكر وحلق القرآن، لا في الملاهي الساذجة ولا في المراتع السخيفة، وكان مما توج حياته وكللها عفته وأمانته، كما كان كريما سخيّا كثير الصدقة فلا يفوته يوم الاثنين إلا وفطّر فيه مَن حوله من الصائمين بماله، وكان متورعا لا يأكل شيئا يشك في كونه حراما.

 

طلبه للعلم

 

لقد هدى الله تعالى الأخ أبا الزبير إلى الرشد منذ نعومة أظفاره فلم يجعل له هما إلا تعلم أمر دينه ليعيش على بصيرة بعيدا عن دياجير الجهل وظلامه القاتم، حيث درس المرحلة الابتدائية أربع سنوات في مدرستيِ (السعادة الأبدية) و (علوم القرآن والدراسات الإسلامية)، ثم تاقت نفسه إلى حفظ كتاب الله وصار ذلك حلمه الذي لا يفارق جَنانه، فأخبر والده بذلك فنقله إلى معهد (أبي بن كعب) لتحفيظ القرآن فحفظ فيه من القرآن ما شاء الله أن يحفظ وتعلم من التجويد ما تيسر، ثم انتقل إلى معهد (التجديد) للتحفيظ والدراسات الإسلامية مع سائر أشقائه، وانتقل لاحقا إلى مدرسة (الإيمان) التي ينتسب مشايخها إلى دعوة الشيخ محمد بن يوسف البرناوي -مؤسس جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد والتي بايعت الخلافة عام 1436 هـ- فكانت تلك المدرسة خطوة أولى في طريقه إلى نصرة دينه بالنفس والمال، ومن ثَمّ أكمل دراسته ووفّقه الله تعالى لتحقيق حلمه وأسمى مُناه آنذاك في العام الذي أعلنت فيه دولة الخلافة، وهو حفظ كتاب الله، فكان أول مَن جمع القرآن في صدره في تلك المدرسة من بين مئات الطلاب، ولقد كان سديد الرأي حادّ الحافظة قوي الذاكرة قلّما يلحن في القراءة، فأصبح بذلك متفوّقا على أقرانه في هذا الباب، فلا مسابقة تشجيعية تقام في المدرسة إلا كان الفائز فيها، فذاع باعه وعلا صيته حتى سمع به بعض الأساتذة الضُلّال فأرادوا أن يستغلوه لقضاء أوطارهم وبلوغ مآربهم فشرعوا في ترويضه ليكون نجمهم في المسابقات فلم يُوافقهم ولم يخضع لرغبتهم رغم إلحاحهم المتواصل، بل كلما عرضوا له، ردّهم خائبين وردد تلك الكلمة التي كان صادقا في قولها: "لا أشتري بآيات الله ثمنا قليلا، ولا أبيع هذا القرآن بعرضٍ من الدنيا قليل".

 

كما درس في هذه المدرسة أيضا؛ البيقونية وشرحها في مصطلح الحديث، والقواعد الفقهية، وشيئا من التفسير وقواعده، والفقه وأصوله، وقرأ كذلك السيرة النبوية.

 

مِن العابدين

 

لقد جعل الله سبحانه وتعالى هوى هذا الأخ في قراءة كتابه سبحانه، حتى وفقه الله لحفظه رغم العوائق التي كانت حوله، حيث كانت لديه تجارة يشتغل بها، ويدرس في مدرستين في بلدة (كادونا) يُحَفّظ الأشبال كتاب الله حتى أتمه بعضُهم على يديه.

 

ولم يكن أبو الزبير ممن حفظ القرآن حفظا بغير عمل، بل كان يعطيه حقه ويكثر تلاوته حتى ذُكر عنه أنه كان يختم القرآن في رمضان في يوم وليلة، وكان لا يفارق مصحفه جيبه، محافظا على ورده، كثير السهر قوّاما يناجي ربه في جنح الليالي يتخشّع بين يديه ويبكي، ولا ينام عن ورده في حضر كان أو في سفر، قال عنه أحد إخوانه: "ما رأيت أبا الزبير يوما نام عن وِرده أو تكاسل عن أدائه مهما كان شغله في حِلٍ كان أو ترحال"، لذا كانت الوضاءة ملازمة لوجهه، لحظّه الوافر من المناجاة، كما كان يؤم الناس في أحد مساجد حيِّه ويؤمهم في صلاتي التراويح والتهجد كل رمضان؛ لإتقانه قراءة القرآن وحسن صوته، وكان في غير رمضان يقرأ في قيامه عشرين جزءا في بعض الليالي إذا كان منفردا.

 

وهو كثير التطوع بالصيام فلا يفوته صوم يومي الاثنين والخميس وكذلك الأيام البيض في بعض الأحيان، وكان كثير الدعاء طويل التضرع به، والذكر لا يفارق لسانه، محب للنصح والمواعظ كثير الصلاة والخشوع فلا يفرغ من صلاة إلا وقد احمرت مقلتاه أو فاضتا بالدمع، ونحسب أن الصلاة كانت قرة عين لهذا العبد الصالح فقد كان يحافظ على السنن والنوافل، وكان شديد الحرص على إخفاء عمله، وقد وهبه الله سبحانه وتعالى الجرأة في الحق فلا يرى منكرا يقدر على تغييره إلا غيّره، ولا معروفا يُستهان به إلا ذكّر الناس به.

 

لا يشغله عن ذكر الله شيء

 

تعلق قلب أبي الزبير بالمساجد منذ صباه فكانت لا تفوته جماعة ولا جمعة إلا من عذر لا محيد عنه، فكان دائما مشتغلا بربه، وحينما فتح له والده "دكّانا" وأعطاه كامل التصرف فيه، لم تلهه التجارة والمال عن عبادته ، حيث كان يغلقه متى ما اقترب وقت الصلاة ليذهب وينتظر الصلاة وهو الإمام، وفي بعض الأيام يشتغل بطلب العلم و يظل "الدكان" مغلقا وليس له نائب ينوب منابه في غيبته، بل وزاد على مقدار ما كان عليه قبل "الدكان" من الطاعات وجعل من ذلك المال ثمنا يشتري به الجنة حيث كان يعين به من أراد الهجرة والنفير إلى دار الإسلام، ويفطّر منه الصائمين ويتصدق على الفقراء والمحتاجين، ولمّا جاء دوره للهجرة ترك ذلك الغنى وبحبوحة العيش التي هي غاية البطَّالين، فخلّفها وراءه مقبلا إلى حياة فيها سعادة الدارين، ولذة وطمأنينة لا يعلمها إلا من كان فيها، والتي هي أرِب كل لبيب عالي الهمة.

 

ثمارٌ بعد تربية حسنة

 

لقد صارت تلك المدرسة التي التحق بها أبو الزبير منهلا صافيا وموردا نقيا له ولرفقائه والتي كانت تعلم الجيل العقيدة الصحيحة ومعاني الولاء والبراء والمراد بالجهاد في سبيل الله، فهنالك شرَع أبو الزبير يزِن الأحداث والوقائع بميزان الشرع، وبدأت تؤسفه مآسي المسلمين هنا وهناك والمجازر التي ترتكب بحقهم في نيجيريا خاصة وفي العالم عامة، وإهانة النصارى للمسلمين -بتواطؤٍ من الحكومات الكافرة- فجعلت تتّقد في صدره روح الثأر والانتقام للمسلمين، فإذا بحادثة مقتل الشيخ محمد بن يوسف البرناوي -رحمه الله- وما حدث من تدمير مسجدهم ومركزهم ومقتل المئات وأسر أضعافهم من طلابه ظلما وعدوانا، وما تلا هذه الحادثة من استقالة مدرسة (الإيمان) التي يدرس فيها أبو الزبير، وأسْر أحد مشايخها الذي تأثر به أبو الزبير -تقبله الله-.

 

فالتفت يمنة ويسرة فلم يجد لنفسه جوابا وحالته هذه لو مات وسأله ربه: ماذا قدمت لنصرة المستضعفين وإعلاء كلمة الله؟ فهداه الله تعالى إلى سبيل الرشاد وهو النفير والالتحاق بركب المجاهدين، فجعل همّه هما واحدا واشتد نهمه في البحث عن أخبار المجاهدين فلا يسمع بأحد عنده أخبار المجاهدين أو مقاطعهم المرئية أو المسموعة من برامج إذاعة البيان أو كلمات المشايخ إلا لحق به غير آبه بالخطر الكامن في ذلك، إلى أن يسّر الله له الاطلاع على الشبكة العنكبوتية ففتح حسابات عدة يناصر فيها المجاهدين ويدعو الناس من خلالها إلى التوحيد، وكان ذا عزيمة وهمة في ذلك فكلما حذف له الصليبيون حسابا فتح مكانه آخر ينشط مناصرا للدولة الإسلامية حتى لُقب بين إخوانه بـ "الإعلامي" فشرع في البحث عن حسابات الإخوة الموجودين في الساحات متابعا للوضع، فأصبح يحمّل المرئيات والمسموعات الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي للدولة الإسلامية وينشرها بين إخوانه، بل كان يُرِي والديه بعض المرئيات دعوة لهم وحرصا على هدايتهم وكانا يحذرانه من خطر إظهارها في تلك الظروف، فكان يرد عليهم أبو الزبير وينصح لهم في أدب بالغ واحترام جم.

 

ولم يزل كذلك إلى أن التقى بأحد الإخوة الإعلاميين لولاية غرب إفريقية فنسّقا وحدّدا موعد اللقاء، وفي صبيحة يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 1438 هـ، حمل أبو الزبير حقيبته متخفيا ولم يعلم أحد حتى والدته التي كان أبرّ الناس بها، قاصدا أرض الجهاد ومواطن الرجال ميمما نحو ولاية غرب إفريقية ليبذل أغلى ما يملك ابتغاء رضى مولاه.

 

حيثما وقع نفع

 

الخلق الحسن كالمسك لا يستطيع حامله أن يخفي أثره، فبعد هجرة أبي الزبير إلى أرض الجهاد والتحاقه بالركب المبارك، لفتت إليه أنظار الخواص قبل العوام ونالت إعجابهم تلك الأخلاق الحسنة والخلال الطيبة التي تتجسد في معاملاته، فوضع الله له القَبول بين الجميع وأكسبه محبة وتوقيرا في نفوسهم تجاهه رغم حداثة سنه.

 

بدأ عمله في ديوان الإعلام وفي نفس الوقت مدرسا في معهدي الأشبال والنساء في الولاية ولم يشغله التدريس عن الإعلام، فقد كان يلحّ على أمرائه إذا علم بتجهيز غزوة أو تحرّك سرية أن يأذنوا له بالمشاركة فيها، فتم له ذلك فشارك في عدة معارك، يغطي ويوثق المشاهد ليفرح المؤمنين ويغيظ الكافرين.

 

متنقلا بين دواوين الولاية

 

وما فتئ أبو الزبير يُظهر محاسن الدولة الإسلامية ومنهجها عبر ثغر الإعلام؛ حتى اتجه إلى ترميم وتطوير بنائها الداخلي، ومن نقل المشاهد وإبلاغ الدعوة خارج الدولة؛ إلى نشرها وتعميمها داخلها بين رعية أمير المؤمنين وجنده، إلى "ديوان الدعوة والمساجد"، حيث صال وجال في ميدان الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أمور دينهم فأجاد وأفاد فكان يتنقل بين القرى والبلدان والمساجد واعظا وناصحا وداعيا فيمشي راجلا في تنقلاته بين البلدان ولا يبالي بوجود وسيلة النقل من عدمها، وكان كثير التذكير بالآخرة وإخلاص العمل وإقامة الصلوات.

 

ومن هذا الثغر إلى "ديوان الجند" حيث نُقل إليه فكان جنديا في إحدى السرايا يخوض المعارك ويركب المخاطر، ولا يخوض معركة إلا وقد ظنّ فيها القتل، فكان يتلقى الرصاص بصدر عارٍ غير آبهٍ بالحتوف.

 

كما كان يدرس الإخوة في مركزه من صلاة الفجر إلى الساعة العاشرة صباحا يوميا تقبله الله.

 

ثم نُقل بعد ذلك إلى "ديوان الأمن" فعمل كاتبا في الديوان وكان لا يداهن ولا يساوم شديدا على المنافقين والمرجفين غير محاب أحدا، وأثناء عمله في هذه الدواوين كان يتميز بسمع وطاعة كبيرة لأمرائه، لا يبالي أيًّا كان أميره بل يوفيه حقه فلا يعمل في ديوان إلا وقد أُثني عليه بالسمع والطاعة وحسن العشرة.

 

علت به همته

 

المحبة والصيت الحسن لدى خاصة القوم هي ما يأمله طالب الدنيا ضعيف الهمة، لكن أبو الزبير لم يغترّ بتلك المكانة التي حظي بها بين إخوانه وأمرائه عن أسمى أمانيه، وهي الشوق إلى لقاء الله وطلب لذة النظر إلى وجهه! فكان كثير الحديث عن الشهادة والعمليات الانغماسية وكان يخاف من طول العمر شوقا إلى ربه وخوفا من فتنة الزيغ والانتكاسة، حتى كان يردد دائما في كلامه: "لا أطال الله عمري، فإني أخاف على نفسي الفتنة فكثير ممن عُمّر انتكس".

 

هذا الهاجس لم يكن مجرد كلام يتغنى بها ليطيب به أسماع رفاقه، بل هو من أعماقه وسويداء قلبه نحسبه، فلقد دوّن اسمه في عملية انغماسية منذ أن كان في "ديوان الدعوة والمساجد" ولم يخبر بذلك إلا أحد رفقائه وإخوته الذين كانوا معه قبل هجرته ولم يخبره إلا تحريضا له على العملية وحبه لأخيه ما يحب لنفسه حتى ينال أجره وأجر أخيه، فلقد كانوا يتسابقون إلى الخيرات ويحرّض بعضهم بعضا على ذلك.

 

ومع حرص أبي الزبير على ذلك الطموح، إلا أنه لم يشأ الله له التنفيذ آنذاك لرد الأمراء له وأمره بتأجيل العملية إلى حين، فسمع وأطاع وهو على أحر من الجمر على حلول الموعد وقلبه يتلهف توقا واشتياقا، لم تُنسه أنشطته الدعوية ولا مهامه التعليمية والعسكرية أسمى أمانيه حيث كان يلحّ على مسؤول المتفجرات أن يعطيه حزاما يتحزّمه أينما يحل حذرا من الاستئسار، ولكي ينفذ عمليته متى ما رأى الهدف في غزوة من الغزوات، ولكنه كلما طلب منه ذلك ردّه إخوانه فيرجع صابرا محتسبا ملحّا في الدعاء.

 

مسك الختام

 

القلوب المؤمنة تجد ارتياحها تحت ظلال السيوف وبريق الرصاص وهدير الراجمات ودوي القذائف والطائرات في سبيل الله، عاش أبو الزبير آخذا بعنان فرسه يبتغي القتل مظانه لا يسمع بغزوة إلا طلب المشاركة فيها ولا جبهة مشتعلة إلا رام الانتقال إليها، لذا كان شديد الرغبة في الانتقال إلى منطقة (الفاروق) كونها أشد الجبهات اشتعالا آنذاك، ففي يوم من الأيام سمع بتحرك موكب إلى منطقة (الفاروق) فألح على إخوانه حتى سجلوه في قائمة الإخوة المتحركين إلى هناك، فبعد وصولهم وإكمال مهمتهم، عادوا راجعين فكمِن لهم المرتدون على الطريق الرئيس الرابط بين (ميدوغوري) و (دماتورو)، فهنالك انتهى المطاف بحامل القرآن ليثبت بالفعال ما ردده مرارا في جوف الليل من آيات، وليقول لإخوانه من أهل القرآن: هكذا فلتزينوا القرآن بالفعال، فأصيب بطلقات في رأسه ويده، وبعد سحبه من موقع الكمين ضُمدت جراحه رجاء شفائه، ولكن تلك الجراح كانت مسك الختام، فقد أسلم الروح لباريها ليلقاه شهيدا -كما نحسبه- تاركا خلفه الدنيا وهمومها إلى جوار ملك كريم سبحانه بعد حياة حافلة بالجهاد والدعوة والعبادة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وألحقنا به غير مبدلين.

 

 

 

 

 


 

86- العدد 311 - الخميس 28 ربيع الأول 1443 هـ

أبو ريانة البريطاني -تقبله الله تعالى-
صانع الإعداد.. وجليس الخشية

لم يكن أجناد الخلافة من قبل إلا من أخلاط الناس في هذا الزمان، فلا يشار لهم بالبنان، فمنهم من كان منهمكا في دراسته والآخر غارقا في عمله ودوامه، وبعضهم مشغولا بأهله منشغلا بلذّات نفسه، وتعرِض لهم أحداثُ أمتهم كغيرهم، ولكنها أوقفتهم فتأملوا فيها وأحسوا بأنها تعنيهم وإن لم تكن تكتنفهم أحداثها؛ لأنهم يرون أن دماء المسلمين واحدة لا تفرقهم حدود البلدان وهم يرون أن أعداءهم مجتمعون فيتساءلون لمَ نحن متفرقون؟! فواعظ الحق في قلوبهم يُسرج لهم مشاعل الهداية ليتنكبوا عن طريق الغواية، وكتاب الله يناديهم فوقعت آياته موقعها منهم فلم يخروا عليها صما وعميانا، فكانوا بعدُ جبالا راسيات وهامات عاليات، اعتلوا ذرى المجد وتناوشوا تلابيب العزة والكرامة، ومن أولئك الكماة الأباة أبو ريانة البريطاني تقبله الله تعالى.

 

اسمه يونس، تعود أصوله إلى منطقة الضالع من بلاد اليمن، ولد في بريطانيا لأسرة محافظة، وقد نشأ يونس ككثير من الشباب الذين يعيشون في بلاد الكفر، في بُعد عن الدين حيث العائق الأول في تلك البلاد هو تربية الأبناء، فتأثر بصحبة لاهية غافلة حتى جرّته إلى الالتحاق ببعض العصابات فشاركهم في أعمالهم، وكان كحال الشباب الغافل مهتما بنزواته ورغباته، وقد ألقي في السجن مرات عديدة، وكان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولكنه مع ذلك كان عنده بقية حميّة للمسلمين، وكراهية للصليبيين وتظهر تلك الحمية كلما حاولوا الطعن في المسلمين فيبادرهم بالرد عليهم على ما هو عليه من الحال قبل هدايته.

 

ومن ذلك ما رآه أثناء الغزو الصليبي للعراق من دخول القوات البريطانية مع أمريكا للعراق وما فعلوه من جرائم، فتأثر بتلك المشاهد فكان من غضبه أن ذهب هو وصاحب له في يوم عيد للصليبيين فأحرقوا بعض سياراتهم وحاولوا إرهابهم.

 

وبعد فترة أراد الله له الهداية فكتبها له، فتغيّرت حياته وأخذ الدين بجد وعزيمة، واجتهد في الدعوة والاطلاع على أحكام وشرائع الإسلام، لكنه ابتلي بأن كان حوله المرجئة الذين أثروا فيه تلك الأيام، وكان حريصا على الاستماع لدروس العقيدة، فطرقت مسامعه بعض مسائل الدين التي لا يرى المرجئة يعملون بها كمسائل الولاء والبراء والكفر بالطاغوت والجهاد فكان يناقشهم فيها ويثيرها عليهم.

 

ولحبه للتزود من العلم قرر السفر إلى "دمّاج" وهي منطقة في صعدة من بلاد اليمن فوصل إليها وبدأ بطلب العلم فتعلم اللغة العربية وبعض العلوم الشرعية، وقضى فترة هناك يطلب العلم ثم رجع لبريطانيا مرة أخرى.

 

لم يتوقف بعد عودته لبريطانيا عن العمل لدين الله بل ظل يدعو إلى الله وينصح بعض الذين كانوا معه قبل الهداية من النصارى وكان قد تمتع بأسلوب مؤثر في الإقناع والدعوة فأسلم على يديه عدد منهم بفضل الله، وقد حسُن إسلام أحدهم فعادى النصارى وقتل أحد الرؤوس الذين كانوا يؤذون المسلمين ويعتدون عليهم.

 

من الدعوة إلى القتال

 

تناهى إلى الأسماع هجوم الحوثة المشركين آنذاك على "دمّاج" عقر دار المرجئة في اليمن، فدعوا فيها لقتال الحوثة، وعرفت هذه الحرب بـ "حرب دماج الأولى"، كان أبو ريانة وقتها في بريطانيا فجاء مسرعا لقتال الروافض.

 

جاء أبو ريانة للجهاد وكانت له مواقف جيدة في تلك الحرب، وقد شارك فيها عدد من الطلاب القادمين من خارج اليمن، الذين كان لهم دور في الإثخان في الروافض الحوثة.

 

وبعد انتهاء الحرب، وتلاعب الطواغيت بها خلف الستار، كان أبو ريانة يتنقّل بين اليمن وبريطانيا، حتى جاءت "حرب دماج الثانية" والتي باءت بالانسحاب أمام تقدم الحوثة المشركين بعد أن كان مشايخ المرجئة يزهّدون في أمر الجهاد قبل أحداث "دمّاج" بل ويحاربون أهله في الوقت الذي يعوّلون على الطاغوت الهالك "علي صالح" في الدفاع عنهم، فتركهم لشر مصير أمام الروافض الذين قتلوا منهم ما قتلوا، وتزامن ذلك مع تخاذل الكثير من القبائل عن نصرة من استنجد بهم من قبائل دمّاج وقد باؤوا بإثم الخذلان فهم يتجرعونه إلى اليوم والله المستعان، ولا خلاص منه إلا بالجهاد في سبيل الله لا قتال عصبية ولا وطنية بل تكاتفهم مع أبنائهم الصادقين من المجاهدين.

 

في أيام الحرب تلك، كان يلتقي أبو ريانة مع جنود القاعدة الذين كان يقال عنهم خوارج آنذاك، فأراد الاستماع منهم.

 

كان الحوثة المشركون يتقدمون على مناطق اليمن بتسليم من مشايخ القبائل وتخاذل من عامة الناس، حتى أخذوا العاصمة صنعاء "بعد انهيار نظام الطاغوت علي صالح" وتقدموا نحو الجنوب فقامت قبائل الجنوب بهبة لقتال الروافض الحوثة وهي ما عُرفت بـ "حرب الحوثي 2015 "، وفي تلك الأيام كان أبو ريانة يدور في كل من جبهات الضالع ويافع وردفان بين حضور عسكري أو دعم لهذه الجبهات، وكان حريصا جدا على جمع السلاح تلك الفترة.

 

كان أبو ريانة قريبا من أحد الإخوة ممن ترك "تنظيم القاعدة" ثم بايع "الدولة الإسلامية" والذي كان يحثه على الالتحاق بها وبيعتها، فجعل أبو ريانة يقارن بين تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، وبدأت تترجح له كفة الدولة الإسلامية.

 

حينها يسر الله له أخذ دروس من أحد الدعاة في الدولة، فانشرح صدره لمنهج الدولة وبايع مباشرة، وبعد فترة استنفره إخوانه فنفر تاركا خلفه الدنيا وزهرتها، ليصيغ مجدا لأمته ويضع نفسه لبنة صلبة لبناء صرح الخلافة في أرض اليمن.

 

إلى قيفة حيث الإعداد والتهيئة

 

عند وصوله إلى منطقة قيفة، دخل أبو ريانة الدورات المكثفة مع إخوانه، فكان متميّزا فيها بجده وخلقه وإفادته وقَبوله ومحبة إخوانه له.

 

بعد الدورات رابط مع إخوانه في كتيبة الفاروق في منطقة الظهرة، ثم نُقل مدرّبا في الدورات الانغماسية لأجناد الخلافة، فقد كان فيها مدرّبا بارعا ومحرضا واعظا فتخرّج على يديه العديد من الأبطال -كان منهم من أقضّ مضاجع المرتدين في ولاية عدن أبين-، وقد صبّ في تلك المعسكرات كل ما لديه من خبرات ومعلومات، كما كان حريصا على القراءة والاطلاع والتزود من الجانب العسكري، فكان له الأثر البالغ في تطوير نشاط المعسكرات، تقبله الله.

 

ومع انشغاله بالتدريب لم يكن ليضيع نصيبه من الغزوات فقد شارك إخوانه في غزوة لقاح والرباط بعدها، والقيام بعمليات القنص والدخول لمسافات قريبة من الروافض الحوثة.

 

ثم بعدها تم نقله للمعسكرات التأسيسية، فاستمر فيها لفترة طويلة لتفوّقه في الجانب العسكري، فقد رفع من مستوى التدريب كما كان يهتم بالجانب المعنوي كثيرا فيرفع الهمة ويقوي العزيمة، وكان شديدا في الإعداد والتمارين لا في المعاملة، كما كان رحيما بإخوانه يُطيِّب لهم جو المعسكر وشدته، فكان مثالا للمدرب الناصح والمربي الصادق، وقد تأثر به كثير من الإخوة وأحبوه.

 

ولما أغاظت معسكرات تدريب جنود الخلافة الصليبيين والمرتدين، استهدفوها بعمليات القصف الجوي؛ وذلك بطائرات أمريكية وسلولية في آن واحد، في مثال حقيقي لمظاهرة طواغيت آل سلول للصليبيين في حرب الموحدين، فكانت مرحلة ابتلاء، وأثناء القصف للمعسكر التأسيسي كان أبو ريانة موجودا فيه، فكان يذكّر الإخوة بالتعلق بالله والدعاء والالتجاء إليه، ودائما ما كان يذكّر إخوانه في تلك الفترة بأهمية الأذكار واستشعار معانيها وخاصة ذكر "باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم".

 

إلى قيادة المعارك

 

وقعت الحرب بين تنظيم القاعدين عن الجهاد وبين جنود الخلافة، وكان أبو ريانة ممن استنفر لصد عاديتهم وحضر أولى المعارك والتي أدت إلى إصابة أمير الجبهة آنذاك، فعُيّن أبو ريانة أميرا على الجبهة ليبدأ مرحلة جديدة في العمل العسكري في قيادة المعارك، وكانت هناك جبهتان جبهة مع يهود الجهاد وجبهة مع الحوثة الروافض، وقد أصبح الحِمل عليه ثقيلا، ولكن همته كانت عالية جدا، فبعد الاستعانة بالله أعاد ترتيب الجبهة برسم جديد ورصَّ مواقع الرباط جيدا ونظّم الجنود، وقد منّ الله عليهم بصد كثير من الهجمات، وبعدها كان حريصا على الأعمال الهجومية، من قنصٍ ورمايات بالصواريخ واستهدافات، وكانت كلتا الجبهتين مشتعلتين جبهة التنظيم وجبهة الروافض الحوثة، وكان حريصا على متابعة الأمور بنفسه والقيام ببعضها أحيانا كالخدمات والتعزيز في الهجمات والمشاركة في بناء السواتر والخنادق.

 

ثم جهزوا غزوة على تنظيم الردة في يكلا، فحرض إخوانه قبل الغزوة تحريضا بليغا بتلك الكلمات المؤثرة، ثم هجموا على (جبل الخليف وبعض المواقع حوله) والتي فرّ منها عناصر القاعدة في اللحظات الأولى، وقد وقع إثخان في التنظيم في تلك الغزوة، ثم انسحب الإخوة منها بعد ذلك.

 

رحيم بالمؤمنين

 

مزج أبو ريانة بين الشدة على الأعداء والرحمة بإخوانه والشفقة عليهم، فكان يذكر لأحد إخوانه موقفا فيقول: مرة جاءني أخ ليذكر لي حاجة فبدأ الأخ بالحديث، ثم حصل عارض فانشغلت عنه ونسيت الأخ، ثم رأيته وعلى وجهه تعابير الحياء فخشيت أن يسألنا الله عن هؤلاء الإخوة، وبأي شيء سنجيب ربنا إن كنا مقصرين معهم ولم نقضِ حوائجهم. فكان يحكي القصة وهو يبكي تقبله الله.

 

الدور المهم لأبي ريانة

 

حشد تنظيم الردة على جنود الخلافة في (قيفة السفلى)، الغوغاء والدهماء من عناصر الجيش اليمني المرتد، وهجموا على جنود الخلافة من كل جهة، فتمكن الإخوة من صدهم من جهات ومواقع أخرى استولوا عليها، فقام بترتيب المواقع بشكل عام بطريقة جديدة؛ لأنهم حاولوا قطع بعض الجهات عن بعض، ثم بدأ باستعادة أهم المواقع التي سقطت وقتل العديد من قيادات التنظيم وأنصارهم في تلك المعارك، ووقتها تم تعيين أبي ريانة أميرا عسكريا على قيفة السفلى (يكلا) بعد رفضه عدة مرات، وقام بسحب الإخوة من المواقع الخطيرة التي يمكن أن يُباغتوا بها.

 

وفي تلك الأيام كان تنظيم الردة وحلفاؤه يحاولون الضغط من عدة جهات فلم يقدروا بفضل الله، وكان همُّ أبي ريانة الأكبر -بعد رد عادية المرتدين- الحرص على إخوانه.

 

استمرت المعارك لمدة ثمانية أيام، قام أثناءها في إخوانه واعظا ومحرضا حتى بكوا، وحثهم على الصبر والثبات والالتجاء إلى الله، وقال: "نكون أو لا نكون"، فارتفعت همة الإخوة وعزيمتهم، وكان يستشير، ويعين إخوانه مرة مع المدفعية ومرة في المشفى الطبي وغيرها، وكان إذا رآه إخوانه ارتفعت معنوياتهم.

 

ثم بعدها رأوا أن انسحابهم من تلك المنطقة وتعزيز إخوانهم في (قيفة العليا) هو خير من استمرار المعارك هناك، فأعدوا خطة الانحياز والخروج وكانت على مراحل، فيسرها الله ووفقهم لها.

 

فأخذوا الخفيف والمتوسط من السلاح والذخائر والأجهزة، وكانت مدة الانسحاب أربعة أيام سيرا على الأقدام يكمنون نهارا ويسيرون ليلا، وقد حفهم في مسيرهم لطف الله وعونه وحفظه، فلم يتفطن لهم أحد مع كثرة عددهم، وعند وصولهم لإخوانهم في قيفة العليا فرحوا بهم فرحا شديدا.

 

ومن لطف الله بهذا الجهاد أنه لا يُقتل أمير محنك إلا ويجيءُ بعده من يقوم مقامه، فقد جاء أبو ريانة بعد مقتل الأخ أبي الحسن العدني تقبله الله "الأمير العسكري" بأيام قليلة فأحسن فيما كُلف به، وأعاد ترتيب الصفوف وتوزيع الإخوة ومواصلة مجابهة أعداء الله.

 

ومما يضيء صفحة أبي ريانة أنه كان حريصا على قيام الليل وبعد فراغه من القيام يتلو ما تيسر له من آيات القرآن، كما كان كثير الذكر لله تعالى، جادا في أموره، فمرة رأى بعض إخوانه نائمين بعد الفجر فقال: "لا ينام بعد الفجر من يريد أن يقيم للمسلمين دولة"، كما عُرف ببساطته وزهده، وكان من المطالعين الحريصين على قصص الشهداء في صحيفة (النبأ).

 

تمامٌ بإشراقةِ وجه وعمل

 

وبعد فترة كُلف أبو ريانة بتجهيز المعسكرات فبدأ برسم الخطة لذلك، ثم ما هي إلا أيام وقد جهّز الإخوة الغزوة الثانية على قرية الحميضة التي كان يتحصن بها تنظيم الردة، وفي ليلة المعركة كان هو المحرض الصنديد وظل يذكّر إخوانه ويبكي، ولمّا بدأت المعركة كان هو من يدير رحاها ويذكي حرها، رآه إخوانه مشرق الوجه مضيئا.

 

كان في الغزوة يرمي هنا ويصول هنا ويجول هناك، ويحث على الاقتحام، واشتدت المعارك والاشتباكات، وقام برمي قذيفة RBG وكانت رماية محققة، وبينما هم في زخم المعركة إذ هدأت الاشتباكات فجأة ثم سمعوا صوت طلقة فإذا بأبي ريانة يسقط شيئا فشيئا إلى الأرض، فكانت فيها الشهادة لفارسٍ عركته الحروب وعركها حتى ارتقى من أرضها شهيدا -كما نحسبه والله حسيبه- بعد سنين يجري وراءها، ليجدها تحت ظلال السيوف وعلى ثرى ساحات الجهاد، وهكذا من بريطانيا إلى جبال قيفة وسهولها يجول أبطال الإسلام ويقصدون أرض الجهاد ولو كانت بعيدة، يعيشون لهمّ أمتهم لا لهمومهم، لا تحجزهم حدود ولا تقيدهم أنظمة فحيث نادى المنادي هم المجيبون.

 

 

 

 

 


 

87- العدد 315 - الخميس 27 ربيع الثاني 1443 هـ

القائد (خادم) -تقبله الله-
قصفته أمريكا... ونبشت طالبان قبره!

يتعاقب أجيال الإيمان لهدف واحد من منبع واحد، قرآن يشحذ هممهم، وقلوب تغرس معانيه وأفعال لا مثيل لها، هم صفحات مشرقة لهذه الأمة مضيئة ونماذج حاضرة معاصرة، ليست قصصهم أساطير أو روايات خيالية، بل هي أحداث واقعية جرت وما زالت تجري لمن ثبت على طريقهم، وما هم من خارج الدنيا جاؤوا ولكنهم كانوا أعرف الناس بها، فأخرجوا نفوسهم منها وإن بقيت أجسادهم فيها، جنود الحق هم إن كان للباطل جنود، وحكّام القرآن هم إن كان للطاغوت حكّام، ولأجل الله وفي سبيله سرورهم وحزنهم، وتحيط بهم المصائب فتكون لإيمانهم عصائب، ولئن سمعنا بالجبال فوق الجبال فهم القمم على أعالي القمم، وكان من أولئك الأبطال الكمي الباسل المقدام، الأخ محمد أمين المعروف بـ (خادم) تقبله الله تعالى.

 

طلبه للعلم

 

ولد الأخ محمد أمين المعروف بـ (خادم) بمنطقة (جبرهار) في (ننجرهار) عام 1406 هـ، ونشأ وترعرع على حبّ الدين منذ صغره لسلامة فطرته وصلاح بيئته، فأقبل على تعلم تلاوة القرآن منذ كان ابن ستّ سنين، ثم شرع في أخذ العلوم الشرعية في قرية (مانو) بمنطقته، حيث أتم العلوم الابتدائية هناك، فلما تخرج من الصف العاشر، انتقل من منطقة (جبرهار) إلى (خوجياني) وقرية (ككه) وتعلم فيها لمدة عام تقريبا، ثم ذهب إلى منطقة (وزير) ودرس فيها أيضا ما يقارب العام، ثم اشتد عطشه للعلم فرحل إلى باكستان وقرأ أصناف الفنون من تفسير القرآن وعلم الحديث وغيره، حيث تنقّل هناك بين مجموعة من مشايخ عصره -آنذاك-، والتحق بإحدى الجامعات وأتم الدراسة فيها، وبعد التخرج قام (خادم) تقبله الله بتدريس القرآن والحديث والدعوة إلى التوحيد في قريته، ثم درَّس مدة في منطقة (خوجياني) أيضا.

 

وفي تلك الفترة كان المسلمون في أحلك ظروفهم تحت وطأة الغزو الصليبي الأمريكي، وكان (خادم) تقبله الله حزينا لأحوال المسلمين ينصرهم بحسب استطاعته متطلعا للجهاد وأخباره، محبا لطريقه وأهله.

 

بداية جهاده

 

أدرك (خادم) تقبله الله تعالى أن العلم للعمل لا لتكديس الكتب وتصدّر المجالس وإدمان الخطب، فبادر في العام 1426 هـ إلى تعلم الإعداد العسكري والعقيدة الصافية من بعض المهاجرين العرب، وكان أثناء الإعداد يعاون معلّمه في الترجمة للّغة البشتونية.

 

ولما رجع إلى قريته في (جبرهار) بدأ يشارك في القتال تحت إمرة طالبان -آنذاك- حيث التحق بمجموعة الأمير (جعفر) تقبله الله تعالى، وفي تلك الآونة كان عدد المقاتلين قليلا جدا، لكن (خادم) تقبله الله تعالى شمّر عن ساق الجد والاجتهاد وبذل كل ما يستطيع في تلك الفترة، مجاهدا مرابطا في منطقته (جبرهار) نصرة للإسلام وأهله ودفاعا عن حرماتهم وأعراضهم.

 

بيعته للخلافة

 

واستمر (خادم) تقبله الله في هذا الطريق حتى دخل الجهاد المعاصر مرحلة التمايز بشروق شمس الخلافة التي بزغت في العراق والشام وأضاء بريقها جبال خراسان، فسارع (خادم) مع مجموعته بقيادة الأمير (جعفر) إلى بيعة الدولة الإسلامية وإمامها الشيخ أبي بكر البغدادي تقبله الله.

 

وبعد أن بصّرهم الله تعالى بطريق الحق ولزوم الجماعة، لم تمضِ سوى أيام قلائل على ذلك، حتى أحسن الله خاتمة أميرهم فقُتل (جعفر) تقبله الله بقصف من طائرة أمريكية مسيّرة بمنطقة (خوجياني)، ليتولى حمل الأمانة من بعده الأخ (خادم) الذي كان أهلا لها، فأخذ يدعو الناس ليلا ونهارا إلى صحة التوحيد وطريق الجهاد، ويصدع بالحق والولاء والبراء جهارا، فما وهن ولا استكان، وكان دائبا لا يهدأ ونشِطا لا يفتُر، حتى التحق -بفضل الله تعالى- على يديه عدد كثير من المجاهدين بالدولة الإسلامية، بسبب دعوته وجميل أخلاقه ولطيف معاشرته واجتهاده وإخلاصه نحسبه والله حسيبه.

 

ولأهله نصيب من المحن!

 

وقد لاقى (خادم) تقبله الله تعالى في هذا الطريق ما لاقاه سالكوه من قبل، فتعرض هو وعائلته الكريمة إلى أشد المحن والابتلاءات، فأصيب شقيقه (حكمة الله) بجروح وشلل مع بداية المعارك الأولى التي اندلعت مع ميليشيا طالبان المرتدة، وقد قتل متأثرا بجراحه بعد ألم ومعاناة طويلة كابدها في سبيل الله تعالى.

 

كما قُتل شقيقه الآخر (بلال) وزوج أخته (عبد الله) في منطقة (جبرهار)، وتوفي والده الذي كان رجلا صالحا، وكان موته في دار الإسلام حيث عاش ودفن فيها.

 

ولم تنفك المحن والخطوب عن ملازمة (خادم) تقبله الله تعالى، حيث قتلت طائرات أمريكية أخته وزوجة أخيه واثنين من أبناء أخيه في يوم واحد في القصف الهمجي على منطقة (جورجوري)، نسأل الله أن يتقبلهم جميعا في الشهداء، كما أُسر شقيقه الثالث وابنه اللذَين لم يبلغا الحلم بعد -فكّ الله أسرهما-.

 

كل هذه الابتلاءات لم تفتّ من عزيمة (خادم) رحمه الله، واستمر يقود ويخوض العديد من المهام الجهادية المختلفة ويسوس الأمور بالإخلاص والصدق والطاعة في شتى مناطق (ننجرهار) خصوصا في مناطق: (بجير)، و (شينوارو)، و (تورا بورا)، و (خوجياني)، و (كوت)، و (مامند)، و (هسكه مينه).

 

قائدا عسكريا في (كنر)

 

وفي الفترة التي مكّن الله تعالى لعباده المجاهدين في (ننجرهار) أرسله أمراؤه إلى منطقة (كنر) وعيّنوه أميرا عسكريا عليها، فقاد العديد من الغزوات والمواجهات وأذكى جذوتها ففتح الله على يديه مناطق عديدة في (كنر)، وحمي البأس واشتد الوطيس فأسال الله على يديه دماء المرتدين من ميليشيا طالبان والجیش الأفغاني حتى ضيّق عليهم ونغّص عيشهم وألحق النكاية فيهم وأفقدهم أمنهم واستقرارهم.

 

ولقد خاض المعارك واحدة تلو الأخرى مع ميليشيا طالبان المرتدة في مناطق (كورانجال) و (كانديغال) و (شوريك)، ففلق رؤوس العشرات منهم وحزّ رقابهم بحول الله وقوته، رغم قلة أعداد المجاهدين وشحّ عتادهم هناك، حتى أدركت ميليشيا طالبان أن طمعهم في السيطرة على (كنر) بعيد المنال في ظل قيادة الأخ (خادم) تقبله الله للمعارك هناك وخبرته العسكرية التي اكتسبها طوال سنين جهاده برفقة إخوانه وجنوده الذين أحبهم وأحبوه فكانوا له كما كان لهم عونا وقدوة في القول والعمل والعطاء.

 

وبعد فشل ميليشيا طالبان في التقدم نحو (كنر)، تحالفت مع القوات الصليبية التي كانت تقصف جوا وبرا على مواقع المجاهدين هناك، لتتقدم طالبان على الأرض تماما كما فعلوا من قبل في (ننجرهار) في تنسيق ميداني واضح، ظلّ المشككون يقدحون في صحته حتى رأوه عيانا نهارا في "مطار كابل" فمنهم من صدّق عينه ومنهم من أبى!

 

طالبان تنبش قبره!

 

وعلى إثر ذلك أصبح (خادم) هدفا لهذا التحالف الشيطاني فبثوا جواسيسهم للحصول على خبره وتحركاته، وظلوا يتتبعونه حتى قدّر الله أمرا كان مفعولا، حيث قصفته طائرة مسيّرة بتاريخ (2/ رجب) لعام 1441 هـ، تجندل حينها شهيدا كما نحسبه والله حسيبه بعد حياة غمرها بالتوحيد والجهاد على منهاج النبوة نحسبه والله حسيبه.

 

لكن قصة (خادم) لم تتوقف بمقتله! فبعد أن استطاعت طالبان السيطرة على (كنر) بعد الحملة الجوية الأمريكية، قام أشقاهم بنبش قبر (خادم)!! تقبله الله وأخرجوا جسده حقدا وعداوة وذلك بعد مرور 14 شهرا على مقتله، ليخرج لهم جسده كما لو أنه دفن للتو كرامة من الله تعالى لعبده الذي طلب التوحيد في بيئة التصوف وبادر إلى الجماعة في عصر الفرقة وتمزقت أشلاء ذويه في شعاب الإيمان والشظف، فلم يزده ذلك إلا حبّا لربه سبحانه وسعيا في نيل نعيم الأنس به جل جلاله.

 

قُتل (خادم) تقبله الله خادما للإسلام ورافعا لراية التوحيد، بينما يعيش الآن نابشو قبره خدما لقاتليه! يجتمعون معا تحت "قبة واحدة" يشتركون فيها شركا وحربا على الجهاد! ويصلون غدا نارا وسعيرا -إن لم يتوبوا-، فشتان شتان بين العاقبتين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

88- العدد 319 - الخميس 26 جمادى الأولى 1443 هـ

أبو العزم الإعلامي تقبله الله تعالى
عزم في الحياة وكرامة بعد الممات

لم تظهر تلك الصور والإصدارات التي رفعت همم المؤمنين وأغاظت الكافرين وزلزلت أروقة الطواغيت؛ إلا وخلفها فرسان أباة حملوا معداتهم وسط المعامع وسوح النزال، بين رهج السنابك وأزيز الرصاص لينقلوا لأمة التوحيد تضحيات وبطولات أبنائها المجاهدين في الميادين، ويحققوا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- للطائفة المنصورة (على الحق ظاهرين)، فكان الظهور بتلك الأنامل الصادقة، التي رسمت لأمة الإسلام لحظات تاريخية بقيت عالقة في الأذهان والقلوب، أولئك الذين مضوا يحثون الخطى ويشقّون شواهق الجبال ولهيب الصحراء ومستنقعات الغابات، ما حملهم على ذلك هواية يهوونها أو مغامرات يبيعونها، إنما حملهم على ذلك إيمانٌ بالله ربهم وجهادٌ في سبيله.

 

ومِن أولئك الفرسان الذين استعذبوا العسرة والجلد في أرض الصومال، لإخراج ما تبصره الأجيال من صنيع الأبطال، الفارس المتجلّد عمر أحمد محمد (أبو العزم الإعلامي) -تقبله الله-

 

حفظ القرآن صبيا

 

ولد الأخ أبو العزم في منطقة (وبحو) في (جلجدود) وسط الصومال عام 1416 هـ، وأكرمه الله تعالى بحفظ القرآن الكريم في ريعان طفولته، ثم انتقل إلى تعلّم العلوم الشرعية في حِلَق المساجد ثم الانضمام إلى بعض المعاهد الشرعية في (مقديشو).

 

دخل النور قلب أبي العزم تقبله الله صغيرا فاستمكن منه، فكان غيورا على دينه، حتى اشتهر بكرهه لعلماء السوء بلاعمة الطواغيت، وكان قوّالا للحق يردّ عليهم في مجالسهم، ثم صار يحذر أصدقاءه مِن أخذ العلم عنهم أسوة بسلف الأمة الصالحين، وبعد انتهائه من دراسته الثانوية التحق بإحدى الجامعات الخاصة (بقسم الإعلام)، وتزامن ذلك مع إعلان الخلافة الإسلامية حيث كان -تقبله الله تعالى- متابعا لما يجري في الشام، وما تعرضت له دولة الإسلام من مؤامرات، حينها شعر الأخ تقبله الله بواجبه العيني تجاه إخوانه، فبدأ يبحث عن طريق للهجرة إلى ولايات الدولة الإسلامية القريبة، فحاول بداية اللحاق بولايتي اليمن أو ليبيا، حيث لم تكن حينها ولاية الصومال قد قامت بعد، ولكن شاء الله أن لا تتم تلك المحاولات.

 

وفي إحدى الليالي سمِعَ من الإذاعات المحلية خبرا كاد يطير به فرحا، وهو إشاعة خبر بيعة (حركة الشباب) وانضمامها للخلافة، فعزم تقبله الله تعالى أن لا يأتي الصباح إلا وقد التحق بأقرب نقطة يكون فيها الإخوة المبايعون، لكن سرعان ما اتضحت الحقيقة وعرف أنّ المبايعين كانوا ثلّة قليلة من مجاهدي الصومال يقودهم الشيخ عبد القادر مؤمن -حفظه الله- وكان ذلك في بداية عام 1437 هـ، ومِن هنا أدرك تقبله الله تعالى أنّ القلّة هي من الصفات اللازمة لأهل الحق فلم يفتّ ذلك في عزمه بل عهد على نفسه أن يكون من السبّاقين للخير والذين تقام الخلافة على جماجمهم بإذن الله، فبدأ يبحث عن طريق للوصول إلى تلك الثلّة المؤمنة، وقبل أن يجد الأخ طريق الهجرة كان تقبله الله يتواصل مع أصحاب له في صفوف (حركة الشباب) يحرّضهم على اللحاق بجماعة المسلمين وترْك فرقة الفصائل والجماعات، وكان يفنّد الشبه والأباطيل التي روّجها قادة الحركة بشأن الدولة الإسلامية، وقد يسّر الله للأخ أبي العزم إقناع بعض أصدقاءه من جنود الحركة لينضموا لاحقًا إلى الدولة الإسلامية، بفضل الله.

 

نفر عروسا وطلّق الدنيا!

 

وفي بداية عام 1438 هـ وجد الأخ أبو العزم طريقة للتواصل مع إخوانه المجاهدين في شرق الصومال، فبايع برفقة أخ له، وبسبب انقطاع الطرق اضطرّ الأخوان للبقاء والتريث ريثما تسنح لهم الفرصة للنفير، ومع ذلك لم يجلسا دون عمل بل قاما ببعض الأعمال التي كُلّفوا بها داخل (مقديشو)، فيسّر الله لهما إنجازها وإتمامها. وما إن أُتيحت الفرصة لأبي العزم للهجرة حتى تحرّك صوب ثغور الشرق، وقد كان يومها عروسا حديث الزواج، فما ماطل أو تباطأ بل ودّع أهله وبدأ يستعد للنفير في سبيل الله. حاول أبو العزم السفر نحو شرق الصومال عبر مطار (مقديشو)، لكن المرتدين في المطار شكّوا في أمره وبدأو يستجوبونه، وأخيرا منعوه من السفر، واضطرّ أن يعود أدراجه حزيناً لانسداد باب الهجرة أمامه، لكنه لم ييأس فبعد فترة حاول مرّة أخرى وأتى المطار فيسّر الله له هذه المرة الخروج، فانطلق حتى وصل إلى (بوصاصو)، وللأسف كان المرتدون في المطار له بالمرصاد، فقاموا باستجوابه لكونه غريبا عن المنطقة؛ فهو من أهل الجنوب، فقدّر الله أن يؤسر ويسجن بسبب شكّهم فيه، فلبث في السجن بضعة أيام ثم خرج والتحق بإخوانه.

 

ابتداء بابتلاء

 

لم يتوقف ابتلاء أبي العزم عند رحلة النفير، بل صاحبه ذلك في بداية التحاقه بالمجاهدين، فما إن وصل مناطق المجاهدين حتى التحق بمعسكر الشيخ (أبي عمر الشيشاني) تقبله الله، وشارك في دوراته الشرعية والعسكرية، وبعد الانتهاء من المعسكر تمّ نقله مع الإخوة إلى إحدى القواطع في الولاية، وفي تلك الأثناء كانت الطائرات المسيّرة الأمريكية تحلّق في الأجواء بكثافة، فمنذ انحياز جنود الخلافة من (قندلا) كان الصليبيون قلقين مِن تصاعد نشاط جنود الخلافة على الشريط الساحلي، لذا عمدوا إلى تركيز المراقبة عن بُعد بواسطة طائراتهم بعد أن عجز وكلاؤهم عن القيام بدورهم، فاضطرّ الصليبيون إلى استخدام طائراتهم لمواجهة المجاهدين وشنّوا عدّة حملات جوية على مقرّاتهم، وفي هذا السياق قدّر الله أن تقصف طائرة بدون طيار موقعاً كان يوجد فيه الإخوة المتخرّجون من معسكر الشيخ (أبي عمر الشيشاني)، فصار كلهم بين قتيل ومصاب -تقبلهم الله جميعا- سوى الأخ أبي العزم الإعلامي، ويومها لم يستطع أبو العزم أن يتمالك نفسه وبكى بكاءً شديداً حسرة أن فاتته الشهادة في سبيل الله مع إخوانه، ولكنّ الله أبقاه لحكمة يعلمها سبحانه، وما زادته تلك المحنة إلا صلابة وإصرارا على درب الجهاد وحرصا على نيل الشهادة -كما نحسبه-.

 

مهمّة انغماسية في (قندلا)

 

لم يثنِ القصف عزيمة أبي العزم وظلّ يتنقل بين الجبهات حتى تم اختياره مع بعض إخوانه لتنفيذ مهمّة خاصة، وهي الانتقام من حكومة (بونتلاند) المرتدة، وذلك عبر تنفيذ عمليات نوعية داخل بلدة (قندلا) وأطرافها، حيث توجد قواعدهم وطرق تنقلاتهم، وقد كان دور أبي العزم حينها هو توثيق تلك العمليات بكاميرته التي كانت لا تفارقه.

 

انطلق الإخوة متجهين نحو بلدة (قندلا) سيرًا على الأقدام والتي كانت تبعد عنهم قرابة 100 كم، وليست كأي مسافة أخرى، فالمنطقة جبلية وعِرة وتعتبر من أعلى المرتفعات في أرض الصومال، ساروا في طريق شاقّ بلا ماء إلا ما ندر، مع شدّة الحرارة التي كانت في ذروتها، حتى وصلوا أخيرا بفضل الله إلى المكان المحددّ، وكانت تلّة من التلال التي تطلّ على البلدة، فهناك رابطوا أياما وليالي، يراقبون ويرصدون قواعد العدو وتحركاته، وفي إحدى اللّيالي تمكن المجاهدون من زرع عبوة ناسفة على الطريق قرب إحدى تمركزات العدو في البلدة، ليستهدفوا إحدى دوريات العدوّ لكن شاء الله أن تنفجر العبوة بعد مرور الدورية لخلل فني، ومع ذلك دبّ الرعب في قلوب المرتدين، ما اضطرّهم إلى استدعاء إمداداتٍ ومؤازراتٍ وأعلنوا تعقبهم للمجاهدين الذين تسللّوا إليهم ووصلوا عقر سيطراتهم، ولكن المجاهدين ومعهم أبو العزم تمكنوا من الانسحاب سالمين بفضل الله.

 

في مواجهة مرتدّي القاعدة

 

كان لأبي العزم من اسمه نصيب، فهو ذو عزم وشدة على الأعداء، وكان رمزا للإخلاص والوفاء، وفي أيام الحرب ضدّ مرتدي القاعدة، كلفه إخوانه بالعمل في المجال العسكري بدل الإعلام، وذلك لشجاعته وصبره ومعرفته للطرق، فعمل مع القائد (منصور الصومالي) تقبله الله في مهام الاستطلاع والبحث عن آثار العدو، فكان يواصل الليل بالنهار ذهابا وإيابا، متنقلا من مجموعة لأخرى، ومن ثغر إلى آخر رافعا همم إخوانه ومحرضا للقتال والدفاع عن الولاية مِن صيال مرتدّي (حركة الشباب)، وفي إحدى جولات الاستطلاع وجد الأخ أبو العزم برفقة الأخ المدرب (داود الصومالي) تقبلهما الله أثرَ عناصر القاعدة، فما إن تتبعوا أثرهم حتى لحقوا بعشرات المرتدين إبّان وصولهم قرب بئر (ميرالي)، وقد نزلوا تحت الأشجار ليستريحوا من عناء السفر الطويل بهدف الهجوم على مواقع المجاهدين التي لم تكن بعيدة عن المنطقة، لكن بفضل الله ثم بجهد الأخوَين فشلت مخطّطات العدو، ورفعوا خبر وصول المرتدين للأمراء لتبدأ بعد ذلك استعدادات المجاهدين للإغارة عليهم.

 

أميرا للإسناد في معركة (ميرالي)

 

وفي يوم المعركة كان أبو العزم أمير الإسناد يردف إخوانه بالرجال والذخيرة، وفي تلك المعركة أبلى الأخ بلاء حسنا، وكان محرضا لإخوانه على الانغماس في صفوف المرتدين، وقبيل انتهاء المعركة وبعد انكفاء قطعان المرتدين وانهزامهم ومطاردة أسود الخلافة لفلولهم؛ نزل أبو العزم تقبله الله من مقرّ القيادة ليلحق بعض إخوانه في إحدى جبهات المعركة لمساندتهم، وما إن اقترب منهم حتى أصابته رصاصة في صدره ليقع على الأرض جريحا، فأخبر أميره عبر (اللاسلكي) أنه أصيب إصابة طفيفة، لئلا يحزن عليه إخوانه، وظلّ ينزف مضرجاً بدمه دون أن يعرف أحد أين سقط، وبعد انتهاء المعركة وهزيمة مرتدي القاعدة، دخل الليل وحان وقت التحرّك من موقع المعركة والعودة، وأثناء تحرّك مجموعة من الإخوة سمعوا في طريقهم صوتا يناديهم بأسمائهم فوجدوا الأخ وقد نزف نزفا شديدا ومرت ساعات من جرحه، فحملوه، وقد كان يقول ضعوني لا تحملوني، وبعدها بدقائق فاضت روحه إلى بارئها ليودع دار الفناء -شهيدا كما نحسبه- إلى دار البقاء، ملتحقا بمن سبقه من إخوانه.

 

كرامة ونور بعد الممات

 

ومن عجيب ما يُروى أن الإخوة دفنوا أبا العزم تقبله الله في موضع عين ماء ينبع في فصل الشتاء وهم لا يعلمون بذلك، وبعد مرور قرابة عام على مقتله، نزل عند قبره مجموعة من البدو الرحّل، وعندما بدأوا بحفر العين، وجدوا قبر أبي العزم تقبله الله، وهنا كانت المفاجأة، فقد وجدوا أبا العزم تقبله الله في قبره مضرجا بدمه كأنه دُفن حديثا، فاختلفوا في أمره وماذا يفعلون به، ومتى قتل ومن يكون ومن دفنه؟ ثم عرفوا لاحقا أنه أحد جنود الخلافة، فأخرجوه وصلّوا عليه، ثم حفروا له قبرا جديدا بعيدا عن العين، وبعدها اتصلوا بالإخوة يستفسرون عن ذلك الشخص، فأخبرهم الإخوة أن هذا أخ لنا قتل في إحدى المعارك قبل سنة تقريبا، فجعل الله هذه الكرامة سببا لهداية كثير من أهل تلك المنطقة والحمد لله تعالى، فكان موته حياة لغيره من المسلمين، فرحمه الله وتقبله في الصالحين، وجعل درجته في المهديين.

 

 

 

 

 


 

89- العدد 322 - الخميس 18 جمادى الآخرة 1443 هـ

معتصم التدمري -تقبله الله- سليل بيت مجاهد

لقد سطّر رجالات الدولة الإسلامية وقائع مجيدة حق لها أن تدونها الأسفار ما تعاقب الليل والنهار وشطت البلدان والأمصار، فلقد ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء والاقتداء حتى شقّوا لمن خلفهم طريقا قد عبّدته الأشلاء، وصارت دماؤهم سُرجاً وقناديل تضيء الدرب لمن بعدهم، يقتدي اللاحق منهم بالسابق، يتواصون بالحق ويوالون بعضهم بعضا كزرع أخرج شطأه فآزره، يُعجب الموالي لهم فيتخذهم سبيل هداية ويغتاظ منهم كل منافق وكافر سلك طريق الغواية، حتى يأتي وعد الله فإما نصر يضرب الآفاق أو تُدق في سوح الوغى الأعناق.

 

ومن هذه السوح والأفق التي أشرقت عليها شمس الجهاد؛ قرية (الدشيشة) في الريف الجنوبي للبركة، حيث ولد الأخ المجاهد (زين العابدين خلف الحمدي) المكنّى بـ (أبي جابر)، ونشأ وترعرع في كنف عائلة مجاهدة قامت على التوحيد ونصرة الدين والمجاهدين في سبيل الله تعالى، فوالده كان إماما وخطيبا في مسجد (عبد الرحمن بن عوف) وقد تعرض للأسر مرات عديدة من قِبل النظام النصيري المرتد بسبب خطبه التي كانت تدعو إلى التوحيد ومجاهدة المشركين وأهل الباطل.

 

في كنف عائلة مجاهدة

 

ولقد كان والد زين العابدين من أوائل الملتحقين بركب المجاهدين في دولة الإسلام، ليخط لفارسنا معالم الطريق ويكون خير مثالٍ للاقتداء، وفارسنا الفتي أيضا كانت عيناه ترمق أخاه (أبا عامر) الذي لحق بركب الكرامة والإباء، وأصبح أميرا عسكريا في إحدى كتائب الدولة الإسلامية التي كانت تسطر الملاحم وتفتح البلاد وتقض مضاجع الكفار صباح مساء، ولم يطرف بعيدا بعينيه عن ذلكم الركب حتى علق ناظريه برؤية أعمامه: (أبي الفاروق) الذي كان من السبّاقين إلى الجهاد وقُتل منغمسا في صفوف الـ PKK المرتدين، وعمه الثاني (أبي هاجر) المعروف بشجاعته الذي ما انفك مراغماً للنصيرية حتى قتل -تقبله الله- على أسوار (مطار الخير)، ليكونا أيضا مشعلَ هدايةٍ لأبناء عمومته لينضموا ويقاتلوا أعداء الله، فيقتلوا في سبيل الله، مجندّلين في كل بقعة من بقاع دولة الإسلام، كما تأثر (أبو جابر) أيضا بصديق والده الأخ (أبي الفاروق المغير)، والذي كان من أوائل الداعين إلى التوحيد في ريف البركة الجنوبي، وهو الذي كنّى فارسنا بهذه الكنية، وقتل في سجون النصيرية تقبله الله.

 

لقد أحاط بأبي جابر المجاهدون من أقربائه كالسوار بالمعصم، يربّونه ويرشدونه ويحرّضونه، ناهيك عن البيت الذي تُدوّي فيه قراءة القرآن والدعوات الصادقة للمجاهدين بالنصر والتمكين، فهذه إحدى نعم الله الكثيرة على (أبي جابر) أن وهبه الله تعالى بيئة صالحة ينشأ فيها على نهج سوي، يسمع فيه التوحيد ويبصره ويتعلم الجهاد ويحبّه، وتلك صورة من صور الاصطفاء يحمدها الأخيار فيلزمون غرْزها لا يحيدون عنها ولا يميدون.

 

مناصرا لدولة الإسلام في الإعلام

 

بدأ الأخ (أبو جابر) بمدارسة كتب التوحيد والعقيدة والجهاد فأكبّ عليها ينهل من معينها، وكان يُعدّ نفسه دعويا أيضا، فبدأ بكتابة الخطب والدعوة إلى التوحيد والجهاد ومن شابه أباه فما ظلم، وكان مؤذنا ذا صوت نديٍّ، بشوشاً ودودا محبا للخير، وكان أبو جابر يحسب أيامه متشوّقا إلى اللحظة التي يستطيع فيها حمل السلاح والقتال في سبيل الله، ولم يستطع الانتظار فبدأ بنصرة المجاهدين إعلاميًا عبر الشبكة العنكبوتية فأنشأ القنوات لذلك وشكّل المجموعات، ينشر الحقائق ويرد الشبهات عن دولة الإسلام، وكان محبا لهذا المجال بارعا فيه، ثم طوّر من قدراته فبدأ بتصميم مقاطع مرئية يرثي بها جنود الدولة الإسلامية فانتشرت بشكل واسع بين مناصريها.

 

صبر على فراق أخيه

 

ثم جاء الابتلاء وامتحان الصبر لتتربى نفس أبي جابر على الشدة، ففي أوائل عام 1437 هـ قُتل أخوه (أبو عامر) مقبلا غير مدبر -تقبله الله-، فتأثر لفقده تأثرا شديدا ولكن ذلك لم يوهن من عزمه بل كان صبورا مؤمنا بموعود الله، بل كان هو من يُصبّر أباه قائلا: "أبي.. والله إنّ أبا عامر الآن في جنات النعيم إن شاء الله".

 

وبعد انحياز المجاهدين من منطقة (الشدادي) توجّه أبو جابر وعائلته إلى ولاية الخير، حيث التحق والده بالمجاهدين الذين استنفروا لصدّ حملة المرتدين على ولاية حلب، فتحمّل أبو جابر حينها المسؤولية في غياب أبيه فكان عطوفا حنونا على إخوانه وأهله، وبعد عودة والده كان أبو جابر مستعدا للالتحاق بركب الخلافة جنديا يحمل السلاح ويذود عن الدين وأهله، وقد تكنّى مستبشرا بتلك المرحلة بـ(أبي الحور ميسرة).

 

لبّى النداء

 

انضمّ أبو الحور تقبله الله مقاتلا إلى صفوف جنود الخلافة إثر الحملة الشهيرة التي أطلقتها الدولة الإسلامية في ولاية الخير تحت عنوان (لبّوا النداء)، فكان في المعسكر رمزا في السمع والطاعة لأمرائه، ليّن الجانب محبّا لإخوانه، وبعد الانتهاء من المعسكر توجّه وإخوانه إلى ولاية البركة قاطع (تل البشائر)، لرد عدوان الكافرين عن ديار الإسلام، فقاتلوهم أشد القتال وكان أبو الحور فارسا في ذلك النزال.

 

ثم عُيّن بعد ذلك في مفصل الاتصالات، فكان يرفع همم إخوانه ويحرّضهم ويزف إليهم البشريات وأخبار الهجمات.

 

مرحلة العمل الأمني

 

عمل أبو الحور في الجهاز الأمني التابع للدولة الإسلامية وشارك في الإيقاع بالعديد من خلايا المرتدين التي كانت تعمل داخل أراضي الخلافة، وكان صاحب همة عالية، محقِّقا لعقيدة الولاء والبراء لا يحابي أحدا في دين الله، غيورا على أعراض المسلمين وحرماتهم. وارتقى أبو الحور في العمل الأمني لاحقا، حيث أوكلت إليه مسؤولية التواصل مع بعض الخلايا التابعة لأحد المفاصل الأمنية بولاية البركة واستطاع خلال فترة وجيزة أن يجنّد ويؤسس مجموعة أمنية للعمل داخل مناطق المرتدين كان لها الفضل بعد الله تعالى في نجاح الكثير من العمليات التي أثخنت في المرتدين وأرهقتهم.

 

متنقلا بين الأمن والإعلام

 

وبعدها كُلّف بقيادة المفصل الأمني في قاطع (ميسرة) في الولاية، وتكنى في تلك المرحلة بـ (معتصم التدمري) فسعّر الحرب وكثّف الضربات، وقاسى منه أعداء الله وعانوا أيّما عناء، فكانوا دائما ما يسألون عنه ويتتبعون آثاره ويجمعون المعلومات لينالوا منه، ولكن الله يخزيهم ويرد كيدهم، واستمر فترة في العمل الأمني، ثم عاد بعدها مجددا إلى عمله الجهادي الأول وهو ميدان الإعلام، فعيّن مسؤولا للإعلام في ولاية البركة ينشر أخبارها وعملياتها شافيا لصدور المؤمنين غائظا لأعداء الدين، محرضا للقاعدين، ولم يترك القتال بل كان يحمل (كاميرته) بيد وبندقيته باليد الأخرى.

 

في غزوة الثأر للشيخين

 

وعندما جاء الأمر من قادة المجاهدين بشنّ الغزوة الموحَّدة (غزوة الثأر للشيخين)، كان معتصم التدمري كعادته من طلائع سراياها فلبّى النداء مع إخوانه وأثخنوا في أعداء الله بتنفيذ عدد العمليات، وفي إحداها كمن هو ومجموعة من إخوانه لرأس من رؤوس الردة والعمالة في يوم الخميس (29/ ربيع الثاني)1441 هـ، واشتبكوا معه فأردوه قتيلا مع مرافقه، وفي ذلك الاشتباك ترجّل الفارس المقدام لينال ما كان يبحث عنه ملتحقا بركب الشهداء -نحسبهم والله حسيبهم- على درب أخيه وأعمامه وإخوانه من جنود الدولة الإسلامية -تقبلهم الله- ليختم مسيرة الجد والاجتهاد بالقتل في سبيل الله تعالى، موصيا إخوانه بمواصلة المسير على هذا الطريق فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء وتقبله في الشهداء.

 

 

 

 

 


 

90- العدد 324 - الخميس 2 رجب 1443 هـ

أبو رواحة الأنصاري -تقبله الله تعالى-
من فرسان الخلافة بوسط سيناء

يواصل جنود الخلافة في سائر ولايات الدولة الإسلامية جهادهم رغم كل الأخطار والصعاب والمكائد التي تحيط بهم من كل جانب، بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان بالله تعالى ولذة البذل في سبيله سبحانه، وهل هناك أغلى مِن الروح يبذلها المرء قربانًا لله تعالى حتى يُعبد وحده ويُكفر بما سواه... قصتنا اليوم عن أحد فرسان الخلافة من وسط سيناء والذين هداهم الله تعالى إلى سبيل الرشاد فلزموه حتى فارقوا الدنيا عليه، نحسبهم والله حسيبهم.

 

هدايته متأثرا بدعوة المجاهدين

 

إنه الأخ أبو رواحة الأنصاري -تقبله الله- من قبيلة العزازمة بمنطقة (وادي لصان) وسط سيناء والواقعة تحديدا جنوبي (القصيمة) قرب الحدود الوهمية مع فلسطين.

 

ولد عام 1413 هـ ونشأ بدايةً كبقية أبناء منطقته مُقبلا على الدنيا وملذاتها، منشغلا بجمع أموالها ومتاعها، حيث تنتشر في تلك المنطقة الحدودية عمليات التهريب عبر الحدود والتي كانت تدرّ أموالا كثيرة على أصحابها وكان يعمل بها أكثر أقرانه.

 

في حين كان المجاهدون في تلك المنطقة يجتهدون في نشر دعوة التوحيد بين الناس في ظل بيئة ينتشر فيها التصوف والجهل بشكل كبير.

 

ولقد أثمرت دعوة المجاهدين بفضل الله، حيث هدى الله تعالى أبا رواحة إلى سبيل الرشاد بداية عام 1431 هـ، بعد أن تأثر بنشاط الدعوة والتحريض الذي كان المجاهدون يواظبون عليه في تلك المنطقة والتي كان اليهود يحرصون على بقائها غارقة في وحل الشهوات والفساد.

 

مفارقته للمرتدين والمشركين

 

عرف أبو رواحة -تقبله الله- عقيدة التوحيد فلزمها، وكان خير من استجاب لداعي الإيمان، فترك الدنيا وحطامها وتمسّك بالعروة الوثقى، وامتثل أوامر الكتاب والسنة قولا وعملا، فكان مِن أشد ما يميزه وضوح عقيدة الولاء والبراء لديه، فجهر بالبراءة من المشركين والمرتدين مِن أبناء قبيلته، بل حتى مِن أقرب أصدقائه الذين رافقوه طويلا في دنياه لكنه فارقهم واعتزلهم لما فارقوا دينهم، وأبدى لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، فلم يجامل في ذلك ولم يخطب ودّ أحد بسخط الله تعالى، امتثالا لقوله تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، قال ابن كثير رحمه الله: "لا يوادون المحادّين ولو كانوا مِن الأقربين".

 

التحاقه بصفوف المجاهدين

 

ومع بدايات ظهور النشاط العسكري والميداني للمجاهدين في سيناء خصوصا بعد غزوة (أم الرشراش) الشهيرة ضد اليهود الكافرين وغيرها من الهجمات المباركة، قرر أبو رواحة الالتحاق بصفوف المجاهدين بعد أن أدرك الفرض العيني المتحتم عليه ممثلا بفريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، إذ لا سبيل لنصرة الإيمان والتوحيد بغير الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، وكل مَن قاتل بغير عقيدة التوحيد، أو زعم التوحيد بغير عقيدة الجهاد، ضلّ وأضلَّ وحاد عن جادة النجاة والشواهد كثيرة.

 

وبقي أبو رواحة جنديا في صفوف المجاهدين يرابط على ثغور المسلمين ويعد العدة مع بقية إخوانه على قلة أعدادهم وعددهم وتكالب اليهود والمرتدين عليهم.

 

من السابقين إلى بيعة الخلافة

 

وبعد أن منّ الله تعالى على المسلمين بإعلان الخلافة الإسلامية ودعوتها للمجاهدين في كل مكان للمسارعة للبيعة والاعتصام بالجماعة؛ كان أبو رواحة وإخوانه من السابقين الساعين إلى بيعة الدولة الإسلامية فحسموا مواقفهم مبكّرا وأعلنوا بيعتهم لدولة الخلافة ليتم الإعلان بعدها عن بيعة ولاية سيناء والتحاقها بجماعة المسلمين، فيدخل أبو رواحة مع إخوانه المجاهدين مرحلة جديدة من مراحل الجهاد على منهاج النبوة.

 

تدرجه في العمل الجهادي

 

أما عن مهامه في صفوف المجاهدين، فقد عمل بداية جنديا مقاتلا في جنود الخلافة بولاية سيناء، وبعد أن برز بين إخوانه بنشاطه وهمته اختير ليكون أميرا لإحدى المجموعات العسكرية بمنطقة جبل (الخرم) بوسط سيناء.

 

ونظرا لخبرته في دروب المنطقة وواقعها، وقع الاختيار عليه ليكون مسؤولا للمفارز الأمنية التي تنشط في مناطق وسط سيناء ضد الصحوات والجواسيس.

 

وفي منتصف عام 1439 هـ عندما أعلن الجيش المصري المرتد انطلاق حملته "المجابهة الفاشلة" عاد أبو رواحة للعمل في صفوف المجموعات العسكرية حيث عمل أميرا لإحدى هذه المجموعات في (جبل الحلال)، ولاحقا جرى نقله للعمل مسؤولا عسكريا للمجاهدين في إحدى مناطق (المغارة) وسط سيناء.

 

وخلال سنوات جهاده أتقن أبو رواحة كثيرا من المهارات العسكرية فلقد أجاد في نصب العبوات والشراك المفخخة لدوريات المرتدين، كما أتقن نصب الكمائن المحكمة للميليشيات المرتدة التي تقاتل اليوم في سبيل الطاغوت نيابة عن الجيش المصري المرتد، ومِن خلفه اليهود الكافرون الذين يُديرون الحرب ضد المجاهدين في سيناء.

 

في هجومي (الركيب) و (المنجم)

 

وقد شارك أبو رواحة تقبله الله تعالى في العديد من الهجمات والغزوات ضد الجيش المصري المرتد وميليشياته، ومنها الهجوم على موقع (الركيب) بمنطقة (المغارة) وسط سيناء في أواخر العام 1441هـ، حيث كان -تقبله الله- أميرا لإحدى المجموعات المشاركة في الهجوم والذي أسفر يومها عن مقتل وإصابة عشرة عناصر من الجيش، وأصيب خلاله أبو رواحة إصابة طفيفة في يده إثر قصف جوي.

 

كما شارك أبو رواحة تقبله الله في الهجوم على تجمع للميليشيات المرتدة بمنطقة (المنجم) منتصف العام الماضي 1442 هـ والذي خلف سبعة قتلى في صفوفهم.

 

وكما كان أبو رواحة أسدا مقداما في المعارك ضد المرتدين؛ كان رحيما عطوفا بإخوانه المجاهدين، ليّن العشرة قريبا محبوبا منهم يلقاهم دوما بوجهه البشوش المبتسم، وقد كان مواظبا على قيام الليل يقضي ليله قائما مرتّلا للقرآن الكريم في أرض المناجاة، محافظا على صيام الاثنين والخميس برغم قسوة البيئة الصحراوية الجبلية بوسط سيناء، لكنه زاد المجاهد الذي لا غنى عنه فالصيام والقيام هو دأب المجاهدين وزادهم وحاديهم في الطريق.

 

مقتله تقبله الله في الشهداء

 

وبعد 13 عاما قضاها أبو رواحة على ثغور المسلمين في الرباط والقتال والتعرض لمظان الموت في سبيل الله تعالى لم يستطع خلالها اليهود والمرتدون النيل منه؛ قدّر الله تعالى أن يُقتل في شهر الله (المحرم) لعام 1443 هـ، إثر انفجار وقع أثناء قيامه بتفخيخ أحد الممرات وسط سيناء بغية استهداف دورية للمرتدين، ليقتل تقبله الله ويسيل دمه الزكي في معارك المفاصلة والمجانبة للطواغيت وأوليائهم المرتدين، فنسأله تعالى أن يتقبله في الشهداء وأن يعلي مقامه في عليين.

 

 

 

 

 


 

91- العدد 352 - الخميس 20 محرم 1444 هـ

أبو الزبير العسكري فارس الهيجاء

عندما دخلت أمريكا الصليبية أرض الرافدين، هبّ أبناء الإسلام لجهادها والتصدي لها، وأثبتوا للعالم أجمع أنّ لهذا الدين رجالاً يذودون عنه وينافحون عن بيضته، فمرّغوا أنوف الصليبيين في التراب، وسطّروا في كل بقعة ملحمة فداء، وفي كل منطقة قصة عطاء، وكان من أشهر المناطق التي انتشر فيها الجهاد انتشارا واسعا؛ مدينة الموصل بشمالها وجنوبها، وقد برز من هذه المناطق جنود وقادة شجعان، أذاقوا أعداء الله كؤوس الذلّ والهوان، ورسموا الطريق بدمائهم وأشلائهم لمن بعدهم؛ وكان من هؤلاء فارسنا المغوار أبو الزبير الأنصاري -تقبله الله تعالى-، علمٌ من أعلام ولاية دجلة، وأسدٌ من أُسود الإسلام فيها، حمل بين جوانبه معاني العزة والرجولة، ولمعت في عينيه عزة الجهاد.

 

نشأته في بيئة جهادية

 

وُلد أبو الزبير في قرية (إمام غربي) جنوبي الموصل عام 1416 هـ، وتربّى في بيئة تحب الجهاد والمجاهدين، فوالده كان من السابقين إلى تلبية النداء، وهو ما أعان أبا الزبير على الالتحاق بركب الجهاد وهو لم يكن قد تجاوز الثانية عشر من عمره بعد، وحينها لم يُقبل في المعسكرات لصغر سنّه، لكن بعد إلحاحٍ شديد منه عرَضَه والده على أحد قادة المفارز الأمنية في منطقته، والذي رأى منه حرصا وفطنة تؤهله لبعض المهام، فقبله وأوكل إليه مهمة رصد بعض الأهداف وتصويرها، فبرع فيها على أكمل وجه، ولم يكن لأبي الزبير همّ سوى جهاد أعداء الملة والدين، فظلّ يقارعهم إلى أن ابتلاه الله بالأسر على أيديهم، فثبت داخل الأسر إلى أن فرّج الله عنه، ليعود إلى ميدان الجهاد مجددا ويستمر فيه حتى أُسر مرة أخرى، فمكث فيه مدة ثم خرج بفضل الله تعالى، وعندها قرر ترك الأهل والديار وأصبح مطاردا في سبيل الله، واستمر في ذلك حتى فتح الله لعباده المجاهدين في العراق.

 

بعد الفتح المبين

 

وبعد أن منّ الله على الدولة الإسلامية بالفتح المبين، رجع إلى موطن صباه في ولاية دجلة، وبقي يتنقل فيها بين الدعوة والجهاد، مقاتلا لأعداء الله تارة، وداعية إلى الله تارة أخرى، حيث كان يطوف مع القوافل الدعوية لِما كان يمتلكه من صوت شجي، وكان دائما يحرض المسلمين على الجهاد ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فهدى الله على يديه ثلة من الشباب للالتحاق بالمجاهدين.

 

وبعد أن تزوج ورزقه الله بالزبير، لم يشغله ذلك عن مواصلة فريضة الجهاد، بل خاض بعدها غمار أشرس المعارك في (بيجي) وقرى (مخمور) و (النصر) و (خربردان) و (كديلة) و (الصلاحية) و (مهانة) و (كرمردي)، بل سجّل اسمه في مواكب النور لتنفيذ عملية استشهادية، وقد حاول أميره أن يردّ طلبه لحاجة إخوانه إليه في الميدان؛ لِما تمتع به من الحنكة العسكرية والشجاعة والخبرة في القتال، لكنّ أبا الزبير أصرّ على موقفه، وعندما تقدمت قوات الرافضة والبيشمركة نحو قرى (الحاج علي)، ركب أبو الزبير سيارته المحمّلة بالمتفجرات وانطلق بها نحو هدفه، وفي الطريق قدّر الله أن تتعطل السيارة وتتوقف عن السير؛ ليعود فارسُنا إلى إخوانه حزينا لعدم تمكنه من تنفيذ العملية، لكنه لم ييأس من طلب الموت في مظانه حيث التحق هذه المرة بكتيبة الانغماسيين، وقدر الله له أن يصاب ويذهب إلى مدينة الموصل للعلاج، وفي أثناء فترة علاجه قطع المرتدون الطريق بين ولاية كركوك وقسم من ولاية دجلة عن ولاية نينوى، وبعدها عاد أبو الزبير إلى ولاية دجلة وكُلّف بإنشاء مفرزة أمنية للعمل داخل القرى التي سيطر عليها المرتدون، وتحديدا قرية (إمام غربي) مسقط رأسه والقرى المجاورة لها.

 

أبو الزبير في معركة (إمام غربي)

 

وبعد مدّة قصيرة من تأسيس المفرزة وتنفيذها عدة عمليات أمنية في المنطقة، بدأ أبو الزبير يخطط لغزو المرتدين في قرية (إمام غربي)، وكانت خطة الغزوة أن يتسلل هو برفقة مجموعة من المجاهدين إلى وسط القرية وينقسموا إلى قسمين: قسم يقوم بتفخيخ الطرقات، والقسم الآخر يدخل مسجدين في وسط القرية للتكبير وإعلان السيطرة لإرباك العدو، بينما تقوم مفرزة أخرى خارج القرية بالاشتباك مع ثكنات المرتدين، وبالفعل بدأت الاشتباكات وبعد مرور عشر دقائق، بدأ أبو الزبير ومن معه بالرمي وسط القرية والتكبير والإعلان عبر مكبرات المسجدين أنهم سيطروا على القرية ودعوا الأهالي إلى عدم الخروج لأن الطرق مفخخة، وعندها أسقط في أيدي المرتدين وظنوا أن جيوش المجاهدين قد داهمت القرية فولّوا هاربين وسيطر المجاهدون على القرية في نصف ساعة فقط بفضل الله تعالى، وحدثت مقتلة كبيرة في الجيش الرافضي والحشد العشائري، فهلك في هذه الغزوة أكثر من خمسين عنصرا من الجيش الرافضي والحشد العشائري، وأحرق المجاهدون عددا من آليات المرتدين وفجّروا بعض بيوتهم قبل أن ينحازوا منها لاحقا، ليضطر المرتدون إلى تشديد التحصينات حول القرية وإضافة ثكنات أخرى، ومع ذلك تمكّن أبو الزبير من إدخال أحد الانغماسيين إلى القرية، ليفجّر سترته الناسفة داخل أكبر مقر للحشد العشائري فيها.

 

قائدا للواء (أبو موسى الأشعري)

 

انتقل أبو الزبير بعد ذلك إلى إخوانه في لواء (أبو موسى الأشعري) في ولاية دجلة؛ حيث شارك في أغلب معارك اللواء ضد المرتدين، وأهمها معركة (كنعوص)، التي كانت معركة طاحنة حاول فيها المرتدون التقدم نحو مواقع المجاهدين، فكان له دور كبير في صدّ الهجوم برفقة إخوانه، حيث كُلّف قائدا للمجاهدين في قريتي (كنعوص) و(شريعة)، وقام بتكثيف الغزوات على الثكنات في محيط (كنعوص) حتى أجبر المرتدين على الانسحاب من أطراف القرية، ثم كُلّف قائدا عسكريّا عامّا للواء (أبو موسى الأشعري)، فقاد الكثير من الغزوات في جبال (مكحول) و(الخانوكة)، وقاد غزوة (الشرقاط الثانية)، وشارك في غزوة قرية (الحورية) وغزوة قرية (الناهية) وغيرها.

 

معركة (إمام غربي) الثانية بعد حصار الموصل

 

وعندما اشتد الحصار الخانق على المسلمين في الموصل، واستخدم التحالف الصليبي مختلف أنواع الأسلحة لإبادة النساء والأطفال والشيوخ، ولم يبقَ إلا منطقة صغيرة في مدينة الموصل القديمة، قرر المجاهدون شنّ غزوة من عدة محاور على مواقع المرتدين غرب نهر دجلة، وكان الأخ أبو الزبير قائدا لهذه الغزوة، وقُسّمت المحاور والمهام، وقاد هو محور الهجوم على قرية (إمام غربي)، وقد نجحت مجموعة أبي الزبير في اختراق تحصينات العدو في القرية رغم كثرة الثكنات المنتشرة، والعدد والعدة القليلة لدى المجاهدين، فقد عبروا نهر دجلة نحو مواقع المرتدين بالأسلحة الخفيفة فقط، ودارت معركة طاحنة بين جنود الرحمن وجنود الشيطان، جُرح فيها العديد من رفقاء أبي الزبير، ولم يبق معه سوى ثلاثة عشر مجاهدا بينهم جرحى يتحصنون في ثلاثة بيوت بأطراف القرية.

 

تزامن ذلك مع وصول تعزيزات جديدة للمرتدين، واستمرت الاشتباكات بين الطرفين وواصل أبو الزبير وإخوانه الليل والنهار، ولم يفتّ ذلك في عضدهم رغم ما بهم من جراح، وعند غروب الشمس بدأ المرتدون بالتزعزع وخارت قواهم، فاستغل الفرصة القائد الهمام أبو الزبير وأمر بالهجوم على المرتدين الذين كانوا قبل قليل يحاصرونهم، حتى فتح الله القرية على يد هذه الثلة القليلة من المجاهدين، وتم قطع الطريق الرابط بين مدينتي (الشرقاط) و(القيارة) على المرتدين لأكثر من عشرين يوما، كان بطلنا الهمام خلالها يصول ويجول بين المحاور في أطراف القرية يقاتل أعداء الله، ثم حشد المرتدون حشودا كثيرة لاستعادة القرية، فهاجموا المجاهدين من أربعة محاور، وظلوا عاجزين عن دخول القرية حتى استعانوا بأسيادهم الصليبيين جوّا وبرّا، وقد خسر المرتدون في هذه الغزوة أكثر من 300 قتيل و 11 أسيرا، والكثير من آلياتهم.

 

فداؤه لإخوانه المحاصرين 6 مدرعات مقابل 5 مجاهدين!

 

ومن المواقف الفريدة خلال هذه المعركة، والتي تدل على شجاعة أبي الزبير وفدائه لإخوانه، ما وقع عندما سيطر المرتدون على سلسلة جبال (نجمة) ونشروا القناصات عليها، ثم تقدّموا بدورية مكونة من ستّ مدرعات محمّلة بالجنود، وحاصروا خمسة مجاهدين كانوا يرابطون في بيوت قرب الجبال، وعندها اندلعت اشتباكات عنيفة حتى شارفت ذخيرة المجاهدين الخمسة على النفاد، ولم يستطيعوا الانسحاب كونهم محاصرين في منطقة مكشوفة، فطلبوا المعونة من إخوانهم عبر أجهزة اللاسلكي، فسمع الأسد أبو الزبير نداء إخوانه فتوجه إليهم فورا بعد أن أمر إخوانه الذين كانوا معه بعدم اللحاق به حفاظا عليهم، لأنها كانت مجازفة كبيرة في منطقة مكشوفة وساقطة ناريًا، فانغمس أبو الزبير في صفوف أعداء الله وانطلق مسرعا تحت أزيز الرصاص وقذائف الهاون حتى وصل إلى آليات المرتدين بالقرب من إخوانه المحاصرين وأمام أنظارهم، واشتبك مع المرتدين بمفرده مقابل ستّ مدرعات، فحرّكت هذه الشجاعة الروح القتالية لدى الإخوة المحاصرين فهاجموا آليات المرتدين واشتبكوا معهم بشراسة عالية فقتلوا وجرحوا عددا منهم، وأعطبوا عربة (همر) فاضطر المرتدون إلى الانسحاب من المكان، وأصيب أبو الزبير بطلقة في ساقه خلال الاشتباكات، ومع ذلك استطاع الانحياز بإخوانه إلى داخل القرية بسلام.

 

مقبلا غير مدبر

 

وفي نفس القرية (إمام غربي) تقدم المرتدون من أحد المحاور تحت غطاء جوي كثيف من طائرات التحالف الصليبي، فانبرى لهم كالعادة أبو الزبير وإخوانه الأبطال، واشتبكوا مع قوات العدو وصدوا تقدمهم وأحرقوا ثلاث آليات لهم، لكن الله تعالى قدّر هذه المرة لهذا الفارس أن يترجل عن جواده، فقتل بغارة صليبية وهو يقارع المرتدين، مقبلا غير مدبر -نحسبه كذلك ولا نزكيه-، لتتناثر أشلاؤه على أرض هذه القرية التي كانت شاهدة على صولاته وجولاته؛ مجاهدا منكّلا بالمرتدين، مجاهدا آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، لتنتهي قصة هذا الهمام وتبقى العبرة والأثر والقدوة لكل السائرين على خطاه، فرحم الله أبا الزبير وإخوانه وأسكنهم الفردوس الأعلى.

 

 

 

 

 


 

92- العدد 359 - الخميس 10 ربيع الأول 1444 هـ

أبو إبراهيم الخراساني (رحمه الله تعالى)
صدّق العلم بالعمل

إن الدعوة إلى الله تعالى هدي الأنبياء، وسبيل الصالحين الأتقياء، قال سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل]، وللدعوة طريقان، طريق السنان وطريق اللسان، وأكمل أسلوب للدعوة هو الجمع بين الطريقين، وقد تجسَّد ذلك كله في أخلاق النبي العدنان -صلى الله عليه وسلم- وسار على هديه الصحابة والتابعون الكرام، فقد كانوا دعاة إلى الله بأفعالهم قبل أقوالهم.

 

وممن نحسبه كذلك -والله حسيبه-، الأخ المجاهد عبد الرحمن الخراساني (أبو إبراهيم) رحمه الله، ولد في غرب خراسان، في بيت أدب وخلق وحشمة، ونشأ في ظله نشأة حسنة صالحة، حيث تعلم العلم الشرعي على يد أبيه وإخوانه، وكانت عنده رغبة شديدة في الدعوة إلى الله، حتى صار إمامًا وخطيبًا، وداعيًا شفوقًا على قومه، وكان جلّ دعوته آنذاك في الترغيب في الجنة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، والترهيب من النار والمعاصي وسوء الخلق.

 

وكان محبوبا عند الخاصة والعامة والقريب والغريب، حسَن الخلق، رقيق القلب، سليم الصدر، صاحب حياء وأدب، محبا لإخوانه، مشفقا على الفقير والمسكين والضعيف، معينا لأقاربه وأصحابه على نوائب الدهر، وقد ذاع صيته بين الناس على ذلك.

 

 فقد كان -رحمه الله- مثالا في الدعوة إلى الله بفعله وقوله، وقد طلب العلم الشرعي منذ بداية شبابه، فكان حافظا لكتاب الله، وكثيرا من الأحاديث النبوية الصحيحة، بالإضافة لباعه في علوم أخرى.

 

ولم يكن -رحمه الله- ممن حفظ المتون والكتب وتجاهل العمل بها، بل كان علمه قائدا له في جميع شؤون حياته، فكان قواما بالليل صواما بالنهار، حتى إنه في أيامه الأخيرة تواصل مع أحد إخوانه فسأله: هل تقوم الليل؟ فقال: لا، فقال له: إنا لله وإنا إليه راجعون أحسن الله عزاءكم!

 

الطريق لساحات الجهاد

 

لقد سلك أبو إبراهيم هذا الطريق نصرة للدين وذبّا عن حرمات المسلمين، فذات يوم جاء عنده رجل أوتي من زخرف الدنيا ومتاعها يبتغي صده عن النفير في سبيل الله، فقال له: أعطي لك كل شيء تريده من متاع الدنيا وزينتها وأُزوِجك ابنتي على أن تترك الالتحاق في صفوف المجاهدين في الدولة الإسلامية، فقال متبسماً: "لا والله لن أترك هذا الأمر ولا أريد الدنيا وأهلها" فلم يرض لنفسه بالقعود ودماءُ المسلمين تسيل، وأعراضهم تنتهك، فشمَّر عن ساعد الجد، وتسلَّح بالإيمان وتوكل على الله، وأدرك يقينا حقيقة الضر والنفع التي لخَّصها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بقوله لابن عباس -رضي الله عنهما- عندما كان يافعا: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].

 

ولما منَّ الله على عباده المجاهدين بإعلان الخلافة، سارع بإعلان بيعته لخليفة المسلمين وحثَّ إخوانه على اللحاق بركب الخلافة، خاصة وأنه وجد في إعلانها في ذلك الوقت فرصة ذهبية لجمع شتات الأمة بعد تبعثرها وتفرقها، ففرح أشد الفرح بذلك الإعلان الميمون، وبدأ ينشط نشاطا كبيرا لإقناع وتحريض إخوانه على اللحاق بركبها.

 

أسر ثم نفير لساحات الجهاد

 

ثم وفّق الله الأخ أبا إبراهيم، وصاحب دربه وأخاه في الله للتجهيز للهجرة في سبيله إلى دار الإسلام في ولاية خراسان، ولكن قدّر الله أن يقعا في الأسر في طريق نفيرهما، وحين دخل السجن اجتمع مع إخوانه من مهاجرين وأنصار، وبادر إلى خدمتهم لعدة شهور في سجن (ننجرهار)، ولمّا هاجم جنود الخلافة سجن (ننجرهار) وهدموا أسواره خرج من السجن، ولكن قدر الله له أن يقع في الأسر مرة أخرى، فنقلوه إلى سجن (بلجرخي)، وكعادته اشتغل أبو إبراهيم هناك بتدريس إخوانه العقيدة والتفسير والحديث، وأسّس مع إخوانه في السجن مدرسة باسم (يوسف الصديق)، وكان -رحمه الله- يوصي إخوانه في السجن بالصبر والثبات ويقول لهم: "صبرٌ قليل، فإما دار الإسلام وإما جنة عرضها السماوات والأرض".

 

وفي السجن كان أبو إبراهيم طيب العشرة مع إخوانه المهاجرين، يجالسهم ويتودّد لهم ويساعدهم ما استطاع، بل ويؤثرهم على نفسه، ومما يروي إخوانه عنه: أن أحد إخوانه في الله اشترى له ثوبا ليلبسه في العيد، ولمّا زاره أخوه في السجن لم يشاهده يلبس الثوب الذي أهداه له، فقال له: لمَ لا أراك ترتدي الثوب الذي أرسلته لك؟!، فقال له -تقبله الله-: "لا تحزن أخي -تقبل الله منك- فقد أعطيته لأحد إخواني المهاجرين الإيغور" وأثنى على أخيه المهاجر وذكّره بفضلهم وحقهم.

 

وفي قصة لطيفة أخرى تتجسد فيها معاني الإيثار في وسط محنة الأسر، أن أخاً من (كابل) كان عنده فاكهة، وكان يستطيبها، إلا أنه آثر على نفسه أحد إخوانه من (بدخشان)، وهذا الأخ حينما رأى الفاكهة أعجبته، لكنه دفعها لأخ له من (فارياب)، وهكذا حتى وصلت للأخ أبي إبراهيم الخراساني -تقبله الله- فآثر على نفسه ودفعها لصاحبها الأول من (كابل)!

 

وقد مكث في السجن سنتين حتى فرج الله عنه، وبمجرد خروجه من السجن التحق بإخوانه في ساحات الجهاد، ولهمّته العالية عمل أبو إبراهيم في أكثر من مفصل في ولايته، فمِن التدريس في الدورات الشرعية إلى ديوان الإعلام، ومن هندسة العبوات والتعامل مع المتفجرات إلى ديوان الدعوة والمساجد، فقد كان من السبّاقين في كل خير لا يملّ.

 

مقتله ووصيته

 

بعد رحلة الأسر والدعوة والجهاد كان أبو إبراهيم -رحمه الله- في موعد مع القتل في سبيل الله، والذود عن حرمات المسلمين، حيث داهمت ميليشيا طالبان المرتدة بيت أحد المسلمين، وكان فيه فارسنا مع بعض إخوانه، حيث اشتبك مع الميليشيا واستطاع مع إخوانه أن يؤمنوا انسحاب الأطفال والنساء مع بعض الإخوة من البيت، واستمر أبو إبراهيم بالاشتباك مع المرتدين، حتى أحكمت الميليشيا حصار البيت بعد أن استدعت تعزيزات إضافية، واستمر الاشتباك معهم لمدة ساعتين، استبسل فيها أبو إبراهيم وإخوانه أيّما استبسال، وقد أوصى قبل مقتله بلحظات قليلة بأنه كان يريد تبيان نواقض طالبان فأوصى إخوانه بتبيان نواقضهم والثبات ضدهم، وأوصى بتصفية علماء السوء ودعاة الباطل، وقال: "هم أساس كل باطل؛ فلا ترحموهم ولا تتركوهم يسيرون في البلاد آمنين"، وكان هذا آخر ما أوصى به قبل أن يُقتل مقبلا غير مدبر، وقد آثر القتل في سبيل الله على الرضوخ والاستسلام، وصدّق العلم بالعمل وخضّب نحره بالدماء في الوقت الذي يستطيب فيه كثير من طلبة العلم القاعدين استخلافهم مع الولدان والنساء، فرحمك الله يا أبا إبراهيم رحمة واسعة، وأسكنك في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

 

 

 

 

 


 

93- العدد 383 - الخميس 1 رمضان 1444 هـ

 

أبو زيد.. جبلٌ فوق جبال العراق

إن الكتابة عن سير الشهداء -نحسبهم- ثقيل على الكاتب قلّما يصمد مداد قلمه أمام دمائهم، حتى أن بعض إخواننا الكتاب يحجمون عن ذلك تورّعا وتقديرًا لمقام هؤلاء الذين قال الله عنهم في سورة الأحزاب: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

 

إضافة لما سبق، فإن الكتابة عن سير شهداء الدولة الإسلامية يعترضها كثير من المعوّقات من زوايا وجوانب مختلفة كالجانب الأمنيِّ مثلا والذي يقيّد كثيرا من التفاصيل، وكذلك جانب مَن نكتب عنهم؛ فكم مِن شهيد هممنا بالكتابة عنه استقاءً ممّن عايشه أو عاشره أو حتى عاصره، فلم نظفر بهذا ولا ذلك، إذْ أن كلهم مضوا إلى ربهم، ولحق من كان ينتظر بمن قضى نحبه، ففقدنا سند الرواية ولم يبق لنا من سِيَرهم إلا متن ذكريات نشمُّ منها عبيرًا تارة، وتارة نرتشف منها عِبرًا وعبَرات، ويستوي في ذلك سير القادة والجنود في دولة على منهاج النبوة أنشئت، يتسابق فيها قادتها وجنودها نحو مراكب الموت يطاردونه في كل ميدان، طمعًا في سوق المزيد. أمهروا توحيدهم أرواحهم، وأقاموا القرآن حروفه وحدوده، وفدوه أغلى ما يملكون، نحسبهم والله حسيبهم. إذن فهو سباق وتنافس على أشده على سكب الدماء وبذل الأنفس في سبيل خالقها وباريها سبحانه، فكيف للأقلام أن تظفر بالفوز في هذا المضمار المتسارع الذي يتنافس فيه المجاهدون على الفوز بإحدى الحسنيين، منذ فرض الله الجهاد على عباده؟ ولا شيء لديهم يقدّمونه أغلى من أنفسهم. ولا سبيل للقلم أن يباري دماءهم إلا أن يسكب الكاتب هو الآخر دمه ليلحق الدم الدم ويرضى الرب سبحانه ويضحك إليهم، اللهم إنا نسألك من فضلك.

 

ولذلك فإن بضاعتنا في الحديث عن سير هؤلاء النبلاء مزجاة لا توفيهم حقهم مهما حرصنا، وإلا لو كان التأريخ لقصص وسير هؤلاء الأبطال ميسورا؛ لضجت مكتبة الدولة الإسلامية بطبقات وتراجم هؤلاء النبلاء الفضلاء، ولكن حسبهم أن الله يعلم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يضرهم إن لم يعرفهم الناس، كما ورد في كتب السير والمغازي عن معركة نهاوند حيث جاء فيها: "كان عمرُ بنُ الخطابِ رِضوانُ اللهِ عليه بالمدينةِ يدعو اللهَ وينتظرُ مثل صيحةِ الحُبلَى، فكتب حذيفةُ إلى عمرَ بالفتحِ مع رجلٍ من المسلمينَ، فلما قدم عليه قال: أَبْشِرْ يا أميرَ المؤمنين بفتحٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه وأذلَّ فيه الشركَ وأهلَه، وقال: النعمانُ بعثك؟ قال: احتسِبِ النعمانَ يا أميرَ المؤمنين! فبكى عمرُ واسترجعَ، فقال: ومن ويحَك؟ قال: فلانٌ وفلانٌ حتى عدَّ ناسًا، ثم قال: وآخرين يا أميرَ المؤمنين لا تعرفُهم، فقال عمرُ رِضوانُ اللهِ عليه -وهو يبكي-: لا يضرّهم أن لا يعرفَهم عمرُ لكنَّ اللهَ يعرفُهم". [موارد الظمآن] ونحن والله لا نزيد على قول الفاروق -رضي الله عنه-.

 

مولده ونشأته

 

وكان من هؤلاء الأبطال الأخفياء الأتقياء نحسبهم، الأخ الحافظ للقرآن بالقراءات، المجاهد العابد الواعظ، أبو زيد الأنصاري العراقي -تقبله الله-، من مواليد العراق، نشأ وترعرع في كنف عائلة مُحافِظة عُرفت بالتقوى والصلاح والخير والعطاء لهذا الدين العظيم، وقد أكمل أبو زيد دراسته الجامعية في كلية التربية الأساسية، وكان من الممكن أن تكون حياته هادئة مستقرة ككثير ممن أخلدوا إلى الأرض وسعوا خلف زهرة الحياة الدنيا، ولكنه الإيمان الذي يستقر في القلب ويصدّقه العمل.

 

سبقه إلى الجهاد

 

ولذا سارع أبو زيد ولحق بموكب النور مبكرا، فلم يكن سوى في العشرينيات من عمره عندما بايع الدولة الإسلامية قبل نحو 16 عامًا، وتحديدًا في مطلع العام 1428 هـ، حيث عمل في بداية انضمامه، في مفارز الأمن والاستخبارات وكان يزوّد المجاهدين بالمعلومات الأمنية مِن رصد تحركات العدو في منطقته، وقد تعرض خلال العام ذاته إلى الأسر في سجون الكافرين، وقضى عدة سنوات في سجن (بوكا)، أتم خلالها حفظ القرآن الكريم ودرس بعض العلوم الشرعية على أيدي طلبة العلم الذين امتلأت بهم غرف السجن آنذاك، بعد أنْ حوّله المجاهدون إلى مدرسة إيمانية جهادية امتد خيرها حتى يومنا هذا.

 

وبعد سنوات من الأسر، منّ الله على أبي زيد بالخروج من الأسر، ليسارع مجددا إلى الالتحاق بصفوف إخوانه المجاهدين، وقد عمل في تلك الفترة إداريا في أحد قواطع الدولة الإسلامية، ويشهد له إخوانه بحسن إدارته لهذا الملف، وحرصه على أموال وأمانات المسلمين، وتفانيه في خدمتهم وحفظ حقوقهم.

 

تلميذا عند الشيخين الأنباريّ والبنعليّ

 

وعندما فتح الله تعالى على المجاهدين وأعلنوا دولة الخلافة، سارع أبو زيد إلى استغلال هذه الفترة في التزوّد من العلم الشرعي طاعة لأمر الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، قال ابن كثير: "أي: زدني منك علما، قال ابن عيينة رحمه الله: ولم يزل -صلى الله عليه وسلم- في زيادة من العلم حتى توفاه الله عز وجل"، فأسوة بنبيّه -صلى الله عليه وسلم- وسيرا على خطى الأولين؛ التحق أبو زيد بالمعهد الشرعي الذي أقامته الدولة الإسلامية في ولاية نينوى آنذاك، فنهل وتتلمذ على أيدي مشايخ وعلماء الدولة الإسلامية -أعزها الله-، فطلب العلم عند الشيخ أبي علي الأنباري والشيخ تركي البنعلي -تقبلهما الله-، حتى أتم الفترة المخصصة للمعهد الشرعي، ليعود بعدها إلى ميدان العمل بعد أنْ عيّنه أمراؤه شرعيًا لأحد القواطع في ولاية ديالى، حيث ميدان التطبيق لا التنظير كما هو واقع كثير من أدعياء العلم اليوم.

 

وههنا فائدة لكل مجاهد، أن يحرص على استغلال أوقات السعة والرخاء، في التزوّد من العلم النافع الذي يخدم المجاهد في طريقه إلى ربه تعالى.

 

فقد إحدى حبيبتيه فصبر!

 

وإنّ الجهاد ما سُمّي بذلك إلا لِما فيه من جَهد وجُهد ومشقة وبذل أقصى ما يستطيع المرء في سبيل نصرة دين الله تعالى، ولذلك الذين يريدون جهادا بغير تضحيات، حالهم كمن يريد بدرا بلا أُحد! ويريد فتح مكة بلا خندق ولا أحزاب فهؤلاء ضلّوا الطريق وانتهى بهم المطاف إما قعودا عن الجهاد، أو وقوفا في صفوف أعدائه!

 

فالتضحيات قرينة لطريق الجهاد ملازمة له لا تنفك عنه، وقد نال أبو زيد نصيبه من ذلك، ففي عام 1436هـ استهدفت طائرة مسيّرة للعدو عجلة دفع رباعي كانت تقلّ مجموعة من المجاهدين بعد الانحياز من مناطق ديالى، فأصيب أبو زيد إصابة مباشرة فقد على إثرها إحدى عينيه، فلم يقابل ذلك بغير الصبر والاحتساب والرضا بأقدار الله تعالى طمعا بالجنة، متأسيا ممتثلا الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال في الحديث القُدسي: (إنَّ اللَّهَ قالَ: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ؛ عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ. يُرِيدُ عَيْنَيْهِ.) [صحيح البخاري]

 

فلم تحُلْ الإصابة بين أبي زيد وبين الجهاد، بل مضى في طريقه وزاد من عطائه وبذله في هذه المسيرة الإيمانية المباركة على منهاج النبوة في بيئة صعبة لا يستطيعها إلا الذين صبروا نحسبهم والله حسيبهم.

 

عبادته وأخلاقه

 

وبعد الانحياز من المدن والاستقرار بين الوديان والجبال، واصل أبو زيد وبقية إخوانه عبادة الجهاد والمرابطة على ثغور الإيمان، والمراغمة لأعداء الله المرتدين، حيث كلّفه إخوانه ليكون شرعيا للمجاهدين في ديالى، فكان واعظًا معلِّما لإخوانه ناصحًا ومشفقًا يذكّرهم ويصبّرهم في تلك القِفار الموحشة إلا من الأنس بالله تعالى، والتي زانت بالخلوة مع الله تعالى، كان أبو زيد يتزوّد في هذه المواطن من دار الممر لدار المقر، فكان رحمه الله عابدا زاهدا متنفّلا، كثير القيام قلّما يفوته ذلك لسبب قاهر، يستيقظ في ظلمة الليل وينسلّ بهدوء حتى لا يوقظ إخوانه الذين بالكاد ينامون في بيئة لن يدرك وصفها إلا من جرّبها، فيقوم ويُصلي مترنّما بآي القرآن الذي أقام حدوده وحروفه.

 

وكان أبو زيد صاحب سمْت حسن ووقار لا تخطئه عين من رآه حيًا أو ميتًا، دمث الأخلاق صاحب حياء، قليل الكلام، كثير النظر في كتب العلم ليعمل بما علم وكان يعاون إخوانه رغم إصابته، ولا عجب فهذا دأب الصالحين وسمت المجاهدين السابقين واللاحقين.

 

وامتد جهده الشرعي والوعظي ليردف صحيفة (النبأ) ببعض مقالاته وكتاباته، يذكِّر فيها المسلمين ويوجِّههم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم في أبواب الرقائق والأذكار والدعاء والإلحاح على الله تعالى، وفي أبواب التربية والتنشئة الإيمانية، وليس أبو زيد وحيدًا في هذ المجال، فقد سبقه إخوة كثيرون على هذا الدرب كانوا كُتابا في (النبأ) وأشربوا كلماتهم من دمائهم، كتبوا بصمت ورحلوا بصمت، نسأل الله أن يتقبلهم وأن يتمّ أجورهم.

 

مقتله.. تقبله الله

 

واستمر أبو زيد الأنصاري جبلا فوق جبال العراق، يتزود من خير زاد؛ العلم والتقى، ويزوّد بهما إخوانه في الميدان وفي الإعلام، حتى قدّر الله تعالى أن تصيبه غارة من طائرة حربية في إحدى جبال العراق مزقت أشلاءه -تقبله الله- ليفارق الدنيا صابرا محتسبا ثابتا مرابطا مراغما لأعداء الله تعالى، وقد جمع بين أبواب الجهاد والدعوة في الميدان والإعلام، فحاز خيرا كثيرا وكان له مِن اسمه أوفر الحظ والنصيب، فنسأله تعالى أن يزيده أجرا ويرفع درجته ويعلي ذكره، وأن لا يحرمنا أجره وأجر إخوانه السابقين، ولا يفتنّا بعدهم، وأنْ يلحقنا بهم غير خزايا ولا مبدّلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 


 

94- العدد 391 - الخميس 28 شوال 1444 هـ

 

الأخ أبو مبشّر -تقبله الله تعالى-

روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك في قصة إسلام حبر اليهود عبد الله بن سلام أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدِم المدينة وسأله ثلاثة أسئلة، وقال: "لا يعلمهن إلا نبي"، فلما أجابه النبي عنها؛ ما كان منه إلا أن أسلم، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فاسألهم عني، قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيّ رجل عبد اللّه بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتم إن أسلم عبد اللّه بن سلام قالوا: أعاذه اللّه من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا: مثل ذلك، فخرج إليهم عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه، قالوا: شرّنا وابن شرّنا، وتنقّصوه!، قال: هذا كنت أخاف يا رسول اللّه.

 

لم تقتصر هذه الصفة الذميمة على اليهود فحسب، بل صارت صفة ملازمة لكل الحركات والجماعات المرتدة التي بدّلت دينها وانسلخت من آيات الله، وحذت حذو اليهود في انتقاص وتشويه كل من يتبرأ من باطلها ويفيء إلى الحق، حتى لو كان سابقا من خيرة رجالها.

 

قصة تتكرر في كل زمان

 

في خراسان مثلا التحق في صفوف الدولة الإسلامية كثير من طُلاب الحق الذين كانت لهم صولات وجولات في حقبة طالبان، غير أن هؤلاء الأبطال لمّا فعلوا ذلك، كان موقف المرتدين منهم كموقف اليهود من عبد الله بن سلام بعد إسلامه، "شرنا وابن شرنا!" وقد كانوا من قبل يقولون عنه: "خيرنا وابن خيرنا!".

 

هذه قصة تتكرر في كل أزمنة الصراع بين الحق والباطل وخصوصا في زمن المفاصلة والمفارقة لمعسكرات الردة التي تتمسح بالإسلام وترفع شعاراته.

 

واليوم لدينا قصة أحد هؤلاء المجاهدين الأبطال وهو الأخ (أبو مبشر) تقبله الله، من أوائل المقاتلين ضد الغزو الروسي والأمريكي، وكان رجلا عقائديا قدّم الولاء للمؤمنين على كل ولاء، وحقق البراء من المرتدين حتى مِن أقرب الأقربين، كان باحثا عن الحق فجعل التوحيد هاديا له في طريقه وضابطا لمواقفه، ولمّا أعلنت دولة الخلافة كان من أوائل المبايعين لها، وواصل طريقه في ظلالها يقاتل المشركين كافة على منهاج النبوة حتى أتاه اليقين، ليُقتل على أيدي الميليشيا الوطنية التي نحرت الذبائح فرحا بمقتله بعد أن ذبحت عقيدة التوحيد في عروق أفرادها من الوريد إلى الوريد.

 

القتال ضد الغزو الروسي ثم الأمريكي

 

كان الأخ أبو مبشر من الرجال القلائل الذين شدوا الظهر إلى الحرب مبكرا للتصدي للغزو الروسي لأفغانستان، وقدّم تضحيات كبيرة في تلك المرحلة، وبعد اندحار الروس عن أفغانستان لم ينشغل أبو مبشر بما انشغلت به الفصائل المتناحرة من نهب وخلافات، بل ذهب إلى باكستان باحثا عن العلم الشرعي المتاح آنذاك، حيث التحق بالمدارس وبدأ بتلقي الدروس الشرعية الأساسية خلافا لعمره آنذاك.

 

ولمّا غزت أمريكا الصليبية أفغانستان، سارع أبو مبشر إلى قتال القوات الأمريكية، وكان مِن أوائل مَن بدأ حربا ضد الأمريكيين في منطقة (كونر)، في وقت كانت الشائعات تنتشر بين الناس أنّ الأمريكيين لديهم قوة عظمى! وكانوا يقولون: إذا أطلق أي شخص النار على الجيش الأمريكي، فستنحرف فوهة البندقية عن مسارها! لكن هذا المجاهد الشاب فعل شيئين: كسر هذه الصورة في أذهان المسلمين وبدأ القتال فعليا ضد القوات الأمريكية، وثانيا أخذ يدعو ويجنّد الشباب والمناصرين في كل منطقة ومقاطعة، وبمرور الوقت استطاع إيجاد مناصرين للجهاد في 14 منطقة في (كونر) و(نورستان) المتجاورتين.

 

قاد الهجمات ضد القواعد الأمريكية

 

وخلال الغزو الأمريكي، قاد أبو مبشر العديد من العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية برفقة من معه وشنّوا هجمات واسعة ضد قواعد أمريكية كبيرة، ونجح في العديد من المرات في تقطيع أوصالهم وتمزيق أشلائهم، حتى اضطروا إلى الفرار من بعض هذه القواعد تحت وقع الضربات المتتالية، وكان من أبرز هذه الهجمات الكمين الشهير الذي سقط فيه الجنود الأمريكان مِن على رؤوس الجبال حتى خرجت أمعاؤهم من أجسادهم وقد ظهر ذلك في مرئيات قديمة.

 

وقد أصيب أبو مبشر مرتين بجروح خطيرة خلال معاركه ضد القوات الأمريكية، حتى أن بعض جراحه لم تلتئم حتى وقت إعلان ولاية خراسان، ومع ذلك لم تمنعه هذه الإصابات من مواصلة طريقه في الجهاد.

 

جهاده ودعوته في صفوف الدولة الإسلامية

 

وعند إعلان الخلافة بدأ يبحث عن الحق ويتحرى حتى وفقه الله تعالى إلى سبيل الرشاد وقرر الالتحاق بالدولة الإسلامية، وكان واحدا من أوائل المبادرين إلى بيعة ولاية خراسان حيث تحمل عقبات وصعوبات كثيرة في سبيل الوصول إلى الشيخ الوالي سعيد خان -تقبله الله- حتى تمكن من ذلك وبايعه في منطقة (تور دره).

 

وانطلاقا من خبرته السابقة وتاريخه الجهادي، عيّنه أمراؤه مسؤولا في منطقة (كونر) وهناك نشط في مجال الدعوة إلى التوحيد والتحريض على الجهاد في سائر مناطق (كونر)، حتى وفقه الله تعالى ونجح في استقطاب وتجنيد أعداد كبيرة من المجاهدين في تلك المناطق، حتى بايعه مئات المجاهدين بينهم العديد من القادة البارزين وكان من بينهم الشيخ الوالي أبو عمر -تقبله الله- الذي أعطى البيعة لأبي مبشر يدا بيد، إضافة إلى قادة آخرين بارزين كان لهم صولات وجولات في صفوف الدولة الإسلامية.

 

مع أبي مالك التميمي

 

وهكذا قضى معظم حياته يقاتل الكافرين والمرتدين ويتزود بالصبر والإيمان ويبحث عن الحق والعلم الشرعي الذي يبلغه مراتب النجاة، وكان يحب أن يجالس العلماء الذين يقودون المجاهدين، وكان إخوانه يستشيرونه في سائر أمورهم، ورغم انشغاله بالمهام العسكرية والقيادية على الدوام، إلا أنه كان حريصا طوال السنوات التي قضاها برفقة المجاهدين العرب في جبال خراسان على طلب العلم ما استطاع إليه سبيلا، فتعلّم منهم بعض العلوم الشرعية الأساسية وعلوم اللغة العربية، وكان من المشايخ الذين التقى بهم وتلقى عنهم العلم؛ الشيخ المجاهد أبو مالك التميمي -تقبله الله- حيث أخذ عنه دروسا في صحيح البخاري وغيره، ووصفه أبو مبشر بأنه كان عالما متقنا في الحديث، وأخبر أن أبا مالك كان برفقتهم قبل انتقاله لاحقا إلى منطقة (تورا بورا) في (ننجرهار)، وبعدها نفر إلى دار الخلافة في العراق والشام، وقال أبو مبشر: كانت آخر مرة رأيت فيها أبا مالك التميمي في الإصدار الشهير وكان يضع على رأسه عصبة حمراء والمجاهدون حوله يبايعون على الموت.

 

صفاته وأخلاقه

 

ونحسب أن الأخ أبا مبشر قد حاز كثيرا من الصفات الطيبة والأخلاق الحميدة التي ينبغي على المجاهد أن يتصف بها ويمتثلها، فكان متواضعا رحيما بعوام المسلمين لا يخذل من مدّ إليه يد العون في أي وقت خصوصا أوقات الشدة، يحافظ على صلة الرحم ويداوم على زيارة وتفقد مرضى المسلمين، فكان عامة المسلمين يحبونه حتى أن أهالي منطقة (کونر) كانوا يقفون في الطرقات لاستقباله عند قدومه.

 

فيما يتعلق بأمور الميدان، كان دائما على أتم الاستعداد لأي طارئ، وكان يحذّر كثيرا من استخدام الهواتف والتهاون بها، ويوصي المجاهدين بحمل السلاح في كل وقت ويعدّ مخالفة ذلك معصية للأمير، وكان مقاتلا صلبا متمرسا صاحب خبرة ودراية في أمور القتال والميدان، وعرف عنه حسن سمعه وطاعته لأمرائه ومشايخه رغم مكانته بينهم وسابقته في الجهاد فكان يسمع ويطيع كأي جندي.

 

وفي المقابل، كان أبو مبشر صاحب عقيدة صافية لا يداهن في التوحيد أحدا، شديدا على الكافرين والمرتدين غليظا عليهم، لقد كان جبلا في الولاء والبراء؛ يظهر ويجهر بعداوته وبراءته من المرتدين ولو كانوا أقرب الناس إليه، صادعا جريئا في قول كلمة الحق، شجاعا مقداما لا يلين ولا يداهن ولا يخشى في الله لومة لائم.

 

قائدا ومجاهدا في (ننجرهار)

 

وبعد أن فتح الله على المجاهدين في (ننجرهار)، أمره إخوانه بالذهاب إليها لقيادة وترتيب الصفوف هناك، فهاجر إليها مع أسرته واستقر فيها، وهناك شارك وقاد العديد من الغزوات الكبيرة كان من أبرزها معركة خراسان الأولى التي عرفت باسم (غزوة مفتاح الخير) التي قادها أبو مبشر بنفسه، وفتح الله على يديه وحاز مغانم وغنائم كثيرة بفضل الله تعالى، وقد ظهر في الإصدار الشهير الذي حمل اسم الغزوة وهو يبشّر المسلمين ويحرضهم على الالتحاق بركب الخلافة وطريق النجاة.

 

هكذا أمضى أبو مبشر حياته في ميدان التوحيد والجهاد، داعيا ومحرّضا ومجاهدا وظل في الغالب قائدا عسكريا ميدانيا، وكان عناصر طالبان المرتدون يخافونه ويحسبون له ألف حساب ويتجنّبون أن يهاجموا الثغور التي يشرف عليها، وقد أمضى وقتا في كل منطقة فتحها المجاهدون وحارب المرتدين في سائر مناطق وثغور ولاية خراسان متنقلا من ثغر إلى ثغر ومن خندق إلى خندق لا يكل ولا يمل.

 

خمسون عاما قضى أكثرها في ميادين التوحيد

 

واستمر أبو مبشر ثابتا على طريق الجهاد حتى فترة المحنة التي تعرضت لها الدولة الإسلامية في خراسان في وقت الحملة الصليبية التي تزامنت مع حملة المرتدين عليها، وكان في آخر حياته قائدا عسكريا لكتيبة سعيد بن زيد، في منطقة (وزير تنكي)، وعند تعرض المنطقة لهجوم واسع من قبل ميليشيا طالبان، انبرى أبو مبشر للتصدي لهجوم المرتدين حتى وصل إلى الخطوط الأمامية للمعركة وكان يقود المجاهدين ويوزع المجموعات على الثغور، وفي أحد الأيام توجه برفقة مجموعة من إخوانه المجاهدين لنصب كمين للمرتدين على إحدى طرق القتال، واندلعت اشتباكات عنيفة أصيب فيها أبو مبشر إصابات بالغة قتل على إثرها متأثرا بجراحه بعد ساعة من إصابته، فرحل عن عمر يناهز الخمسين عاما قضى أكثرها في ميادين الجهاد، داعيا إلى التوحيد الصافي محرضا على الجهاد، وقائدا عسكريا قاد المعارك وخاض الحروب وشهدت له ثغور وجبال ووديان خراسان ولقي ربنا صابرا محتسبا.

 

نبشوا قبره!

 

بقي أن نذكر أنه لما علمت ميليشيا طالبان بمقتله، احتفت واحتفلت بذلك وذبح عناصرها وأوباشها الذبائح فرحا بمقتله بعد أن أذاقهم والروس والأمريكان مر العلقم على مدار سنوات المفاصلة والتمايز على ثرى خراسان، وبعد فترة لمّا وصل عناصر الميليشيا المرتدة إلى قبر الأسد الوقور، قاموا كعادتهم بنبش القبر كما فعلوا بالكثيرين من المجاهدين غيره، وكل هذا بدافع الحقد الشديد على الموحدين السائرين على عقيدة السلف المتبرئين من العقائد والمناهج المنحرفة التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه مما لم يعد خافيا إلا على أعمى البصيرة، ولا عجب تبقى الضباع ضباعا والأسود أسودا.

 

رحم الله أبا مبشر وتقبل منه سبقه وجهاده ودعوته وألحقنا به غير خزايا ولا محرومين.

 

 

 

 

 


 

95- العدد 396 - الخميس 4 ذو الحجة 1444 هـ

أبو مصعب اليوبي -تقبله الله تعالى- مجاهدا عابدا وناصحا أمينا

إنَّ الله تعالى إذا أراد أمرا هيَّأ له أسبابه، فلمّا أراد سبحانه أن تعود الخلافة على منهاج النبوة -كما وعدَ على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم- بعد أن ظن الصليبيون أنهم قضوا عليها دون رجعة وجزموا أن المسلمين لن يعيشوا من جديد تحت ظلها؛ قيّض الله تعالى لها خلفاء على نهج الراشدين الأُول عقدا وهديا، ولا غرو إنْ طابت فروع مِن أصول طيبة، كما أعدّ الله لها جنودا يحمونها ويُعلون صرحها هم كقادتهم سائرين على نهج الصحابة والرعيل الأول تضحية وبذلا وصدقا ووفاء، فكانوا كما وصفهم الله تعالى في كتابه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، رجال يقولون فيفعلون، وتارة تسبق أفعالُهم أقوالهم، رخصوا في سبيل الله أغلى ما يملكون، وبذلوا لنصرة الإسلام أنفسهم وأموالهم وأهليهم؛ في صورة تذكّرنا بالذي غار في أمهات الكتب من سير عطرة لأبطال الإسلام وأسود التوحيد، الغابرين حياةً الباقين ذكْرًا، فكانوا بحق أكفاء أن يحملوا أمانة نصرة الدين، وتبليغه ببريد الدماء وصونه بسُور الأشلاء.

 

نشأة صالحة

 

وكان من بين أولئك الرجال الأخ (آدم بـاقو) أبو مصعب المهاجر -تقبله الله-، من مواليد سنة 1412هـ، ولد في بلدة (داماغوم) بمنطقة (يوبي) شمال شرقي نيجيريا، ونشأ وترعرع فيها في كنف أسرة مسلمة وفّرت له بيئة صالحة أعانته على الهدى، إذْ ذهب به والده منذ صغره إلى حلق تحفيظ القرآن فمكث فيها حتى أتمَّ حفظ أجزاء القرآن الكريم، فكان منذ صغره شبلا صالحا محبا للهداية والإيمان، هكذا عاش بين أصدقائه وتفوّق بذلك على أقرانه، ولم ينقطع عن حلق العلم حتى كبر، فالعلم زين الفتى وزاد المسافر وبالأخص المجاهد، كما لم ينس نصيبه من الدنيا من طلب للحلال وتحري الطيب الذي أمر الله المؤمنين والمرسلين بأكله، فكان يأكل من كسب يده ولا يتملق عند الناس قناعة وورعا، وعُرف بين من عاش بينهم بطول الصمت وقلة الكلام والخلوة وقلة مخالطة الناس، وتلك كانت نشأته وبداياته.

 

الطريق المجدي في التغيير

 

كلما صبّ الكافرون حقدهم على الإسلام سعيًا في القضاء عليه وإبادة جنوده؛ أخرج الله لهم مِن بين فوّهات مدافعهم حُماة ما أرادوا إبادته، وتولّد من رحم المحنة رجال ذوو عقيدة وإباء يحملون رايته، وأحيا الله مكان مَن قُتلوا أضعاف ما قتلوا، وهكذا هي مسيرة الجهاد والمجاهدين، فبعد عدوان الجيش النيجيري المرتد على المسلمين في منطقة (برنو) سنة 1430هـ وقتلهم عشرات الشباب المسلم، وتدميرهم (مسجد ابن تيمية) الذي كان يؤمه الشيخ محمد بن يوسف -تقبله الله- وتشريدهم للمئات وأسرهم أضعاف ذلك؛ أثّرت هذه الجريمة في قلوب كثير من شباب المسلمين في نيجيريا، وأيقنوا أن الجيش النيجيري كسائر الجيوش المرتدة ليست إلا معولا بأيدي الصليبيين لهدم الإسلام وأن الحل معهم لا يكون إلا بالقتال، وكان أبو مصعب من أولئك الشباب الذين تنبهوا لهذا الأمر، فبدأ بعد هذه الجريمة يبحث عن المجاهدين لينضم إلى ركبهم ويسلك طريقهم في التغيير المجدي المفضي إلى قلب الواقع لا التقبّل به، وإلى استجلاب النصر والعزة والتمكين لهذا الدين بالجمع بين العلم والعمل والتوحيد والجهاد، ولكن لم تكن راية الجهاد قد علت بعدُ في تلك الظروف العصيبة، فالمجاهدون آنذاك قلة مطاردون يتخفون، وكلما سنحت لهم فرصة انتهزوها وضربوا عدوهم ثم عادوا سيرتهم متخفّين متماشين مع كل مرحلة.

 

لحاق بالمجاهدين في فترة عصيبة

 

في تلك المرحلة أخفى أبو مصعب هدفه في صدره وظلّ يدعو الله أن يبلغه مواكب المجاهدين، ولما علم الله صدقه يسّر له أسباب ذلك، فجاءه أحد أصدقاء شقيقه الأكبر، وكان من طلبة الشيخ محمد بن يوسف، وحدثه عن آخر جرائم الجيش النيجيري المرتد بحق المسلمين ووجوب جهادهم، وأخبره بكيفية اللحاق بالمجاهدين ودلّه على طريق الوصول إليهم، فتلقى أبو مصعب ذلك بسعادة غامرة كونه كان قد استفرغ وسعه في البحث عن ذلك الطريق، وسارع أبو مصعب إلى الانضمام لإخوانه المجاهدين دون توان، ولم يثنه ما كان الجهاد والمجاهدون فيه آنذاك من ضعف وقلة يخافون أن يتخطفهم الناس، لا مأوى لهم يأوون إليه ولا مأمن يأمنون فيه على أنفسهم فضلا عن عوائلهم، فرغم كل ذلك انضم للركب بقلب راض لعلمه أن الجهاد فرض لا نافلة، وأن الشريعة لن تعاد والأعراض لن تصان؛ إلا بتقحّم تلك المخاطر ومكابدة تلكم الصعاب.

 

وهكذا الصادقون لا تثني الشدة عزائمهم ولا يعثّر البلاء سيرهم، معتقدين أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فبلغوا بذلك حقيقة الإيمان كما جاء عند الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَال: (لكلّ شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه).

 

مقتحما غمار الأخطار

 

فلم يلتفت أبو مصعب لتلك المخاطر بل رمى بنفسه بين الغرباء المطاردين وصار جنديا تحت (كتيبة أبي الدرداء)، ومنذ تلك الفترة أظهر الله تعالى ما أودعه في عبده أبي مصعب من شجاعة وتضحية وإقدام، فشارك في كثير من العمليات الأمنية وكان من الطلائع التي حوّلت ليل الكافرين نهارا في عقر ديارهم ضمن حروب الشوارع والمدن، وكان من المشاركين في (غزوة بوتيسكوم) الشهيرة التي وقعت في (يوبي) وتجرّع المرتدون خلالها كؤوس الويلات.

 

ولم يكن للمجاهدين حينها ملاذات يأوون إليها، فلا أدغال ولا آجام ولا آكام، وكان أبو مصعب في ظل كل هذه المراحل الصعبة والأطوار العصيبة -رغم حداثة عهده بالطريق- مستمسكا بالعروة ملازما للجادة سائرا مع الركب المبارك آخذا بعنان فرسه يطير عليه كلما حيعل المنادي، ويلبي كلما صاح النفير، ويفزع حيثما دارت رحى الحرب.

 

قائدا عسكريا وأمنيا

 

وفي أثناء هذه الظروف ألهم الله المجاهدين فكرة إنشاء المعسكرات والمراكز في الغابات لاستقطاب المجاهدين وتوسيع دائرة الحرب وفتح جبهات جديدة لاستنزاف العدو وتشتيت قواه، وأيضا حتى يكون للمجاهدين ملاذ يلتجئون إليه، فيسّر الله لهم فتح معسكرات في غابات (يوبي) وأدغال (برنو)، وحينها شاء الله أن يُنقل أمير الفصيل الذي فيه أبو مصعب إلى منطقة أخرى، فأخذ أبو مصعب مكانه وكان خير أمير لخير فصيل، وأكمل دوره منكلا بالأعداء منغصا عيشهم ومكدرا حياتهم.

 

وقد تميز في هذه المرحلة بحسن القيادة وبراعة في التدبير، وبعد مضي ردح من الدهر وهو يلهب برفقة إخوانه الأرض تحت أقدام المرتدين؛ أرسله إخوانه إلى معسكرات (الفاروق)، وبعد وصوله واصل ليله بنهاره يسابق أوقاته في فعل الخيرات وعلى رأس ذلك الجهاد في سبيل الله الذي هو أفضل الأعمال.

 

واستمر أبو مصعب حتى عيّنه أمراؤه قائدا على (سرية أبي الدرداء)، وقد أبلى أثناء قيادته لهذه السرية بلاء حسنا وكان سببا -بفضل الله تعالى- لفتح كل من (كامويا) و(بوني يادي) و(جكانا) و(كاتركو) و(سابون غاري) وغيرها، وبعدها أرسله أمراؤه إلى ديوان الأمن فأجاد وأفاد ولعب دورا فعالا في حفظ أمن المجاهدين، ولم يلبث أبو مصعب حتى نُقل إلى منطقة (كرينوا) أميرا عليها، وبعد حقبة من الزمن نُقل إلى منطقة (البحيرة) وعيّن أميرا على الجند هناك، وكان في كل هذه المراحل قائما بواجباته متفانيا في تنفيذ مهامه وتكاليفه.

 

عابدا وناصحا وموجّها

 

نحسب أن أبا مصعب كان ممن هيأهم الله لحمل أعباء الجهاد، فكان من توفيق الله له أن جمع له شمله وجعل نصرة الدين همّه، فصرفه عن الدنيا فلم يلتفت إليها منذ بدايات هدايته، فما الدنيا في نظره إلا جيفة، والأُسد لا تقع على الجيف، فلم يغتر ببهجة زخارفها الزائفة، ولم يفتتن بمفاتنها الصارفة، رغم أنها أقبلت عليه وبسطت أجنحتها له راغمة؛ مصداقا لما روى الترمذي بسند صحيح عَن أَنس بن مالِك قال: قَال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت الآخرة همّه جعل اللّه غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدّنيا وهي راغمة، ومن كانت الدّنيا همّه جعل اللّه فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدّنيا إلّا ما قدّر له)، وكذلك ينبغي أن تكون نظرة المجاهد تجاه الدنيا، فيأخذ من الدنيا قدر الحاجة ولا يركن إليها ويتوسع فيها؛ فتغرّه كما غرّت غيره، فينتقل من الشجاعة إلى الجبن، ومن التجارة مع الله إلى التجارة الدنية، فليتنبه المجاهد لذلك.

 

فقد كان صاحبنا شديد الإقبال على الآخرة، كثير الورود على أعمال البر مقبلا عليها إقبال الظمآن على المورد العذب، فالآخرة هاجسه وهمه، وحديث الشهادة كلماته وألفاظه، سخيا جوادا ينفق على السائل والمحروم، متكفلا بعوائل الأسرى والشهداء والمجاهدين الغائبين، شفوقا عليهم محسنا إليهم، حال مرتحل في تلاوة القرآن، كثير النصح لإخوانه، غيورا على محارم الله، غاديا رائحا إلى الصفوف الأول في قتال أو صلاة، هاشّا باشّا طلق المحيا لإخوانه المسلمين خادما لهم ساعيا في حوائجهم، يحب الخير لكل من معه، غليظا شديدا على الكافرين.

 

وقد بذل أبو مصعب قصارى جهده في نصح وتوجيه إخوانه المجاهدين، فكان يحثهّم على الخيرات ويحاسب مَن يقصر في الواجبات، لقد أعطى ديوان الجند في منطقة (البحيرة) حقه ومستحقه، وكان يشدّ على أمر الصلوات المفروضة ولا يسمح بالتخلف عنها ولا يتهاون في ذلك البتة.

 

شجاعا لا يبالي بالحتوف

 

قلما تجد الموفَّق إلى أبواب الخيرات مبتلى بالجبن، فأثر الطاعات في تثبيت الأقدام عند اللقاء معروف ودورها في استنزال النصر مشهور، كما أخرج الإمام أحمد في "الزهد" أنّ أبا الدرداء كان يقول: "اعمل عملا صالحا قبل الغزو، فإنما تقاتلون الناس بأعمالكم". فالجبن والجزع من حصاد الذنوب، كما أن الثبات والنصر من ثمرات الطاعات، وعليه فلا تسأل عن شجاعة أبي مصعب فهي حديث الركبان وفاكهة المجالس بين الإخوان والخلان.

 

في إحدى المعارك خرج المجاهدون للإغارة على معسكر للمرتدين، فاختار أبو مصعب أن يكون سائقا للسيارة حيث كان يفضل دائما السياقة حتى يتمكن من الوصول للهدف الذي يريد، فلمّا اندلعت الاشتباكات اتجه أبو مصعب نحو بوابة المعسكر وكان الطريق المؤدي إليها ضيقا ومحفور الجانبين، وفي بحبوحته دبابة تستهدف كل من يحاول الوصول إلى البوابة، فما كان من أبي مصعب إلا أن أسرع بسيارته واقتحم الطريق دون أن يبالي بالخطر، فحفظه الله ولم تصبه قذائف الدبابة التي استهدفت سيارته مرارا حتى وصل إلى البوابة فدفعها ودخل المعسكر، ولم يتوقف حتى توسّطه ثم أشار لمن في السيارة بالنزول ومواصلة القتال وجها لوجه، فكان النصر حليف المجاهدين بفضل الله تعالى على إثر هذه الواقعة.

 

وعجلت إليك رب لترضى

 

لا شك أن أسمى أماني المجاهد أن يُقتل في سبيل الله تعالى، قتلة يبلغ بها منازل الشهداء فيفوز برضى الرحيم الرحمن، ومن أجل الوصول إلى ذلك هاجر المجاهدون وتركوا الأهل والأولاد واستعذبوا مرارة التعب والجوع وسائر ما حفت به الجنان من المكاره، معترفين مع ذلك بتقصيرهم عما يجب عليهم من الشكر، فمن يخطب الحسناء لم يغله المهر، ولذا ترى المجاهدين في الحر والقر يقاتَلون ويطارَدون ويراقَبون، يعيشون تحت الطائرات ولا يبالون لشرف الغاية وحسن المنقلب الموعود، نسأل الله من فضله.

 

كل يوم يقضيه أبو مصعب في أرض الجهاد يزداد شوقه إلى لقاء مولاه تبارك وتعالى، لكنه وقتئذ لا سبيل له إلى خوض المعارك لأمر صدر من أمرائه له ألا يباشر في معركة، بل يكتفي بالتنظيم والترتيب، فكان يعضّ على أصابعه إذا نظم سرية أو أرسل غازية ولم يشاركها في القتال، ومع ذلك لم يركن للنكول والخمول مع هذا الأمر، بل أصبح يلح كثيرا على الأمراء أن يسمحوا له بالمشاركة في القتال الميداني فجاءه الإذن بذلك في إحدى المعارك، فاستبشر وهلل وفرح، وبعد أن أكمل الترتيبات قام في المجاهدين محرضا قائلا: "خرجنا اليوم ليبذل كل منا ما استطاع، فالسباق السباق ولا يرضى أحد أن يُترك خلف الصفوف، وستروننا أمامكم سباقين إنْ شاء الله، فإنْ سألنا ربُّنا كما سأل موسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ}؛ فسأجيب ربي أنهم على أثري، وعجلت إليك ربي لترضى".

 

فلما تحركت السرية كان أبو مصعب في مؤخرة الجيش يدبّر وينظم أمور الجند ويتفقدهم حتى اقترب المجاهدون من الهدف، فما كان منه إلا أن اجتاز بسيارته جميع سيارات إخوانه حتى وصل إلى بوابة المعسكر كعادته سباقا مقتحما غمار الحتوف، وأثناء القتال استهدفت سيارته قذيفة مدفعية أصيب في إثرها بجراحات بالغة وقتل عدد من إخوانه، فأُخلي من ساحة المعركة وبعد ساعات من إصابته قتل شهيدا كما نحسبه، وهو يوصي إخوانه بمواصلة الطريق والشدة على أعداء الدين، فرحمك الله أبا مصعب وأعلى منزلتك في عليين وألحقنا بك غير خزايا ولا محرومين.

 

 

 

 

 


 

96- العدد 404 - الخميس 1 صفر 1445 هـ

عبد الرحمن موسى القرحاني مهاجر من لبنان إلى الأنبار

يتوهم الكافرون والمرتدون أنّ بمقدورهم إيقاف الهجرة في سبيل الله تعالى، تماما كما يظنون أنّ بإمكانهم وقف عجلة الجهاد في الأرض، لكن المجاهدين على يقين تام لا يعتريه أدنى شك؛ بأنّ مدد الهجرة لا ينقطع ولا يتوقف لأنه وعد الله تعالى، مصداقا لحديث نبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطِعُ الهجرةُ، ما قُوتِلَ الكفارُ)، وبالتالي فالهجرة باقية ما دام الجهاد باقيا، ومعلوم في عقيدة المسلمين أنّ الجهاد ماض إلى قيام الساعة.

 

وفي تطبيق عملي لهذه العقيدة، ما زالت بلاد المسلمين ترفد الدولة الإسلامية بخيرة رجالها وفلذات أكبادها، يأتون من كل حدب وصوب استجابة لأمر الله تعالى بالنفير والجهاد شيوخا وشبابا، نصرة للإسلام وذودا عن حياضه، عملا بقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.

 

وعلى الرغم من جهود الصليبيين والمرتدين الحثيثة في إغلاق الحدود وتشديد الإجراءات على المعابر والمنافذ، ورغم كل ما ينفقونه من أموال على تطوير أنظمة المراقبة الأمنية، بهدف منع وصول المهاجرين إلى ولايات الدولة الإسلامية؛ إلا أنّ الله تعالى ييسر للصادقين سُبل الوصول إلى أرض الجهاد، فلا يقدر كل طواغيت الأرض على منع مسلم صادق من أداء عبادة الهجرة إلى أرض الإسلام.

 

قادم من لبنان

 

وكان من هؤلاء المهاجرين الذين نفروا مؤخرا إلى أرض الدولة الإسلامية وتحديدا إلى ولاية العراق، الأخ عبد الرحمن موسى القرحاني (أبو أحمد) -تقبله الله تعالى- والذي خرج مهاجرا بنفسه في سبيل الله تعالى قادما من أرض لبنان المسلم الذي يرزح تحت قبضة النصارى المارونيين والرافضة المرتدين، فكان وصوله إلى أرض الخلافة انتصارا في حد ذاته وفشلا ذريعا للصليبيين والرافضة المرتدين الذين يتعاقبون على إغلاق حدود العراق، كما شكّلت هجرته صفعة أمنية للقوات اللبنانية المارونية التي سعت طويلا لمنعه من الوصول إلى مراده ولكن خيب الله سعيهم، فخرج الأسد مهاجرا إلى الله ورسوله تاركا الأهل والخلان مقدما محبة الله تعالى ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما سواهما.

 

نشأة إيمانية وجهاد مبكر

 

ولد الأخ أبو أحمد في العام 1416هـ ونشأ وتربّى في كنف أسرة صالحة في منطقة (باب التبانة) في (طرابلس الشام) شمالي لبنان، إحدى قلاع أهل السُّنة التي خرّجت الكثير من الأبطال والمجاهدين رغم التضييق والحرب المعلنة عليها من قبل الجيش اللبناني الماروني وميليشيا حزب الشيطان الرافضية بسبب موقفها المؤيد للمجاهدين ونصرتها وإيوائها للمسلمين المستضعفين القادمين من الشام.

 

سعى أبو أحمد -تقبله الله- منذ صغره في طلب العلم الشرعي والبحث عن الحق الذي يبلغه النجاة في الدارين، فدخل عدة معاهد شرعية متوفرة في منطقته واكتسب العلم في أبواب العقيدة والفقه وحفظ ومدارسة علوم القرآن الكريم، وشبَّ على ذلك فكانت نشأته نشأة طيبة على منهاج السنة.

 

وعندما اشتعلت المعارك الشهيرة في منطقة (باب التبانة) و(جبل محسن) ضد الطائفة العلوية النصيرية والجيش اللبناني، على خلفية اشتعال الحرب في الشام؛ كان أبو أحمد من أوائل الملتحقين بصفوف المجاهدين المشاركين في تلك المعارك، وكان يبلغ من العمر حينها 17 عاما، وقد بايع مع ثلة من إخوانه المجاهدين الدولة الإسلامية آنذاك وشكّلوا عدة مفارز للمجاهدين داخل لبنان.

 

في سجن رومية

 

وعلى إثر هذه المعارك، تعرض أبو أحمد في عام 1433هـ للأسر في سجون الجيش اللبناني الذي حرص بالتحالف مع طوائف الكفر والردة في لبنان على وأد أي نشاط جهادي لأهل السنة في لبنان، وقد مكث أبو أحمد في زنزانة انفرادية في السجن العسكري البغيض المعروف بـسجن (الريحانية).

 

وقد لاقى أبو أحمد في السجن أشد أنواع التعذيب والأذى في سبيل الله، كالصعق بالكهرباء والتعليق من الأطراف حتى كسروا له عدة أعضاء من جسمه، فثبت ثبات الرجال ولم يعترف على نفسه بشيء من التهم الموجهة إليه، وتنقّل في السجون حتى انتهى به المطاف في سجن (رومية) الذي يمتلئ بالمجاهدين وطلبة العلم، فكانت هذه فرصة جديدة له ليتزود من العلم الشرعي الذي يُعينه على تكاليف الطريق الذي لم يغب عن بال أبي أحمد لحظة واحدة حتى في أحلك ظروف الأسر، وقد زادت صلابته وشدته على الكافرين داخل السجن، فكان وإخوانه يواصلون تنغيص عيش الكافرين حتى وهم خلف القضبان، فهاجم أبو أحمد مع باقي إخوانه حراس السجن وأشعلوا النيران في أقسام السجن أكثر من مرة، ضمن موجات الاستعصاء التي حدثت داخل سجن (رومية).

 

الهجرة إلى العراق

 

وفي عام 1438هـ منّ الله على الأخ أبي أحمد بالخروج من السجن، بعد أنْ مكث فيه قرابة أربع سنوات ونصف؛ قضاها صابرا محتسبا ومصمما على مواصلة الطريق الذي بدأه بالعلم وأتبعه بالعمل.

 

بعد خروجه تزوج ورُزق بطفلين، لكن زينة الحياة الدنيا لم تقعده أو تبعده عن هدفه الذي لا يضاهيه هدف في نظر وقلب كل مسلم أدرك الغاية التي خلقه الله لأجلها، وأنّى يطيب لأبي أحمد العيش والرقاد وإخوانه المسلمون يسامون العذاب، وأنّى له أن يقر أو يستقر وميادين الجهاد تنادي الصادقين وتستنفر المؤمنين.

 

فبدأ أبو أحمد يبحث مليّا عن طريق للهجرة يوصله إلى أرض الجهاد، حتى يسّر الله له ولإخوانه سبيلا للهجرة إلى ولاية العراق أرض الأبطال ومحضن الرجال، وقد أخذ أبو أحمد بكل الاحتياطات والأسباب المستطاعة ثم انطلق مهاجرا في سبيل الله تعالى.

 

وبعد نحو خمسة أشهر على فقدان أثره، قام طواغيت لبنان بأسر والده للضغط عليه ليعود إلى بيته ويكسر هجرته، ولكن هيهات أن ينالوا من عزيمته أو يثنوه عن مواصلة دربه، فأكمل أبو أحمد طريقه وأمضى هجرته متوكلا على الله تعالى، حتى وصل إلى إخوانه في ولاية العراق، متجاوزا كل الموانع الأرضية البشرية، ومنتصرا على كل عوائق الشيطان وحبائله، بفضل الله تعالى.

 

في معسكرات الأنبار

 

وصل الأخ أبو أحمد إلى ولاية العراق في عام 1442 هـ، وهناك التحق بأحد معسكرات المجاهدين في الأنبار، فأبلى بلاء حسنا داخل المعسكر، وأثبت وجوده منذ الشهر الأول فكان من الإخوة المتميزين في الجانب الشرعي والعسكري والبدني، وعلى إثر ذلك وقع عليه الاختيار ليكون مدرّبا بدنيا ومدرّسا شرعيا لإخوانه في المعسكر، فلم يألُ جهدا في تعليم وتدريب إخوانه بكل ما يقدر عليه، فزكّى العلم بالعمل، وأثمرت سنوات تضحيته وتربيته وإعداده في لبنان؛ فوائد قطفها إخوانه المجاهدون في العراق.

 

إلى من يريد النفير!

 

وفي ذلك رسالة مهمة لكل الإخوة الباحثين عن النفير بضرورة التزود من العلوم الشرعية والعسكرية لاكتساب المهارات اللازمة في فترة القعود حتى تؤتي أكلها في ساحة الجهاد، واحذروا مكائد الشيطان بصدكم عن فريضة الإعداد بحجة عدم مباشرة الجهاد، فالإعداد فريضة والجهاد فريضة فانهلوا منهما ما استطعتم، وأعدّوا وتزوّدوا من قراركم في دياركم ليوم نفيركم إلى أرض الجهاد.

 

قناص في يوم الملحمة

 

وبعد مدة من مشاركته جهود التدريب والإعداد في معسكر الأنبار؛ طلب أبو أحمد من أمرائه الانتقال للمشاركة في العمليات العسكرية، وبعد إصرار وإلحاح وافق إخوانه على ذلك وتمّ فرزه على إحدى السرايا العسكرية في أرض الأنبار الأبية التي كانت وما زالت شوكة في حلوق الرافضة وحلفائهم، واستمر على ذلك حتى جاء اليوم الموعود.

 

حيث تعرض معسكر المجاهدين في المنطقة إلى إنزال جوي مشترك للقوات الرافضية والأمريكية معا، ولدى محاولة قوات العدو التقدم، اندلعت اشتباكات عنيفة شارك فيها أبو أحمد مع إخوانه واستمرت ليومين متتاليين عجزت فيها القوات المهاجِمة عن اقتحام المكان على الرغم من الأعداد الكبيرة لقوات العدو المشاركة في العملية، حيث كان المجاهدون قد أحسنوا إحاطة المنطقة بالألغام والعبوات الناسفة وهو ما ساهم في إعاقة تقدم القوات البرية، كما كان لأبي أحمد تقبله الله دور خاص في هذه المعركة حيث كان يرمي على العدو من بندقية قنص حتى أرهق قواتهم وأبطأ تقدمهم، وقد أقرَّ بعض جنود قوات (مكافحة الإرهاب) الرافضية بتعرُّضهم لنيران قناص أربك تحركاتهم خلال الاشتباكات.

 

وبعد فشلهم في المواجهة الميدانية اضطروا في النهاية كعادتهم إلى قصف المنطقة بالصواريخ الثقيلة لإنهاء أمد المعركة التي طالت وخالفت توقعاتهم، ليُقتل أبو أحمد مع عدد من إخوانه الأبطال -تقبلهم الله- خلال هذه المعركة البطولية التي أخفى فيها الرافضة مشاركة القوات الأمريكية بينما كان الطرفان يحتميان جنبا إلى جنب خلف الصخور والمدرعات، بحسب شهادة عدد من المجاهدين الذين خاضوا المعركة واستطاعوا الانحياز إلى مواقع آمنة ليرووا لنا بعض فصول هذه الملحمة التي سطّرها جنود الخلافة في ولاية العراق ويسطرها جنود الخلافة كل يوم في كل مكان.

 

لقد رحل أبو أحمد -تقبله الله- بعد أن قدّم قدوة حيّة لسائر الباحثين عن طريق للهجرة، الساعين إلى اللحاق بركب الخلافة؛ أنْ أعدّوا ليوم نفيركم، واصدقوا الله تعالى يصدقكم ويبلغكم سبيل الرشاد وأرض الجهاد في الدنيا، ومراقي ومنازل الشهداء في الآخرة، ولكل مجتهد نصيب.

 

 

 

 

 


 

97- العدد 467 - الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ

مجاهد ومعلّم.. أبو خالد الحمادي -تقبله الله-

قيَّض المولى سبحانه لشجرة التوحيد سقاة كماة يروونها بدمائهم الزكية لتنمو وتعمّ ظلالها أرجاء الواسعة، رجال قلائل باعوا النفوس لربهم ولبّوا نداء مليكهم، وعقدوا معه سبحانه أعظم صفقة ما أجلها وأعلى قدرها، إذ رضوا بأن يُقتلوا في سبيله تعالى ثمنا لها، وشروا أنفسهم ابتغاء مرضاته، فهجروا أعراض الدنيا الدنية ولم يغتروا بزهرتها وبهجتها الزائفة وأرادوا ما عند الله تعالى، فما عنده خير وأبقى.

 

نحسب من بين هؤلاء الأخ أبا خالد الحمادي محمد بن هارون البرناوي -تقبله الله-

 

نشأته ونفيره

 

ولد أبو خالد في بلدة (كالا بالغي) بمنطقة (برنو) سنة 1417 من الهجرة، ونشأ فيها نشأة صالحة على يد والديه اللذين اعتنيا بتربيته تربية إيمانية، وحينما ناهز البلوغ، وتزامنا مع توسع عمليات المجاهدين في غرب إفريقية، ألقى الله تعالى في قلبه حب الجهاد والمجاهدين، ودعوتهم إلى التوحيد وتحكيم الشريعة ونبذ الشرك ومنه الديمقراطية والبراءة من الطواغيت بجميع رؤوسهم وأذنابهم، وهي بالذات الأمور التي حفزته للقفز إلى صفوف المجاهدين والانضمام إليهم.

 

التحق أبو خالد بركب المجاهدين في عام 1435 هـ قبل بضعة أشهر من إعلان دولة الخلافة -أعزها الله-، وظل مع المجاهدين فردا من أفرادهم يصول معهم حيث صالوا ويجول حيث جالوا.

 

في ديوان الدعوة

 

بينما كان أبو خالد تقبله الله بين المجاهدين يشهد معهم المعارك، ظهر للقاصي والداني علو همته وحزمه، إذ كان أكبر همه نصرة دينه ونفع إخوانه، ما رشّحه لتولي كثير من المهام الجهادية، حتى غدا كالنخلة تؤتي أكلها كل حين كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن، وكان من بين المهام التي أوكلت إليه تعليم الأشبال وتنشئتهم تنشئة دينية على صعوبة ذلك، وفي نفس الوقت كان إماما يؤم الناس في الجماعات، فكان يجمع بين النزول إلى مواطن الرجال وميادين الأبطال وبين تعليم القرآن، فكان بحق داعيا إلى الله تعالى بسنانه ولسانه.

 

ظل أبو خالد يقاتل ويتعلم ويُعلّم إلى أن بايع المجاهدون الخليفة القرشي أبا بكر الحسيني -تقبله الله- وقامت ولاية غرب إفريقية وتم تطبيق النظم والتوجيهات التي أملتها الدولة الإسلامية على سائر ولاياتها ومنها الدواوين، فانتُدب الأخ أبو خالد حينها ليكون عضوا في ديوان الدعوة والمساجد لما لاح لأمرائه من جدارته بالعمل في هذا المضمار المهم، فحدِّث عن جهده الدعوي ولا حرج، فقد كان يتنقل بين المراكز والبلدان والقرى ومجامع الناس يعظهم ويعلمهم واجبات دينهم ويحرضهم على الجهاد، بل كان يحرض المجاهدين على الثبات عند اقتراب ساعة الصفر في الغزو، فلم يتوقف عن القتال اشتغالا بالدعوة؛ أسوته وقدوته في ذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، في الجمع بين الكتاب والسيف، وقد استطاع -بفضل الله تعالى- استمالة كثير من الشباب واستقطابهم وجذبهم إلى صفوف المجاهدين بأسلوبه المميز ولسانه الفصيح الذرب الذي وهبه الله إياه، وبينما كان يصول ويجول في ميدان الدعوة تم نقله للعمل في المكتب الأمني وتعيينه مسؤولا للمكتب في إحدى مناطق ولاية غرب إفريقية، فكان يمارس عمله قائما بالقسط لا يخاف في الله لومة لائم كما شهد له بذلك إخوانه.

 

صفاته وأخلاقه

 

امتن الله تعالى على الأخ أبي خالد بأخلاق دمثة وخصال حميدة، ما أكسبه محبة إخوانه ورفاق دربه.

 

أما عن معاملته مع إخوانه فقد كان كثير التبسم في وجه إخوانه طلق المحيا أمامهم يرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم ويواسي مبتلاهم، كما كان كثير الجود في الغنى والفقر، حيث شهد له بعض إخوانه أنه كان يقضي حوائجهم بمجرد ما يلاحظ ذلك دون أن يبوحوا بها، وقد شُهد للأخ أبي خالد بصبره في البلاء صبرا يثنى على صاحبه، فقد نال حظه من البلاء في عيشه حينما كان معلما للأشبال ومرض بعض أهله وولده وهو في ذلك الوقت شديد الفقر، فكان يسعى في كسب ما يقضي به حوائجه دون البوح بمشكلته لأحد، إلى أن جلى الله عنه الغمة، ولم يثنه ما أصابه عن نصرة دينه أو يحط من عزمه أو يفت في عضده تقبله الله تعالى، كما عُرف بكثرة قراءة القرآن الكريم، غاديا رائحا يتفيأ ظلال آيات الرحمن، في حل كان أو ترحال.

 

قائدا عسكريا في (كرينوا)

 

كما كان مثالا يحتذى في السمع والطاعة والنصح لأمرائه، محبا للحق ودائرا معه حيث دار لا يخاف لومة لائم.

 

كذلك كان قوي البنية يتمتع بلياقة بدنية عالية، أضف إلى ذلك حزمه وعزمه في الأمور ما جعل أمراءه يضعون فيه الأمل والثقة في إنجاز كثير من المهام، حتى انتهى به المطاف أن عين قائدا للجند في منطقة (كرينوا)، حيث قاد كثيرا من المعارك بنفسه واستبسل فيها وألقى نفسه في المخاطر حاملا روحه في كفه، وقد كان إقدامه سببا في فتح كثير من الثكنات بفضل الله تعالى، وقد برز عزمه وشجاعته في الغزوة الموحدة الأخيرة: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)، حيث داهم بنفسه على رأس المفارز الأمنية عددا من أوكار النصارى والمرتدين وفلق رؤوسهم، كما كان شديد الاعتناء بتربية الجنود وعبادتهم، يكثر من تذكيرهم ووعظهم سعيا في تعليق قلوب المجاهدين بربهم سبحانه، وتمتين علاقتهم بخالقهم، إذ هو الناصر والمعين.

 

همة عالية

 

في الأيام الأخيرة التي سبقت مقتله، ازدادت همته وأصبح لا شيء يوقفه ولا يعرف للتعب معنى في حسابه، فخلال الحملات الأخيرة للمرتدين على منطقة (كرينوا) كان أبو خالد يقود ويتقدم الصفوف في المعارك الدائرة مع الكافرين، ولم يزل الإخوة يظنون أنه لن يخرج من معركة يخوضها لما يلقي بنفسه وسط المعامع إذا حمي الوطيس، حتى أصيب بطلقة (دوشكا) في أحد أضلاعه، وحينها أجبره أمراؤه على أن يعود للعلاج ويأخذ قسطا من الراحة، فأعيد للبيت على كره منه، وفي يوم من الأيام تقدم المرتدون على حساب المجاهدين في أحد المحاور، وإذ بصوت أبي خالد في الجهاز اللاسلكي يدير ويوجه مجموعات المجاهدين، فتفاجأ الإخوة وقد كانوا يظنون أنه ما يزال في المنزل حيث لم يتماثل للشفاء بعد، وما هي إلا دقائق حتى شوهد أبو خالد في الصفوف يقاتل جنبا إلى جنب مع إخوانه رغم إصابته تلك، فلم يزل يصول ويجول حتى هزم الله المرتدين وقد اندمل جرحه وقارب الانتعاش في ساحات الوغى ولم يرض بأن يبقى أسير الفراش وهو يرى الأعداء يحاولون استباحة أرض الإسلام وتدنيس حرمات المسلمين.

 

مقتله تقبله الله

 

لم يزل أبو خالد كما كان كلما استعصت ثكنة أو تعسر فتحها، خرج على رأس الجند لغزوها، وللدور الذي يؤديه في تثبيت عزيمة المجاهدين وتحريضهم بالقول والفعل جعل كثيرا من الإخوة يستبشرون بمجرد رؤيته في أوساطهم في الغزو، فكانت ثكنة بلدة (إيزغي) الكاميرونية صعبة الغزو لطبيعة التضاريس مع كثافة الأعشاب التي تحجب بعض أجزاء الطريق وما حول الثكنة بحيث لا يرى المهاجم ما يكون أمامه، فخرج على رأس الجند لغزوها كما ذلك دأبه وديدنه بعد تذكرة وتحريض، فكتب الله للمجاهدين النصر وجعل فتح الثكنة والسيطرة عليها من نصيبهم، فقام بتوجيه الإخوة بالإسراع في إخلاء الغنائم إلى مناطق آمنة تحسبا للمدد الذي قد يصل لمؤازرة المرتدين، وانتدب نفسه وبعض مرافقيه لحراسة الإخوة وصد المدد والاشتباك معهم إذا ما قدم، وبالفعل قدم مدد العدو كما كان يتوقع، فلم يتوانَ ولم يتراجع وانبرى يصد عن إخوانه ويغطي انسحابهم، فثبت وقاتل قتال المستميت حتى أصيب إصابة بالغة جعلت مرافقيه يخلونه من ساحة المعركة، وقبل وصولهم إلى مواقع إخوانهم فاضت روحه إلى باريها بعد أن فدى إخوانه بدمه، نسأله تعالى أن يتقبله ويعلي درجته في عليين.